نظم التشريع الأخلاقي في الإسلام
مقاربة فكرية في التشريع والأخلاق وشروط المقنن

السنة الخامسة عشر ـ العدد 174  ـ (شعبان ـ رمضان  1437 هـ ) ـ (حزيران 2016 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بَيْنَ "التشريعِ" الإسلامي ومبادئ "الأخلاق" علاقة ذاتية عضوية محكمة.. وفي كل مفردات المنظومة التشريعية الإسلامية لا حكم تشريعياً صدر إلا وله أساس مبدئي أخلاقي وغاية ومقصد أخلاقي نبيل وسام، كان يهدف إلى تمكين وجود الإنسان في حياته الخاصة والعامة على أساس القيم الأخلاقية، والسير به على طريق تكامله الروحي والمادي، بعد تهذيب نفسه، وتقويم سلوكه، وتنقية جوارحه.

وقد أرسى الإسلامُ - كدين جاء لخدمة الإنسان، وتحقيق مصلحته - الأخلاقَ (باعتبارها قوانين الغرائز، وتشريعات النفس والجسد) على أسس متينة بعضها ذاتي يتصل بواقع النفس البشرية، وما تختزنه في داخلها من عوامل ومسببات الخير والشر، وبعضها الآخر موضوعي لا ينفك عن الواقع الخارجي الذي يمارس فيه الإنسان دوره (وحركته) المتبدلة والمتغيرة.

والتشريعات الدينية التي صدرت ودُعي الفرد المسلم للالتزام بها، والسير على هداها، وحُذِّر من التلاعب بها، وإهمالها والتغافل عنها، انطلقتْ من مصادر وينابيع رئيسية إسلامية مؤسِّسة، قاعدتها الإيمان بالخالق العظيم، الله تعالى، واجب الوجود.. وهو أساس متين، ونبع فياض ومعين دافق معطاء لا ينضب، فتأتي تلك التشريعات (التي بنيت عليه) من خلال مفرداتها، من أجل أن تضبط علاقة الفرد بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بأسرته، من زوجة وأولاد و والدين.. وعلاقته بمجتمعه، وعلاقته بالدولة، وبعموم مكوناته ومفرداته الحياتية الخاصة والعامة.. ويدخل النظام الخلقي أيضاً، هذه الميادين على قدم المساواة مع التشريع، ويسايره جنباً إلى جنب.

وتجمع النظامين غايةٌ واحدة، وهي الوصول بالإنسان إلى درجة الإحسان، ولا تتخلف هذه الغاية حتى في ميدان العبادات(1).

ففي شأن الصلاة قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(العنكبوت: 45).. وقال في شأن الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾(التوبة: 102).. وقال في شأن الصوم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة: 183).

وقال في الحج: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...﴾(البقرة: 197).

.... ولكن، ما هي تلك المصادر التي تمّت بموجبها مسألة التشريع والتقنين الأخلاقي في الإسلام؟.. علينا بداية التعرف على معنى التشريع (الشريعة) وماهية الأخلاق، ومصدرها..

معنى الشريعة لغةً

لها معنيان، الأول: الطريقة المستقيمة، قال تعالى: ﴿ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الذين لا يعلمون﴾(سورة الجاثية:80). والثاني: مورد الماء الجاري الذي يقصد للشرب.

أما عند إضافة "الإسلامية" فالمعنى يصبح منسوباً إلى الدين الإسلامي الذي يستعمل في الاصطلاح الشرعي، بمعنى الانقياد لأوامر الله، والتسليم لقضائه وأحكامه، وإلى العقائد الأصلية، والأسس والمبادئ للعقيدة الإسلامية. فالشريعة والدين، والملّة بمعنى واحد. ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾(آل عمران: 19).. ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾(الحج: 78).

أما من الناحية الاصطلاحية، فتعني الشريعة، مجموع الأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده على لسان رسول من الرسل، وسمّيتْ هذه الأحكام شريعة لأنها مستقيمة لا انحراف فيها. وخاتمتها الأحكام الشرعية التي نزلت على خاتم النبيين محمد(ص)، وشرعها الله تعالى من أجل سعادة عباده في الدنيا والآخرة.

معنى الأخلاق لغةً واصطلاحاً

معنى الأخلاق لغةً: 

الأخلاق جمع خلق، والخلق اسم لسجية الإنسان، وطبيعته التي خلق عليها. قال ابن منظور: (الخُلُقُ بضم اللام وسكونها هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها)(2).. ويقول صاحب كتاب (القاموس): (والخلق بالضم وبضَمَّتَيْنِ: السَّجِيَّةُ والطَّبْعُ والمُروءةُ والدينُ)(3). وقال الراغب: (والخَلْقُ والخُلْقُ في الأصل واحد، كالشرب والشرب، والصرم والصرم، لكن خصّ الخَلْق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلْق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة)(4).

معنى الأخلاق اصطلاحاً:

عرَّف الجرجاني الخلق بأنَّه عبارة عن (هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويَّة، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقًا حسناً، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقاً سيئاً)(5). وعرفه ابن مسكويه في (تهذيب الأخلاق) بقوله: (الخلق: حال للنفس، داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيّاً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب، ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، أو كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكاً مفرطاً من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفاداً بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر أولاً فأولاً، حتى يصير ملكة وخلقاً)(6).

وذهب الجاحظ إلى (أن الخلق هو: حال النفس، بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعاً، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء قد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمل، وكالشَّجَاعَة والحلم والعفة والعدل وغير ذلك من الأخلاق المحمودة)(7).

والأخلاق عموماً، هي عبارة مجموعة من المبادئ المعيارية التي ينبغي أن يجري السلوك البشري على مقتضاها، (والياء في المعيارية) نسبة إلى المعيار الذي يقاس به غيره (أي أن مبادئ الأخلاق ترسم طريق السلوك الحميد وتحدد أهدافه وبواعثه). وموضوع الأخلاق هو سلوك الإنسان وأفعاله الصادرة عنه بإرادة مباشرة أو بالواسطة، ومرادنا بالواسطة هنا أن علم الأخلاق يدين المخطئ إذا قصر وأهمل الاحتياط والتحفظ. طبعاً مع قدرته عليه حيث لا تقصير مع العجز.. وأما مصدر علم الأخلاق والتشريع الأخلاقي الإسلامي فهو (كما سنفصّل لاحقاً) كتاب الله وسنة نبيه وآله الأطهار والعقل والمشاهدة والفطرة(8).

مصادر التشريع الأخلاقي في الإسلام

المصدر الأول: القرآن الكريم وسنة النبي والأئمة(ع):

اعتبر القرآن أنّ الإنسان ليس عقلاً فقط، بل هو أيضاً كتلة من المشاعر والأحاسيس والدوافع والميول والطبائع والرغبات النفسية والنزعات الذاتية التي نشأ عليها الفرد، ولا بد أن تؤثر في سلوكه، وتحدد له -في كثير من الأحيان- خياراته، وطبيعة مسيرته العملية الحياتية.. يقول تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾(الشمس:7-8).

ويقول الإمام جعفر الصادق(ع): "جبلت القلوب على حب من ينفعها، وبغض من أضر بها"(9).

لذلك دعى كتاب الله (القرآن الكريم) الإنسانَ إلى تحقيق التوازن الروحي والعملي في حياته بين القصد والممارسة، بين النية والعمل، بين العقل والرغبة (العواطف والنزعات).. يقول تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:9-10) وذلك من خلال ضرورة معرفة النفس والذات بميولها وحاجاتها الطبيعية (السريرة الداخلية) من أجل تقوية الممارسة والسلوك الخارجي للإنسان عبر تأسيس وبناء هذه الممارسات والأفعال الخارجية على ثوابت معيارية موضوعية، وقواعد معرفية متينة تساعده في إكمال مسيرته التكاملية في الحياة.. ويقول سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ (الأعلى: 14-15).. والتزكية في مدلولها ومعناها: تعني: تهذيب النفس باطناً وظاهراً، في حركاته وسكناته.

يقول الإمام جعفر الصادق(ع): "السريرة إذا صلحت قويت العلانية"(10). ويقول(ع): "فساد الظاهر من فساد الباطن، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته"(11).

المصدر الثاني: الضمير (الوجدان):

وهو الصوت الداخلي والواعظ الباطني المخبوء في عمق الذات، وهو يلتقي مع أساس البناء الديني عند الإنسان.. والعلاقة بينهما (بين محكمة الدين ومحكمة الضمير) علاقة تعاضد وتآزر وتكامل.. يقول الصادق، مشيراً إلى الضمير باعتباره واعظ القلب ومرشد الروح: "من لم يكن له واعظٌ من قبله، وزاجرٌ من نفسه، ومن لم يكن له قرين مرشد، استمكن عدوه من عنقه"(12).

المصدر الثالث: الميول والغرائز (الطبائع الإنسانية):

قلناً سابقاً: إن الإنسان كتلة من النوازع والميول والأحاسيس والدوافع البيولوجية التي يمكن أن تؤثر سلباً أو إيجاباً في سلوكه الحياتي. وقد أكد الإسلام على الأصل الطيب والخير لتلك الميول عند الإنسان.. يقول تعالى: ﴿لقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التين: 4).

لكن استعمال هذه القوى والطاقات، وتحريكها في الواقع بطريقة غرائزية مستغرقة في دنيويتها، كما في قوله(ع): "من تعلّق قلبه بالدنيا تعلق بثلاث خصال…إلخ"(13)، تميت الشعور بالمسؤولية، وتلهب في الإنسان مشاعر الدونية والانحطاط الأخلاقي.

لكن وعلى الرغم من ذلك، رفض الإسلام أن يعامل البشر كمخلوقات جامدة لا حياة فيها.. ووازن بين ما تنبض به نفوسهم من أهواء وغرائز، وبين أوامر الله ونواهيه وتعاليمه وأحكام شرعيته.. لقد جمع بين شرطي المبدأ والواقع، ووفق بين مثل أعلى كامل مقدس وبين واقع ناقص يعيش الكائن الإنساني في وسطه... ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾(الأحزاب: 5).

عناصر التقنين والإلزام الخلقي في الإسلام

العنصر الأول- الشعور العالي بالمسؤولية:

تعتبر المسؤولية شرطاً لازماً في عملية الإلزام (والإلتزام) بالتشريعات الأخلاقية والمعايير القيمية في الإسلام..  ولأن الإنسان مسؤول عن خلقه وسلوكه (يعني أنه كائن موجود حر) فهو يمارس وجوه من موقع مواجهته الصريحة وإقراره العملي بطبيعة التزامه الهادف في الحياة. فهو لا يتهرب من تحمل المسؤولية عن سلوك مارسه، وفعل شارك فيه في موقع هنا أو هناك.. ﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾(المدثر: 38).. لا بل إنه يشعر بالحسرة والأسف والمهانة لشخصه إذا ما منع من ممارسة مسؤوليته في بعض أعماله معتبراً أن ذلك هدراً لطاقته الحيوية، وسلباً لقيمتها الإنسانية. لكن الإسلام -الذي نظر بعيداً إلى عمق الفطرة الإنسانية- لاحظ إختلاف مستويات المسؤولية ودرجات تطبيقها عند الإنسان تبعاً لإمكانياته وحاجاته وقوته وضعفه.. يقول تعالى: ﴿لا تكلف نفس إلا وسعها﴾(البقرة: 286).

إن التزام المسؤولية من قبل الإنسان الواعي المتثبت في الأمور يدل على نضوج العقل وسلامة وسعة التفكير..

يقول الإمام الصادق(ع): "مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة، ومن ابتدأ بعمل في غير وقته كان بلوغه في غير حينه"(14).

العنصر الثاني- الحرية والجزاء:

الحرية تكمل المسؤولية، والمسؤولية تكمل الحرية.. لا حرية من دون مسؤولية، ولا مسؤولية  من دون حرية ولا تكون المسؤولية مسؤولية إلا إذا تمتع صاحبها بحرية الإرادة والتفكير.

فالإنسان كائن أخلاقي عاقل يملك حرية الاختيار بين الخير والشر، ولن تكون أفعاله الأخلاقية متواجدة في النسق القيمي الديني الواعي إلا إذا شعر بحرية انتمائه لها، وقناعته بها، وممارسته لها باختياره ورغبته وإرادته.. عندئذ تكون هذه الأفعال الأخلاقية ثمرة عملية خيرة لإرادته الحرة الداخلة في جوهر وجوده وفطرته.. ويظهر فيها – بالتالي- عنصر التضحية وتجاوز الذات.. يقول الإمام الصادق(ع): "خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع، أولها: الوفاء، والثانية: التدبير، والثالثة: الحياء، والرابعة: حسن الخلق، والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال: الحرية"(15).

خصائص المقنن (المشرِّع)

أشرنا سابقاً إلى نقطة هامة وهي أن المجتمع يضع قوانين ومنظومة قيم أخلاقية وسلوكية معيارية، للحفاظ على سلامته، وضمان تطوره وسيره نحو مواقع الازدهار والكمال.. لكن المجتمع ممثلاً بالإنسان (المراد له أن يقوم بالتقنين)، لا يصلح أن يتولى بذاته مهمة هذا التقنين والتشريع والتنظيم القانوني لسلوكيته من موقع العدل والمساواة، من حيث ادعائه اكتمال العقل والتفرد في خط المصالح الإنسانية المتحركة في الواقع بين ما هو ذاتي وفردي من جهة، وبين ما هو موضوعي إنساني عام من جهة أخرى.. وذلك بحكم الأمور التالية:

1- إن الإنسان مكون من عقل وعاطفة، من فكر عقلي وكتلة مشاعر وأحاسيس، وهما مختلطان ومعجونان ببعضهما بعضاً على نحو وجودي من الصعب الفصل بينهما إلا فيما ندر.. ولهذا فقد تسيطر العاطفة الشخصية على حساب العقل والحكمة والمنطق.

2- عجز الإنسان عن الوقوف على المصالح والمفاسد، كحالة أساسية يرتكز عليها البناء القانوني العادل، بسبب المحدودية الزمانية والمكانية للفكر الإنساني ومجمل تطبقات ومعطياته الأخرى.

3- نقص المعرفة الإنسانية في مجال الإنسانية ذاتها على اعتبار أن الإنسان الذي يريد أن يشرع لنفسه (ولمجتمعه وأمته) قانوناً عادلاً متوازناً في مستوى الوجود كله، يجب على أقل تقدير، أن يكون على علم تام بحقيقة وجوده الإنساني، بروحه وجسده، وفطرته وغرائزه ودوافعه ونوازعه..

4- فقدان المعنى الحقيقي الروحي والعرفاني للإيمان بالله تعالى، ومحاولة اختزال الدين كله – لدى كثير من تيارات الإسلام السياسي الجهادي المعاصر - في مجموعة نصوص وأقوال وحركات معينة قدست أفكارها وتسترت وراء مفاهيم الجهاد والنضال لتحقق مصالحها ومنافعها الخاصة في فرض مفاهيمها وأفكارها على الآخرين.

من أجل ذلك كله وضع الإسلام شروطاً موضوعية للمقنن المتصدي لمهمة التشريع وهي:

أولاً- أن يكون المقنن عارفاً بالإنسان ببعديه الروحي والمادي معرفة حقيقية.

ثانياً- أن لا يكون المقنن منتفعاً بالقانون بالشكل الذي يكون على حساب منافع ومصالح الناس الآخرين الذين يتكامل في وجوده وفعالياته معهم.

ثالثاً- أن يكون متوازناً في شخصيته الروحية والمادية (التكامل الروحي الباطني)، ومحققاً للانسجام الروحي والعقلي، والتصالح مع الذات ومع الآخر.

ونخلص مما تقدم إلى النقاط التالية:

الأولى: ارتكز الإسلام – في تشريعه لقواعد الأخلاق في المجتمع - على ثلاثة مبادئ هي، القرآن (الوحي)، والسنة، والعقل (الضمير= الفطرة)، واعتبرها المصادر الأولى لحركة الإلزام الأخلاقي الإسلامي الذي يشكل بمنظومته الأخلاقية الكاملة أساساً لتشريع القوانين والأنظمة التي يراد لها أن تنظم حركة الإنسان وسلوكه. قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾(الروم: 30).

الثانية: اعتبر الإسلام أن للأخلاق دوراً تغييرياً هاماً على صعيد الذات والمجتمع، في حركتها النموذجية التي تعمل على بناء المجتمع والأمة، وخصوصاً الأفراد الذين يمثلون القدوة والأسوة وحتى الشهادة على الآخرين، أو على صعيد التغيير البنائي لسلوكية المجتمع عموماً، (أخلاق المجتمع).. لكن هذا الدور التغييري للأخلاق لا يعني وجود نوع من علاقات القسر والضغط في طبيعة التعاون بين القيم الأخلاقية وبين السلطة، بأن تفرض السلطة (المعبرة عن القوة) تطبيق القيم الأخلاقية في بعدها الديني أو الوضعي.. لأن ذلك يلغي (من الأساس) جوهر ومعنى القيم الأخلاقية القائمة على الحرية والاختيار.

الثالثة: إن المطلوب الآن هو العمل الجدي على تحقيق هذه الموازنة الدقيقة بين مصالح الإنسان ومصالح الآخرين.. بين قيم الذات وقيم الغيرية الاجتماعية. وهذا -في تصورنا- لا يتم إلا عن طريق نشر الثقافة الحضارية الإنسانية، وتحقيق التربية الإسلامية الأخلاقية التي تغذي الإنسان روحياً ومعنوياً وتنمي في وعيه وسلوكه المشاعر النبيلة والعواطف الإنسانية الراقية.

الرابعة: إن مهمة التشريع الأخلاقي هي إحقاق الحق وإقامة العدل. أي إيصال كل ذي حق إلى حقه. أما الأخلاق، فإنها تسمو على ذلك، ومهمتها تتحرك على أساس من التسامح، بما هي قيمة وثقافة تقوم على أن يتنازل صاحب الحق عن حقه..

وتسجل لنا الآية الكريمة التالية الحكمين معاً: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾(الشورى: 40).

الخامسة: إن التشريع يتناول الفعل أو الترك، وله موقف صارم إزاء كل منهما.. فأما ما يطلبه من الفعل فإن لفاعله الأجر وعلى تاركه العقوبة. وأما ما يطلبه من الترك فعلى فاعله العقوبة ولتاركه الأجر. أما الحكم الأخلاقي فإنّ لفاعله الأجر الكبير وليس على تاركه وزر أو عقوبة فالصلاة: لفاعلها الأجر، وعلى تاركها العقوبة.

هوامش

1- صالح أحمد الشامي. "التشريع والأخلاق". الرابط: (http://www.alukah.net/sharia/0/81605/#ixzz47sQNbAHv)

2- لسان العرب لابن منظور، ج: 10، ص: 86.

3- القاموس المحيط، ص881.

4- مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني.

5- التعريفات للجرجاني، ص: 101.

6- تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، ص: 41..

7- تهذيب الأخلاق للجاحظ ص12.

8- فلسفة الأخلاق لمغنية، مصدر سابق.

9- الكافي للكليني، ج: 8، ص: 152.

10- محمد الريشهري، ميزان الحكمة، ج: 2، ص: 1287.

11- محمد باقر المجلسي، سفينة البحار، ج: 73، ص: 395.

12- وسائل الشيعة للحر العاملي، ج: 15، ص: 148.

13- محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج: 9، ص: 351.

14- الخصال للشيخ الصدوق، ج:1، ص: 100.

15- الخصال للصدوق، مصدر سابق، ج: 2، ص: 175.

 

باحث وكاتب سوري(*)

 

اعلى الصفحة