|
|||||||
|
تبدو تركيا وكأنها دخلت مرحلة سياسية جديدة، لخصها رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم بزيادة الأصدقاء والتخفيف من الأعداء، وذلك في إشارة غير مباشرة إلى أن سلفه أحمد داوود أوغلو هو من يتحمل مسؤولية التوتر والعزلة الإقليمية التي تعرضت لها السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الماضية... .. وتحديداً منذ أن ركبت تركيا موجة (ثورات الربيع العربي) وتطلعت إلى دور إقليمي في المنطقة العربية على وقع التطورات الدراماتيكية التي تشهدها، قبل أن تكتشف أن رهاناتها تفتقر إلى الدقة ووضعتها في مأزق بنيوي متعدد المستويات. في أسباب الانعطافة التركية تبدو تركيا في حركتها الجديدة تنطلق من جملة عوامل وأسباب، لعل أهمها: 1- وصول سياستها الخارجية ولاسيما تجاه الأزمة السورية إلى طريق مسدود، إذ مع التدخل العسكري الروسي في سوريا، والتفاهم الأمريكي – الروسي على الحل السياسي للأزمة، لم يعد من الممكن لتركيا البقاء على إستراتيجيتها السابقة في إسقاط النظام السوري أو حتى إقامة منطقة أمنية عازلة أو حتى الرهان على المجموعات المسلحة لتحقيق أهدافها. 2- اكتشاف تركيا عدم جدوى اعتماد البعد الإيديولوجي في سياستها الخارجية من خلال دعم حركات الإسلام السياسي ولاسيما دعم جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي، إذ أن هذه السياسة ألحقت خسائر كبيرة بالدبلوماسية التركية، فالثابت أن السياسة الخارجية للدول لا تبنى على الإيديولوجيات بقدر ما تبنى على المصالح المتبادلة بين الدول واحترام العلاقات الدولية. 3- هشاشة الرهانات التركية في إحداث تغير في المنطقة يفضي إلى دور ونفوذ إقليميين لتركيا، فقد أثبتت التطورات الجارية في المنطقة قصوراً في الفهم التركي لدور الجيو/سياسة والعلاقات الدولية على شكل توازنات سياسية دقيقة لواقع العلاقات والمصالح الدولية في منطقة الشرق الأوسط. 4- إحساس تركيا بأن سياساتها السابقة، أدت إلى بروز تحديات مصرية تهدد أمنها القومي والوطني، إذ باتت تجد نفسها أمام صعود كردي في سوريا والعراق ينسحب إلى الداخل التركي على شكل تحدي لبنيان الدولة التركية، ولعل ما عزز من القناعة التركية هذه، هو استفادة الكرد من توتر العلاقات التركية مع الخارج وانفتاحهم الكبير على اللاعبين الأمريكي والروسي، وعليه باتت ترى تركيا من الأهمية الانفتاح على الخارج للحد من الصعود الكردي وتطويع البعد الخارجي في موجهة الصعود الكردي والسعي لإقامة دولة كردية ستكون تركيا المتضرر الأكبر منها. اتفاق التطبيع مع إسرائيل في الميزان عندما اعتدت إسرائيل على سفن مافي مرمرة التي كانت متجهة إلى غزة لكسر الحصار المفروض عليها وقتل عشرة ناشطين أتراك في أيار/مايو عام 2010، اشترطت أنقرة أربعة شروط للمصالحة مع إسرائيل، وهي تقديم اعتذار مكتوب، وتعويض أهالي الضحايا، ورفع الحصار عن غزة، وتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الهجوم الإسرائيلي، ومع أن تركيا تخلت لاحقاً عن الشرط الأخير إلا أن إسرائيل لم تستجب للشروط التركية كما أرادت أنقرة، ومع الزمن وجولات المفاوضات السرية والعلنية، نجحت إسرائيل في التوصل إلى اتفاق بشروطها، ولعل من المفيد هنا التدقيق في كيفية استجابة إسرائيل لهذه الشروط. 1- على صعيد الاعتذار، اكتفت إسرائيل باعتذار شفهي عبر اتصال هاتفي بين بنيامين نتنياهو ورجب طيب أردوغان عندما كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما يستعد لمغادرة مطار تل أبيب في الثاني والعشرين من آذار/ مارس عام 2013، ووقتها رفضت الخارجية الإسرائيلية الاستجابة لطلب أنقرة نشر نص الاعتذار على شكل بيان على موقعها. 2- الاتفاق جاء دون رفع الحصار عن غزة، وإنما اكتفى بدور تركي في تقديم المساعدات الإنسانية والخدمية لقطاع غزة عبر ميناء اشدود الإسرائيلي المعتمد أصلاً لتمرير المساعدات إلى غزة. 3- إن تعويض أهالي الضحايا لم يكن وفق الشرط التركي الذي طلب في البداية مئة مليون دولار حيث نص الاتفاق على تقديم 20 مليون دولار فقط مشروطة بإلغاء الملاحقة القضائية للجنود والضباط الإسرائيليين الذين هاجموا سفن أسطول الحرية. وعلى الرغم من أن الاتفاق جاء على هذا النحو، فإن تركيا اعتبرته نصراً سياسياً على أساس أنه يحقق جملة من الفوائد، لعل أهمها: 1- إن الاتفاق ينهي التوتر السياسي مع إسرائيل ويفتح صفحة جديدة بين الجانبين على أمل استعادة الحليف القديم والاستفادة من دوره في التطورات الإقليمية الجارية. 2- إن الاتفاق يشكل بداية جديدة للدبلوماسية التركية تجاه الخارج، ولعل تزامنه مع رسالة الاعتذار التركية لروسيا على أمل حل الخلافات معها، يشي بأن تركيا ستسير بخطوات متسارعة في هذه الاتجاه، وهو اتجاه قد ينسحب في الأيام المقبلة على مصر وكذلك النظام السوري بعد الأنباء التي تحدثت عن توسط تركيا للجزائر في إعادة خطوط التواصل مع دمشق والحديث التركي عن إعادة العلاقات الطبيعية مع دول الجوار الجغرافي ومصر. 3- إن تركيا تأمل من الاتفاق اعتمادها معبراً لنقل وتصدير الغاز من البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، ولمثل هذا الأمر جوانب سياسية في ظل بروز ما يشبه تكتل أو تحالف مصري يوناني قبرصي يقوم على التعاون في مجال مشاريع الغاز في المتوسط. 4- إن التعاون العسكري والاستخباراتي والأمني يشكل أهم ركائز العلاقة التركية – الإسرائيلية منذ أن اعترفت تركيا بإسرائيل مبكراً عام 1949، ومن ثم وقعت معها سلسلة اتفاقية أمنية وعسكرية، وصلت في عام 1996 إلى حد وضع الأجواء التركية في خدمة الطائرات الإسرائيلية، ولعل في صلب الحركة التركية هذه، شراء المزيد من الطائرات الإسرائيلية من دون طيار المعروفة بـ هيرون والتي تشكل أهم أداوت محاربة حزب العمال الكردستاني. مقابل التطلعات التركية هذه، ترى إسرائيل أن الاتفاق حقق لها جملة من الفوائد، ففضلا عن الأهمية التي تعلقها إسرائيل على الاستفادة من دور تركيا الإقليمي في سياساتها تجاه المنطقة، تنظر إسرائيل بعين بالغة إلى ثلاثة قضايا مهمة. الأولى: التوصل إلى اتفاق مع تركيا لتصدير غاز المتوسط عبر أراضيها نظرا لوجود بنية تحتية قوية وقرب جغرافي من أوروبا. الثانية: عودة العلاقات العسكرية إلى ما كانت عليه في السابق، عندما كانت إسرائيل من بين أهم الدول التي تصدر السلاح والمعدات العسكرية إلى تركيا، وترتبط معها بتعاون استخباراتي وأمني ومعلوماتي وتدريبات عسكرية مشتركة دورية، ولعل هذا الجانب يشكل مطلباً أساسياً للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. الثالثة: توجيه ضربة لحركة حماس عبر تفكيك علاقة تركيا بها بعد أن استقر بها العديد من القيادات العسكرية والسياسية والأمنية للحركة، فضلا عن دفع تركيا إلى تغير موقفها من الحركة والقضية الفلسطينية بشكل عام بعد أن رفع أردوغان سقف خطابه السياسي الداعم وأكد مراراً أن تركيا لن تتخلى عن القضية الفلسطينية حتى لو تخلى العالم كله عنها، ولعل إسرائيل حققت الكثير في هذا المجال، بعد أن جاء الاتفاق دون رفع الحصار عن غزة ونص على وضع حد لنهاية النشاطات العسكرية والأمنية للحركة في تركيا وإبعاد العديد من قادتها وعلى رأسهم صالح العاروري الذي تتهمه إسرائيل بالوقوف وراء النشاط العسكري للحركة في الضفة الغربية . التداعيات الإقليمية للاتفاق مع إسرائيل تبدو المرحلة الأولى لفترة ما بعد الاتفاق التركي – الإسرائيلي هي مجموعة من الخطوات على شكل استعادة الثقة، ولعل من أهم هذه الخطوات، تصديق البرلمان في البلدين على الاتفاق وتبادل السفراء والتوقيع على العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية والتجارية وعودة تدفق السائحين الإسرائيليين إلى تركيا، في حين تتعلق المرحلة الثانية بمسار هذه العلاقة وتداعياتها الإقليمية، ففي صلب الحركة التركية جملة من الأهداف الإقليمية: 1- إلى جانب تطبيع العلاقة مع إسرائيل الإبقاء على علاقة جيدة مع حماس بهدف أساسي هو تعزيز دورها في غزة على قاعدة منافسة دور مصر التي تشكل رئة غزة إلى العالم الخارجي، وربما تقوية موقفها في قضية المصالحة مع مصر، إلا أن المسار التركي هذا يبدو محفوفا بالمخاطر في ظل مسألتين: الأولى: الدور الثابت والتاريخي لمصر تجاه غزة وتمسك إسرائيل بهذا الدور. الثانية: تداعيات الانعطاف التركي على حركة حماس في ظل الأنباء التي تتحدث عن انقسام في الحركة تجاه الخطوة التركية والتخلي عن شرط رفع الحصار. 2- إن تزامن الاتفاق مع الانعطافة نحو روسيا يفرض على تركيا القيام بجملة من الخطوات تجاه الأزمة السورية حسب الرؤية الروسية، ولعل من أهم هذه الخطوات إغلاق الحدود في وجه المسلحين وتسليحهم، ومثل هذه الخطوة تعني انكفاء تركيا عن الأزمة السورية، وهي خطوة لا تتطلب فقط تغير في السياسة التركية وانما تغير الجهات والمسؤولين الأتراك عن الملف السوري، وهو ما يعني التخلص من رئيس الاستخبارات حقان فيدان (أنباء تتحدث عن نقله من مهامه بعد توقيع الاتفاق مباشرة) الرجل الذي يشكل كاتم إسرار أردوغان. 3- إلى جانب هذه التداعيات التي قد تكون مؤلمة للسياسة التركية، ثمة توافق تركي – إسرائيلي على أن الاتفاق يتيح للجانبين تقوية مواقفهما تجاه القضايا الإقليمية ولاسيما إزاء إيران، فمثل هذا المسار يقرب البلدين أكثر من روسيا التي زودت إيران مؤخراً بمنظومة صواريخ أس 300 ، كما يخلق مساراً إقليمياً مهماً في مواجهة السعي الإيراني إلى الاستفادة من مرحلة ما بعد الاتفاق النووي مع الغرب، فضلاً أن الاتفاق يخلق واقعا جديداً يثير اهتمام دول الخليج والغرب معاً، كمسار يمكن العمل عليه في رؤية واقع إقليمي جديد يتشكل في المنطقة. وعليه في ميزان السياسة، يمكن القول إن اتفاق المصالحة التركية – الإسرائيلية أكبر من قضية عودة الدفء إلى العلاقات بين الجانبين بقدر ما هو مسار إقليمي مثير ينتظر تفاعلات وتحولات إقليمية كبرى. المصالحة مع روسيا وانعكاساتها على الأزمة السورية تمضي المصالحة التركية الروسية بخطوات متسارعة، وكأن لسان حال بوتين وأردوغان يقول إن المصالح التي تربط بلدينا أكبر بكثير من الأسباب التي وترتها، فتتدفق قوافل السائحين الروس إلى اسطنبول من جديد وازدياد حركة هبوط الطائرات الروسية في المطارات التركية، وسط حديث مسؤولي البلدين عن المصالح المشتركة من غاز ونفط وتجارة، فضلاً عن أهمية التنسيق بين البلدين بشأن قضايا المنطقة، كل ذلك يعطي دفقا للعلاقات بين البلدين على حساب اختفاء لغة التهديدات التي أوحت في لحظة ما، بأن الحرب بين الجانبين تكاد أن تقع من جديد، إلى درجة أن العديد من الكتاب والباحثين ذهبوا إلى استحضار سجل الحروب بين البلدين منذ قرون. مع عودة الحياة إلى العلاقات التركية الروسية، يظهر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ليقول في كل مناسبة ليقول إن موسكو وأنقرة بحاجة إلى تفاهم واضح بشأن الأزمة السورية، فيبادر رئيس الحكومة التركية علي بن يلدريم للرد بأن تركيا مستعدة لتحسين علاقاتها مع سورية والعراق ومصر، وفي استكشاف روسي لمحاولة معرفة الحدود التي يمكن أن تذهب إليها أنقرة، تطالب موسكو أنقرة بوضع جبهة النصرة وجيش الإسلام وحركة أحرار الشام على لائحة الاستهداف، فتلوح أنقرة إلى أهمية موقف روسي متجاوب مع حربها ضد حزب العمال الكردستاني، وهكذا لا تتوقف وسائل الغزل والاستكشاف المتبادلة بين العاصمتين. لكن إلى أن تتضح الأمور بشكل كامل، فإن مشهد الغزل التركي - الروسي سرعان ما يُفتضح على وقع التناقضات الحادة في الإستراتيجية التركية، فقبل أسابيع ظهر وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو ليقول إن تركيا مستعدة لإشراك روسيا في قاعدة انجرليك في إطار الحرب ضد داعش قبل أن يستدرك بعد أقل من ثلاث ساعات فقط على تصريحه، بأن بلاده عضو في الحلف الأطلسي وهو نفسه الذي دعا قبل يوم من ذلك إلى توسيع الحلف الأطلسي شرقاً بما في ذلك البحر الأسود، وذلك في كشف لطبيعة التناقضات التركية، بين ارتباطها الإستراتيجي بالغرب والحلف الأطلسي ومحاولتها التقرب من روسيا وإيران والعراق وسورية. مع التأكيد على التناقض الكبير في إستراتيجية كل من روسيا وتركيا تجاه الأزمة السورية، إلا أنه ينبغي النظر إلى جملة من الظروف التي قد تدفع بالطرفين إلى المزيد من التعاون والتنسيق في المرحلة المقبلة في هذا الملف وغيره، فتركيا التي ترى أن واشنطن طعنتها إن لم نقل خانتها في الملف السوري باتت ترى في روسيا مظلة إقليمية لحجز دور لها في قطار تسوية الأزمة السورية، فيما موسكو لا ترى مانعاً لذلك لطالما أن الأمر يعزز من دورها وإستراتيجيتها بل ويشكل انتصاراً دبلوماسياً لها. فالبلدان يدركان أيضاً أهمية الدوي الذي أحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي جعل من الأوروبيين ينشغلون ببيتهم الداخلي لا بالأزمة السورية رغم هول مأساة اللاجئين، وتركيا تدرك في مثل هذه اللحظة أهمية اللاعب الروسي ودوره في الأزمة السورية. كما أن البلدين يدركان أهمية انشغال الأمريكيين إلى نهاية العام الجاري بالانتخابات الرئاسية ونتائجها وربما بتفجر العنف داخل الشوارع الأمريكية، وكل ما سبق، يتضافر على شكل عوامل مهمة للتقارب الروسي – التركي على وقع المصالح الاقتصادية الضخمة والحيوية للجانبين. قد لا يعرف أحد شكل السيناريو النهائي للتفاهم الروسي – التركي، ومتى سيتم التوصل إلى مثل هذا السيناريو، لكن الثابت أن النقاط المشتركة تزداد، وما موافقة أردوغان على بقاء الرئيس بشار الأسد لفترة انتقالية بعد خمسة أعوام من المطالبة برحيله وإعطاء المهل والفرص ورفع الخطوط الحمر والشعارات الطنانة.... إلا مؤشر قوي إلى إمكانية حصول مثل هذا التفاهم، ليبقى السؤال، هل ما جرى مع حركة حماس بعد المصالحة التركية – الإسرائيلية سيتكرر مع المعارضة السورية وتحديدا الائتلاف الوطني والمجموعات المسلحة المرتبطة بأنقرة والرياض؟ الانقلاب الفاشل والمخاوف من الانقلاب المضاد جاء الانقلاب العسكري الفاشل في توقيت دقيق لجهة التحولات الخارجية والاستحقاقات الداخلية، وعليه ترك الانقلاب الفاشل جملة من الأسئلة عن هوية الذين قاموا بالانقلاب، وأسباب فشله، والأهم تداعيات فشل هذا الانقلاب على داخل تركيا وسياستها الخارجية. الملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها، هي أن القاعدة القديمة التي تقول إن الجيش يحمي الدستور، والدستور يحمي الجيش، لم تعد قائمة في تركيا، كما كان الأمر بالنسبة لانقلابات أعوام 1960 و1971 و1980 والانقلاب الأبيض ضد الراحل نجم الدين أربكان عام 1997، إذ أظهرت تركيا حكومة ومعارضة، صلابة بارزة في مواجهة الانقلاب العسكري الأخير الذي قاده بعض القادة العسكريين المغامرين كما أوحت بذلك نتيجة الانقلاب. السؤال الأساسي الذي يطرحه الجميع، هو لماذا فشل الانقلاب؟ في الواقع، ثمة أسباب كثيرة تقف وراء ذلك، يمكن إجمالها في النقاط التالية: 1- إن المؤسسة العسكرية التركية اليوم، لم تعد كما كانت في السابق من لون واحد، إذ لم تعد مهمتها الوحيدة الحفاظ على الأسس العلمانية للجمهورية التركية كما كانت في السابق، بقدر ما أصبحت مؤسسة تعاني من الانقسام في طبيعتها، بين من يقف مع الرئيس أردوغان وبين من يحاول الاستمرار في النهج السابق أي نهج الولاء لمصطفى كمال أتاتورك. 2- إن من قام بالانقلاب ضد أردوغان، كانوا ضباطاً من الدرجة الثانية خلافاً للانقلابات العسكرية السابقة التي كانت تقودها عادة رؤساء أركان الجيش وكبار قادة الجيوش ضد الرئيس وليس ضد المؤسسة السياسية في البلاد. 3- إن طبيعة المؤسسة العسكرية تغيرت في عهد أردوغان حيث باتت قوات الأمن والشرطة هي التي تدير أمن المدن خلافا للمرحلة السابقة حين كان الجيش هو سيد الموقف وله كلمة الفصل، ولعل الذين افشلوا الانقلاب الأخير على الأرض هم من قوات الشرطة والأمن التي واجهت على الأرض القطاعات العسكرية التي قادت الانقلاب، وكانوا من صفوف القوات الجوية والبرية بالدرجة الأولى. 4 - إن الإصلاحات العسكرية التي قام بها أردوغان خلال السنوات الأخيرة كانت سببا في إفشال الانقلاب، إذ أن أردوغان ومن خلال هذه الإصلاحات نجح في إبعاد الجيش من داخل المدن وتسليم مهمة الأمن فيها إلى قوات الشرطة والأمن بعد أن أتبع قوات الشرطة والأمن إلى وزارة الداخلية خلافاً للمراحل السابقة عندما كانت هذه القوات تابعة لرئاسة الأركان أو وزارة الدفاع. 5- إن قادة الانقلاب لم يكن لهم برنامج سياسي محدد وعمق شعبي، وعليه عندما حصل الانقلاب لم نجد قوى سياسية أو أحزاباً تنزل للشارع وتعلن تأييدها للانقلاب، بل حتى أن الانقلابيين لم يفصحوا عن برنامجهم السياسي على الرغم من مضي ساعات على بدء الانقلاب، وذلك عكس التجربة المصرية التي حشدت الشارع مسبقاً ضد حكم محمد مرسي والإخوان المسلمين قبل أن يتحرك عبد الفتاح السيسي نحو السلطة. 6- خلافاً للانقلابيين، قادت الحكومة التركية برنامجاً عملياً وسياسياً ناجحاً في مواجهة الانقلاب، مثلت في دعوة الجماهير للخروج إلى الشارع لإفشال الانقلاب وتجريد قادته من أي بعد شعبي أو جماهيري أو سياسي، وهكذا بدا الانقلابيون كمجموعة من المغامرين الفاقدين للشرعية الشعبية والسياسية، فضلاً عن الافتقار للخبرة، إذ لا يمكن القيام بانقلاب عسكري وفقاً لعقلية الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من دون عمق شعبي وغطاء سياسي. 7 - إلى جانب تحرك حكومة حزب العدالة والتنمية ضد الانقلاب، وقفت الأحزاب التركية المعارضة سريعا ضد الانقلاب وأعلنت رفضها له، وهو ما ساهم في وحدة الموقف في الداخل للحفاظ على قواعد اللعبة الديمقراطية في البلاد التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل خمسة عشر عاماً. 8- المواقف الإقليمية والدولية الرافضة للانقلاب والمؤيدة للشرعية، وقد انطلقت هذه المواقف من الحرص على الحفاظ على الديمقراطية وعدم انجرار تركيا إلى حالة من الفوضى والانقسام والدم، خصوصاً وأن تركيا دولة أطلسية ومهمة لجميع الدول الإقليمية والقوى العالمية الكبرى في ميزان المصالح والعلاقات والاستقرار الإقليمي. السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا، هو ماذا بعد مرحلة فشل الانقلاب؟.. وهل ستساهم في تعزيز الديمقراطية أم ستفتح الباب أمام مرحلة من القمع على شكل انقلاب مضاد؟. دون شك، يتخوف كثيرون من أن تكون مرحلة ما بعد فشل الانقلاب مرحلة لقمع الحريات وتعميق الانقسامات ودفع الخلافات مع أوساط من المؤسسة العسكرية إلى الصدام، خاصة وان أردوغان تعهد علنا بمحاسبة عسيرة لمن قام بها، بل وجدد بقوة دعوته إلى تطهير جماعة الداعية فتح الله غولن من الدولة والمجتمع بعد أن اتهم غولن بالوقوف وراء الانقلاب. ربما من المفهوم حملة الاعتقالات والمحاسبة الجارية عقب الانقلاب مباشرة، لكن السؤال هنا يتعلق بشكل الملاحقة والمحاسبة وحدودها، بمعنى هل يحمل الدستور التركي بنية قانونية كاملة لمثل هذه المحاسبة أم أن الحكومة قد تستغل ما جرى لمحاسبة تدخل في إطار الخصومة السياسية خاصة في ظل ارتفاع الأصوات المطالبة بإعادة العمل بقانون الإعدام وتوجيه اتهامات الخيانة لكل من ينتقد الحكومة؟. الواقع، من الواضح حتى الآن أن أردوغان يحاول القيام بانقلاب مضاد داخل الدولة والمجتمع التركيين لأهداف وأجندة سياسية مسبقة، وذلك من خلال المؤشرات التالية: 1- حملة الاعتقالات الواسعة ليست في صفوف الجيش فحسب، بل في صفوف القضاء والإعلام والسياسيين، حيث تجاوز عدد المعتقلين أكثر من عشرة آلاف شخص وذلك في أكبر حملة اعتقالات في تاريخ البلاد، وهو ما لم يحصل حتى في الانقلابات العسكرية السابقة التي حصلت في البلاد. 2- تصاعد الدعوات إلى إعادة العمل بعقوبة الإعدام واتخاذ أقصى الإجراءات ضد المعارضين لحكم أردوغان ولاسيما في صفوف جماعة الخدمة بزعامة فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي. 3- الحركة الإقصائية الواسعة في صفوف الجيش ضد الذين لا يوالون سياسة أردوغان وإبدال هؤلاء بموالين لأردوغان وحزب العدالة والتنمية. 4- التوجه إلى الاعتماد على الأجهزة الأمنية وقوات الشرطة بدلاً من الجيش في إدارة البلاد، وهو ما يعني عملياً جعل المؤسسة العسكرية مجرد مؤسسة ضعيفة دون قرار، خصوصاً وأن مثل هذا الأمر مهم جداً على صعيد المنطقة، إذا ما علمنا أن مؤسسة الجيش كانت تعترض دوماً على أي تدخل عسكري تركي في سورية على الرغم من أن أردوغان سعى إلى ذلك طويلاً. في الواقع، من الواضح أن المؤشرات السابقة توحي بأن أردوغان بصدد انقلاب مضاد في الداخل، هدفه تهيئة الأجواء لتحقيق أجندته المتمثلة في الانتقال من النظام البرلماني إلى نظام رئاسي مطلق الصلاحيات، ولعل المرحلة المقبلة ستكون ساخنة نظراً لتداعيات كل ما سبق على البنية الداخلية للدولة والمجتمع التركيين بما يشكل ما سبق مساراً أو معياراً ليس لاختبار الديمقراطية في تركيا وانتقالها إلى مرحلة جديدة فحسب بل وعلى صعيد السياسة الخارجية التركية. كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)
|
||||||