|
|||||||
|
ربما لم يدرك منفّذا عملية تل أبيب الأخيرة، تزامن ما يُعِدَّانِه لهذه العملية مع جملة من الرسائل التي تم إبلاغها فعلاً إلى أصحاب الشأن فور تنفيذها، وعلى الأرجح أن الثنائي مخامرة، فكر في تطوير عملية التصدي للاحتلال في إطار الانتفاضة الفلسطينية الثالثة من الطعن والدهس إلى العودة إلى استخدام السلاح الناري، إلى بدايات الثورة الفلسطينية المعاصرة.. من هنا جاء جل اهتمامهما، بتطوير سلاح الكارلوستاف "بور سعيد" المعطّل وإصلاحه ليفي بالغرض، أما بالنسبة للرسائل، فالأولى موجهة إلى تعيين العنصري الفاشي ليبرمان وزيراً للحرب في الائتلاف المتطرف بقيادة نتنياهو، كاختبار، ما كان أحد بحاجة إليه باعتباره خارج إطار الشك، حول كيفية تصرفه ومدى تنفيذ خطابه قبل التعيين إلى ما بعد هذه العملية، وقد لاحظنا مع الجميع كافة الإجراءات الانتقامية التي اتخذتها وزارته فوراً، مع أننا ندرك أن هناك المزيد من الإجراءات غير المعلنة والتي تنتظر الظروف المناسبة، أما الرسالة الثانية، فتنطلق من تحليلات، على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، أن الانتفاضة الثالثة قد خبت وتوقفت، بعد أسابيع من حدوث أي عملية طعن أو دهس، رغم استمرار جيش الاحتلال في تلفيق التهم وإطلاق النار على "نوايا" بعض الفلسطينيين الشباب، بذريعة احتمال قيامهم بعمليات طعن ضد المستوطنين، في حين ان الرسالة الثالثة تتمثل في تأكيد ضرورة إنهاء الاحتلال باعتباره الأداة الرئيسة في توترات المنطقة، وان كافة المبادرات لاستئناف العملية التفاوضية على الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي يجب أن تنطلق أولاً وأخيراً، بوضع حد نهائي للاحتلال، وان أية مبادرة أو عودة إلى المفاوضات والالتفاف حول هذا المبدأ، لن يكتب لها النجاح ولن تفرض على الشعب الفلسطيني المقاوم. طبعاً, من المؤكد أن الشعب الفلسطيني المقاوم، وبالضرورة ليس في وارد قتل المدنيين، إلاّ أن شعور المستوطنين بالأمان والاستقرار، يعبر من وجهة نظر الكثيرين، عن مصادرة الحقوق الفلسطينية، أن إشعار الجانب الآخر، العدو، أنه لا أمان ولا استقرار له، طالما لم تلب الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي أولويات هذه الحقوق زوال الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، بات أمراً يأخذه شباب وشابات الانتفاضة الفلسطينية الثالثة بالحسبان. استمرار صيرورة المقاومة مع اندلاع الانتفاضة الثالثة في تشرين أول أكتوبر 2015 تسابق عدد غير قليل من الشبان والفتيات في طعن مستوطنين وجنود وهي رد فعل فردي على الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي والعقاب الجماعي الذي تمارسه "إسرائيل"، سواء اشتعلت المقاومة أو خبت نيرانها فهي في تصاعد وهبوط ومرتبطة أحياناً بالقمع الإسرائيلي وأحياناً بالفعل المقاوم غير المحسوب وبدون حسابات أو مصالح لدى المنفذين. إلا إنها الوطنية الفلسطينية والتي تعبر عن الشعور الوطني ومقاومة الاحتلال بدون إستراتيجية وطنية وتعبر عن حال الفلسطينيين وعشوائيتهم وانقسامهم، وكأن المقاومة أصبحت عملية ثأر وانتقام، وظلت الهبة والتي لم تكن شعبية بمعناها الذي ميز الانتفاضة الأولى، فهي منذ البداية تحولت لفعل مدني عسكري بدون تنظيم وقيادة وشعارات وأهداف، كما لم يكن عليها إجماع وطني من الفصائل التي ترهلت ولم تستطع تحدي ومواجهة القيادة التي عبرت عن عدم رضاها وعملت على إحباطها ولم تفكر في بديل فعل مقاوم شعبي جماعي حقيقي وشهدت الانتفاضة عمليات طعن بالسكاكين وأصبحت أهم سماتها ونفذت عمليات فدائية فردية نوعية عسكرية استخدم المقاومون الفرديون ما توفر لهم من سلاح أبيض وأسلحة رشاشة، وتجلى ذلك في عملية تل أبيب الجريئة والخطيرة والتي مست عصب "إسرائيل" والحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، وفشل الأجهزة الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية التي فوجئت بجرأة المنفذين والتي لم تتوقعها خصوصاً أنها في تل أبيب وبالقرب من مقر وزارة الجيش، ومكتب وزيرها الجديد افيغدور ليبرمان المتطرف والمتغطرس والمجروح والذي سارع في إطلاق التصريحات النارية وتوجيه النقد للحكومة ووزير أمنها السابق ياعلون وهدد سابقاً بالقيام بعمليات نوعية ضد الفلسطينيين. ليبرمان لن يصمت طويلاً على الرد على العملية، وهي اختبار حقيقي له ومعتقداته حتى لو كان هناك إستراتيجية أمنية مسبقة، وتصريحاته النارية وهي بالمناسبة ليست معتقداته الشخصية فقط، إنما هي معتقدات وتوجهات جميع أطراف الائتلاف الحكومي العنصري المتطرف والذي عبر نتنياهو عنها من مكان العملية وهدد بالرد والتحريض على الفلسطينيين، وأشاد بالإدانات الدولية للعملية ووصفها بالإرهاب وتضامن العالم مع "إسرائيل". الأهم من ذلك، قيام مدير عام وزارة خارجية الاحتلال، دوري غولد، بإرسال رسالة إلى 38 من وزارات خارجية في أنحاء العالم، لتجنيد الرأي العام العالمي إلى جانب "إسرائيل". "إسرائيل" تحاول تجنيد الرأي العام الدولي ضد الفلسطينيين وهي مقدمة لاتخاذ خطوات تصعيدية وعقوبات جماعية أكثر قسوة، صحيح أنها لم تتوقف يوماً عن القيام بها، لكنها مستمرة فيها في غياب الحماية للفلسطينيين والموقف الرسمي الفلسطيني التائه والعاجز والطبقة السياسية الفلسطينية التي امتهنت التبريك والتهنئة بالعمليات الفردية وعدم قدرتها على مساندة الهبة وقراءة المزاج الشعبي ومواجهة الاحتلال وسياساته والعقاب الجماعي الذي تمارسه دولة الاحتلال والخشية من تغول أكثر واتخاذ خطوات أكثر قسوة. فعلى بُعد أمتار من مقر وزارة الحرب الإسرائيلية، تعلن المقاومة الفلسطينية عن نفسها من جديد بعملية، على الرغم من أنها لم توقع عشرات القتلى والجرحى، إلا أن رسائلها السياسية والأمنية واضحة للقيادة الإسرائيلية، حيث تعتبر عملية تل أبيب الأضخم منذ اندلاع الهبّة الفلسطينية في أكتوبر الماضي. بعد أن هدأت الأمور في فلسطين بشكل كبير، واعتقدت القيادة الصهيونية أن عملياتها الأمنية نجحت في إحباط المقاومة الفلسطينية، وتفاخرت بقدرتها على التقليل من وتيرة الهجمات في إسرائيل التي شملت الطعن وإطلاق النار والدهس، جاءت عملية تل أبيب لتعلن من جديد أن المقاومة لن تيأس بمرور السنوات ولا بتشديد الإجراءات الصهيونية العنصرية، بل تهدأ قليلاً لتدبر جيداً وبإتقان المزيد من العمليات التي ينتفض منها الكيان الصهيوني بأكمله. فقد قتل 4 إسرائيليين وأصيب 7 آخرون بينهم 4 في حالة خطرة، نقلوا على أثرها إلى مستشفى إيخيلوف للمعالجة، في إطلاق نار في منطقة المركز التجاري "سارونا ماركت"، بالقرب من مقر وزارة الحرب الصهيونية، ومقر هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي. فشل استخباري جديد عقب الهجوم الفلسطيني، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنه ناقش مع مسؤولين بارزين سلسلة إجراءات هجومية ودفاعية ستنفذها إسرائيل للتصدي لظاهرة إطلاق النار، الأمر الذي تبعه حشد جيش الاحتلال قواته العسكرية على مدخل بلدة يطا، بعد أن تأكد من أن منفذي العملية من سكان هذه البلدة، وبدأت الإجراءات الصهيونية الغاشمة في التطبيق، في محاولة لطمأنة مستوطنيه، حيث كثفت قوات الاحتلال إجراءاتها التعسفية في البلدة الواقعة جنوبي الخليل، والتي يقطنها أكثر من 120 ألف نسمة، وأعلنتها منطقة عسكرية مغلقة، كما داهمت مناطق الكرمل وخلة صالح والبركة وماعين شرق يطا، ونشرت قواتها على المداخل، وعطلت حركة تنقل المواطنين. امتدت حملة الاعتقالات إلى محافظة نابلس وبيت لحم، حيث اعتقلت قوات الاحتلال، مواطنين اثنين من محافظة نابلس، كما اعتقلت شقيقين من حي وادي معالي وسط مدينة بيت لحم. بعد ساعات من الهجوم الفلسطيني، أعلنت إسرائيل أنها ألغت تصاريح دخول لأراضيها كانت قد منحتها لـ83 ألف فلسطيني بمناسبة حلول شهر رمضان، وقالت الإدارة المدنية التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، والمسؤولة عن تنسيق أنشطة الجيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إنه تم تجميد كافة التصاريح التي منحت بمناسبة شهر رمضان، خاصة التصاريح المخصصة للزيارات العائلية للفلسطينيين من الضفة الغربية، وتم تجميد 83 ألف تصريح. عملية تل أبيب جاءت كصفعة على وجه وزير الحرب الصهيوني الجديد، أفيجدرو ليبرمان، ورسالة تَحدٍّ كبيرة، مفادها أن المقاومة الفلسطينية لن ترضخ بمجيء وزير حرب أكثر تطرفًا وعنصرية ممن سبقه، حيث جاءت العملية بعد أيام قليلة من تسلم ليبرمان مهام عمله رسمياً، وقال ليبرمان، خلال تفقده مكان وقوع العملية في تل أبيب، إن الجيش الإسرائيلي يعمل بكل حزم وبكل سرعة منذ أن وقعت العملية، مضيفاً: سوف نتخذ خطوات نابعة من الوضع، وهذا ليس الوقت المناسب لإطلاق التصريحات. عملية تل أبيب أثبتت من جديد فشل منظومة الأمن الإسرائيلية وجهاز استخباراتها في إيقاف أو تحجيم عمليات المقاومة الفلسطينية المشتعلة منذ 8 أشهر، حيث أكدت شرطة العدو أن منّفذَيْ عملية تل أبيب سلكا طريقاً طويلاً، انطلاقاً من منطقة الخليل، مروراً بالقدس، وصولاً إلى تل أبيب، دون أن تواجههم أي مشكلات، أو تعوقهم أي قوى أمنية أو حواجز تفتيش، الأمر الذي يثبت أن هناك ثغرات أمنية داخلية في جاهزية وزارة الداخلية الصهيونية وقواتها، فشلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في معالجتها. فعلى الرغم من انتشار القوى الأمنية في كل متر تقريباً على الأراضي المحتلة، إلا أن وجودهم لا يختلف كثيراً عن عدمه. كما أن وقوع الهجوم بجانب وزارة الحرب الصهيونية وقيادة الجيش الإسرائيلي يمثّل تحدياً كبيراً لجهاز الاستخبارات الصهيوني، ورسالة من المقاومة، مفادها أنها تستطيع الوصول والمساس بأكثر المناطق الصهيونية حيوية وحساسية، خاصة وأن الشرطة الصهيونية أكدت أن الشابين أفطرا قبل تنفيذ العملية في مطعم "مكس برنر" داخل المجمع، وبعد انتهائهما من الإفطار أطلقا النار من سلاح من نوع "كارل غوستاف"، المحليّ الصنع، على الموجودين داخل المطعم، الأمر الذي يعني أن منفذي العملية أحكما التدبير والتنفيذ في الوقت الذي تستغرق فيه الاستخبارات الصهيونية في سباتها العميق. الإخفاق والفشل الصهيوني اعترف بهما أحد مسؤولي الاحتلال، حيث قال وزير العلوم في حكومة الاحتلال، أوفير أكونيس، إن عملية تل أبيب هي إخفاق أمني خطير جداً للأجهزة الأمنية الإسرائيلية. ومن جانبها أكدت الأجهزة الأمنية الصهيونية أنها لم تكن تملك معلومات عن إمكانية تنفيذ عملية من هذا القبيل في قلب تل أبيب. حالة كفاحية فريدة إن عملية تل أبيب الرمضانية، التي وقعت في قلب مدينة تل أبيب وبالقرب من مجمع وزارة الحرب الإسرائيلية، وأدت إلى مقتل أربعة إسرائيليين بينهم ضابط في إحدى وحدات النخبة المقاتلة، تندرج في قلب الحالة الكفاحية الفريدة التي يخوضها الفلسطينيون منذ الأول من أكتوبر/تشرين أول من العام الماضي. هذه العملية هي الأقوى حتى الآن منذ انطلاق ما سماه الفلسطينيون المنحازون لخيار المقاومة بـ"انتفاضة القدس"، وهو ما يجعلها قادرة على المساهمة في تجديد الوعي الفلسطيني المقاوم، ولاسيما حين النظر إليها من جهة ظرفها وتوقيتها وحين أخذها ضمن تحولات "انتفاضة القدس"، بالإضافة إلى عامل القوة في العملية نفسها. بداية ومنذ انطلاق "انتفاضة القدس"، بعملياتها الفردية ذات الكثافة العالية في شهورها الثلاثة الأولى، وبما واكبها من محاولات منظمة لاستنهاض الجماهير والدفع بالموجة الانتفاضية نحو حالة شعبية كبرى على منوال ما عرفه الفلسطينيون في إرثهم الكفاحي داخل الأرض المحتلة؛ أدرك المهتمون الملتحمون بالنشاط النضالي اليومي للفلسطينيين، أن هذه الحالة لن تكون هَبة عابرة، ولا قفزة في الفراغ، وإن كانت لا تملك الشروط الموضوعية الكافية للتحول أو التطور إلى أي من النموذجين الانتفاضيين الكبيرين الذين عرفهما الفلسطينيون، أي الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية. إن إدراك الشروط الموضوعية للحالة الكفاحية الجارية منذ أكثر من ثمانية شهور، وما يميزها عن ما خبره الفلسطينيون في تجاربهم الماضية، ضروري لنفي التصورات المتعارضة التي تنتاب المتابعين عادة لنضال الشعب الفلسطيني، فمن جهة ينبغي ألا يُحمّل الكفاح الجاري فوق طاقته إلى درجة افتراض قدرته على تحرير الضفة الغربية، وما كان ينبغي الاندفاع بالحماسة التي تولد عنها مثل هذا الافتراض مع أوج هذا الكفاح في شهوره الأولى، إذ كانت كل الشروط الموضوعية تعاند تصوراً كهذا. ومن جهة أخرى فإن هذا الإدراك ينفي التصورات الرومانسية المؤدية إلى تعطيل الكفاح، كافتراض القدرة على استنساخ نموذج الانتفاضة الأولى، وهي قدرة محالة ما دامت الشروط المانعة ما تزال قائمة، وهذه التصورات بافتراضاتها المفتقرة إلى إدراك الظروف والشروط والسمات الخاصة بالمرحلة وما يمكن أن ينبثق عنها من أشكال نضالية، سوف تؤدي حتماً إلى رفض كل شكل نضالي متجاوز لتلك التصورات الرومانسية، وهو الأمر الذي يعني أن يتخلى الشعب الفلسطيني عن نضاله ما دام هذا النموذج المتخيل غير متحقق في الواقع!. بين هذين الحدين، أي بين حد المبالغة في تصوير الكفاح الجاري وتحميله فوق طاقته، وحد رفض الأشكال النضالية العنفية المنبثقة عنه، تأتي الطبيعة الخاصة للكفاح الجاري، فهي لم تكن مجرد هَبّة أو قفزة في الفراغ لأنها أولاً امتداد للهبة التي بدأت منذ يوليو/تموز في العام 2014 بعد حرق الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير، وأسر المستوطنين الثلاثة في مدينة الخليل، وبالتزامن مع العدوان على قطاع غزة في العام نفسه، وهو العدوان الذي ووجه بمقاومة باسلة تميزت بأداء رفيع، وكشفت عن صلابة المقاتل الفلسطيني وإعداده الدؤوب، فانعكس ذلك على فلسطينيي الضفة الغربية الذين استصحبوا أثر هذه المعركة في عدد من الأحداث كان أهمها انتفاضة القدس. وإذا أضيف إلى هذه المراكمة النضالية المستمرة منذ سنتين، الكثافة العالية في العمليات الفردية في الشهور الأولى من عمر هذه الانتفاضة، يمكننا القول إننا كنا وما زلنا أمام حالة أكبر من أن تكون مجرد طفرة. تلك الكثافة ما كان لها أن تستمر، بسبب الطبيعة الفردية للظاهرة، ولكن هذه الطبيعة غير القابلة للقياس، حين النظر إلى سمتيها الأهم، المراكمة النضالية المستمرة ثم الكثافة في الشهور الأولى، تعطي إمكانية للتنبؤ بإمكان الاستمرار ضمن وتيرة منخفضة، قادرة على خلق المفاجآت المتباعدة، وقابلة للتصاعد أو الانتشار الواسع في أي لحظة، بحسب التحولات التي يمكن أن تطرأ على الشروط الموضوعية سياسياً واجتماعياً، ومن ثم وبعد بضعة شهور على انفجار انتفاضة القدس، ومع عملية رمضان بدأت الظاهرة بأخذ شكل جديد، تمثل في نمط معين عرفه الفلسطينيون في حقبة معينة، وإن كان لكل حقبة سماتها المختلفة. تهيمن النماذج الكفاحية الكبرى التي تستقطب الآلاف من الجماهير، وتتحول إلى حدث مفتوح يحتل مكانة متعاظمة إقليمياً ودولياً على الذاكرة الجماعية للفلسطينيين، كثورة العام 1936، والثورة الفلسطينية المعاصرة، والانتفاضتين الأولى والثانية، والحروب الأخيرة على قطاع غزة. ولكن التاريخ الكفاحي للفلسطينيين لم يقتصر على هذه النماذج الكبرى، وتكيف بما يستجيب لطبيعة كل مرحلة، ويحافظ على ديمومة النضال بما يحافظ على تجدد الوعي الفلسطيني بالصراع، ويواجه المحاولات الاستعمارية الساعية إلى إعادة هندسته بما يلائم مصالحها، أو مصالح القوى المرتبطة بالاستعمار، ويزاحم القوى الاستعمارية وحلفاءها على ملء الزمن الفلسطيني، فيسعى لملئه بالكفاح الذي يدافع الفعل الاستعماري ومقولاته وأجندته التطويعية، وهو فعل مهم في لحظته، حتى لا يكون الزمن الفلسطيني خاليا إلا من الفعل الاستعماري، وحتى تبقى الجماهير في موقع الصراع مع العدو. في الفترة الواقعة منذ أواخر الانتفاضة الأولى، ومع توقيع اتفاق أوسلو، وحتى العام 1998، كانت العمليات العسكرية المتفرقة هي النمط النضالي السائد، والذي أسس على مستوى الإلهام، وعلى المستوى الفعلي، للذاكرة الكفاحية الكبرى القريبة، فالبنية العسكرية لكبرى فصائل المقاومة في قطاع غزة، بدأت في تلك الفترة، بمجموعات قليلة ومتفرقة، وفقيرة السلاح والتدريب، ولكنها كانت بالغة الدور في الحفاظ على الروح المعنوية، وفي التمهيد لبناء عسكري مقاوم عاد وتشكل مع الانتفاضة الثانية مستفيدا من إرث تلك المرحلة. محدودية القوة الإسرائيلية إن عملية تل أبيب أصابت السياسة الأمنية الإسرائيلية في الصميم. فقد وقعت في ذروة سعادةِ اليمين بإنجازاته، مع تعيين أفيغدور ليبرمان وزيراً للحرب. ويُمكن القول إن آثارها ستظل تدوي لفترةٍ قادمة طويلة، نظراً لما تُمثله من تحديات لنظريات اليمين السياسية والأمنية على حد سواء. وبين هذا وذاك، تُظهر العملية محدوديةَ القوة الإسرائيلية وقوالب رد الفعل المتوقعة بصرف النظر عمن يجلس على مِقود السياسة الأمنية: عاقلٌ أو مجنون. وأول ما يثير الانطباع هو تنفيذ العملية من جانب مناضلَين فلسطينيين اثنين (هما أبناء العم محمد احمد موسى مخامرة وخالد محمد موسى مخامرة من بلدة يطا جنوب الخليل) وليس واحدا، واستخدامهما سلاحاً نارياً حتى لو كان محلي الصنع. فامتلاك السلاح ونقله والتدرب عليه كلها أمورٌ تثير تساؤلات حول مدى سيطرة واطلاع أجهزة الأمن الإسرائيلية على ما يجري في الضفة الغربية. وعدا ذلك، فإن انتقال المناضلين من الضفة الغربية إلى تل أبيب خصوصاً، وإلى محيط وزارة الدفاع، يزيدُ الأسئلةَ حدةً نظراً لما تتخذه الأجهزة الإسرائيلية من تدابير احترازية وحالة تأهب. وربما أن هذه الأسئلة وسواها هي ما ناقشه المجلس الوزاري المصغر في جلسته الطارئة، لبحث المسألة وتبعاتها. وبعد ذلك، يُطرح سؤال بديهي من نمط هل أن هذه العملية تؤشر لانتقال نوعي في أداء الفلسطينيين، الذين بدل أن تخبو هبّتُهم تزداد اتقاداً وتنتقل إلى استخدام السلاح في تل أبيب. في كل الأحوال، ثمة من يتعامل مع عملية تل أبيب بوصفها اختبار النار الأول لوزير الدفاع الجديد الذي عرفه الناس بتصريحات "تدمير طهران وسد أسوان"، والذي سبق أن رسم لنفسه سياسةً تقومُ على أساس استخدام القوة إلى أبعد مدى بقصدِ إخماد أي مقاومة فلسطينية عبر اجتياحات واحتلالات واغتيالات و... كل ما يلزم. وربما لهذا السبب، سارع ليبرمان إلى إعلان أنه لن يكتفي بالأقوال وأن الوضع يتطلب أفعالاً. غير أن الأفعال التي ينوي ليبرمان اللجوء إليها، بعدما أصدر أمراً بعدم تسليم جثث الشهداء الذين يهاجمون جنوداً أو مستوطنين إلى عائلاتهم، لا يُمكن أن تَمّر من دون ردود فعل. وكذلك، فإن ردود الفعل لا تنحصر في الجانب الميداني، بل تتخطاه إلى جوانب سياسية محلية وإقليمية ودولية. إذ لا يمكن تجاهل محاولات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الإقناع بأنه يرغب في السلام مع المحيط العربي على أرضية مبادرات إقليمية سواء كانت مصرية أو سعودية كنوعٍ من الرد على المحاولات الدولية لتحريك التسوية. ولهذا السبب، فإن الكثير سوف يُعتمد على الإجراءات التي سيقدم عليها الجيش الإسرائيلي. وبدا واضحاً حتى الآن أن ليس هناك جديد سواء في التهديدات أو نبرتها أو في الإجراءات التي اتخذت. فـ "التسهيلات" التي كان ليبرمان أعلن عنها للفلسطينيين في الضفة الغربية لمناسبة شهر رمضان ألغيت. والجيش الإسرائيلي، وبحسب الوارد في أنظمته، سارع إلى تطويق بلدة يطا بهدف تنفيذ اعتقالات وجمع معلومات. والجيش و"الشاباك" الإسرائيلي يسعيان لإثبات، ولو متأخرين، أنهما يعملان، ولو من قبيل إطفاء ظمأ الإسرائيليين لغريزة الانتقام. ومن المؤكد أن الأيام المقبلة ستظهر مزيداً من سياسة الإصبع الرخوة على الزناد. وأياً يكن الحال، فإن المعلق السياسي لـ "يديعوت"، ناحوم بارنيع، كتب أن "عملية إطلاق النار في قلب منطقة الترفيه الصاخب في تل أبيب هي ضربةٌ كان يفترض ألا تقع، ولكنها وقعت، وذكرتنا بأن الشائعات عن انطفاء الانتفاضة الحالية كانت سابقة لأوانها. فالبندقية المصنوعة محلياً حلت محل سكين المطبخ، لابسو البدلات حلوا محل فتيان المدارس، ولكن الإرهاب لا يزال هنا فتاكاً كما كان دوماً". ولاحظ بارنيع أنه "إذا ظن أحدٌ ما أن تولي افيغدور ليبرمان وزارة الدفاع سيجلب معه فعل سحرٍ يحّل المشكلة، فعليه أن يعيد التفكير. شيءٌ واحدٌ فقط تغّير في الطقوس التي تُرافق كلّ عملية: هذه المرة، لن نسمع ليبرمان يتهم الحكومة بالعجز والاستسلام للإرهاب". وأشار المعلق العسكري لـ "هآرتس"، عاموس هارئيل، إلى أنه مؤخراً أطلقت تكهنات وتقديرات بأن "مرحلة العنف باتت خلفنا. لكن العملية في مُجمّع شارونا توضح أن الأمر ليس بالضبط هكذا. فعلى الرغم من تراجع مستوى العنف وعلى الرغم من بلورة الأجهزة الأمنية مؤخراً صيغةً أكثر فعالية لمواجهة هجمات تستند أساساً إلى عمليات ذئاب منفردة، فإن الحل ليس كاملاً". وأضاف أن العملية هذه المرة "تبدو أكثر طموحاً وتخطيطاً مما شهدناه في الشهور الماضية. مُخّربان عملا بتنسيق واختارا هدفاً داخل الخط الأخضر وارتديا بزات وربطات عنق كي لا يثيرا الشبهات". ولكن هذا في نظره لا يثبت أنهما "خلية من تنظيم". واعتبر هارئيل العملية اختباراً لليبرمان الذي يجد اليوم الفارق بين التصريحات المتشددة والقدرة العملية على اتخاذ خطوات. "فانخفاض العنف في الشهور الماضية حَدث بفضل مزيجٍ من السياسة الحازمة للجيش والشاباك وتجنب العقوبات الجماعية في المناطق وتوثيق التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الفلسطينية. وهذا مزيجٌ فائق الحساسية يسهل جداً تخريبه بتصريحات غير حذرة. وفي الأيام القريبة، سيتبين إن كان ليبرمان انتهج سياسة مغايرة لتلك التي انتهجها سلفه، موشي يعلون". أما المعلق الأمني لصحيفة "معاريف" يوسي ميلمان فكتب أن "العملية وأبعادها المختلفة تدرس من جانب الشاباك، ولذلك يصعب استخلاص نتائج قاطعة. ومع ذلك، هناك إشارات يُمكنها أن تعزز الافتراض بأن الحادث يشبه حوادث سابقة. وهذا الافتراض يستند إلى اعتقال المنفذين، المعروف أنهما بلا سوابق أمنية، وإلى ضبط السلاح المستخدم وإلى شهادات المارة وقرائن أخرى ميدانية". وخلص إلى أن العملية تُشكل أول اختبار لليبرمان "الذي منذ توليه المنصب يقلل من التصريحات ويركز على اللقاءات مع كبار الأمنيين ودراسة مجالات عمله. والتصريحات القليلة التي أطلقها كانت معتدلة ومخالفة لأقواله الحادة حينما كان في المعارضة". وأخيراً نقول: أن يقوم شابان فلسطينيان من جنوب الضفة الغربية، بتصنيع سلاحيهما يدوياً، وتجاوز كل العقبات الأمنية، والوصول إلى موقع العملية المعقد، وتنفيذ عمليتهما بكل هدوء وارتياح، فإن هذا يعني أننا أمام تحول كبير سيؤسس لمرحلة جديدة من العمل المقاوم ضد الاحتلال الإسرائيلي. وإذا تذكرنا الدور التأسيسي للمرحلة الماضية من عمر الانتفاضة الحالية، فإن هذه المرحلة إن استمرت بهذا النمط من شأنها أن تؤسس لمرحلة تالية، أو على الأقل أن تستمر بنفس النمط الذي يقوم بدوره في الصراع على حيز الزمن وفي معركة الوعي، بيد أنه لا يمكن الاتكال على عناصر الظاهرة الذاتية، إذ لا بد من تطوير الإسناد الإعلامي، واستعادة الدور المركزي للعمل المقاوم. |
||||||