روسيا فلاديمير بوتين:
مزاحمة أولاً ثم تعددية قطبية.

السنة الخامسة عشر ـ العدد 175  ـ (رمضان ـ شوال  1437 هـ ) ـ (تموز 2016 م)

بقلم: جنان العلي

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

القراءة في العلاقات الدولية تضعك أمام حقائق قد تكون مذهلة لجهة مدى بُعدها الكبير عن منطق العلاقات بين الجماعات والأفراد. فساسة الدول من طينة مختلفة، ووعي مختلف وتفكير مختلف، وبذلك ينسجون علاقات ليس فيها إلا المصالح وبعيدة إلى حد كبير عن المبادئ.. والقيم!.

وهذا النوع من العلاقات يصعب التقاطه أو استيعابه بعقلية الأفراد، التي هي أقرب إلى أن تكون ساذجة، حين تقرأ في السياسة الدولية كما تقرأ في علاقات الجيران والأقارب والأصدقاء هي أفكار أثارتها، ولا تزال، أجواء التهليل والانتشاء التي سادت عقب الدخول العسكري الروسي على خط الأزمة السورية.

وكثرت التحليلات، وبعضها كاد يضع روسيا في محور الممانعة والمقاومة! الروس في المنطقة.. فلسنا وحدنا.. ومسار الأحداث سوف يختلف.. والأزمة السورية "خلص" انتهت!.. لكن واقع الأمور يتطلب تمعناً وقراءة أخرى.

روسيا دولة ورثت مجد الاتحاد السوفيتي، كما يراها الرئيس فلاديمير بوتين ولن ترضى بأقل من التقاسم مع الأمريكيين القرارات الدولية وأيضاً.. الثروات العالمية.

روسيا- بوتين، دولة لها منطق وطريقة تفكير، وتعامل مع الواقع الدولي، لا تعنيها مبادئ ولا قيم ولا قضايا إلا.. بمقدار ما يحقق مصالحها العليا كدولة.

روسيا- بوتين

 يكاد يجمع المحللون والمراقبون على أن روسيا بصورتها الدولية اليوم واستقرارها الداخلي كدولة، مدينة إلى الرئيس فلاديمير بوتين الذي عمل منذ توليه السلطة عام 2000، على دعم السلطة المركزية وإعادة ضبط المؤسسات الاقتصادية والتجارية.

فقد أحكم بوتين سلطته على الشأن الداخلي، فعيّن حكام الأقاليم (لا انتخابهم) ممن يثق بهم ويعرف قدراتهم، وواجه قوى المال والبترول، فأمسك بثروات روسيا، ما انعكس انتعاشاً اقتصادياً لروسيا، فاستُعيدت الثقة بها داخلياً وعلى المستوى الدولي.

هذا الرجل ذو الملامح المحكمة الشد، الصارمة، المكوّن في رحم الاستخبارات السوفيتية ( كي. جي. بي) يملك رؤية خاصة به، سواء بطريقة الحكم داخل روسيا، أم بكيفية إدارة اللعبة الدولية.

وكنا في مقال سابق، قد تحدثنا عن المشروع الأوراسي الذي يؤمن به الرئيس بوتين، ويعمل على تحقيقه انطلاقاً من دول آسيا الوسطى.

وكأنه القيصر، دعا القوى الدولية إلى التعامل مع بلاده على أساس احترام الموقع والدور، وحق المشاركة في القرارات الدولية الكبرى، خصوصاً في المناطق الساخنة كالشرق الأوسط. ويبدو الرئيس فلاديمير بوتين في السياسة الدولية حريصاً على:

- تأكيد الطابع القومي الروسي في السياسة الخارجية، واسترداد مكانة الاتحاد السوفيتي.. والهدف هو تعددية قطبية دولية ورفض الانفراد بالقرار الدولي.

- بناء علاقات تعاون استراتيجي مع دول كبرى كانت فيما مضى صديقة للاتحاد السوفيتي مثل الصين والهند وإيران. وهو في الوقت عينه حريص على تطوير علاقات روسيا مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا.

- أما جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، فيسعى بوتين إلى تعزيز النفوذ الروسي في هذه الجمهوريات بعنوان تعزيز العلاقات والتعاون معها.

- الحرص على منع أي اضطراب سياسي أو عسكري في دول آسيا الوسطى.

وفي السياق الدولي، يسعى الرئيس فلاديمير بوتين إلى تثبيت حضور بلاده في المنتديات الدولية السياسية والاقتصادية كما هو حاصل في مجموعة الدول الثماني الكبرى، ومنتدى آسيا للتعاون الاقتصادي، ورابطة الأمم لجنوب شرق آسيا، ومؤتمرات القمة الروسية مع الاتحاد الأوروبي.

ويحرص الرئيس بوتين في كل مناسبة دولية على التأكيد على رفض أي لعب أمريكي بالاقتصاد الدولي أو بالسياسة الدولية يتجاهل دور روسيا وموقعها الدولي. وبالتزامن، يعمل الرئيس الروسي على إعادة تسليح روسيا في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو.

روسيا في المنطقة العربية

إن أكثر ما يعنينا، هو موقف روسيا من قضايا المنطقة العربية، وخصوصاً موقفها من إسرائيل، ومن مجمل التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط، خصوصاً منذ مطلع العام 2011 مع بدء الحرب الكونية على سوريا، وهي حرب كونية ليس فقط بسبب المروحة الواسعة من الدول المشاركة بكل أنواع الدعم والإسناد والتمويل والتدريب في هذه الحرب، بل بأبعادها الأخرى، حيث يرصد بعض المحللين أن الحرب على سوريا هي حرب ضد المشروع الأوراسي الذي أخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عاتقه تحقيقه واستعادة أمجاد المواجهة للأمريكيين في العالم، خصوصاً وأن هذا المشروع (الأوراسي) يهم دولاً ذات أهمية وموقع ووزن، مثل سوريا وإيران، وقد قيل اليوم سوريا وغداً إيران!!.

وهناك معلومات وتقارير تفيد بأن سوريا وإيران تفكران بالانضمام إلى الاتحاد الأوراسي لبناء قاعدة عسكرية اقتصادية وسياسية مشتركة لمقاومة النفوذ الأمريكي والأوروبي في العالم وفي المنطقة العربية بالذات.

إسرائيل بدورها طرحت فكرة انضمامها إلى الاتحاد الأوراسي. في التحليل يرى بعض المراقبين السياسيين أن روسيا قد تفكر بانضمام إسرائيل لإضعاف التأثير الأمريكي والأوروبي على السياسات الإسرائيلية، أما إسرائيل فهي تفكر بذلك لأنها ترى الخطى الأمريكية نحو الانكفاء عن المنطقة، وهي تريد أن تضمن لها روسيا كبح جماح محور المقاومة الذي يسعى لتدمير إسرائيل.

يبقى أن روسيا التي تتسم سياستها الخارجية بالانتهازية والنفعية وإيلاء الأهمية القصوى لمصالحها وحضورها الدولي القوي والمزاحم للأمريكيين، يبقى أن تتصرف وحينذاك لا أحد يدري مآل الأمور والأحداث.. فالأساس هو أين تكمن مصلحة روسيا والباقي تفاصيل.

في التعاطي الروسي مع قضايا الشرق الأوسط، حرصت روسيا- بوتين، على أن تنطلق من مصالحها السياسية والاقتصادية وهذه لازمة يجب أن تكون حاضرة في كل تحليل لموقف روسي في قضايا المنطقة العربية، وهي (أي روسيا) تسعى إلى حلول سياسية اعتماداً على القانون الدولي.

روسيا وإسرائيل أمام الإرهاب

من الأمور الإشكالية التي تحاول روسيا التعاطي معها في الشرق الأوسط بالذات هو موضوع الإرهاب الذي يظل تعريفه عصّياً على التحديد حتى دولياً، إلا انطلاقاً من مصالح الدول، وليس من معطيات موضوعية موجودة على أرض الواقع.

وقد حاولت روسيا أن يكون لها تعريفها الخاص للإرهاب المناقض للتعريف الأمريكي.

التعريف الأمريكي يعتبر أن الإرهاب هو عنف ذو باعث سياسي وله أهداف غير حربية يرتكبها عملاء دولة أو مجموعات وطنية فرعية.

وبدا الموقف الروسي موزعاً بين قوى تجابه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط فتسميها روسيا: مقاومة وبين قوى تجابه روسيا في مناطق نفوذها في الداخل (الشيشان) فتسميها إرهاباً!.

ويجد الرئيس الروسي بوتين نفسه في موقع واحد مع إسرائيل في مواجهة الإرهاب وهو الذي قال لنتنياهو: إنا نواجه الإرهاب مثلكم!! ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا أنه يقصد مقاومة الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، والجدير بالذكر في هذا السياق أن العلاقات الروسية- الإسرائيلية تقوم على أسس ثابتة بين البلدين، قوامها المصالح المشتركة والحيوية، ولم يؤثر الدخول الروسي عسكرياً إلى سوريا، على طبيعة الدور الذي تمارسه إسرائيل وتلعبه مخابراتياً ولوجسيتياً في الأزمة السورية.

فإسرائيل حريصة على أن لا تعرقل روسيا أي عملية أمنية إسرائيلية داخل الأراضي السورية، وأن لا تعرقل الضربات الجوية الإسرائيلية لخطوط الدعم اللوجيستي لحزب الله عبر الأراضي السورية.

وهذا كله ضمنته روسيا ولم تقف عائقاً أمامه بدليل استشهاد قادة المقاومة في سوريا على أيدٍ إسرائيلية وفي وضح النهار، وحدوث عدة عمليات قصف جوي لمراكز ونقاط مهمة لوجستياً لحزب الله.

وهذا ما ثمنّه بنيامين نتنياهو بالقول: روسيا تخدم أمننا القومي في هذه الأيام "إسرائيل إذن ليست قلقة من الوجود العسكري الروسي".

لكن ما يتعلق بالقضية المركزية للعرب، وهي قضية فلسطين، تعلن روسيا رفضها العدوان المتواصل على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورفض سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة. وهي تدعو إلى العمل على وقف العنف.

والسعي إلى تحقيق سلام على أساس تسوية بين الطرفين.. وهي (روسيا) استضافت العام 1992 مؤتمراً دولياً في موسكو لحل القضية الفلسطينية. إن موقف روسيا في العلاقة بإسرائيل ترعاه ضوابط معينة واعتبارات محددة:

- وجود مليون يهودي روسي في إسرائيل يشكلون 20-25% من سكان إسرائيل، ويسيطر هؤلاء في دولة العدو على شركات عملاقة وبورصات، كما يسيطر اليهود في روسيا على وسائل الإعلام الروسية، كما أن فيهم خبرات وطاقات علمية وتكنولوجية عالية تهتم روسيا بالاستفادة منها، ولتسهيل انتقال الاقتصاد الروسي إلى نظام السوق الحرة. ثم إن التعامل الاقتصادي بات فعالاً ونشطاً في العلاقات بين البلدين يصعب على روسيا تجاهلها.

من اللافت في السياسة الروسية تجاه القضية الفلسطينية أن الموقف الروسي لا يقدِّم خدمةً أو دعماً واضحاً للفلسطينيين على حساب إسرائيل، إنما تتخذ هذه القضية لتكريس وجودها في المنطقة العربية كلاعب أساسي في السياسة الدولية بغضِّ النظر عن أطراف الصراع ومصالحهم.

إن القضية الفلسطينية هي أداة لطموح موسكو العالمي، لذلك تسعى إلى حفظ علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ومع العرب.

وتسعى روسيا إلى مزاحمة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة وذلك لحفظ مصالح اقتصادية لها بصادرات عسكرية وبأثمان عالمية، خصوصاً وأن المنطقة العربية هي الأكثر استهلاكاً للسلاح في العالم، مع إعطاء الأولوية لعلاقة روسيا مع إسرائيل. وعلاقة روسيا بإسرائيل لها أبعاد أخرى أعمق وأكثر جدية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بتبادل الخبرات الاستخبارية مع إسرائيل في مجال مكافحة الإرهاب.

وتذكر التقارير هنا أن هناك منذ العام 2004 تدريبات إسرائيلية في روسيا على مكافحة الإرهاب ـ (أي إرهاب تواجه إسرائيل؟!!!!!!) ـ وقيام مبعوث الرئيس الروسي بزيارات عدة إلى إسرائيل أثمرت توقيع عدة اتفاقيات بشأن مكافجة الإرهاب، من بينها بيع طائرات إسرائيلية من دون طيار إلى روسيا لمراقبة الحدود حول جمهورية الشيشان.

كما وقع اتفاق تعاون عسكري استراتيجي بين البلدين عام 2010، وبُحثت إمكانية تزويد إسرائيل بأجهزة تقنية فضائية وليزرية روسية، كما بحثت موسكو مع الخبراء الإسرائيليين فكرة إقامة محطة ليزر لقياس المسافات في إسرائيل تعمل في إطار منظومة جلوناس الفضائية الروسية للإرشاد وتحديد المواقع.

علاقات ثابتة ومتطورة

لا شيء يؤثر على العلاقات الروسية- الإسرائيلية أبداً ولا كل الحضور العسكري الروسي في سوريا، هذا لا يقلق إسرائيل، فروسيا دولة عظمى والعلاقات معها تتعزز أكثر فأكثر على حد تعبير نتنياهو الذي أنجز خلال العام 2016 أربع زيارات إلى موسكو، وقد فسّر المتحدث باسم الرئاسة الروسية كثافة زيارات نتنياهو إلى موسكو بأنها "تخلق أساساً إيجابياً جداً للتقدم في مجال التعاون الثنائي في الزراعة والتكنولوجيا وغيرها من القطاعات".

وقد التقى نتنياهو بوتين في حزيران 2016 في موسكو في إطار احتفالات الدولتين بالذكرى 25 لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، نتنياهو وصل برفقة عدد من وزرائه وهي المرة الرابعة التي يلتقي فيها بوتين خلال عام، والمرة الثانية خلال شهرين، وقد بحث في الزيارة تعزيز التنسيق بين الجيشين الإسرائيلي والقوات الروسية في سوريا، وعملية إنهاء الحرب والسلام مع الفلسطينيين، والتعاون بين روسيا وإسرائيل في مجالات التجارة والاقتصاد وتعزيز العلاقات الثقافية.

وفي الزيارة الأخيرة وقع وزير الهجرة الإسرائيلي زئيف ألكين مع وزير الاقتصاد الروسي اتفاقية تعويضات التقاعد لمئات ألوف اليهود الروس الذين تركوا الاتحاد السوفيتي بين الأعوام 1970 و1992، ويتراوح عددهم بين 30 ألف إلى 100 ألف شخص ممن هاجروا من روسيا.

وينال كل شخص منهم مبلغاً شهرياً يتراوح بين 120 و250 دولار وفقاً لقوانين التقاعد الروسية وبحسب سنوات العمل التي قضوها، وتعتبر هذه مبادرة حسن نية من جانب روسيا تجاه إسرائيل.

كما وقع وزير الزراعة الإسرائيلي مع نظيره الروسي اتفاقات تعاون في المجال الزراعي، وكانت إسرائيل قد وطدت تعاونها وصادراتها إلى روسيا في مجال الألبان ومزارع الأبقار الحديثة.

هذا كله يؤشر على أن العلاقات الروسية- الإسرائيلية ماضية في نمو مضطرد وثابت، مستندة إلى تاريخ بدأ مع الاعتراف السبّاق للاتحاد السوفيتي بقيام دولة إسرائيل عام 1948 الذي وصفه الرئيس بوتين بأنه لم يكن صدفة!.

ويعول الطرفان على بذل جهود مشتركة لمواجهة الإرهاب "وإسرائيل تعرف معنى ذلك حق المعرفة وتكافح الإرهاب، ونحن حليفان في ذلك بلا شك ويراكم بلدانا خبرة كبيرة في مجال مكافحة التطرف، ونحن سنعزز الاتصالات مع الشركاء الإسرائيليين في هذا المجال"، بهذه الكلمات يقدم الرئيس الروسي تصوره لطبيعة وأهمية العلاقة مع إسرائيل في مواجهة الإرهاب وهذا بلا شك يقود الدولتين إلى تنسيقيات مخابراتية وعسكرية بعيدة المدى إلى جانب المجالات المتنوعة التي تتعاونان فيها.  

اعلى الصفحة