تركيا... أبعاد استقالة أوغلو ومصير الاردوغانية 

السنة الخامسة عشر ـ العدد 174  ـ (شعبان ـ رمضان  1437 هـ ) ـ (حزيران 2016 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

أخيراً ترجل البروفيسور أحمد داود أوغلو، منظر العثمانية الجديدة وصاحب نظرية صفر المشكلات مع الجوار عن قطار رجب طيب أردوغان السلطاني، البعض وصفه بهنري كيسنجر تركيا، فالرجل الذي عمل مستشارا لأول رئيس حكومة لحزب العدالة والتنمية عام 2002 لم يكن رجلا عاديا، أو مجرد رئيس للوزراء لاحقاً، وإنما كان مفكراً وأكاديمياً نجح في فرض بصمته على السياسة التركية الخارجية والداخلية، عبر أفكاره التي تجسدت في سلسلة كتب هدفت إلى اكتشاف موقع تركيا وبنيانها الحضاري وعناصر قوتها في جغرافية مفتوحة على الهويات.

أوغلو الذي اختار لنفسه سيناريو الخروج من رئاسة حزب العدالة والتنمية عبر مؤتمر لطارئ للحزب عقد في الثاني والعشرين من الشهر الجاري وجد  بعد كل هذه السنوات أن ممارسة السلطة مع معلمه ورفيقه رجب طيب أردوغان لم تعد ممكنة. ليبقى السؤال الأساسي هنا، لماذا استقال أوغلو ؟ في الواقع، ثمة أسباب كثيرة لا بد من التوقف عندها.

1- الخلاف على الصلاحيات، فالحكم في عهد أردوغان بات ثنائياً عقب قرار الأخير تفعيل صلاحياته الرئاسية بعد أن كانت هذه الصلاحيات شرفية طوال العقود الماضية، مقابل صلاحيات تنفيذية كبيرة لرئيس الحكومة، وهكذا بات النظام في أزمة بنيوية لجهة ممارسة السلطة التنفيذية، بين رئيس جمهورية يريد أن يكون الرقم الأول في تحديد السياستين الداخلية والخارجية وبين رئيس حزب حاكم وزراء يرى أن ممارسة السلطة هي واحدة من حقوقه الطبيعية وفقاً للدستور.

2- تدخل أردوغان في أدق تفاصيل حياة حزب العدالة والتنمية الذي كان يرأسه أوغلو، مع انه دستوريا لا يحق لرئيس الجمهورية ممارسة أي نشاط حزبي. ومن الواضح أن هذا التدخل بلغ مستوى لم يعد أوغلو قادرا على تحمله، فالتقارير تقول إن أردوغان هو الذي حدد قرابة 70% من الأعضاء الذين رشحوا أنفسهم للانتخابات البرلمانية السابقة، وأنه حدد 30 عضواً من أصل 50 من أعضاء اللجنة المركزية لحزب العدالة والتنمية خلال مؤتمره الأخير، ومع قرار نقل صلاحيات تعيين قادة الحزب في الولايات والأقاليم التركية من رئيس الحزب إلى لجنته المركزية، انتهى دور أوغلو كرئيس للحزب عمليا لصالح أردوغان من خلال الفريق الذي جاء به أردوغان إلى قيادة الحزب.

3- إن أردوغان بات يحس بأن أوغلو يتحمل مسؤولية عدم الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي حتى الآن، فالجهود التي بذلها أوغلو من خلال اللجنة الحزبية التي شكلت في البرلمان لم تنجح في لحظ هذا الانتقال في مشروع الدستور الجديد الذي يتم الإعداد له ويسعى أردوغان إليه بقوة كي يضع مخططه الانتقال إلى تركيا عام 2023 قيد التنفيذ، وهو مخطط يدور بشأن كيفية التخلص من إرث جمهورية أتاتورك والانتقال إلى العثمانية الجديدة تحت عنوان تركيا الجديدة وذلك في الذكرى المئوية الأولى لإقامة الجمهورية التركية.

4– إن أردوغان الذي وعد مراراً بقرب الانتهاء من ما يسميه بالتنظيم الموازي أي حركة غولن، بات يجد نفسه في كل مرة أمام تجديد هذا الوعد دون تحقيقه إلى الآن، وهو ما بات يشكل قلقا كبيرا له، خاصة انه اضطر إلى اتخاذ إجراءات طالت العديد من المؤسسات الإعلامية والاقتصادية، فضلاً عن الحريات الإعلامية والصحفية، وهو ما أثار موجة انتقادات شديدة له في الخارج والداخل، وهو هنا لم يجد غير أوغلو يحمله المسؤولية.

5- تداعيات الحرب ضد حزب العمال الكردستاني باتت في الآونة الأخيرة واحدة من قضايا الخلاف والشقاق بين الرجلين، ففي الوقت الذي كان أردوغان يقول انه لن يعاود التفاوض مع حزب العمال الكردستاني وسيواصل الحرب ضده حتى النهاية ، كان أوغلو يتحدث عن شروط لعودة التفاوض مع الحزب. واللافت هنا، أن مثل هذا الأمر برز بقوة مع الزيارة التي كانت مقررة لأوغلو إلى واشنطن للقاء الرئيس باراك أوباما والحديث عودة المفاوضات مع الحزب الكردستاني، وهو ما أثار غضب أردوغان حيث قيل إنه سأل أوغلو عن سبب زيارته لأمريكا خصوصاً وأن أردوغان كان في زيارة لها قبل فترة قصيرة، ولعل هذا الخلاف كان السبب الحقيقي لإلغاء الزيارة.

6- الاتفاق الأوروبي – التركي بشأن اللاجئين شكل نقطة خلاف مهمة بين أردوغان وأوغلو، إذ وجد أردوغان أن أوغلو برز كصانع للسياسة الخارجية التركية بعيداً عن رؤيته، خصوصاً وأن أردوغان وجد في هذا الاتفاق محاولة أوروبية لفرض شروط على تركيا ولاسيما لجهة اشتراط الاتحاد الأوروبي تعديل تركيا قانون مكافحة الإرهاب، حيث أثار هذا الطلب غضب أردوغان الذي سرعان ما لجأ إلى نسف هذا الاتفاق من خلال الرفض المطلق للبنود الأساسية فيه.

دون شك هذه الأسباب وغيرها، كانت كافية لوصول العلاقة بين الرجلين إلى طريق مسدود، ومع أن سيناريو خروج أوغلو من الحزب وتالياً الحكومة بدا مدروساً، إلا أنه من الواضح أن ما جرى كان شقاقاً أو طلاقاً سياسياً داخل البيت الرئاسي والحزبي لحزب العدالة والتنمية.

ولعل ما يمكن قوله هنا، هو أن هذا الشقاق فتح السؤال واسعاً عن الهوية التي يريدها أردوغان لتركيا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن النظام في تركيا أصبح رئاسياً قبل أن يتم إقراره دستورياً، وأن مهمة الرئيس الجديد للحكومة هي فقط  تنفيذ أجندة أردوغان في كل ما لم ينجح به أوغلو، فالثابت أن أردوغان بات يحس بحق أنه السلطان الذي يجب أن يطاع.  

عودة الصراع بين (العلمانية) و(الإسلام)

الصراع بين العلمانية والإسلام السياسي ليس بجديد في تاريخ تركيا الحديث، فمنذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، تجذر هذا الصراع تدريجياً إلى أن أصبح من أهم معالم الحياة السياسية في البلاد طوال العقود الماضية. القوى التي تبنت العلمانية سعت إلى اقتلاع الإسلام من ذاكرة الأتراك وهوية تركيا، وعليه تبنت سلسلة إجراءات قسرية لتحقيق هذا الهدف، في المقابل فإن قوى الإسلام السياسي ظلت تقاوم هذه الإجراءات وتحاول انتهاج الآليات الممكنة  للحفاظ على الهوية الحضارية والثقافية لتركيا، ومع أن المؤسسة العسكرية وقفت بالمرصاد لذلك، وقامت بسلسلة انقلابات عسكرية باسم الحفاظ على العلمانية إلا أن مرحلة ما بعد تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في عام 2002 تبدو مختلفة، بعد أن نجح الحزب في تحويل خطواته التكتيكية إلى إستراتيجية أفضت إلى إعادة تأسيس البنيان السياسي للنظام ومؤسساته المؤثرة، دون أن يعني ما سبق انتهاء هذا الصراع الذي سرعان ما يتجدد على وقع تصريح أو موقف، عندما يتعلق الأمر بالكينونة الفكرية والسياسية والدستورية لهذا طرف أو ذاك، وعليه فان مسألة الدين والدستور والعلاقة بينهما، تشكل قضية حساسة في تركيا، إذ أن الأمر يتعلق بهوية الدولة التركية، ولعل هذا ما يفسر الضجة الكبيرة التي أثارتها تصريحات رئيس البرلمان التركي إسماعيل قهرمان بهذا الخصوص. فقد وصف أحد الباحثين المختصين بالشأن التركي دعوة قهرمان إلى دستور ديني لتركيا بالتصريح الأخطر في تاريخ الجمهورية التركية، ولعل سبب هذا الوصف، هو انه إلى  تاريخه، لم  يجرؤ أي شخص أو حزب أو منظمة على طرح مثل هذه الدعوة، وعليه فجر هذا التصريح ردود فعل قوية في المعسكرين، على شكل إحياء للصراع التقليدي بين القوى (العلمانية) و(الإسلام السياسي)، فقوى المعارضة المتمثلة بحزب الشعب الجمهوري برئاسة كمال كليجدار أوغلو وحزب الحركة القومية بزعامة دولت باهجلي وحزب الشعوب الديمقراطية بزعامة صلاح الدين دميرداش، جميعها هاجمت تصريحات قهرمان، وعدتها بمثابة انقلاب ناعم على الأسس العلمانية للدولة التركية، وان الهدف منها هو إقامة دولة دينية تعبيراً عن إيديولوجية حزب العدالة والتنمية التي تتطلع إلى العودة إلى الخلافة العثمانية باسم الإسلام.

في المقابل، كان لافتاً التدخل السريع للرئيس رجب طيب أردوغان وتنصله من تصريحات قهرمان عندما قال من زغرب (كان في زيارة لها) إن تصريحات قهرمان تعبر عن رأيه الشخصي وليس عن الحكومة وحزب العدالة والتنمية، وان الدولة يجب أن تقف على مسافة واحدة من جميع العقائد الدينية، وقد أعاد موقفه هذا التذكير بالتصريحات التي أدلى بها خلال زيارته مصر عام 2011  عندما قال (في تركيا هناك دستور علماني، تقف الدولة من خلاله على مسافة متساوية من جميع الأديان، والعلمانية لا تعني الإلحاد بالتأكيد، وانصح باعتماد دستور علماني في مصر) يومها فهم من تصريح أردوغان بأنه يريد تسويق النموذج التركي لمصر ما بعد الثورة المصرية، على أساس أنه وفق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، وهو ما قوبل باستياء من قبل العديد من القوى الإسلامية في مصر بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين التي طالبت وقتها أردوغان بعدم التدخل في الشؤون الداخلية المصرية وأعلنت رفضها استيراد التجارب والنماذج من الخارج.

وعلى غرار تصريحات أردوغان حاول كبار قادة حزب العدالة والتنمية بما في ذلك قهرمان نفسه التخفيف من تداعيات دعوته، بالقول إن القصد من الدعوة كان إعادة دراسة وضع العلمانية في الدستور وليس إبدال العلمانية بدستور ديني، على اعتبار أن الاقتصار على حصر الدستور بالعلمانية لا يعبر تعبيراً دقيقاً عن واقع الحال، وأن العلمانية تبقى جزءاً من الدستور.   

الصراع على الهوية

ثمة من يعتقد أن دعوة قهرمان إلى دستور ديني لم تكن مجرد زلة لسان أو مجرد رأي شخصي، خصوصاً وأن الرجل يعد من مؤسسي حزب العدالة والتنمية وعمل سابقاً في صفوف حزبي الرفاه والفضيلة، وإنما كانت  تعبيراً عن جوهر سياسة وإيديولوجية حزب العدالة والتنمية، بعد أن انتقل من موقع الحزب المحافظ إلى موقع الأسلمة التدريجية للدولة والمجتمع ويمتلك كل أوراق القوة في الداخل، فالحزب عمل طوال السنوات الماضية إلى إعادة الإسلام السياسي  لهوية البلاد عبر خطوات تكتيكية، كإعادة الاعتبار لارتداء الحجاب والتعليم الديني في المدارس والمعاهد، حيث تقول التقارير إن عدد الطلاب الذي يرتادون هذه المدارس والمعاهد زاد بوتيرة كبيرة، حيث ارتفع عدد هؤلاء من 50 ألفاً عندما تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002 إلى قرابة مليوني شخص عام 2014 حسب الإحصائيات، وهو مؤشر يمكن البناء عليه في قضية الأسلمة التدريجية للدولة والمجتمع. وعليه يرى المعارضون لنهج الأسلمة أن تصريحات قهرمان لم تكن سوى مجرد جس نبض لمعرفة الردود إزاء هذه القضية الحساسة في بنيان النظام التركي، بعد أن تحولت العلمانية إلى شعار ورافعة سياسية للقوى المناوئة لحكم حزب العدالة والتنمية وسياسته. ولعل قادة حزب العدالة والتنمية يدركون حساسية هذه القضية، فالأمر يتعلق بالهوية الحضارية والثقافية للبلاد، إذ أن جميع الانقلابات العسكرية السابقة (انقلاب عام 1960 – 1971 – 1980 – وأخيراً الانقلاب الأبيض ضد حكومة نجم الدين اربكان عام 1997) وقعت باسم الحفاظ على الأسس العلمانية للدولة. ولعل لحساسية التوقيت أهمية خاصة، إذ أن هذه الدعوة جاءت على وقع حديث الصحافة الغربية عن إمكانية حصول انقلاب عسكري والقول لن يذرف احد الدمع على حكم أردوغان إذا حصل مثل هذا الانقلاب ولن يكون الأمر مختلفاً عن ما جرى لمحمد مرسي في مصر، وكذلك جاءت عشية الإعداد لدستور تركي جديد يلحظ الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي، وهو ما ترفضه قوى المعارضة التي ترى فيها مدخلا لحكم الفرد والاستبداد بعد حصر جميع السلطات بيد أردوغان الذي يتطلع إلى تتويجه كسلطان مطلق الصلاحيات.

في المقابل، فإن حزب العدالة والتنمية يبدو مدركاً لحساسية هذه الخطوة، إذ انه يدرك أن القضية تتجاوز وضع دستور جديد إلى إعادة صوغ النظام السياسي، على شكل الانتقال من نظام إلى أخر يغير وجه تركيا، وعليه لن يغامر بصدام اجتماعي وسياسي يفجر الصراع الخفي – العلني بين القوى العلمانية والإسلامية، دون أن يعني ما سبق التنازل عن إيديولوجيته وإستراتيجيته، ولعله يدرك أن ما فعله خلال السنوات الماضية كاف لتحقيق أهدافه الأساسية ولو بعد حين، وعليه فان المعركة ستبقى مفتوحة على فصول جديدة من المواجهة بين الطرفين.

في الواقع، يمكن القول إن جوهر إستراتيجية حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة هو أن لا تبقى العلمانية في الموقع المضاد للإسلام وإنما ينبغي إعادة التعريف بالعلمانية وموقعها ودورها في الدستور والنظام والهوية العامة للبلاد، إذ ليس من المعقول أن تصادر الحريات والثقافة باسم العلمانية، كما أنه ليس من المعقول أن يبقى الدستور التركي إلى جانب دستور كل من فرنسا وايرلندا فقط في العالم موصوفاً بالعلمانية في وقت ترى تركيا أنها الدولة الإسلامية التي رفعت لواء الإسلام خلال القرون الماضية. 

العضوية الأوروبية

شكّل اهتمام الصحافة الأوروبية بتصريحات قهرمان مؤشراً إلى حساسية العلاقات الأوروبية – التركية من الناحية الحضارية والثقافية، فأتاتورك كان ضابط إيقاع القطار التركي على وقع السير في ركب أوروبا تطلعاً إلى (الحداثة والعصرنة) كما تقول القوى العلمانية، وعلى نهجه سارت الحكومات التركية المتتالية التي توجت هذا المسعى بطلب الانضمام إلى العضوية الأوروبية دون أن يتحقق ذلك على الرغم من مرور قرابة نصف قرن على هذا المسعى، بل يمكن القول إنه كلما مضى الزمن تتضح صعوبة قبول تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي لا لأسباب تتعلق بالإصلاحات الديمقراطية فحسب، وإنما أيضاً لأسباب حضارية وثقافية لطالما أن ميثاق الاتحاد الأوروبي نفسه ينص على الهوية الحضارية للاتحاد، إذ أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نتخيل أو نرى حزباً إسلامياً مثل حزب العدالة والتنمية يشارك من خلال المؤسسات الأوروبية العليا في صوغ هوية أوروبا لاسيما في ظل صعود الإسلاموبيا إلى الواجهة. وعلى الأغلب أن تصريحات قهرمان حركت الذاكرة الأوروبية التي تقول إن المسلمين الأتراك أذاقوا الأوروبيين الويلات، ولعل هذا ما يفسر قول رئيس حزب الخضر في ألمانيا جيم اوزدمير أن تصريح قهرمان بمثابة إشعال حريق، وعليه فان الغرب الذي اعتاد أن يرى تركيا تنشد العلمانية وتسير في ركبه لا بد أن يرى في تصريحات قهرمان بمثابة انفكاك عن هذه المسيرة، وبما يعزز شكوكه من توجهات تركيا الإسلامية وصورتها، وفي المحصلة قطع  الطريق أمام أي مسعى لقبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي.

في الواقع، مع أن رئيس لجنة صياغة الدستور في تركيا مصطفى شنتوب أعلن أن مسودة الدستور الجديد احتفظت بمبدأ العلمانية، إلا أنه من الواضح أن دعوة قهرمان إلى دستور ديني كانت تعبيراً عن صراع إيديولوجي في سياق معركة تاريخية طويلة، فمثل هذه الدعوة لم تكن ممكنة قبل سنوات قليلة، إذ أنها كانت كافية لوضع صاحبها في السجن إلى ما لا نهاية إن لم يكن الحكم عليه بالإعدام. ولعل طرحها اليوم يأتي بمثابة صرخة يرددها معظم الأتراك، مفادها أن تركيا لم تعد بحاجة إلى نظام علماني بقدر حاجتها إلى دستور ينسجم والهوية التركية التي هي مزيج بين الإسلام والعثمانية، فالثابت أن تركيا باتت ترى قوتها في نموذجها الخاص للحكم وليست في تبعيتها للاتحاد الأوروبي، إذ أن المعركة -كما تبدو - بالنسبة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية هي معركة التخلص من جمهورية أتاتورك التي وضعت تركيا في قطيعة وعداء مع بنيانها الحضاري والإسلامي والانتقال إلى تركيا فاعلة ومؤثرة في محيطها الإسلامي، على الرغم من أن هذه السياسة اقترنت بتورط تركيا في الشؤون الداخلية للعديد من دول المنطقة ولاسيما سوريا، وهو ما أثار المزيد من المشكلات وزاد من منسوب التوتر والصدام في المنطقة.

رفع الحصانة ومصير حزب الشعوب

بانتظار استكمال الخطوات الدستورية لإقرار قانون رفع الحصانة عن النواب الذين رفعت بحقهم دعاوى، يبدو أن مصير حزب الشعوب الديمقراطي الكردي أصبح على المحك، إذ أن 50 نائباً من نوابه 59 رفعت ضدهم دعاوى، معظمها، لها صلة بعلاقاته ومواقفه من حزب العمال الكردستاني.

حزب الشعوب الذي تأسس عام 2012، وطرح نفسه حزباً جامعاً للكرد والترك والعرب والأرمن في عموم تركيا، وفوق الطوائف والمذاهب والقوميات والطبقات والإيديولوجيات، وبنى خطابه على الديمقراطية واليسارية وتحقيق السلام، وجد نفسه مع تجدد الحرب بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية في امتحان مصيري، إذ أنه بحكم بنيته وبيئته الكردية وجد نفسه في حالة تعبئة قومية، منعته من الاستجابة لطلب الحكومة التركية الدائم بإدانة عمليات حزب العمال الكردستاني، ولعل ما زاد من غضب الحكومة التركية عليه، هو طرح زعيمه صلاح الدين دميرداش خلال مؤتمر المجتمع الديمقراطي الكردي (مجموعات منظمات سياسية وشبابية ونسائية) الذي عقد في الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر في مدينة ديار بكر إقامة حكم ذاتي في جنوب تركيا وشرقها، وهو ما دفع برجب طيب أردوغان للمرة الأولى إلى المطالبة بمحاسبة ديمرداش على تصريحاته ورفع الحصانة النيابية عنه تمهيداً لمحاكمته، وبالتوازي مع هذه المطالبة، بدأ الإعلام التركي حملة ضد ديمرداش، إذ لم تعد صورته صورة الزعيم اليساري الديمقراطي الذي يجمع الكرد والترك، أو صورة الرجل الذي يحمل خطاب السلام ويقوم بدور الوساطة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني بحثاً عن السلام، وإنما صورة الرجل الذي يشكل رأس الحربة لحزب العمال الكردستاني ويحاول تنفيذ مشروعه السياسي من داخل البيت التركي، وانطلاقاً من ما سبق قدمت جهات برلمانية وحزبية تركية دعوات ضده للمدعي العام التركي تمهيدا لمحاكمته وتجريده من الحصانة البرلمانية، ولعل التهم الموجه له (تقسيم البلاد) كافية لوضعه في السجن إلى جانب عبد الله أوجلان.

هذا الواقع الجديد الذي يشي بانتهاء الخطاب العام لحزب الشعوب لصالح أيديولوجيته القومية الكردية، يفرض عليه أسئلة كثيرة بشأن إستراتيجيته في المرحلة المقبلة، منها ما يتعلق بكيفية الحفاظ على صورته في الشارع التركي؟ وكيفية الجمع أو التوفيق بين أجندته الكردية والتركية؟ وماذا عن خياراته إذا تم رفع الحصانة عن نوابه وتم سجنهم وحرمانهم من ممارسة العمل السياسي بل وحتى حظر الحزب نفسه؟ دون شك، هذه الأسئلة وغيرها، باتت مطروحة بقوة بعد أن وصلت العلاقة بينه وبين حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الصدام، وباتت قضية تجريد نوابه من الحصانة النيابية مسألة وقت لا أكثر.

حتى الآن، يحرص الحزب على الحفاظ على خطابه السلمي وطرح نفسه كوسيط للسلام بين حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني، كما يحاول تسويق نفسه على هذا الأساس في المحافل الأوروبية والأمريكية لجلب المزيد من الضغط على أردوغان للعودة إلى العملية السلمية، لكن من الواضح أن الحزب يدرك أن الأحداث تجاوزت هذه السياسة وبدأ يلوح بخطة بديلة، تقوم على إعلان برلمان محلي في ديار بكر كما أعلن دميرداش وهي خطوة لن تزيد من الوضع سوى المزيد من الصدام، إذ من الواضح أن قرار أردوغان هو عدم العودة إلى المفاوضات مع الكردستاني، وكذلك عدم السماح بإقامة أي نواة لحكم محلي كردي يكون مدخلاً لإقامة إقليم كردي على غرار ما جرى في العراق وسوريا.

من واقع التجارب السابقة لحظر الأحزاب الكردية التي تشكلت طوال العقدين الماضيين، يمكن القول إن حظر حزب الشعوب يضعه أمام احتمالين، الأول: تشكيل حزب جديد باسم مختلف يكون استمرارا لخطه السياسي. والثاني: هو انتظار الانتخابات المقبلة ومن ثم الترشح لها كمستقلين وفي حال الفوز اللجوء إلى تأسيس حزب جديد من داخل البرلمان. لكن بغض النظر عن هذين الخيارين، فإنه، من الواضح أن العلاقة بين الحزب والحكومة التركية تقترب من نهايتها، وهي نهاية ربما ترشح الوضع الكردي في تركيا إلى المزيد من التصعيد العسكري، خاصة في ظل اشتداد المعارك بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني ، وهو ما يرجح أن يكون الصيف التركي ساخناً وربما مدمراً للطرفين.

في الخلاصة، فإن تركيا بدأت تدخل مرحلة جديدة، مرحلة قد نشهد فيها المزيد من التحولات السياسية الداخلية وفقاً لرؤية أردوغان المتجهة لإقامة نظام رئاسي مطلق الصلاحيات، لكن الثابت أن تحقيق مثل هذا النظام لن يكون سهلاً أو دون ثمن، خصوصاً وأن المعارضة بشقيها التركي والكردي ترفض هذا الانتقال وتقول إنها ستقاومه حتى النهاية، فيما أردوغان يشهر عصا الحرب والإقصاء في وجه كل من يقف في وجه طموحاته الجامحة من خلال ربط مصير تركيا بمصيره.

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*) 

اعلى الصفحة