|
|||||||
|
"إن العملية العسكرية الروسية ضد داعش في سوريا أظهرت للعالم فشل السياسة الأمريكية، ومن مصلحة واشنطن أن تخرس في هذه الحالة". هذا ما قاله العميد الأمريكي المتقاعد المحلل العسكري جيك جاكوبس، في حوار على قناة "سي إن بي سي" بتاريخ 2/10/2015. وقال جاكوبس إن "الخرافة عن أن الولايات المتحدة الأمريكية تحارب داعش باتت واضحة، نحن لا نفعل شيئاً على الإطلاق، قمنا بعدة غارات جوية ولكن لم تكن هناك نتائج واضحة، فداعش ما زال قوياً، بل أصبح أقوى من قبل". وأضاف جاكوبس أن "أي شخص عنده خبرة عسكرية، يعلم أن كل أعمالنا في المنطقة باءت بالفشل، لقد فشلنا لأنه لم تكن لدينا استراتيجية". وقال إن من مصلحة الولايات المتحدة "أن تخرس"، واصفا تصريحات البنتاغون بشأن إعلامه من قبل موسكو عن نيتها القيام بعمل عسكري مرتقب في سوريا بالشنيعة. واعتبر أن مثل هذه التصريحات تدل على أنه لم يكن لدى واشنطن أي شيء على الإطلاق لتقوله. وفي محاولة لإنقاذ السياسة الأمريكية في المنطقة ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية 29/4/2016، أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عرض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تقديم أضخم مساعدة عسكرية لإسرائيل في تاريخها، وفي تاريخ الولايات المتحدة، إلا أن الخلاف بعد أشهر من المفاوضات، هو نوعية الأسلحة المقدمة، وقد كشف مسؤولون في البنتاغون أن الإسرائيليين طالبوا بصفقة أكبر لمدة عشر سنوات تصل إلى 40 مليار دولار أمريكي. ولفتت الصحيفة الأمريكية، إلى أن الاتفاق متوقف نتيجة الخلاف الجذري في مقاربة سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بين نتنياهو وأوباما، وبخاصة تجاه إيران بعد الاتفاق النووي الإيراني، مؤكدة أنه في وقت يسعى أوباما لتسجيل انه كان أول رئيس للولايات المتحدة يبرم صفقة عسكرية بهذا الحجم مع إسرائيل، قبل نهاية ولايته، يعتقد نتنياهو انه يمكنه الحصول على اتفاق أفضل مع الرئيس المقبل في البيت الأبيض. وتذكر الصحيفة، أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تحصل على مساعدات ضخمة ومستمرة من الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، لأن الولايات المتحدة تعتبر انه يجب الحفاظ على تفوق إسرائيل على جيرانها في المنطقة بسبب صغر حجمها وإمكانياتها المحدودة، ولذلك تحتاج إلى التكنولوجيا والتدريب الدائم لمواجهة التحديات. الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة أدركت الولايات المتحدة أن الاعتماد على تنفيذ برنامجها الأمني والسياسي في منطقة الشرق الأوسط والذي يشمل مجموعة من الأولويات الضرورية للارتباط الأمريكي في المنطقة لم يعد كافياً في إحداث التغيير المطلوب بالمنطقة فهي لا ترغب في محاربة التهديدات التي تواجهها فقط ولكن رغبتها تشمل أيضاً تغيير الديناميكيات الإقليمية التي تأتي بمثل هذه التهديدات فكان عليها أن تتابع الركائز الإضافية في سياستها المتعلقة في دول الشرق الأوسط. لذا تطلع العرب وجيرانهم أن يطال رياح التغيير الذي دعمه أوباما تجاه منطقتهم، غير أن ازدياد ونمو التساؤلات والشكوك لدى شعوب دول منطقة الشرق الأوسط قد جاء نتيجة لحاجة إدارة الرئيس أوباما الفعلية للتعامل في سياق إستراتيجية متكاملة تقوم على مواجهة عدد من القضايا الجوهرية التي تحدث في المنطقة خلال هذه الحقبة الزمنية. فيما يتعلق بالإطار النظري للإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، يتم توظيف نظرية القوة في الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط التي تقوم على السلوك الاستراتيجي الأمريكي الفعلي في هذه المنطقة، والذي يمكن الوصول إليه من خلال ملامح الأهداف الأمريكية التي تسعى لتحقيقها في ضوء المصالح الحيوية لها في هذه المنطقة لما تتمتع به من مميزات إستراتيجية، حيث تنبع كافة المصالح والأهداف الأمريكية من هدفها الرئيسي المتمثل بضمان وتأكيد الهيمنة على العالم بأسره، وقد بررت الولايات المتحدة مصالحها في هذه المنطقة بأن لها عدداً من الأهداف الإستراتيجية وضمن الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية، بحيث جرت عملية صنع القرار وبناء هذه الأهداف من خلال المؤسسة المسئولة عن صنع الإستراتيجية الأمريكية التي يمكن تقسيمها إلى: مؤسسة الرئيس – الكونجرس – مجلس الأمن القومي – وزارة الدفاع – المؤسسات الأمنية – وزارة الخارجية. إن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط، حيث مثلت سلسلة من الأهداف التي تسعى إدارة الرئيس باراك أوباما إلى تحقيقها في هذه المنطقة، نتيجة التراجع في نفوذ وتأثير الولايات المتحدة بسبب السياسات الخاطئة التي اتبعت خلال إدارة الرئيس جورج بوش الابن، والتي فرضت على الرئيس باراك أوباما أن يبادر بطرح مجموعة من السياسات التي من خلالها يستطيع التعامل بفاعلية، وبما يخدم الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة في هذه المنطقة الحيوية، كما تطلبت الانتباه الشديد من جانب الإدارة الأمريكية إلى طريقة التعامل معها، فإيران تخطت العتبة النووية وهناك الوضع الهش في العراق الذي يستنزف القوة المسلحة الأمريكية، وهناك الحكومات الضعيفة في لبنان وفلسطين في ظل قوة متصاعدة لحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، مع غموض كبير يلف خطوط سياسات أوباما في الشرق الأوسط، ولاسيما في ساحة النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني. وفي هذا الإطار فقد عمل الرئيس باراك أوباما على إعادة ترتيب أولويات سياسته الخارجية في الشرق الأوسط، من خلال عدم الاستمرار في جعل العراق هي القضية الرئيسية كما في الأعوام السابقة لحكم إدارته، لهذا عمد بصورة تدريجية على تخفيف الوجود العسكري الأمريكي في العراق ونقل المسؤولية الأمنية إلى العراقيين، ولكن في نفس الوقت أخذ في الحسبان أن الوضع هناك ما يزال هشاً للغاية. لذا ركز أوباما منذ بداية إدارته في البيت الأبيض على أربع قضايا رئيسية تتعلق بالجانب السياسي هي النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، وفي الجانب الأمني تشمل العراق وأفغانستان والملف النووي الإيراني إلى جانب أربع إشكاليات هي العلاقات بين بلاده والعالم الإسلامي وعمليات التنمية السياسية في الشرق الأوسط. وهناك تركيز على السياسات الاقتصادية ضمن الإستراتيجية الأمريكية, حيث تعتقد القيادات السياسية الأمريكية بأن بسط السيطرة الأمريكية عالمياً هو مفتاح الأمان الرئيسي لقيادة الزعامة وتكريس استمرارها خصوصاً بعد تبدد مشاعر الخوف من التهديدات التي كان يمثلها الوجود السوفييتي السابق كقوة عظمى منافسة، وبعد دخول حقبة العولمة المتصاعدة تحت زعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فقد اعتبر الأمريكيون أن القوة الاقتصادية وليست القوة العسكرية هي وحدها المقياس المهم لتحديد مدى ما تتمتع به من قوة عالمية شاملة، خصوصاً مع محاولات تقليص المنافسة على الساحة الدولية سواء في أوروبا أو في آسيا. وقد سعت إدارة الرئيس باراك أوباما لتحقيق هذه السياسيات الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط حيث تمثل ذلك في: التنافس الأمريكي مع الدول الكبرى في الشرق الأوسط، وتأمين الطاقة. أما في مجال الإستراتيجية الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط، فقد شكل انتهاء الحرب الباردة بتفكك وزوال الاتحاد السوفيتي عام 1991 الفرصة السانحة للولايات المتحدة الأمريكية من أجل إعادة إحياء مشروعها بالهيمنة على العالم، عبر إقامة نظام سياسي اقتصادي دولي خاضع لها، بعد أن كان مشروعاً يراود الساسة الأمريكان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 لاعتقادهم بأن الأمور كانت مناسبة لتحقيق ذلك بعد خروج الولايات المتحدة كأكبر قوة عسكرية واقتصادية تحتكر السلاح النووي، مقابل ضعف القدرات العسكرية والاقتصادية للدول الأوروبية وغير الأوروبية الكبرى جراء الحرب. ولغرض تحقيق هذه الهيمنة على العالم استندت الإستراتيجية الأمريكية على مرتكزين أولهما يقوم على تضخيم عناصر القوة القومية والوصول بها إلى أعلى مراتب القوة وفقاً لطروحات بعض المفكرين ومنهم المفكر الواقعي هانز مورجنثاو، وثانيهما يركز على العمل لإقامة نظام سياسي اقتصادي حسبما أورده السفير الأمريكي جورج كينان في كتابه "إستراتيجية الاحتواء". نهاية العصر الأمريكي تأثرت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط مؤخراً في ظل التحولات الجيو/سياسية الأخيرة والتي حملت معها معطيات جديدة على المشهد السياسي، وبدت السياسة الأمريكية في خضم هذه التحولات أكثر تأزماً، حسب العديد من الدراسات التحليلية التي تناولت مسار السياسة الخارجية لواشنطن تجاه الشرق الأوسط. وبدت السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في حالة من الارتباك الواضحة بعد الأحداث الأخيرة التي عصفت بالمنطقة، والتي كشفت عن عدم قدرة الولايات المتحدة على استيعاب تلك المتغيرات، في ظل تعقيدات الوضع السياسي في الشرق الأوسط. ويصف مراقبون السياسة الخارجية لواشنطن بأنها غير واضحة في منطقة الشرق الأوسط أمام تحديات الحالة السياسة في المنطقة، وغير قادرة على بسط حلول واقعية مستقبلاً، لاسيما في بعض العواصم العربية، ويعتقد المراقبون أن واشنطن لم تبذل مساعي حثيثة لمواجهة تحديات المنطقة. يستطيع المتتبع للأحداث أن يلحظ أن أزمات المنطقة جعلت واشنطن تتعامل بازدواجية المعايير تجاه الأحداث، فعلى سبيل المثال لم تتخل الإدارة الأمريكية عن مصر كدولة حليفة سابقا فحسب، بل فرضت عليها طوق العزلة وقطعت عنها برنامج المعونة، وذلك في أعقاب سقوط حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، ورفضت الاعتراف بالترتيبات الدستورية الجديدة. والأمر الذي يزيد من حيرة المتابعين للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط محاولاتها وسياستها المعلنة في محاربة الإرهاب وتعقب عناصره، في حين تقوم بدعم الإرهاب، ويبدو ذلك واضحاً في تحالفها مع الجماعات الإسلامية في المنطقة، وكشف ذلك التحالف عدم إيمانها بقضايا حقوق الإنسان وأنها ظلت تحملها لافتة تلاحق بها الدول، فقد غضت البصر عن أعمال إرهابية استهدفت أمن واستقرار المواطنين في مصر. ويرى الخبراء أن محطة الانتكاسات الأمريكية في الشرق الأوسط بدأت بالتحالفات مع تيارات الإسلام السياسي بالمنطقة، بعد أن راهنت واشنطن عليها كحليف بديل للأنظمة البائدة، ولكن بمرور الوقت تعرض حكم الإسلاميين لمأزق فعلي (خاصة في مصر وتونس). وفي هذا الصدد يقول مصطفى اللباد مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية "أدركت واشنطن أن تيار الإسلام السياسي هو الجواد الرابح في هذه الانتفاضات، فوضعت رهانها على هذه الجماعات أملاً في تحجيم دور الإرهاب والجهاد العالمي، لكنها لم تتوقع فشل سقوط حليفها الجديد في المنطقة، وهو ما جعلها تعيش صدمة مازال تأثيرها يلقي بظلاله على صانعي القرار الأمريكي". ظلت سياسة واشنطن تجاه مصر غير واضحة، فتارة تقف إلى جانب السلطات المصرية وتدعوها إلى مواصلة حربها ضد الإرهاب، وتارة تؤيد تظاهرات جماعة الإخوان المسلمين، وتصفها بالمشروعة لتحقيق مطالبهم ضد السلطة المؤقتة. ويؤكد عمرو الشلقاني أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن ازدواجية أمريكا نحو القاهرة بدت ظاهرة منذ سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، مشيراً إلى أن واشنطن تتخذ من حقوق الإنسان وسيلة للضغط على النظام المصري وكافة الدول العربية، فعندما يتعلق الأمر بالحرب ضد الإرهاب، يستخدم البيت الأبيض القوة المفرطة في محاربة الإرهاب، لاسيما باستخدام طائرات دون طيار لقتل المطلوبين دولياً، كما سبق وأن قامت باغتيال زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وغيره في أفغانستان واليمن. وتابع "أمريكا تجاهلت الاستياء والغضب الدولي تجاه حربها التي أشعلت المنطقة ضد أفغانستان والعراق تحت ستار الحرب على الإرهاب، لكن عندما يتعلق الأمر بشؤون الدول التي تواجه الإرهاب مثل القاهرة، فإن واشنطن لا تتوانى عن التدخل في شؤون هذه الدول، بل وتطالب أنظمتها بضمان حقوق الإنسان وعدم الاستخدام المفرط للأسلحة ضد المدنيين". في مطلع 2012 حدد الرئيس الأمريكي باراك أوباما سياسته في الشرق الأوسط، والتي تمثلت في العمل على وقف الصراع في سوريا، وضمان إمدادات النفط، واتفاق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وإلى حد الآن فشلت واشنطن في إدارة جميع الملفات التي وضعتها أساساً لسياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط والتي تداخلت مع الفوضى التي انتشرت بعد دعمها لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة. ففي الشأن السوري يواجه البيت الأبيض مشاكل عدة، حيث فشل في مواجهة حلفاء الرئيس السوري بشار الأسد، لاسيما روسيا وإيران، وهو ما أجبر أمريكا على التراجع عن التدخل عسكريا في سوريا ليجد البيت الأبيض نفسه في ورطة مع الأزمة السورية، وغير قادر على تجاوزها، ويرى المراقبون أن أمريكا بدأت تشعر بتخلخل مكانتها في الشرق الأوسط، بعد تراجع واشنطن عن مسؤوليتها أمام العالم. في هذا الصدد أشار الباحث الأمريكي والتر راسل ميد في تحليل سابق له نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" إلى أن التلكؤ الأمريكي في التعاطي مع الملف السوري أفضى إلى تعقيد الأوضاع هناك، فتكلفة الصراع أصبحت مرتفعة، والدولة دخلت في حرب تخطت حدود الداخل السوري، وانتقلت إلى دول أخرى بالمنطقة كالعراق ولبنان وتركيا. هذا على صعيد التكلفة بالنسبة لدول الجوار، أما بخصوص الجانب الأمريكي, وعلى راي الخبراء, فإن تأخر التدخل المباشر في الأزمة السورية منح فرصة سانحة لأطراف أخرى لتحقيق مكاسب على حساب المصالح الأمريكية بالمنطقة؛ إذ أصبحت روسيا وإيران تلعبان دورًا بارزًا في الملف السوري عبر دعمهما الواضح للرئيس بشار الأسد، وهو الأمر الذي كشف عن عجز إدارة أوباما، لاسيما أنها تطالب برحيل النظام، ولكنها لم تحقق ذلك الأمر. كما أن عدم قدرة أمريكا على إيجاد طريق للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين، أدى إلى تضاؤل هيبة الولايات المتحدة الأمريكية دوليا في الصراع الذي لا يوجد له حل منذ عقود، رغم الزيارات المكوكية التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي إلى الشرق الأوسط، لتفعيل عملية السلام من جهة وتحسين العلاقات مع حلفائها الاستراتيجيين، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، التي تقف على النقيض من موقف واشنطن من السلطة الحالية القائمة في مصر والمفاوضات الأمريكية الإيرانية الأخيرة، التي نتج عنها الاتفاق النووي الإيراني مع "5+1". تقود هذه المؤشرات السياسية المراقبين إلى استنتاج أن الولايات المتحدة بدأت تتحرك لتدارك الأخطاء التي ارتكبتها بعد أن أوشكت على فقدان أهم حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة، خصوصاً في ظل تنامي الدور الصيني الذي أضحى يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط واتجاه مصر إلى تدعيم علاقاتها مع روسيا. في المقابل يحرص البيت الأبيض على نفي التقارير التي تشير إلى أن المنطقة العربية تراجعت أهميتها أمريكيا ولم تعد بذات الأهمية التي هي عليها، حسب ما يقوله الكثير من الخبراء والمحللين، وأن الانسحاب الأمريكي من قضاياها لن يسبب أضرارا البتة. وهذه الرؤية يؤكدها تصريح لمستشارة رئيس الأمن القومي "سوزان رايس" التي تقول إن هدف الرئيس أوباما هو تجنب هيمنة الأحداث التي تطرأ على الشرق الأوسط على أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، كما حدث مع الرؤساء الأمريكيين السابقين، مشيرة إلى أنه حان الوقت لتتراجع الولايات المتحدة وتعيد تقييم تصوراتها لمنطقة الشرق الأوسط. هذا الطرح تناوله فواز جرجس في كتابه "أوباما والشرق الأوسط نهاية العصر الأمريكي" والذي خرج فيه بأنه على الرغم من التراجع النسبي للولايات المتحدة قياسا بالقوى الأخرى الجيو/اقتصادية والجيو/سياسية الصاعدة في النظام العالمي إلا أنها تبقى القوة الأكثر نفوذاً اقتصادياً وعسكرياً، وستبقى كذلك لعقدين آخرين من الزمن على الأقل. تراجع الاهتمام الأمريكي كثر مؤخراً الحديث عن تراجع الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط وهو ما عكسته سياسات بعض الدول العربية التي رأت أن تعويض ذلك يكون بالانفتاح أكثر على إسرائيل تنسيقاً وربما تحالفاً. تراجع الاهتمام الأمريكي المباشر بالشرق الأوسط كان واضحاً في الكثير من الملفات فأمريكا لا تريد تدخلاً جديداً في الشرق الأوسط بعد فشل تدخلها في العراق وليبيا، لذلك اختارت طريقاً تكلفته أقل ونتائجه مضمونه أكثر لأنه يستهدف فقط البرنامج النووي الإيراني. الحلفاء أرادوها حرباً شاملة لأن المسألة بالنسبة لهم ليست النووي الإيراني، ولكن النفوذ الإيراني في سورية والعراق واليمن ولبنان. فقط من خلال تدمير إيران يمكن تقليص نفوذها وربما اجتثاثه من المنطقة. لكن الولايات المتحدة لا مصلحة لها في حرب غير معروفة النتائج تستنزف مواردها وتؤدي إلى مقتل جنودها حتى لو كان ربحها في متناول اليد، لذلك رأت أمريكا أن اعتراف الطرفين (إيران وحلفاء أمريكا) بمصالح بعضهم البعض، والتنسيق بينهما كفيل بجعل حياة الطرفين ممكنة، وبما يؤدي إلى استقرار المنطقة، وهو ما يرفضه حلفاؤها الذين اعتادوا على أن تكون يدهم هي العليا بعد إسرائيل في كل ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. أما في الملف الفلسطيني، فقد كان واضحاً بالنسبة للولايات المتحدة، أن التقدم فيه مستحيل لسببين: الأول يتعلق بفقدان الرئيس أوباما لرافعة إقليمية يمكنه استخدامها للضغط على إسرائيل لقبول تسوية مقبولة على الفلسطينيين. بمعنى أن العرب أشاحوا بوجههم عن القضية الفلسطينية وسقطوا في صراعاتهم الداخلية، ولم يعد بإمكان الإدارة الأمريكية الحديث عن أهمية السلام مع الفلسطينيين من أجل تعميمه على العرب لأن الطرف الأخير أصبح أقرب لإسرائيل من الولايات المتحدة نفسها. والثاني، هو أن لا مصلحة لأوباما بالدخول في صراع علني مع حكومة نتنياهو من أجل الفلسطينيين يتسبب في تأليب أعضاء الكونغرس على إدارته؛ لذلك غسلت هذه الإدارة يديها من هذا الملف. ولمشاهد التراجع هذه أسباب قد تستمر لوقت طويل جداً. وفي هذا المجال يمكن تحديد خمسة أسباب لهذا التراجع: الأول، هو تراجع حاجة الولايات المتحدة للنفط العربي. اليوم تنتج الولايات المتحدة ما يقارب أربعة عشر مليون برميل من النفط الصخري، وهو رقم يفوق ما تنتجه العربية السعودية (تقريبا اثنا عشر مليون برميل). في العام 2015 استوردت الولايات المتحدة أقل من خمسة ملايين برميل من النفط يومياً، منها فقط مليون برميل من العربية السعودية، أما الباقي فأغلبه من كندا وجزء بسيط منه من فنزويلا، المكسيك، وكولومبيا (الأرقام من هيئة الطاقة الأمريكية). بمعنى حتى المليون برميل يمكن لأمريكا الاستغناء عنه بسهولة واستيراده من دول أخرى. ما سمعته على الأقل، الاستمرار بالاستيراد على ضعفه مرتبط بعقود قديمة ينتهي بانتهائها. الثاني، يتعلق بالموارد التي فقدتها الولايات المتحدة عبر تدخلها المباشر في العراق. تقدر هذه الموارد بتريليونين من الدولارات (2000 مليار دولار) أنفقتها الولايات المتحدة في حربها على العراق من العام 2003 إلى العام 2010. صحيح أن هذه الأموال ذهبت للجيش الأمريكي ولشركات السلاح الأمريكية، ولشركات الأمن الأمريكية الخاصة، لكنها جميعاً جرى تبريرها بالحاجة للانتصار في الحرب وتأمين القوات الأمريكية في العراق. هذه الأموال كانت كفيلة بإيجاد عشرات الآلاف من فرص العمل للأمريكيين وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية لهم، وهو موضوع دائم الحضور في الحملات الانتخابية للرئاسة الأمريكية. الولايات المتحدة لا تريد التورط أكثر في الشرق الأوسط وتكرير نفس المأساة. على الأقل، من الصعب إقناع الأمريكيين اليوم بأهمية التدخل العسكري في الشرق الأوسط إن لم يكن لحماية الأمريكيين أنفسهم من خطر واضح وحقيقي. السبب الثالث، الذي يدفع أمريكا للاهتمام أقل بالشرق الأوسط هو حقيقة أن إسرائيل أصبحت آمنة. لا توجد قوة اليوم تهدد أمن إسرائيل باستثناء فصائل المقاومة. الأهم من ذلك، أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تفعل شيئاً بخصوص ذلك. اليوم الشعب الأمريكي- بما فيه يهود أمريكا - منقسم على نفسه بشأن إسرائيل وهو ما سمح للمرشح الديمقراطي بيرني ساندرز بانتقاد إسرائيل علناً في حملته الانتخابية. الرابع، يتعلق بمحدودية الإمكانيات التي يمكن للولايات المتحدة تسخيرها لخدمة مصالحها. إمكانيات الولايات المتحدة بلا شك أكثر من أي دولة أو حتى مجموعة من دول العالم، لكن هذا لا يعني أن إمكانياتها مطلقة وبلا نهاية. أمريكا ترى اليوم أن بإمكانها تعزيز مصالحها في دول أمريكا اللاتينية ودول شرق آسيا بتسخير جزء مهم من المصادر التي تسخرها للشرق الأوسط لهذه الغاية. بمعني بدلاً من تقديم المساعدات المالية لدولة مثل مصر يمكنها استغلال ذلك لتعزيز نفوذها ومصالحها في دول أخرى. وبدلاً من صرف المليارات على قواعدها العسكرية وأساطيلها البحرية في الشرق الأوسط يمكنها تحويلها لأماكن فيها فائدة أكثر لها. الخامس، يتعلق بالحرب على الإرهاب.. أمريكا تريد التخلص من معزوفة الجماعات الإسلامية بأن سبب حربهم على الغرب وعليها تحديداً هو تدخلهم في شؤون الشرق الأوسط. هذا لا يعني أن حرب أمريكا على الإرهاب سيتوقف، ولكنه يعني أن على الدول والشعوب المتضررة منها أكثر، بمعنى دول وشعوب الشرق الأوسط، أن تتحمل المسؤولية الأكبر في هزيمة هذه الجماعات. بطريقة أو بأخرى أمريكا ستحارب الإرهاب، لكن من خلال الدول وأحياناً القوى المستعدة لمحاربة هذه الجماعات. بهذه الطريقة تضمن أمريكا تدخل أقل من جانبها في الشرق الأوسط لا يُمَكن هذه الحركات من الادعاء بأنها تحارب أمريكا بسبب سياساتها في الشرق الأوسط، ويضمن في نفس الوقت استمرار محاربة هذه الحركات حتى القضاء عليها. هذه الأسباب لا تعني انسحاباً كلياً من منطقة الشرق الأوسط، لكن حضوراً أقل لها فيه. أمريكا ستحافظ على نفوذها في ثلاث دول تعتقد أنها مستقرة، وأن وجودها فيها ضمانة لعودتها بقوة للشرق الأوسط عندما تريد. هذه الدول هي قطر، والأردن، والمغرب. لماذا هذه الدول، هذا موضوع بحاجة إلى بحث مستقل. هذا التراجع الأمريكي لا يرتبط بوجود أوباما في البيت الأبيض. صحيح أنه من وضع حجر الأساس له، لكنه سرعان ما تحول إلى سياسة احتضنها الإعلام الأمريكي، ومرشحو الرئاسة، ديمقراطيوهم وجمهوريوهم. جزء مهم من السبب يعود لجرأة الرئيس أوباما علي طرح مواضيع شائكة وتحدي مفاهيم قائمة منذ عشرات السنين. لكن السبب الأهم يعود إلى التغيرات التي جرت وتجري في أمريكا والشرق الأوسط. باحث في القضايا الإقليمية(*) |
||||||