|
|||||||
|
أجمع المثقفون العرب من اليمين واليسار أن"إسرائيل" هي جزء من "الظاهرة الاستعمارية "الأوروبية. وقد تبنى هذا الموقف العالم الثالث على أوسع نطاق. ويحار المرء في الانتقاء من بين التأكيدات العربية. فها هو عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" يحكي أفكاره كضابط في الثلاثين من العمر عند عودته من حرب فلسطين عام 1948: لقد كان ذلك كله على توافق طبيعي مع الرؤية التي رسمتها في ذهني التجربة. (فالمشرق العربي) يشكل منطقة واحدة تعمل فيها الظروف نفسها والعوامل نفسها وحتى القوى نفسها المتألبة عليها جميعاً. ومن البديهي أن تكون الإمبريالية أبرز هذه القوى. ولم تكن"إسرائيل" ذاتها سوى نتيجة من نتائج الإمبريالية"(1). "إسرائيل" واقع استعماري "إسرائيل" في نظر العرب قاعدة امبريالية أقامتها في الشرق الأوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى. وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي. ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والأمريكية. هذا هو على الأقل التصور الأكثر شيوعاً في العالم العربي. ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة من جراء فرض عنصر غريب في قلب أمتهم تسانده قوى العالم الأوروبي – الأمريكي. إن مأساة الشعب الفلسطيني كانت نتيجة لمعطيات وأهداف الاستعمار الأوروبي الذي خطط وباشر في تنفيذ خططه في الاستيلاء على المنطقة العربية، وفي إقامة دولة "إسرائيل"،على أرض فلسطين. ومن هنا، فإن أوروبا لا تفهم قضية شعب فلسطين أكثر من غيرها فحسب، بل لا بد وأن تستشعر بما مارسته من أعماق المأساة للشعب الفلسطيني. وقد بدأت فكرة الكيان الصهيوني عندما كانت الإمبرياليتان الفرنسية والبريطانية تصارعان من أجل اقتسام تركة الرجل المريض عامة بينهما، والعالم العربي خصوصاً، وترعرعت مع ازدياد النفوذ الاستعماري وقوته. وأعلن قيام "دولة إسرائيل" بعد الحرب العالمية الثانية، وخروج الحلفاء منتصرين على المحور. وجاء قيام الكيان الصهيوني عام 1948 ضمن مخطط استعماري استهدف المنطقة كلها بما فيها فلسطين. وكان الوجود الصهيوني في فلسطين جزءاً منه، إذ قام المخطط الاستعماري على تجزئة العالم العربي، وضمان تخلفه، وتنصيب فئات رجعية قيادات في كل "دولة" من دوله. وهدف الوجود الصهيوني الحفاظ على هذه الفسيفساء. وظل الكيان الصهيوني مرتبطاً بحركة الرأسمالية العالمية عندما كان مركزها في أوروبا، وأصبح جزءاً من المخطط الإمبريالي الأمريكي حين انتقل مركز هذه الرأسمالية العالمية إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. ففي أيلول – تشرين الثاني 1947، بدأت الجمعية العمومية دراسة التقرير المقدم بشأن المسألة الفلسطينية، وقد أكدت هذه الدراسة من جديد الفرق المبدئي بين مواقف الدول الإمبريالية الأوروبية والاتحاد السوفيتي. فتحت ستار الحل "المتفق عليه" (أي الحصول على موافقة العرب واليهود) راحت بريطانيا تحاول بشتى الوسائل التخلص من قرارات هيئة الأمم المتحدة. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد أيدت من جانبها "مشروع الأكثرية" للجنة الفلسطينية، ولكنها استمرت تحاول الوصول إلى أي أسس "قانونية" بغية تنفيذ أطماعها الإمبريالية في فلسطين في المرحلة الانتقالية، وهذا ما تجلى- جزئياً- في الاقتراحات الأمريكية حول تأسيس قوات بوليسية في فلسطين عن طريق "التطوع". وفي 29 تشرين الثاني 1947، وانطلاقاً من المبادئ الأساسية في النظام الداخلي، قررت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة بنسبة ثلثي أعضائها إلغاء الانتداب على فلسطين، وتقسيمها إلى دولتين منفصلتين: عربية ويهودية، مع الإبقاء على الوحدة الاقتصادية فيما بينهما. وقد صوتت إلى جانب المشروع 33 دولة، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة الأمريكية، وعارضته 13 دولة، وامتنعت10 دول عن التصويت بما في ذلك بريطانيا. وقد جاء في القرار: "يلغى مفعول الانتداب على فلسطين في أقرب وقت ممكن، ولكن ليس بعد 1آب 1948. وسحب الجيوش الإنكليزية ليس بعد 1 آب 1948"(2). ومنذ نهاية تشرين الثاني/نوفمبر1947، ازدادت حدة الإرهاب الصهيوني. وبعد صدور قرار التقسيم، اتخذت الصهيونية كل التدابير الكفيلة بإعاقة تأسيس دولة عربية فلسطينية، لكي يستولوا في المستقبل على الأراضي التي خصصتها هيئة الأمم المتحدة لهذه الدولة، وتشير صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أن الإرهابيين الصهاينة قد هاجموا واحتلوا قبل 15 أيار 1948 ثماني عشرة مدينة وقرية. وهكذا بدأ العنصريون الصهاينة تحت ستار "الدفاع عن النفس" اعتداءات مكشوفة : فقد كان الإرهاب موجهاً نحو التنكيل بالعرب أو طردهم. ففي 10 نيسان 1948 ذبح جميع سكان قرية دير ياسين العربية، وفيما بعد اعترف بيغين رئيس ألـ"ايرغون نسفي ليومي" أن المجازر الصهيونية الدموية وما كان يرافقها من إشاعات مرعبة قد تمخضت عن هروب 650 ألف عربي وصل بهم الذعر إلى درجة الجنون(3). وفي 14 أيار 1948 رفع قادة الصهيونية في واشنطن، على مبنى الوكالة اليهودية راية بيضاء ذات نجمة زرقاء سداسية ،كمركز لتأسيس دولة "إسرائيل". وفي اليوم التالي، 15 أيار، بدأت الحرب العربية- الصهيونية، التي تمخضت عن احتلال "إسرائيل" لمساحات من الأراضي تزيد كثيراً عن تلك التي خصصت لها بموجب قرار التقسيم الصادر بتاريخ 29 تشرين الثاني 1947. وكان رؤساء "إسرائيل" يطمعون من وراء ذلك إلى تنفيذ عملية جديدة، بدأها الصهاينة في سنوات الحرب "تصفية" الأراضي العربية من العرب، بغية تأسيس دولة يهودية، يمكن للصهاينة أن يوطدوا سيطرتهم فيها. وهكذا ظهرت مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين وصل عددهم، نتيجة العمليات الأخرى في "إسرائيل" إلى مليون ونصف مليون شخص (حسب الإحصائيات الرسمية لهيئة الأمم المتحدة). وقد أصبحت سياسة المذابح الجماعية ضد العرب، السياسة الرسمية للدولة اليهودية الجديدة. وتحولت "إسرائيل" منذ ظهورها إلى عش للعدوان والتطهير العرقي والحرب، ضد البلدان العربية. وما أن تأسست الدولة الصهيونية، حتى أعلن بن غوريون رئيس وزراء الحكومة الصهيونية في الأيام الأولى لرئاسته،أن تأسيس "إسرائيل" ليس سوى بداية للنضال من أجل تأسيس الدولة اليهودية" من النيل إلى الفرات" ولم ينكر أن دولة "إسرائيل" ليست هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الهدف. إن تشكيل دولة "إسرائيل" على أرض فلسطين العربية هو نتيجة لتطور يمكن إدراجه تماماً في حركة التوسع الاستعماري الأوروبية والأمريكية في القرنين الـ19 والـ 20 للسيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على الأمة العربية. فقد تم إسكان اليهود الصهاينة على أرض فلسطين من ناحية، وتم إجلاء السكان الأصليين أي الفلسطينيين الذين أُجبِروا بقوة السلاح الأوروبي على الارتحال، والتشرد من ناحية أخرى. إن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، هو اقتطاع ظالم لأرض شعب فلسطين، حصل بقوة و دعم القوى الاستعمارية الأوروبية. فخلق "إسرائيل" إنما كان إهانة للعرب كشعب، فضلاً عن أن الدول الاستعمارية الأوروبية بررت وجودها كأداة قمع لحركة التحرر الوطني العربية. ثم إن وعي الطبيعة الاستعمارية لدولة "إسرائيل" هو البدء الحقيقي في يقظة الوعي الأوروبي من سباته العميق. ما هي الأسباب التي تدفعنا إلى اعتبار القضية الفلسطينية من القضايا التي تتيح في نظرنا تقييم كرامة الخطاب السياسي العربي ومسؤوليته؟ إن القضية الفلسطينية قضية قومية عربية وإسلامية وكونية. "إسرائيل" ـ إحدى أقوى الدول عسكرياً في منطقة الشرق الأوسط، وصاحبة التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة والحائزة أفضل تشكيلات الحرب الحديثة ووسائلها ـ قامت في عام 1948، وشنت حرباً على الشعب الفلسطيني، وطبقت خططها البعيدة المدى للتطهير العرقي. بينما يزعم المؤرخون "الإسرائيليون" في قراءتهم المتناقضة مع الحقائق التاريخية، بمن فيهم "المؤرخون الجدد"، أن الحرب قد شنها العالم العربي ضد دولة "إسرائيل" لكي يقضي عليها، وأنها أسفرت عن عمليات طرد للفلسطينيين، علماً أن العالم العربي حين حاول أن يمنع ذلك التطهير العرقي، كان ممزقاً مشتتاً غارقاً في شؤونه الداخلية، وغير قادر على وقف اقتلاع نصف سكان فلسطين من وطنهم، وتدمير نصف قرى فلسطين وبلداتها وقتل الألوف من سكانها الذي كانت تقوم به القوات الصهيونية. ولما كان ذلك التطهير العرقي قد طبق بنجاح في ما يقارب 80% من أرض فلسطين دون أن يكون لذلك أي أصداء عالمية أو إقليمية، فإن "إسرائيل" تواصل تطبيق هذه السياسة منذ سنة 1967 على مساحة الـ20% الباقية من البلاد. ولا يزال خلق دولة يهودية خالصة في فلسطين التاريخية المطهرة من الفلسطينيين، هو البنية التحتية الأيديولوجية التي تقوم عليها "إسرائيل". ولا يزال اليوم أكثر من ثلث الفلسطينيين يعيشون لاجئين تعساء في غالب الأحيان من دون أن تقر لهم دولة الكيان الصهيوني بأي حق في العودة،على الرغم من صدور القرار 194، ومن دون أن تقدم الدول العربية على استيعابهم ومنحهم حقوق المواطنة الفعلية، مخافة من التوطين. الشعب الفلسطيني أكسبته الكارثة التاريخية الجماعية التي حلت به منذ نكبة 1948، وهزيمة 1967، وعياً وطنياً وهو ينتظر أن يفي المجتمع الدولي بوعده لإيصاله إلى الاستقلال ضمن دولة قابلة للحياة. ولم يكن أحد ليتخيّل أن الدولة الصهيونية ستستمر في احتلال الأراضي العربية التي سيطرت عليها خلال تلك الحرب الثالثة 1967، وأنّها ستتواجه بشكلٍ عنيفٍ مع المقاومة الفلسطينية طيلة العقود الأربعة الماضية. المشروع الصهيوني انتصر في حرب 1967 ما الذي حدث، منذ حزيران/يونيو 1967وحتى الآن؟!.. على العرب أن يعترفوا بخطورة المشروع الصهيوني في المنطقة وأهدافه التي تتكشف كل يوم من تفكيك للمنطقة وعزلها وتجزئتها. ومنذ هزيمة 1967،انكفأت الدول العربية كل منها على ذاتها،وظهرت تيارات انعزالية تسيطر على تفكيرها، بحيث التفتت كل دولة لذاتها، وأسهم في ذلك ما يسمى بالعولمة التي ترمي في مصالح المخطط الأمريكي -الصهيوني، أبرزها المصالحة مع الكيان الصهيوني، بحيث تحول الأمر إلى أن بعض الدول أصبحت تابعة ل"إسرائيل". لقد انتصر المشروع الصهيوني في حرب حزيران 1967، ونجح في إحداث الفرقة بين العرب، إذ بات يتصور بعضهم أن البعض الآخر يسرق ثروته. وباتت مفردات "النكسة" تعني الهزيمة في وجه "إسرائيل"، لكن أيضاً – وخصوصاً- نهاية قاسية للمشروع القومي العربي بإقامة دولة عربية تقدّمية قوميّة وحديثة كان ينادي بها جمال عبد الناصر (1918-1970) الذي تسلم الحكم في مصر في العام 1952، مع الضبّاط الأحرار، وأصبح الداعي إلى الوحدة العربيّة. وكان لحزب البعث، الذي أُسّس في العام 1947 تحت شعار"أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، نفوذ في صفوف العسكريّين وأوساط الطبقات الوسطى، إذ تمكّن هذا الحزب الذي يتمتّع بـ"فروع" تابعة له في الدول العربية كافة ،من تسلم السلطة في سوريا والعراق في مرحلة الستينيات. غير أنّ العلاقات السيئة والخلافات بين دمشق وبغداد، ولاسيما داخل الحركة القومية العربية ستحول دون أيّ تحقيق لوحدة عربيّة. وقد بلغ هذا المشروع ذروته مع إعلان قيام الجمهورية العربية المتحّدة بين مصر وسوريا (1958-1961). فخلال نحو عقديْن من الزمن، بين العاميْن 1950 و1967،أمل العرب في الحصول على فرصة ثانية للـ"تعويض" عن "النكبة" الأساسية في خسارة فلسطين بين العاميْن 1948-1949. ومع العام 1967، أصبح وجود الدولة العبريّة حقيقة لا رجوع عنها، في حين كان يتّضح في "إسرائيل" الخطاب حول اللاّرجوع عن احتلال الأراضي، وهكذا تغيّرت معالم اللعبة السياسيّة في المنطقة. كما أن المشروع الصهيوني انتصر أيضاً في حرب أكتوبر، 1973. وكان الصراع دائراً بين مشروعين متناقضين، فـ"إسرائيل" ترى أنها دولة معترف بها من هيئة الأمم المتحدة، بينما يعتبر المشروع القومي العربي أن"إسرائيل" دولة دخيلة ولا يمكن الاعتراف بها. وهو التناقض الذي أدى إلى حروب ومعارك متتالية، انتهت باعتراف دول عربية بوجود "إسرائيل"،وبالتالي قد انتصر المشروع الصهيوني، الذي يستوجب مقاومته من قبل الشعوب العربية والإسلامية بروح من الصمود في وجهه ولا بديل أمامها إلا بالالتفاف حول المقاومة. وبدأ مع تراجع المدّ القومي، مدّ المقاومة الفلسطينية خلال العقود الأربعة الماضية، في البداية كانت هذه المقاومة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، عندما كانت هذه الأخيرة مؤمنة بنهج الكفاح المسلح طريقاً لتحرير فلسطين،ثم بقيادة الحركة الإسلامية الفلسطينية، التي انتزعت مشعل القيادة من م.ت.ف بعد أن أصبح رجحان خط التسوية الذي بات الخط الرسمي للسياسة العربية وللعديد من القوى السياسية العربية المعارضة، وحتى لمعظم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي تخلت عن شعار التحرير الشامل، لتتبنى الحل المرحلي ضمن إطار التسوية عامة، وضمن إطار اتفاقيات أوسلو المتمخضة عن تلك التسوية، وفقاً لمخطط السلام الأمريكي – الصهيوني. لقد طبعت هزيمة الجيوش العربية في مواجهة "إسرائيل" الهزيمة السياسية لجيلٍ راهن على التنمية والوحدة العربية والاشتراكية. ففقدت المجتمعات نقاط ارتكازها، وتحوّلت نحو الإسلام؛ وهكذا شاهدنا نشوء الحركات الإسلامية التي ازدادت قوّتها بقدر ما برهنت الأنظمة العربية عن عجزها وعن تسلّطها، دون هدف آخر سوى البقاء في السلطة. بروز المقاومة اللبنانية المؤمنة بالتحرير الصعوبة لـ"إسرائيل" لا تقتصر فقط على أنّ الصراع ما زال مستمرّاً، لكن بألاّ يخرج الجيش منه منتصراً. فقد أشار الجنرال المُتقاعد دوي تاماري، الذي أصبح مؤرِّخاً، بعيد أحداث لبنان في صيف 2006، بأنّ حرب الـ1967 كانت آخر انتصار لا جدال فيه يحقّقه هذا الجيش. فهو يعتبر بأنّ المواجهات اللاحقة كافة انتهت بالانسحاب، إن لم يكن بالهزيمة. وفي كلّ مرة، كانت تل أبيب تضطرّ إلى القيام بتنازلات كبيرة. فقد انتهت حرب العام 1973 بالانسحاب الكامل من سيناء، وفق اتفّاقيات السلام التي جرى التوقيع عليها مع مصرفي العام 1979؛ وقد أدّت الانتفاضة الأولى إلى اتفاقيات أوسلو في العام 1993؛ وانتهى اجتياح لبنان في العام 1982 بالانسحاب غير المشروط في العام 2000؛ أمّا الانتفاضة الثانية، فقد أدّت إلى تفكيك المستوطنات في غزّة، منذ حوالي السنتيْن. ماذا عن حرب تموز 2006في لبنان؟ يقول الصحافي "الإسرائيلي" ميرون رابورور الذي يعمل في جريدة هآرتس اليومية، في تلّ أبيب، إذا كانت الطبقة السياسية قد هتفت لفترة بأنّها انتصرت، فهنالك 20% من "الإسرائيليّين" فقط يعتبرون بأنهم انتصروا فيها، وفق دراسة أجرتها جريدة هآرتس قبل أسبوع من انتهاء الحرب. هذه الصعوبة في تحقيق انتصار واضح تفسّر دون شك لماذا اعترف منذ مدة أحد المحنّكين في السياسة "الإسرائيلية" - شرط عدم البوح باسمه - بأنه غير متأكّد أنّ "إسرائيل" ستبقى في الوجود بعد عشرين عاماً. إذاً بدل التخفيف من مشاعر الخوف، كلّ ما فعلته هذه الأربعون سنة من الاحتلال كان تغذيتها. ولعل أبرز تجليات جدلية الهزيمة في عام 1967 ظهور المقاومة اللبنانية التي استطاعت أن تُحرّر جنوب لبنان بقوة السلاح في 25 أيار/مايو عام 2000. ثم هناك حرب يوليو/ تموز 2006 التي مثلت فصلاً مُهماً من فصول نهاية "إسرائيل الكبرى" وتحطيم جيشها وقوتها الوهمية. فهذه الحرب كبدت دولة الاحتلال خسائر كبيرة لم تَخسرها على مدار تاريخها الحربي. ولا تزال لعنة حرب لبنان تطارد غالبية السياسيين والعسكريين في "إسرائيل" الذين سيدفعون ضريبة باهظة لفترة طويلة، لأن صمود المقاومة اللبنانية في وجه أسطورة الجيش الذي لا يقهر خلق أزمة وجودية "لإسرائيل" بسبب الإخفاق في تحقيق جيش العدو الصهيوني جملة من الأهداف الإستراتيجية للدولة "الإسرائيلية"، وهذا هو الجزء المهم في مضمون التقرير المرحلي للجنة "فينوغراد" الذي صدر في الثلاثين من إبريل/نيسان2007. هذه القراءة تقودنا إلى الاستنتاج أن لدى شعوب الأمة العربية حيوية ملهمة ولكن ليست لديها مرجعية وطنية أو قومية.ورغم ذلك تمكنت هذه الحيوية من أن تحقق إنجازات متقطعة مثل إصرار مصر على الصمود بعد الهزيمة، و"معركة الكرامة" أوائل 1968 ،ثم انتفاضتي شعب فلسطين الأولى في نهاية عام 1987، والثانية في نهاية سبتمبر 2000، ضد الاحتلال والتهويد وبروز مقاومة الاحتلال في كل من فلسطين ولبنان والعراق التي استطاعت أن تهز المواقع الأمريكية – الصهيونية ،عبر بَثِ روحية تحريرية جديدة في مقاومة الولايات المتحدة الأمريكية. فالأجيال التي ترعرعت بعد العام 1967 والتي تكوّن اليوم الغالبيّة العظمى من الشعوب، تدرس تاريخاً مُشبعاً بالخطاب الديني. ويثير هذا الخطاب أيضاً شعوراً بالذنب لدى كلّ من ينحرف عن التقوى ويضلّ الطريق القويم. إن فلسطين جزء من العالم العربي، من حيث الجغرافية الطبيعية والبشرية، ومن حيث الجغرافية التاريخية والإستراتيجية. ولا تستطيع فلسطين هذه أن تكون دولة وكياناً مستقلاً، إلا ضمن خرائط الاحتلال، كما حدث بعد 1917. ولذلك فإن فلسطين لم تكن يوماً دولة أو حتى ولاية مستقلة. وحين احتل الفرنجة فلسطين حررتها جيوش عربية ـ إسلامية، انطلقت من حلب ودمشق والقاهرة والموصل وصنعاء، ولم تنطلق من فلسطين. وما زالت فلسطين جزءاً من العالم العربي، وستظل كذلك. وسيظل تحريرها مهمة قومية عربية. 2ـ إن هذا لا يعني أن أبناء فلسطين، ليس من واجبهم العمل لتحريرها، فهذا من واجبهم، ولكن باعتبارهم جزءاً من قوى الثورة العربية، لا باعتبارهم قوة مستقلة، تعمل وحدها، وتتحدث عن الكفاح المشترك مع "حركة التحرر العربية"، وكأن حركة التحرر العربية، لا تربطها بفلسطين علاقات غير علاقات الكفاح المشترك، وستسهم المقاومة العربية في فلسطين، في عملية التحرير، بمقدار ما تغلب القومي على القطري، وتشد جماهير عربية أوسع إلى المعركة. في ظل هزيمة الحركة القومية العربية و تقهقر الحركة الاشتراكية على اختلاف تياراتها،وتعمق الطلاق التاريخي بين المجتمعات العربية والأنظمة القائمة،برزت إلى الواجهة السياسية والنضالية الحركات الإسلامية،التي قدمت توجها إسلامياً جهادياً "ثورياً". الحركة الإسلامية الجهادية ومركزية القضية الفلسطينية بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر2001، انتشرت في "إسرائيل" انتشاراً كبيراً القناعة الإيديولوجية التالية أن الدولة الصهيونية أصبحت تمثل"خطّ تماس دامٍ" بين الغرب والشرق، بين الحضارة "اليهوديّة المسيحية" - وهذا اختراع غريب إذا ما اطّلعنا على تاريخ الديانتيْن...- والحضارة الإسلاميّة.ولقد اعتبرت التيارات الأصولية المسيحية و الصهيونية أن "إسرائيل" هي "موقع أماميّ للعالـم الحرّ. وإذا كانت "إسرائيل" قد اكتسبت هذا المكان المميّز في الغرب، فذلك لأنّ الدولة الصهيونية تُعتبَر إرادة إلهية. وقد حوّل ذلك الصراعَ العربي- "الإسرائيلي"، الذي كان في البدء ميدانياً ومن ثمً سياسياً، إلى مواجهة ثقافية ودينية بين الغرب والإسلام.. إنه خطرٌ داهمٌ على العالم أجمع، انتشار نهج "صدام الحضارات" الذي يمتص طبيعة المشكلات المتعلقة بالأرض والسيادة والمواطنة والاستيطان والتحرر والثروة والفقر والتنافس بين الأديان والفجوة الثقافية، ويحوّر فيها، وكلها مجسَّدة في الصراع العربي – الصهيوني. إذا كان التيار الليبرالي العلماني والتيار الاشتراكي هُزِمَا تاريخياً في العالم العربي منذ نكبة عام 1948، وهزيمة عام 1967، وكلاهما هزيمة لتيار التغريب في الفكر العربي المعاصر، فإن الحركة الجهادية الإسلامية المعاصرة تثمن دور المشروع القومي العربي النهضوي في وضع القضية الفلسطينية ضمن الإطار التاريخي الصحيح،كقضية مركزية للأمة. إن الوجود الصهيوني في فلسطين قلب العالم العربي الذي هو قلب العالم الإسلامي ونواته المغناطيسية، هو وحده الذي يفسر لنا مركزية القضية الفلسطينية، بوصف هذا الوجود للكيان الصهيوني قاعدة إستراتيجية متقدمة تنفذ أهداف البرنامج الإمبريالي الغربي العام، وتنفذ في الوقت عينه أهداف الحركة الصهيونية العالمية الخاصة، يمثل أوج التحدي الغربي والسياسي والثقافي للعالمين العربي والإسلامي. من هنا تنبع مركزية القضية الفلسطينية في النضال من أجل تحريرها، إذ إن مهمات الحركة الإسلامية المعاصرة حددتها تحولات تاريخ مواجهة العرب والمسلمين نتائج التحدي الحديث في التغريب والتجزئة وإقامة الكيان الصهيوني. ويقول مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي، عن مركزية فلسطين في الصراع الدائر بين العالم العربي والإسلامي من جهة، وبين الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية العالمية من جهة أخرى: إذا كان الكيان الصهيوني واستمراره قد أصبح يمثل مركز التحدي ومركز الهجمة الغربية وضمانة لاستمرار هيمنتها على واقع التقسيم والتبعية والتخلف، فإن على كل أجنحة الحركة الإسلامية وعلى ملايين جماهير الأمة في كل مكان أن تمد خطاً مستقيماً من قلب جبهتها المتقدمة في معركة النهضة وفي كل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي، نحو المركز.. نحو القدس.. إن جماهير الأمة تحمل في داخلها وجعاً خاصاً من أجل فلسطين، وذلك لأن حسها التاريخي والعقائدي يخبرها بأن هناك.. على ذلك الشريط الصغير من شرق المتوسط، تقع نقطة الصدام المركزية.. وهناك ستحسم معركة تاريخنا المعاصرة.. إن الوحدة بالنسبة لفلسطين هي وحدة الوعي بأن بقاء الكيان الصهيوني يعني إفشال كل مشاريع النهضة، ولهذا فإن الجدل حول مَن أَوَلاً: مواجهة التبعية والتغريب والتجزئة أو مواجهة الكيان الصهيوني هو جدل نظري تحكمه حسابات الربح والخسارة الآنية أكثر من السعي الجاد لبناء إستراتيجية متكاملة ومتماسكة لمشروع النهضة الإسلامية المعاصرة، إن الوحدة حول فلسطين هي وحدة التاريخ مع القرآن وهي إعادة الملايين المتقدمة نحو قدرها.. هي مشروع النهضة كله. وفي القدس.. جوهر ومركز الصراع الكوني اليوم تتحدد ملامح المعركة الفاصلة بين عباد الله حملة راية الوحي وقيم الوحدة من جهة، وحملة قيم فلسفة الصراع من الجهة الأخرى، بين المتطلعين إلى وجه الله...الساعين إليه، والمتمردين على الله الذين أقاموا في الأرض أبشع نموذج حضاري في تاريخ الإنسانية(4). تأكيداً على وحدة المصير بين العالمين العربي والإسلامي، حيث تفرض مركزية القضية الفلسطينية وحدة المصير بين المشروع القومي العربي النهضوي والمشروع الجهادي الإسلامي، إذ إن وحدة المصير هذه تقتضي وحدة الأهداف ووحدة البرنامج ووحدة العمل، يقول المفكر الإسلامي توفيق الطيب في كتابه "الحل الإسلامي ما بعد النكبتين": كما كشفت النكبة الأولى للعرب جميعاً عن "المضمون العربي" و"الأبعاد العربية" لقضيتنا فلسطين وأبطلت أسطورة الكيانات القائمة على فكرة "الوطنية المحلية" أو "الإقليمية"التي تكرس واقع التجزئة. كذلك فقد كشفت هذه النكبة الثانية للمسلمين جميعاً عن "المضمون الإسلامي" و"الأبعاد الإسلامية" لقضيتنا فلسطين فأبطلت بذلك أسطورة "الانغلاق القومي" و"العلمانية" معاً وأثبتت بما لا يقبل الشك أن مصير المسلمين السياسي – مصير العالم الإسلامي – مرتبط بمصير العرب السياسي- مصير العالم العربي- وأن مصيرهم الثقافي مرتبط بمصير الثقافة الإسلامية و أن مستقبلهم جميعاً كأمة ذات رسالة وكثافة ذات أصالة مرتبط بمستقبل الإسلام(5). ليس من شك أن النكبتين اللتين حصلتا في المنطقة: نكبة 1948، ونكبة 1967، قد أكدتا أن الكيان الصهيوني القائم على اغتصاب أرض فلسطين والتوسع في احتلال الأراضي العربية، بات يجسد صورة التحدي الإمبريالي الغربي بشقيه الأوروبي والأمريكي للعالم العربي والإسلامي، وزاد من قوة الكيان الصهيوني وتمدده تنامي العلاقات العضوية بينه و بين الولايات المتحدة الأمريكية،التي باتت تمده بكل مقومات القوة والتفوق العسكري والتكنولوجي،وزاد من قوة التغلغل والسيطرة الأمريكية في المنطقة العربية ،إضافة إلى التوسع الصهيوني ،الإخفاقات العربية المتلاحقة منذ عصر النهضة العربية الأولى ،وحتى عصر النهضة الثانية بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. هذه التحولات التاريخية التي عجلت بها حركة الأحداث في العالم العربي ،وطبيعة التحدي الغربي والصهيوني وعنفه وشدته، كانتَا في أساس طرح الحركة الإسلامية الجهادية أن فلسطين ليست مجرد قضية إسلامية فقط، بل هي قضية كل المسلمين والإسلام في العصر الحديث. ولما كان مشروع الحركة الإسلامية الجهادية في فلسطين يرتكز إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية مركزية للأمة العربية والإسلامية، فإن مشروع تحرير فلسطين هو تتويج لمشروع حضاري كبير لا مجرد بندقية تطلق النار أو عبوة تتفجر،لكن الكفاح المسلح يجب أن يستمر ليؤكد عصيان صاحب الحق على الدفن حيّاً، وليمنع إغلاق باب الصراع كما يراد له في مشروع السلام الصهيوني الراهن. ثمة بعد إسلامي ذاتي في فلسطين تأسس على مكانة فلسطين منذ بداية الدعوة الإسلامية، وتعزز بوجود المسجد الأقصى وقبة الصخرة وأضرحة العشرات من الصحابة الذين استشهدوا في عملية الفتح الإسلامي.فعلى أرض فلسطين حُسِمَت معارك الأمة الكبرى من أجنادين واليرموك وحطين وعين جالوت وغيرها. واستهدفت فلسطين تحديداً في الحرب الصليبية على امتداد قرنين من الزمن، واتخذت حرب التحرير في مواجهة الغزو الصليبي طابعاً إسلامياً. الكفاح المسلح من أجل تحرير فلسطين، كان العامل الرئيس في انفصال القادة المؤسسين للحركة الإسلامية الجهادية عن حركة الإخوان المسلمين في فلسطين،لأنها كانت تمثل تيار الإسلام التقليدي المعني بأسلمة المجتمع، والذي لم يبادر إلى الدعوة للجهاد في سبيل تحرير فلسطين، وغَيّب من خطابه وبرامجه( في الفترة ما قبل 1948 وانخراط حماس في الانتفاضة) القضية الفلسطينية معتبراً إياها قضية فرعية. والحال هذه، كان الدور الريادي لحركة الجهاد الإسلامي في "أسلمة القضية الفلسطينية" و"أسلمة البندقية الفلسطينية"- قبل أن تلتحق حركة حماس بالمقاومة المسلحة-، وفي بلورة هويتها النضالية من خلال قدرتها على الإجابة على الإشكالية التي كانت قائمة في الساحة الفلسطينية في فترة السبعينيات من القرن الماضي، حيث "وطنيون بلا إسلام وإسلاميون بلا فلسطين "،وعبر"بلورة الأسس النظرية لتحديد موقع القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة والحركة الإسلامية المعاصرة "على حد قول الدكتور رمضان عبد الله شلح. إن القضية الفلسطينية هي قضية الصراع العربي مع الإمبريالية الأمريكية, وللحركة الصهيونية في فلسطين دور وظيفي تؤديه في هذا المجال. ولذلك يجب أن يبقى الصراع دائراً, وألا يجزأ,لأن تجزئته في فلسطين, ومحاولة الفصل بين الإمبريالية الأمريكية و"إسرائيل ", قاد الحركة الفلسطينية إلى الضلال, وأضاع فلسطين, وأية محاولة لاعتبار حكومة الولايات المتحدة الأمريكية حكماً, سيقود إلى الضلال والضياع. ثم إن أية محاولة لاعتبار المشكلة فلسطينية – صهيونية, سيقزم المسألة, وسيجعلها مثل مئات قضايا اللاجئين في العالم, وستطرح الحلول الإنسانية لمشكلة اللاجئين. إن "إسرائيل" كانت مصلحة إستراتيجية أمريكية بامتياز ولا تزال، وستظل كذلك في منطقة الشرق الوسط. بيد أن نجاح إستراتيجية حزب الله الذي تفوّق على "زبائن الولايات المتحدة العرب الذين وقّعوا اتفاقات سلام للحفاظ على أراضيهم"، وأحرج موقع "إسرائيل" بعد حرب تموز2006، أكد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تغير من موقفها المنحاز "لإسرائيل" إلاّ إذا أصبح العرب قادرين على تحرير أرضهم من طريق المقاومة وبناء ذات الأمة على أسس حديثة. هوامش 1- مكسيم رودنسون، "إسرائيل"، واقع استعماري؟ ترجمة إحسان الحصني، منشورات وزارة الثقافة 1967، (ص5). 2- هيئة الأمم المتحدة، التقارير العامة. قرار 16 أيلول – 29 تشرين الثاني 1947 "نيويورك، 1947، قرار رقم 181 (ص 72-82)". 3- (38)-A.Lilienthal.Thers goes theMiddle East.New york,1957,p.12. 4- د. فتحي الشقاقي، المنهج – مركزية فلسطين والمشروع الإسلامي المعاصر، مطبوعات بيت المقدس للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع بيروت، (ص7). 5- توفيق الطيب، الحل الإسلامي في ما بعد النكبتين، منشورات بيت المقدس للصحافة والنشر والتوزيع- بيروت-الطبعة الثالثة/بيروت 1990، (ص22). |
||||||