|
|||||
|
لأن الجماهير محكومة باللاوعي!!.."سيكولوجية الجماهير"
على الرغم من أن الكتاب أُلِّفَ منذ أكثر من قرن إلا أن الظروف والأجواء السياسية التي كتب بعدها هذا الكتاب تكاد تشبه ظروفنا وأجواءنا التي نعيش؛ فقد كتب جوستاف لوبون المؤرخ الفرنسي وعالم الاجتماع الشهير كتابه "سيكولوجية الجماهير" في عام 1895 أي بعد ما يقارب المائة عام على قيام الثورة الفرنسية وما أعقبها من انتكاسات، وما تلاها أيضاً من استرداد لها وتصديرها أو تأثر الدول الأوروبية بها في القرن التاسع عشر، وعلى ضوء ذلك كتب لوبون كتابه ذائع الصيت الذي قيل إن النازيين اتخذوه منهجاً لهم في ترويض جماهيرهم. بدايةً، إن ما وصفه لوبون قبل أكثر من قرن في أوروبا بأنه عصر الجماهير، نكاد نشهد الآن مرحلة تدشينه لدينا في عالمنا العربي، والذي يشي بانتقال عوامل تحريك الأحداث من سياسات الحكام التقليدية والمنافَسة فيما بينهم إلى محاولات كسب رضا الجماهير، والأخذ في الاعتبار ميولهم وأفكارهم، ومعرفة توجهاتهم لا توجيههم. والكتاب يغوص في أعماق نفسية الجماهير وتقلباتها، وكيفية حراكها وتفكيرها، وسيساعدنا الكتاب في فهم بعض الظواهر والتغيرات الشعبية التي تظهر لنا خاصة على شعوب ما يسمى "دول الربيع العربي". وإذا كان الكتاب قد تحدث في أقسامه الثلاثة الرئيسية عن: الخصائص العامة للجماهير، وآراء الجماهير وعقائدها، ثم تصنيف الجماهير، فإننا نقدم محاولة لفهم بعض الظواهر التي صاحبت وما تزال حراك شعوب الربيع العربي على ضوء بعض المعطيات التي قدمها لوبون في وصفه للخصائص النفسية والعقلية للجماهير. يصف لوبون الجماهير في بعض صورها بالكثرة اللاواعية والعنيفة والبربرية والتي يتم على يدها الانحلال النهائي لعصر ما أو مجتمع ما بعد أن تفقد القوى الأخلاقية أو الهياكل الرسمية التي تحكم زمام المبادرة من يدها، لكنه لم يشر إلى أن هذه القوى الأخلاقية أو الهياكل الرسمية عند فسادها وطغيانها - إذ إن احتكار أي فئة لأي مسؤولية لمدى طويل ناتج عنه فساد أو ترهل لا محالة - تتسبب هي بذاتها في انفلات الأمور، وتفاقم حالة السخط التي يمكن أن تخرج عن السيطرة، ليأتي بعدها الجمهور في رسم الفصل الأخير من الفوضى أو العنف بعد أن يضيع زمام الأمور، كما أن هذا الفصل الأخير ليس حتميًا أو إنهائه لحالة التحضر التي وصل إليها المجتمع، وإن كان موجودًا بصورة ما، غير أن تلك الجماهير قد تفرز قيادة واعية من داخلها تقودها إلى مرحلة ما بعد الفوضى أو التخبط الذي تسببت فيه تلك الهياكل الرسمية، ولعل تجربة مانديلا تحضر في هذا الصدد، وكيف استطاع قيادة حركة الجماهير من غير أن تقضي على ما وصلت إليه جنوب إفريقيا من تقدم. يرى لوبون أن من أهم خصائص الجمهور النفسية انطماس شخصية الفرد وانخراطه في سيل الجمهور، والذي سيترتب عليه تخليه عن عقله الواعي ومنطقيته حتى يتماهى معهم؛ إذ إن سيل التيار هادر وليس من السهولة مدافعته أو المشي عكسه. ويشير لوبون إلى أن هذه العقلية اللاواعية قد تجر إلى تصرفات همجية ووحشية أو بدائية لا تراعي ما وصلت إليه الإنسانية من تقدم ورقي أخلاقي، الأمر الذي يعيد المجتمع البشري إلى تاريخه الأول في العداوة والانتقام من نفسه بغير مرجع أخلاقي أو قانوني. وكما يتميز الجمهور في هذه الحالة بالتفكير اللاواعي نتيجة طغيان العاطفة والحماسة على مشاعره وتفكيره فإنه يكون في حالة تلقي وتلقين للأفكار لا إنتاجها، تجذبه الانطباعات والأفكار السهلة والسطحية. لذلك تنتشر في أوساطه كثير من الأفكار غير المنطقية والتي لو فكر فيها الفرد على حدة لرأى هشاشتها وعدم مصداقيتها. ويشبه لوبون الجماهير في هذه الحالة بالمنوَّم المغناطيسي الذي يسلم نفسه لمنومه وبالتالي تتعطل عنده الإدراكات العقلية الواعية، كما يتم استدعاء العقل اللاواعي الجمعي والذي تتجلى فيه "الأخلاق النفسية" للعرق أو الأمة كما يسميها أيضًا لوبون في كتابه الآخر "السنن النفسية لتطور الأمم". لكن لوبون يؤكد على إمكانية توجيه تلك العواطف والمشاعر نحو الأفضل أو نحو الأسوأ بحسب التحريض الذي تستقبله هذه الجماهير. إن لوبون الذي كتب كتابه قبل أكثر من قرن يصف مشاعر الجماهير الثائرة بالتحديد بتنوع وتقلب عواطفها، ومع اتحاد النزق وتأجج العواطف يبرز أيضًا جانب العرق النفسي لكل جمهور؛ "وهو المكون الثقافي والنفسي لكل أمة والذي تتميز به عن غيرها، ويمكن أن تلعب المحرضات المحلية والطرق على مواضيع لها وقع ثقافي أو اجتماعي خاص على هذا الجمهور يمكن أن تلعب مثل هذه المحرضات الثقافية والاجتماعية دورًا بارزًا في تهييج الجمهور وانفعالاته". ويثبت لوبون أن سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها في التصديق لأي شيء، سمة بارزة من سمات العقلية الجماهيرية، الأمر الذي يقود إلى سرعة التوجيه. وهناك حالة نفسية لدى الجماهير خاصة الثورية أو التي في حالة غليان اجتماعي وهي حالة الترقب والاستعداد في التلقي، وهو ما يساعد على قبول كثير من الأفكار وتمرير العديد الرسائل، ولعل هذا ما يفسر حالة انتشار الإشاعات والأكاذيب في مثل هذه الأوساط (ترقب وانتظار.. يجد شائعات وتحريض تسد فراغ الانتظار والترقب.. انتقال العدوى) مع عدم امتلاك الجماهير للحاسة النقدية التي يمكن أن تكون عند آحادهم. بل ويذهب لوبون إلى أبعد من ذلك حين يقرر أن شهادات الجماهير هي أقرب إلى الوهم والأساطير منها إلى الحقيقة ذلك أنها بنيت على وهم أحدهم ثم عن طريق العدوى وانتقال الشائعات والتي تصبح بفعل العقلية التبسيطية للجماهير بمثابة الحقيقة. ولأن الجماهير محكومة باللاوعي فإن من الصفات النفسية المرتبطة بذلك والتي أشار إليها لوبون في صفات الجماهير: المحافظة، والتي تتحكم فيها العوامل الوراثية العتيقة، وحتى عند ثورانها وانتفاضاتها، فإنها سرعان ما تمل من الفوضى والانفلات الذين تخلفهما تلك الموجات الاحتجاجية أو الثورات، وتميل مرة أخرى بغريزتها إلى العبودية أو إلى من يقمعها بحجج كثيرة كالاستقرار وحماية البلد وغيرها، ويستشهد بنابليون والتي راحت تصفق له مجموعات شعبية كبيرة عندما راح يلغي الحريات ويحكم بيد من حديد على الرغم من أنه جاء بعد ثورة قدمت الكثير من التضحيات. ويلفت لوبون إلى نقطة مهمة في ثورات الجماهير؛ فعلى الرغم من أنها عندما تثور تبغي من وراء ذلك تغيير واقعها بمؤسساته وهياكله إلا أنها تكتفي من ذلك بتغيير الأسماء وظواهر المؤسسات الرسمية بينما تبقى تلك المؤسسات بعمقها ومضمونها لتعبر عن سبب قيام تلك المؤسسات ونموها واستفحال وجودها والتي في أصلها تعبر عن احتياجات وراثية لذلك الشعب أو الجمهور، هل يمكن أن يقاس كلام لوبون هذا على ميل بعض الشعوب وثقتها في مؤسسات أمنية أو عسكرية رغم ما لدى تلك المؤسسات من جرائم وفظائع ارتكبت بحقه؟! من تلك الصفات التي يسبغها لوبون على الجماهير: الأخلاقية، وهي تجمع بين متناقضين ولكن في حالات مختلفة؛ فيمكن للجماهير أن تمارس أقسى أنواع الوحشية والقتل والحرق مستعيدة بذلك الغرائز الوحشية البدائية النائمة في أعماق كل منا –كما يرى لوبون- والتي هذبتها وصقلتها الحضارة والتقدم الإنساني، غير أن هذه الجماهير أيضًا تمتلك حسًا وروحًا أخلاقية عالية في البذل والتضحية من أجل قضايا كبرى كما في الثورات والحروب الوطنية وإنجاز الأعمال الحضارية والتقدمية، بل إنه لولا هذه التضحيات الجماهيرية التي تصل إلى حد لا يصل إليه الفلاسفة والحكماء إلا نادرًا كما يقول لوبون لولاها لانعدمت الحضارات على كوكبنا ولما كان للبشرية تاريخ، ويلاحظ بعض علماء الاجتماع أن أقسى البشر أو من يتصفون بصفات ذميمة سيكونون أنقى وأرقى وأكثر أخلاقية حين ينخرطون في أعمال جماهيرية راقية. وأخيراً يقرر لوبون أن "معرفة فن التأثير على مخيلة الجماهير تعني معرفة فن حكمها"؛ فليست الوقائع بحد ذاتها هي التي تؤثر على مخيلة الجماهير وإنما الطريقة التي تعرض بها هذه الوقائع.
|
||||