رجال الدين في القرآن..
تأملات فكرية في بعض ما أشار إليه القرآن

السنة الخامسة عشر ـ العدد 174  ـ (شعبان ـ رمضان  1437 هـ ) ـ (حزيران 2016 م)

بقلم: السيد جعفر محمد حسين فضل الله

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

ثمّة آيات كثيرة تناولت طريقة فئات من أهل الكتاب في التعامل مع قضية المعرفة وإدارتها بين الناس، ومع قضيّة الالتزام الديني وتجسيده كقدوة للناس، وواحدٌ من أهدافه هو تنبيه المسلمين إلى إمكانيّة أن يقعوا فيما وقع فيه من سبقهم من أهل الأديان السابقة...

وذلك لأنّ أهل الكتاب كانوا يمثِّلون السلطة الدينية التي كانت تحظى باحترام الناس وتقديرهم، وتمثّل في نظرهم مرجعيّة حاسمة، وهو ما لمسناه في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾(1)، ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾(2)؛ وبالتالي سيكون لدراسة ذلك من قبل من سيستلمون زمام السلطة الدينية من المسلمين، بوصفهم أهل القرآن وعلماء الإسلام، إفادة من تجارب سابقة حتى لا يقعوا فيما وقع به من قَبلَهم.

في السطور الآتية سنقوم بعمليّة إثارة لبعض العناوين التي نراها مهمّة في نقد تجربتنا الإسلامية في هذا المجال، وذلك بهدف أخذ العبرة على قاعدة ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾(3).

التجارة بآيات الله

يقول الله تعالى – في خطابه لبني إسرائيل -: ﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾(4).

علاقة الناس بآيات الله التي ينزلها على أنبيائه قابلة للاستثمار؛ لأنّها علاقة سلطويّة تنبع من الاستسلام للعبودية لله من قبل الإنسان، وهو ما يجعل الإنسان منقادًا حكمًا إلى كلّ ما يثبت عن الله عزّ وجلّ، فإذا كان رجال الدين هم القائمين على دين الله، وهم العالمين بأحكام شريعته، وبمنهج السلوك الذي ينبغي أن يُتّبع، فهذا يجعل لرجال الدين سلطة الطاعة على عباد الله؛ لأنّهم سيشكّلون الطريق العملي لطاعة الله. بهذا يُصبح الخطاب الديني موجّهاً مباشراً لسلوك عامّة المتديّنين، في علاقة عموديّة في خطّ واحدٍ، لا في خطّين يسمح للعامّة (الذين لا ينتمون إلى فئة العلماء) بالاعتراض والنقد لما يوجّه إليهم، بما بمنحهم – بالتالي – مساحة اختيار في هذا المجال.

إنّ الآية هنا تشير إلى أنّ آيات الله وتعاليمه المتضمَّنة قد تصطدم بمصالح وامتيازات لبعض قوى المجتمع لدى عامّة الناس المتديّنين، وبالتالي سيكون رجال الدين أنفسهم في صراعٍ مع القوى السياسية أو الاقتصاديّة أو الأمنيّة عندما يوجّهون العامَّة إلى ضدّ مصلحة تلك القوى، ومن المعروف – في إدارة الصراع – وجود ما يسمّى بشراء الذمم، والذي يتمّ من خلالها الضغط على المفاتيح السياسية أو الدينية أو الاقتصادية المتحكّمة بسلوك الجماهير أو العامَّة من الناس، لتتحوّل هذه المفاتيح إلى آليَّة من آليّات السلطة للمجتمع نحو مصالحه، وهنا قد يصبح تحقيق الناس لمصالح السياسيين والحكّام والقوى الاقتصادية أشدّ وآكد؛ لأنّه سيكون – بتوجيه رجال الدين – إلى أمرٍ إلهيّ يحدّد مدى التزام الإنسان بدينه.

إنّ ظاهرة وعّاظ السلاطين التي تجعل من بعض رجال الدين موظّفين لدى السلطان ليُصدروا الفتاوى التي تروِّج لخدمة مصالحه على قاعدة الالتزام الديني، هي عنوان من عناوين هذه الآية الكريمة، من خلال ما يقبضه رجل الدين من راتبٍ عالٍ، أو بما يحصل عليه من امتيازات مادّية أو معنويّة، وقد وجدنا في تاريخنا وفي واقعنا المعاصر الكثير من هذه النماذج، بحيث جعل هؤلاء الرجال أنفسهم في خدمة مخطّطات جهنّمية دمّرت العالم الإسلامي، تحت عناوين تلعب على وتر العصبيّة المذهبيّة والطائفيّة وربما العرقية، بحيث رأينا أنّ الحكّام الذين وضعوا أيديهم في أيدي الصهاينة المحتلّين لفلسطين والمدنّسين لبيت المقدس، وأصحاب السلطة الموكلين بمحاربة المؤمنين وتشويه سمعة المقاومين والتضييق عليهم، والذين رهنوا مقدّرات بلاد المسلمين واقتصاديّاتها لمصالح الشركات الاحتكارية الاستكباريّة، والذين دخلوا في مشاريع تقسيم بلاد المسلمين... كلّ هؤلاء وجدوا لهم من يصدح صوته على منابر الجمعة، وفي الفضائيّات، وعلى المواقع الالكترونية، والصحف الورقيّة، والكتب المطبوعة...

خلط الحقّ بالباطل وكتمان الحقّ

قال تعالى: ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(5). الحقّ إذا كان جليّاً لا يخفى على الناس لزوم إتّباعه، ولو كان الباطل جليّاً لما تردّدوا في لزوم اجتنابه، أمّا إذا اختلط الحقّ بالباطل فيلزم للتمييز مستوى من الكفاءة العلميّة، والخبرة العمليّة، وهذا ما لا يتوفّر لعموم الناس؛ لأنّهم ليسوا أهل اختصاص في كلّ شؤون الدين. نعم، بعض شؤون الدين يلزم على كلّ إنسان أن يبحث فيها، وهي القضايا العقدية الأساسيّة، كالتوحيد والنبوّة والمعاد مثلاً، وكذلك ما يتوقّف عليه التزام مذهبٍ في معرفة الإسلام وإتّباعه، كما في مسألة الخلافة والإمامة، ونحو ذلك. أمّا في القضايا النظرية المعقّدة، والتي تحتاج إلى اجتهاد متخصّص فهذه لم يكلّف بها الإنسان أصلًا حتّى يكون البحث فيها واجباً.

على هذا الأساس، قد يعمد علماء الدين إلى الخداع والتمويه على الناس، بهدف دفع الناس إلى سلوك طريق الباطل بتصوّر أنّه الحقّ. ومن الأمثلة على ذلك الجدل الدائر بين المدرسة الوهابية ومدرسة الشيعة الإمامية بالخصوص حول بناء المقامات على الأضرحة وزيارتها وطلب شفاعة أصحابها من الله تعالى بإذنه؛ فإنّ كثيراً من الخطاب الديني يصوّر المسلمين الشيعة على أنّهم يعبدون القبور ويصلّون إليها، أو يعبدون أئمّتهم، ويخفون أنّ كثيراً من المسلمين يشاركونهم هذا السلوك، الذي أقصى ما يحقّ لهم تجاهه أن يعتبروه خطأً نتيجة الاختلاف في الاجتهاد في فهم آية أو رواية، ولا يحقّ بحالٍ أن يُرمى هؤلاء بالشرك، والذي يُبنى عليه جواز القتل أو نحو ذلك.. وقد يتمثّل ذلك في تصوير أتباع المذهب الآخر على أنّ مذهبهم قائم على الجهل والخرافة، لا ينطلقون من قواعد علمية في فقه أو فكر، ويخفون كلّ الجوانب العلمية التي لديهم في مصنّفاتهم وتاريخهم؛ لأنّها لا تصبّ في مصلحة شدّ العصب المذهبي في غمرة الفتن التي تحتاج إليها السياسة وأدواتها.

لنتخيّل لو أنّنا أبرزنا للناس حجم النتاج العلمي للمسلمين الشيعة أو السنّة، وحجم النقاشات الدائرة، وأنّ هناك الكثير من المشتركات في الأحاديث المرويّة عن النبيّ(ص) وعن أهل بيته(ع)، وأن مسائل الخلاف محصورة في عدد معيّن، وأنّ الأفكار التي أنتجها أتباع المذاهب – على تنوّعها – يصيبها التغيّر والتطوّر، تبعًا لتطوّر البنية الفكرية، ولتغيّر المعطيات التي تتوفّر لهذا أو ذاك... كلّ ذلك، ألن يسحب البساط من رجال الفتنة ممّن لبسوا لبوس الدين، وانتسبوا إلى علمه وقيادته؟!.

إنّ هذا التلبيس للحقّ والباطل، إنَّما هو عنوان موازٍ للتزيين والتزييف الذي هو ديدن إبليس في طريقته في إضلال الناس، وهو لا يأتي الناس بإبليسيّته صراحةً، وإلّا لما اتّبعه أحدٌ، بل يأتي بلباس الناسك والزاهد، والعالم والمجاهد، والفاضل والناصح، وما إلى ذلك من عناوين الخير والحقّ.

ولعلّنا نستطيع هنا أن نسجّل نقطة، وهي أنّ أتباع الديانات السابقة كان لديهم القدرة على إخفاء ما يريدون إخفاءه من التوراة؛ لأنّهم كانوا يحتكرونها، فضلًا عن كون لغتها التي كتبت بها قد تختلف عن اللغات الشائعة كالعربية وغيرها، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً﴾(6)؛ أمّا بالنسبة للقرآن فهو بمتناول الجميع، وبالتالي يمكن لذلك أن يكون محدّدًا لهذه القدرة على الإخفاء.

ولكنّ لنا أن نتأمّل في ذلك؛ لأنّ القرآن وإن كان في متناول يد جميع المسلمين، إلا أنّ ثمّة ما يمكن أن يجعل الخطاب الديني محصوراً في فئة معيّنة؛ لأنّ القرآن يحتاج إلى تفسير، ولا يملك حقّ التفسير أحدٌ من غير أهله، وهذا الأمر وإن كان صحيحاً، إلا أنّنا لا نستطيع أن نمنع الناس من التساؤل والإشكال وحتّى النقد انطلاقاً من حسّهم السليم، الذي قد يستفزّه بعض ما يسمعونه من تفسير آية، أو رواية وما إلى ذلك.

إنّ هناك فرقاً بين أن نقول إنّ تفسير القرآن ومعرفة أحكامه ومفاهيمه متيسّر لكلّ واحد، وبين أن نقول إنّ التفسير وعلوم القرآن تحتاج إلى كفاءة علمية تخصّصية، ولكنّ ذلك لا يلغي دور الإنسان الذي يقرأ القرآن ويفهم منه مستوىً معيّناً، أن لا يكون له دورٌ في عملية السؤال والمعرفة، فضلاً عن المثقّفين الذي الذين هم من أهل الاختصاص في مجالات أخرى جعلتهم أهلاً للمناقشة ولو في مستويات معيّنة.

لقد أصبح العالم اليوم كتاباً مفتوحاً، كلّ تراثه ونتاجه على مدى التاريخ منشور على الشبكة العنكبوتية، وأصبح كلُّ من في هذا العالم قادراً على مخاطبة كلّ الناس، والاعتراض على جميع فئاتهم، وما لم نعِ هذه المسألة فقد نجعل أنفسنا في موقع الفاقد للتأثير على الجيل الجديد الذي منحه العصر الإحساس بذاته في مقابل العالم كلّه، ولو ضمن وسائل معيّنة، وأهمّها وسائل التواصل الاجتماعي.

فجوة بين القول والفعل

يقول تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾(7).

من أهمّ ما يمارسه علماء الدين هو الوعظ والإرشاد للناس، من أجل بيان مفاهيم الدين وقيمه أوّلاً، ولتحفيزهم على تجسيدها في حياتهم العملية، فالمتوقَّع من الواعظ أن يسبق من يعظهم بتحقيق أهداف موعظته، فما لم يكن عاملاً بما يعظ لم ينعكس ذلك على تقبّل الناس له، بل قد ينعكس على تقبّل بعض الناس للدين نفسه؛ لأنّهم لا يَرَوْن الدين إلا من خلال قياداته؛ بل إنّ الأسرع إلى نفوس الناس هو ما يرونه من تجسيد المؤمنين لقيم دينهم الذي يؤمنون به؛ وكلّما وجد الناس الاستقامة والإخلاص في تمثّل القيم وتجسيدها في حياة من يقف في موقع القيادة، كان انجذابهم إلى الدين أفضل؛ لأنّهم يَرَوْن الصورة المشرقة له واضحة من دون لبس. فإذا كان الواعظ الديني يعظ الناس بأن "أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر"(8)، فإنّهم يتوقَّعون أن لا يجدوه مهادناً لذلك السلطان، أو داخلاً في بطانته، أو خادماً لمصالحه، ومن يحرّض الناس على الجهاد فإنّه لا بدّ أن يكون في الموقع المتقدّم فيه، ومن يعظهم بحضور المساجد لا بدّ أن يكون أوَّل المصلّين فيها، ومن يأمرهم بالصوم لا بدّ أن يكون أسرعهم إليه؛ وهكذا..

إنّ هذا البيان الإلهي هو شعارٌ لا بدّ لنا أن نرفعه عندما نضع أنفسنا في موقع القيادة الدينية، ليكون بمثابة الضوء الأحمر في أيّ لحظة نجد أنفسنا نخالف ما ندعو إليه الناس، حتى لا نكون شَيْنًا على الدين في الوقت الذي نمثّله!.

أكل أموال الناس بالباطل

يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾(9).

الأحبار جمع حبر، وهو العالم، مشتقّ من التحبير، وهو التحسين، حيث إن العالم يحسّن الحسن ويقبّح القبيح. وعلى هذا فالأحبار والرهبان هم الذين يملكون الصفة الرسمية التمثيليّة للدين، انطلاقاً ممّا يحملونه من علم، أو يظهرون فيه من مظهر يوحي بالابتعاد عن زخارف الدنيا ومتعها، الأمر الذي يجعل الناس تنظر إليهم بثقة واطمئنان؛ لأنّ ضعف الثقة إنما ينشأ عادةً من خلال تدخّل النوازع الذاتية، والمصالح الشخصيّة الدنيويّة في ما يقوله أو يفعله أو يسلكه. هذه الذهنية التي تجعلهم بنظر الناس الطيّبين وكلاء لله على الأرض، يملكون مفاتيح الجنّة والنار، وبأيديهم الحكم بدخول الناس في رحمة الله وخروجهم منها، كلّ ذلك ينعكس نوعاً من أنواع السلطة التي يملكون من خلالها الاستيلاء فيها على أموال الناس بطريقة غير مشروعة، كبيع صكوك الغفران، أو بيع أراضٍ في الجنّة، أو من خلال توجيه أصوات الناس لانتخاب الظالمين في مقابل الحصول من هؤلاء على مالٍ أو كرسيّ أو موقعٍ.

وإذا كانت مسألة بيع صكوك الغفران والجنّة ونحو ذلك أموراً معلومة البطلان في عصرنا، فإنّ لدينا ما يُشبه ذلك، حيث قد يأخذ بعض رجال الدين اليوم المال مقابل ما لم يثبت بسند شرعيّ، أو بِحُجَّة عقليّة، وهي أمور تدخل في عالم تحضير الأرواح أو الجنّ، أو فكّ بعض الطلاسم أو الأحراز، أو ممّا يدخل في خصائص بعض الأحجار الكريمة... فإنّ جعل هذه الأمور من الدين يتوقّف على إثباتها بأسانيد شرعية، ودلالات غير معارضة بمثلها، أو بكتاب الله، أو غير ذلك من قواعد الإثبات والحجّيّة، وما لم يحصل ذلك فإنّها قد تكون من مصاديق أكل المال بالباطل استناداً إلى إيمان المتديّنين من الناس الطيّبين الذين لم يُؤْتَوا حظّاً من علمٍ يناقشون من خلاله القضايا؛ فإنّ سبيل الله لا يكون بالباطل وبالأساليب الملتوية وما لا حجّة عليه ولا بُرهان.

الكفّ عن مواجهة الانحراف

يقول الله تعالى: ﴿لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(10)

الربانيّون جمع ربّاني، نسبة إلى الرَّب، أي هو الذي يرضي الربّ بأقواله وأفعاله، وهم العلماء البصراء بسياسة الأمور وتدبير الناس. إنّ الحالة الربّانية التي تجعل الإنسان قريبًا من الله لا يمكن لها أن تجعله في الموقع الذي يرضى فيه بما يُسخط الله تعالى، ولذلك لا بدّ أن تعبّر الحالة الربّانية عن نفسها كممارسة عملية تغييرية للواقع نحو الخطوط التي تلتقي بالله عزّ وجل؛ فهذا هو دور العلم الذي يعطي الإنسان خطّ النظرية والخبرة في تحديد تجليّاتها على أرض الواقع؛ فلا يعود المنكر مجرد فكرةٍ تجريديّة، وإنّما يتجسّد في الممارسات العملية التي يقوم بها الأفراد والجماعات، سواء في الشأن العبادي أو في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الأمني وما إلى ذلك.

وعلى هذا بالتقاعس والتثاقل الذي يحصل لدى رجال الدين أمام حالات المنكر في المجتمع، أو في الأمّة، نتيجة خوفٍ من سلطة، أو طمعاً في مالٍ أو شهوة، أو حبّاً بالراحة في مقابل بذل الجهد في الدراسة والتأمّل والبحث، هو الذي يفسح في المجال أمام الضلال لينتشر، والباطل أن يمتدّ في الحياة العام والخاصّة، ولذلك ورد في الحديث عن النبيّ مُحَمَّد(ص): "إذا ظهرت البدع في أُمَّتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله"(11)، وفي نهج البلاغة عن الإمام علي(ع): "فإنّ الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي، والحلماء لترك المناهي"(12).

ومن المفيد جدّاً هنا التأكيد على أنّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست مسألة دفعية، أي أنّ آثارها تحصل دفعة واحدة بمجرّد الأمر والنهي، بل هي مسألة معقّدة؛ لأنها تتطلب دراسة دقيقة للواقع وظروفه، وللمجتمع وأوضاعه، وللأفراد وذهنيّاتهم، والعمل على ذلك كلّه بشكل تراكمي بنائي على مدى الزمن كلّه، ومع تَقَلُّب الظروف والأوضاع، بحيث يواجه الناس تحدّيات الواقع ويجدون أمر الله ونهيه ماثلًا إلى جانب ذلك، وهو ما قد يلتقي بِنَا بمفهوم "الإقامة" في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾(13)، وفي قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾(14).

إنّ المشكلة التي قد نعانيها في مجتمعاتنا هي أنّ رجال الدين قد يعيشون في مسافة عن أوضاع المجتمع لفترات طويلة، مستسلمين إلى المظهر العام الذي تفرضه بعض الظروف الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية، في لجوء الناس اللحظوي إلى الدين، وفزعهم إلى المساجد في بعض المواسم، في الوقت الذي لا يُلتفت فيه إلى ما يجري تحت هذا السطح والمظهر، وكيف يتمثّل الناس دينهم في تفاصيل حياتهم اليومية، وعلاقاتهم الإنسانية، حتى إذا زالت الظروف الضاغطة وجدنا أنفسنا أمام فسادٍ مستشرٍ، وفقدان للقيم، وضعف في التربية الإيمانية والأخلاقية... إنّ الأمر لم يحصل فجأة، بل كان يتطلّب ذلك المنهج الذي لعلّه إشارة من الله تعالى لمن هو في موقع القيادة الدينية للمجتمع: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾(15)؛ لأنّ الحركة مع الناس هي التي تجعل في موقع الملاحظة لما يجري تحت السطح الذي لا يرصده الإنسان وهو واقفٌ على منبره يخاطب المصلّين أو من وراءهم عبر الشاشات المتلفزة.

إنّ المسألة هنا ثقيلة، لأنّها تجعل رجل الدين في موقع الشهادة على الأمّة، والشهادة تعكس موقع المسؤولية في الحياة، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾(16).

تألّه رجل الدين

يشير القرآن الكريم إلى ظاهرة حصلت في الأمم السابقة، وهي ظاهرة تأليه أو تربيب الناس للأحبار والرهبان، فيقول تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(17)، لا من خلال سجودهم لهم أو ركوعهم بين أيديهم، أو بتقديم ألوان العبادة لهم، وإنما من خلال طاعتهم طاعة عمياء في كلّ شَيْءٍ، بعيداً عن مدى تمثيلهم لأوامر الله ونهيه، وهذا كلّه يرتكز إلى حالة نفسية وتربوية واجتماعية تدفع الناس إلى الاستغراق برجال الدين بعيدًا عمّا يمثِّلون؛ إذ إن حقيقة الموقع القيادي الديني إنما هو الواسطة في معرفة حلال الله وحرامه، وقيم الدين وأخلاقه، وفكره ومفاهيمه، ومناهج التربية والبناء والروحي، ليكون ذلك قاعدة لعبادة الله الواحد الأحد، كما أشار إلى ذلك الله تعالى في آية أخرى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(18).

هذا الأمر يوحي لنا بأنّ عامّة الناس لا بد أن تبقى متيقّظة تجاه رجال الدين، وتقوم بتقويمهم في حالة مستمرّة؛ لأنّ الإنسان، في أي موقع كان، هو بشر معرَّض للزيغ والانحراف، والضعف والسقوط أمام الضغوط والإغراءات، فإذا استسلم الإنسان لكل ذلك، فقد يطيع غير الله من موقع إرادته طاعة الله، وهذا ليس بعيداً عن كثير ممّا اختبرناه في تاريخنا القريب والبعيد.

هذه بعض التأمّلات الفكرية في بعض ما أشار إليه القرآن الكريم مما وقعت فيه الأمم السابقة، وقد نقع فيه؛ لأنّ الإنسان هو الإنسان، والتاريخ هو التاريخ، والسنن هي السنن؛ والله من وراء القصد.

هوامش

1- سورة النحل: ٤٣.

2- سورة الرعد: ٤٣.

3- سورة يوسف: ١١١.

4- سورة البقرة: ٤١.

5- سورة البقرة: ٤٢.

6- سورة الأَنْعَام: ٩١.

7- سورة البقرة: ٤٤.

8- ميزان الحكمة، ج٣، ص١٩٤٣.

9- سورة التوبة: ٣٦.

10- سورة المائدة: ٦٣.

11- ميزان الحكمة، ج١، ص٢٣٨.

12- نهج البلاغة، الخطبة رقم١٩٢.

13- سورة المائدة: ٦٦.

14- سورة الشورى: ١٣.

15- سورة الفرقان: ٧.

16- سورة المائدة: ٤٤.

17- سورة التوبة: ٣١.

18- سورة آلِ عمران: ٧٩.

 

اعلى الصفحة