فلسطينيو "48".. غرباء في وطنهم!!

السنة الخامسة عشر ـ العدد 174  ـ (شعبان ـ رمضان  1437 هـ ) ـ (حزيران 2016 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في14 مايو 1948 أعلن بن جوريون قيام إسرائيل التي لم تولد في هذه اللحظة، بل استمر العمل لهذه اللحظة سنوات طويلة، فقد كانت المحاولات الأولى مع قدوم نابليون إلى مصر وتبنت فرنسا أولا تلك المزاعم اليهودية في اغتصاب أرض فلسطين وتكونت بعدها منظمات صهيونية تتبنى هذا الحلم المجنون ورعت بريطانيا هذا الطرح.

فأصدر وزير خارجيتها آرثر بلفور وعده المشئوم في 2 نوفمبر 1917 لتدخل بعدها القوات البريطانية أرض فلسطين وتعلن الانتداب عليها وتسمح للعمل الصهيوني بالتوسع في الهجرة إلى فلسطين ومصادرة أراضي العرب، إلى أن ثار العرب في وجه السياسة البريطانية المنحازة للصهاينة لتعلن بريطانيا بعد ذلك انسحابها بعد أن سلمت سلاحها وعتادها للعصابات الصهيونية في حرب 1948 ليتم تأسيس الكيان الصهيوني، لكن الشعب الفلسطيني  رفض الاستسلام وظل يقاوم وتمسك بحقه في البقاء والعودة إلى أرض الآباء والأجداد، إنه ابن هذه الأرض, ويأبى ذلك الشعب أن تضيع قضيته وحقه في وطنه الذي لن يطويه النسيان أو تغرب شمسه على الرغم من كل محاولات إرغامه على الخروج والإبعاد عن أرضه وبساتينه فمازالت مفاتيح البيوت وذكريات القرى والبلدات في جيبه وذاكرته لن يمل الإلحاح في العودة إليها وسوف يعود ليقيم على أرض كلها دولته فهذا درس التاريخ أن الحق لن يموت طالما لم يمت صاحبه ولن يموت.

تمييز عنصري

نظر الفلسطينيون في أراضي 48 إلى أنفسهم على الدوام بوصفهم جزءاً لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني على الرغم من شتى السياسات والوسائل التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لإضعاف وتفتيت هذا الانتماء العربي الفلسطيني عن طريق تطبيق إستراتيجية سيطرة إسرائيلية على "الأقلية" العربية تحول دون تمكينها من القيام بدورها كجماعة قومية متكاملة تنتمي إلى الشعب العربي الفلسطيني، ويعتبر الفلسطينيون في الداخل من أكثر التجمعات الفلسطينية المعرضة للقمع المجتمعي داخل ما يسمى بإسرائيل، وهم يعانون الأمرين لتحصيل حقوقهم والبقاء على فلسطينيتهم التي انتزعت عنهم عنوة بعد نكبة العام 1948، ولذا يخوض الفلسطينيون نضالاً في كافة جوانب الحياة داخل المجتمع الإسرائيلي.

استندت العلاقة بين النظام الإثني العرقي في الكيان الصهيوني وما أطلق عليه "الأقلية" العربية إلى قاعدة قانونية أساسها التمييز العرقي تسيطر بموجبها مجموعة عرقية يهودية على أخرى عربية، مع منح المجموعة المسيطر عليها حقوقاً وامتيازات لا تمس جوهر نظام السيطرة القائم لصالح اليهود الذين يحتفظون بالتفوق في كل القضايا الجوهرية التي تتعلق بالمصلحة العامة للدولة، كما يحتفظون أيضاً بالوظائف الرئيسية التي تقرر طبيعة هذا "الصالح العام".

ولم يتمتع الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948 بالمواطنة إلا في عهد ليفي شكول عام 1966، وذلك بانتهاء الحكم العسكري الذي فرض عليهم مع نشوء الكيان الصهيوني رغم قرار حكومة بنغوريون بمنح المواطنة للعرب.

لقد ساهمت إسرائيل لاحقاً وبفعل مجموعة تفاعلات ارتبطت بقيامها بإقصاء العرب الفلسطينيين ووضعهم داخل "جيتو سياسي حضاري". ففي سنوات الثمانينات فكر بعض قادة إسرائيل بدمج المواطنين العرب في قيادة ومؤسسات الدولة لكن ذلك ظل في نطاق الكلام الدبلوماسي ولم ينفذ. لاسيما أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يلعب دورا حاسما في بلورة هويتنا الفلسطينية.

وقد كان لتوصيات الحكومة الصهيونية في العام 2002م  الإشارة الأكيدة على النية المبيتة ليس لدمج العرب وإنما لشطبهم وتهجيرهم فكرياً ومن ثم الترانسفير هذه القرارات أكدت لعرب إسرائيل بأنهم قد دفعوا إلى الهامش فعلاً، هذا الهامش الذي لا يترك أمامهم خيارات كثيرة، فمثلاً قرار مجلس الرقابة علي الأفلام بمنع بث فيلم محمد بكري "جنين جنين"، وتوصية الياكيم روبنشتاين للجنة الانتخابات المركزية بشطب قائمة التجمع الوطني الديمقراطي، وقرار وزير الداخلية بإغلاق صحيفة صوت الحق والحرية التابعة للحركة الإسلامية الجناح الشمالي.

واستكمالاً لسياسة التمييز والعنصرية، يدل "مؤشر العلاقات بين اليهود والعرب" في إسرائيل، الذي نشره أستاذ علم الاجتماع في جامعة حيفا البروفيسور سامي سموحة، أن المواطنين العرب (فلسطينيي العام 1948) على الرغم مما يصفه بـ"اعتدال" في مواقفهم التقليدية، ازدادوا اغتراباً حيال تعامل مؤسسات الدولة العبرية معهم وإزاء موقف المجتمع الإسرائيلي عموماً الذي شهد نزوحاً كبيراً نحو اليمين ويرى في عرب الداخل "عدواً من الداخل" لا يجدر التعاطي معهم بل ينبغي تقييد حرياتهم بداعي "تطرفهم" الذي انعكس في هبتهم الجماهيرية التضامنية مع الانتفاضة في مطلع تشرين الأول (أكتوبر) 2000.     

وقد نشرت نتائج بحث مقارن في ملحق خاص بالمواطنين العرب يصدر للمرة الأولى عن وسيلة إعلام عبرية (صحيفة "هآرتس") تضمن تقارير ونتائج استطلاعات للرأي كثيرة تناولت مناحي الحياة المختلفة في الوسط العربي منها:

ـ متوسط الأجور للعامل اليهودي هو 42 شيكل للساعة (نحو 10 دولارات) مقابل 30 للعامل العربي (7 دولارات).

- فقط 17% من النساء العربيات يخرجن إلى العمل مقابل 50% من النساء اليهوديات.

- نسبة أصحاب المهن الحرة من اليهود ضعفا النسبة لدى العرب.

- الصناعات المتطورة ترفض قبول العرب، وأمام خريجي الجامعات أحد خيارين: العمل في حقل التعليم أو مغادرة البلاد.

26% من القتلى في حوادث الطرق (في العام 2003) كانوا من العرب و54% من الأطفال الذين قتلوا في حوادث كهذه عرب و30% من السائقين الذين تعرضوا لحوادث طرق عرب ـ كل ذلك بسبب البنى التحتية السيئة للطرق والشوارع في البلدات العربية.

- المحاكم الإسرائيلية تصدر أحكاماً قاسية ضد متهمين عرب مقارنة بيهود يحاكمون بتهم مماثلة.

- فقط 30% من البيوت العربية مرتبطة بشبكة الانترنت.

الفصل بين العرب واليهود

أظهر استطلاع للرأي العام في إسرائيل، نشرته الإذاعة العامة الإسرائيلية يوم 8 نيسان الماضي، أن 41% من اليهود في إسرائيل يؤيدون الفصل بين العرب واليهود في المستشفيات. وأيد فصلاً كهذا 3% فقط من العرب، ما يدل مرة أخرى على تغلغل الأفكار العنصرية بشكل واسع بين اليهود.

وترتفع نسبة المؤيدين للفصل بين العرب واليهود بشكل كبير في صفوف المتدينين اليهود وتصل إلى 72%، بينما عارض هذا الفصل 72% من العلمانيين و62% من المتدينين المحافظين، وفقاً للاستطلاع.

وكان سموتريتش قد كتب في حسابه على موقع "تويتر" أن "زوجتي ليست عنصرية أبداً، لكن بعد الولادة تريد أن ترتاح ولا تريد الحفلات الحاشدة المعتادة لدى عائلات الوالدات العربيات". وأضاف أنه "طبيعي ألا ترغب زوجتي بالاستلقاء قرب واحدة أنجبت للتو طفلاً ربما سيرغب بقتل طفلها بعد عشرين عاماً... العرب هم أعدائي ولذلك لا يسرني أن أكون برفقتهم". وغالباً ما ينشر سموتريتش ويتفوه بعبارات عنصرية ومؤيدة للإرهاب اليهودي، واعتبر مؤخراً أن جريمة حرق عائلة دوابشة من قرية دوما "ليست إرهاباً". 

أظهرت تقارير نُشرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية أن أقوال سموتريتش لم تأت من فراغ، وأن الفصل بين اليهود والعرب في كثير من المستشفيات الإسرائيلية حاصل فعلاً ومنذ سنوات طويلة، كما تبين أنه على الرغم من أن وزارة الصحة أعلنت معارضتها للفصل منذ سنوات، إلا أنها لم تفعل شيئا لأن الفصل ما زال قائماً حتى اليوم.

ويغض الأطباء وإدارات المستشفيات الطرف عن هذا الفصل، برغم أن المستشفيات تكسب آلاف الشواكل مقابل كل امرأة والدة، إلا أن المستشفيات تنظر إلى هذا الفصل بين العربيات واليهوديات بأنه جزء من شروط الراحة للوالدات اليهوديات. وذكرت الإذاعة العامة الإسرائيلية أن هذا الفصل بين الوالدات العربيات واليهوديات حاصل في مستشفيات مثل "هداسا" بفرعيها في عين كارم والعيسوية في القدس، وفي مستشفى "إيخيلوف" في تل أبيب ومستشفى "مِئير" في كفار سابا، سواء بطلب من الوالدات أو بشكل أوتوماتيكي. ونفت جميع المستشفيات وجود سياسة فصل كهذه لديها، لكنها اعترفت بأنه في حال طلبت والدات ذلك فإن المستشفى يستجيب لهن.

يشار إلى أن هذا الفصل ممنوع وفقا للقانون لأنه يعكس عنصرية صرفة وتمييزا بين المرضى من جانب المستشفى، لكن صحيفة "هآرتس" أكدت أن "من يعرف المؤسسة الصحية من الداخل يعرف أن هذه الظاهرة موجودة في مستشفيات عديدة منذ فترة طويلة، وتبدأ أحيانا منذ حضور الوالدات إلى المستشفيات". 

ويخدم مستشفى "هداسا" في العيسوية السكان الفلسطينيين في شمال القدس الشرقية والسكان اليهود الحريديم في المنطقة.

ونقلت الصحيفة عن ممرضة قابلة عملت في قسم الولادة في هذا المستشفى قولها إنه: "يدخل (العامل الديموغرافي)، إذا تحدثنا بلغة نظيفة، في غرف الولادة هذه. وعندما بدأوا بتعليمي الأنظمة، في بداية عملي، أوضحوا لي أنه بعد أن تنجب امرأة عليّ أن أتصل بقسم الولادة وهناك يسألون (ناطقة بالعربية أم ليست ناطقة؟) وبناء على ذلك يوزعونهن على الغرف". وأضافت القابلة نفسها أنه "يوجد نوعان من الغرف في قسم الولادة: غرف لست والدات مع غرفة مراحيض واحدة، وغرف مريحة لوالدتين أو ثلاث. وواضح أن الوالدات العربيات يتم تجميعهن في الغرف الأقل راحة، من دون علاقة بوقت الولادة". وأشارت القابلة إلى أن التمييز ضد الوالدات العربيات في المستشفى متأصل.

وقالت "توجد في قسم الولادة في هداسا هار هتسوفيم (العيسوية) أربع غرف ضيقة ومكتظة وثلاث غرف أخرى رحبة وإحداها، الغرفة رقم 6، تعتبر الأفخم وهي مطلة على البلدة القديمة. وفي بداية تأهيلي للعمل جرى التوضيح أنه لا يتم إدخال عربيات إلى الغرفة رقم 6". وأضافت أنه "في أحد أيامي الأولى في العمل وصلت امرأة عربية على وشك الولادة وأدخلتها إلى الغرفة الشاغرة، رقم 6، وعلى الفور جاءت عدة قابلات وقلن لي إن هذه غرفة ليست للعربيات وإنما لليهوديات فقط". وقالت القابلة نفسها إنه "سمعت أكثر من مرة واحدة قابلات يقلن بعد أن ولدت امرأة فلسطينية: (وُلد مخرب آخر)".

وسياسة الفصل هذه متبعة ضد المواطنات العربيات في إسرائيل أيضاً. وتطرقت منظمة "أطباء لحقوق الإنسان" إلى هذا التمييز في العام 2013 بعد نشر تعليقات في شبكات التواصل الاجتماعي تطلب فيها نساء يهوديات "توصيات" حول مستشفيات تمارس الفصل بين اليهوديات وغير اليهوديات. ونُشرت في العقد الماضي تقارير حول هذه الظاهرة، لكن من أجل الاطلاع على حجم هذه الظاهرة، اتصلت مندوبات من "أطباء لحقوق الإنسان" هاتفيا بمستشفيات وعرضن أنفسهن كنساء يقتربن من موعد الإنجاب واستوضحن إمكانيات الفصل. وجرت هذه الاتصالات مع مستشفيات "سوروكا" في بئر السبع و"مئير" في كفر سابا و"كرمل" في حيفا و"هيلل يافيه" في الخضيرة. ووفقا للمنظمة فإن الإجابات كانت متطابقة في جميع هذه المستشفيات، ومؤداها أنه يتم بذل جهد في الأقسام للفصل بين الوالدات من خلفيات مختلفة، كما أن الانطباع هو أن طلبات الفصل هذه ليست استثنائية وتعتبر شرعية.

الأمن الإنسانيّ المفقود

تناولت تقارير التنميّة الإنسانيّة للأمم المتّحدة في العقد المنصرم مصطلح "الأمن" من منظور جديد ومغاير للتّعريفات التي تعتمدها الدّول في تعريفها للمصطلح، حيث دأبت الأخيرة على اختزاله وقصره على المخاطر والتّهديدات التي تحيط بكيانها بما تشكله من سلطة وسيادة ومؤسسات، بالأساس تهديدات خارجية من دول معادية في الغالب وتهديدات داخلية تهدد أمن الكيان والنظام، متجاهلة بالقصد والتّرصد أمن المواطن الفرد واستقراره وأمن المجموعات العرقيّة المعرّضة للمخاطر والتّهديدات، جراء سياسات الإقصاء والتّمييز المنتهجة من الدولة نفسها. وفقاً للتّعريف الجديد فإن مصطلح "الأمن الإنسانيّ" ينحو للتّركيز على عقبات تنمية الإنسان وعلى المخاطر التي تهدّد أمنه وكيانه وتحدّ من إمكانيات تطوّره، من خلال توظيف جديد لنظريات الأمن التي تستعملها الدولة وتطبيقاتها القهريّة على الأفراد والمجموعات العرقية.

وبحسب مفهوم الأمن الإنسانيّ، فإنّ التهديدات للمواطنين قد تكون قادمة من دولة المواطن نفسه التي يعيش فيها، وخصوصاً في حالة وجود نزاعات إثنيّة عرقيّة داخليّة. وفي حالة الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل، ومنذ نكبة الشّعبّ الفلسطينيّ وفقدانه لقراه ومدنه وأملاكه وإرثه وقيام دولة إسرائيل على أنقاض وطنه، فقد دأبت الدّولة بمؤسّساتها المختلفة على اعتماد سياسات إقصاء مبرمجة ومتعاقبة ضد الأقليّة الفلسطينيّة الباقية في الوطن من أبناء الشعب الفلسطينيّ والتي شكّلت في مختلف مراحل حياتها منذ قيام الدّولة نسبة متفاوتة من 16- 20% من مجمل المواطنين في الدّولة.

وعلى قاعدة اعتبارها إياهم خطراً أمنياً إستراتيجياً على الدّولة (بمفهوم الدّولة نفسها) بحسب تصريحات ساستها ورؤساء أجهزتها الأمنيّة، فقد انتُهجت ضدّ الأقليّة الفلسطينيّة مواطني دولة إسرائيل سياسات تفريغ وتشتيت وإضعاف لكل مقوّمات البناء التّنموي المستديم، أدت بمجملها إلى تشكيلهم كهوامش اجتماعيّة، سياسيّة واقتصادية غير منتجة وغير مؤثّرة وذات تبعيّة تامّة للبنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة السّياسيّة والتّربويّة والثّقافيّة في الدّولة، وذلك بعد تفكيك البنى الثّقافية والاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة التي كانوا يعملون من خلالها قبل قيام الدّولة. وما يميّز هذه الهوامش أنها تسير في فلك السّياسات المنتهجة ضدها ولا تمتلك المبادرة أو المقدرة على إعادة إنتاج وتكوين ذاتها من جديد، أو على بناء مراكز اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة مستقلّة تعمل من خارج حدود السّياسات المرسومة التي تكرّس دونيّة العربيّ وتحرمه من مكوّنات ومستلزمات التّطوّر المستديم.

ضمن هذه الرؤية، فإن انصباب الجهد السياسيّ العربيّ لتغيير وضع الأقليّة العربيّة من خلال محاولة التّأثير على المركز وعلى السّياسات أهمل إمكانيّات البناء الدّاخليّ للأقليّة الفلسطينيّة في كافة الميادين. ولعلّ الجانب التّربويّ التّعليميّ هو خير مثال على ذلك، حيث انكبّ الجهد الأكبر في عمليّة إصلاح جهاز التّربية والتّعليم العربيّ من خلال محاولة انتزاع حقّ إدارة شؤوننا التّعليمية من الدولة، في المقابل أهمل العرب كمجتمع العمل مع المعلّمين ومديري المدارس كوكلاء تغيير، من أجل تخفيف آثار السّياسات الحكوميّة، وبالتالي فإنّ فشل المسار الأوّل واستحالة حدوثه ضمن الفرضيّات التي تعتمدها السّياسات من جهة، وإهمال العمل في مسار العمل الداخليّ من جهة أخرى، كل هذا أدى إلى فشل ذريع لجهاز التربية والتعليم العربي قيمياً وتحصيلياً، وإلى تصاعد حالة النّفور والتّباعد بين ما يمثّله جهاز التّربية والتّعليم العربيّ من واقع تعيس وبين ما يطمح إليه المجتمع العربيّ. الأمثلة كثيرة أيضاً في جوانب أخرى، مثل قضايا القرى غير المعترف بها وقضايا هدم البيوت في النّقب واللّد والمثّلث والجليل فماذا قُدم للمجتمع لتمكين قدرات النّاس على الصّمود في أرضهم على الرغم من حالات الهدم المستمرّة؟ هل تمّ بناء آليّات صمود وتمكين للنّاس خلافاً للدّعم المعنويّ. كذلك الأمر في موضوع الفقر والبطالة، فحين يرزح نصف المجتمع تحت خطّ الفقر ويعيش أبناؤه في حالة مستمرّة من الاحتياج وعدم القدرة على شراء احتياجات أساسيّة.

لا شكّ أنّ الجهود المختلفة التي بُذلت في مواجهة سياسات الكيان ومؤسّساته في سبيل إنصاف المواطنين العرب وتحقيق المساواة، كانت مهمّة وقد أثْرت حياة المجتمع العربيّ بكثير من آليات العمل السّياسيّ والقضائيّ، ولكنّها في المقابل لم تؤسّس لعمليات بناء مجتمعيّة تنمويّة مستديمة وشاملة على مستوى القاعدة تقوّي إمكانيّات التّحدي والصّمود لدى المجتمع.

وفي ظلّ الأوضاع الإنسانيّة والحياتيّة الصّعبة التي يعيشها المواطن العربيّ في العقد الأخير، واستحالة إمكانيّات عدالة المنظومة الدّيمقراطية الإسرائيليّة في إنصاف المواطنين العرب، فإنّ الطّموح للمساواة ضمن المنظومة الإسرائيليّة أصبح حلماً صعب المنال، خصوصاً بعد مشاريع تعريف يهوديّة الدّولة وقوانين الموالاة والمواطنة وملاحقة الجمعيّات الأهليّة وإقصاء المواطنين العرب ومحاصرتهم اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، حيث برز تراجع خطير في مكانتهم وفي طرق التّعامل معهم، مما كشف النّقاب عن احتياجات عميقة وأساسيّة للمواطنين العرب تتلّخص أساسًا بالحاجة إلى الأمن وإلى الاستقرار السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ. إن مفهوم النّضال للمساواة سيبقى فارغ المضمون يراوغ بين جسر الفجوات وكشف الغبن ولجان عمل وتقارير، ولكن بدون معنى تنمويّ تطويريّ ما لم يتطرّق للاحتياجات الإنسانيّة الأساسيّة التي تخصّ المواطنين العرب في حالتهم السّياسيّة والاجتماعيّة كمجموعة مهدّدة أمنيّاً في كافّة الميادين.

إن أكثر الظّواهر تجلّياً للحالة الاجتماعيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة التي يعيشها المجتمع العربيّ هو تلك الحالة من اللامبالاة والعبثية وقلة الاهتمام للشأن العام وعزوف النّاس وخاصة المثّقفين والأكاديميّين عن أخذ دور حقيقيّ تصحيحيّ جراء تدهور المجتمع العربيّ في كافّة الميادين. فعلى الرغم من خطورة الأوضاع الاجتماعيّة السّلبيّة المتفشيّة، غير أنّها ظاهرة معروفة تحدث في كثير من المجتمعات وفي أطوار محّددة من حياة الشّعوب، وهي بهذا المعنى قابلة للتّصحيح والتّقويم، ذلك لأنّ هلاك الشّعوب وانطفاء جذوتها لا تحدّده ثُلّة من المجرمين أو المارقين، وإنما قد يتحقّق فعلا جراء التّغاضي المعيب والصّمت المطبق بكل ما يحيط بنا واللامبالاة من قبل السواد الأعظم من الجمهور بمثّقفيه وعامليه. وعندما يغيب الصّوت المسائل والمدافع عن الصّالح العام فهذا يؤسس لبيئة تسود فيها شريعة الغاب وشريعة القويّ وتتضاءل فيها إمكانيات العطاء وإمكانيات التّغيير بل إن هذه البيئة تُعتبر من موانع تأسيس مسيرة التّنميّة المستديمة بكونها تعتمد أولاً على إيجاد بيئة سليمة تمكّن النّاس من استثمار كامل طاقاتهم وقدراتهم بحيث يعيشون حياة منتجة وخلاّقة تتلاءم مع حاجاتهم ومصالحهم.

أحد أهم النّتائج السلبيّة لإهمال البناء الدّاخليّ للمجتمع العربيّ ولحالة اللامبالاة السّائدة كما ذُكر أعلاه، هو فقدان عنصر المساءلة الداخليّ أو الرقابة الداخليّة على عمل المؤسّسات العربية. فكثير من حالات الفساد في السّلطات المحليّة تعتبر شأن وزارة الدّاخلية وليس شأن المجتمع العربي، فانهيار السّلطات المحليّة العربيّة الواحدة تلو الأخرى يمر من خلال استنكار سياسة الوزارة.

تؤكّد الحقائق التي يعيشها المواطنون العرب ضرورة التّعاطي مع عنصر الأمن الإنسانيّ، كضرورة أوليّة أساسيّة لبناء أسس التنميّة في المجتمع، فمعظم فئات هذا المجتمع تعيش تحت ضغوط سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة تحول دون إقدامهم، خوفاً أو حذراً، على تطوير قدراتهم وإمكانيّاتهم. محدوديّة الفرص وانعدام الأمن الشخصيّ والجماعيّ وهشاشة البنى الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة، وافتقارها إلى أبعاد تنمويّة ذاتيّة واعتمادها على مصادر خارجيّة أدت إلى ضعف عام وإلى تعثّر عملية التّنمية المجتمعيّة، ومن هنا تكمن أهميّة الطّرح الدّاعي إلى أهمية إحداث تغيير على المستوى الدّاخليّ أوّلاً من خلال الإيمان بقدرات الناس على إحداث التّغيير.

ذاكرة تأبى النسيان

تحت عنوان "يوم استقلالهم يوم نكبتنا"، شارك الآلاف من فلسطينيي الـ48 في إحياء ذكرى النكبة، التي بنت للمحتلين مستوطنات فوق ركام القرى الفلسطينية المهجرة، وذلك في مسيرة في قرية سبالة المهجرة في النقب، رفعوا خلالها الأعلام الفلسطينية ولافتات تطالب بحق العودة. ووقف المشاركون في المسيرة، عند بدء المهرجان دقيقة صمت حدادا على أرواح شهداء فلسطين، وأنشدوا بعدها النشيد الوطني الفلسطيني وأقسموا قسم حق العودة. وأحيا الفلسطينيون الذكرى في قرية طيرة الكرمل جنوب حيفا التي بنيت على أنقاضها مستوطنة "طيرات هكرمل" الإسرائيلية.

ونظمت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل مسيرة العودة الـ19 في النقب، تحت شعار "يوم استقلالكم ذكرى نكبتنا". وتحيي العدو الإسرائيلي الذكرى الـ68 لقيام كيانه، وفي اليوم عينه، أحيا فلسطينيو الـ48 يوم النكبة بمسيرات وزيارات لقراهم المهدمة والمهجرة. وأحيا الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة والشتات ذكرى النكبة في 15 أيار، التي شهدت تهجير حوالي مئات آلاف الفلسطينيين.

وهي المرة الأولى التي أُقيمت فيها المسيرة على أراضي النقب الفلسطيني في قرية وادي سبالة المهجرة التي أقيم على أراضيها "كيبوتس شوفال". وقال الدكتور علي الهزيل، من قرية سبالة، إن "سكان النقب وبئر السبع هاجروا نتيجة الخوف والترهيب وارتكاب المجازر، مثل مجزرة بايكة القواسمي وعسلوج وجبارات وغيرها. ولقد وثقها باحثون يهود وعرب". وأضاف: "كان يسكن 150 ألف بدوي فلسطيني في النقب ومدينة بئر السبع هاجروا إلى الأردن وقطاع غزة والضفة الغربية، ولم يبقَ منهم بعد حرب عام 1948 سوى 9400 فلسطيني جمعتهم إسرائيل في منطقة أطلقت عليها اسم السياج".

وقالت النائبة عن "التجمع الوطني الديموقراطي" و"القائمة المشتركة" حنين زعبي، لموقع "عرب 48"، إن "المشاركة المهيبة في المسيرة تأكيد على أن المشروع الصهيوني لا يستطيع أن يعيد كتابة تاريخنا. المسيرة محطة وحاضر وذاكرة، نقول فيها إن هذا الوطن هو وطننا وحقنا نابع من أننا أصحاب الأرض الأصليين".

وشدد عضو لجنة الدفاع عن حقوق المهجرين المحامي واكيم واكيم على أن "حق العودة يشكل أحد أهم الثوابت الوطنية الفلسطينية، وهو حق مقدس، فردي وجماعي، غير قابل للتفويض، وعنده تتلاشى كل الاختلافات الفكرية والسياسية، واليوم نسمع صوتاً واحداً، كما في مسيرة كل عام، يؤكد على حق العودة، في الوقت الذي تحتفل فيه إسرائيل باستقلالها حسب التقويم العبري".

وقال رئيس لجنة المتابعة العليا محمد بركة: "أريد أن أحيي المبادرة التي شاهدتموها في مستهل المهرجان، وهي أن يختلط التراب الواحد في المكان الواحد، تراب المثلث والجليل بتراب النقب. وكرئيس للمتابعة، أحيي كل من شارك، واعتذر عن كل من كان يجب أن يشارك. نحن نستطيع أن نقاوم النسيان بالذاكرة. حقيقة أننا نقيم هذا المهرجان في النقب إنما تهدف أولاً، كما في كل عام، إلى طرح ملف التهجير وطرح ملف العودة".

وتساءل: "كيف حصلت هذه الغالبية اليهودية؟. أليست بجريمة تطهير عرقي بتهجير غالبية شعبنا. هل يمكن أن تبرر هجرة اليهود إلى هنا بأنها سبب بعدم عودة شعبنا؟ لا نقبل أن يكون التطهير والتهجير هما القاعدة الأخلاقية وعودة الناس إلى بيوتها هي الشذوذ. القمع والاحتلال هما الشذوذ، ومحاولة فرض الاحتفال على الضحية هي الشذوذ بعينه. يقولون إن الفلسطينيين هربوا وليس هُجّروا؟ هربوا ممن؟ أليس من مجازركم؟ النكبة لا تنتهي إلا بعودة اللاجئين إلى وطنهم".

ونُظِّمت مسيرة العودة في قرية الطيرة جنوب حيفا في شمال فلسطين. وكانت الطيرة، ذات منازل حجرية تقع على سفح جبل الكرمل وتحيط بها بساتين الزيتون واللوز وعدد سكانها 6113 نسمة تقريباً، قبل أن تحتلها "الهاغاناه" اليهودية في 16 تموز العام 1948 بعدما قصفتها البحرية الإسرائيلية. وبنيت على أنقاضها مستوطنة "طيرات هكرمل".

لا بد من إدراك ذاك الإجحاف الذي يتعرض له الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948، وهم بهذا يشتركون مع أخوانهم الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، فمن الخطر الجسدي الذي يتعرض له فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ذاك الخطر الكبير الذي يتناول حتى الهوية الثقافية لفلسطيني 48، كما أثبت الفلسطينيون نجاعتهم في الدفاع عن حقوقهم على الرغم من كل الممارسات التي مورست ضدهم حيث أبقوا على علاقة وطنية صحية بينهم وبين إخوانهم ودللوا على ذلك من خلال مشاركتهم الجرح الفلسطيني في أحداث أكتوبر 2000 وكذلك بعض التصريحات التي عرضت أصحابها للمساءلة القانونية والاعتقال، أمثال القادة الشهيد توفيق زيّاد ومحمد بركة وأحمد الطيبي وغيرهم الكثير من الأكاديميين والسياسيين الذين ما زالوا يدافعون عن مكانهم وعنوانهم في فلسطين.

وعلى الرغم من حصولهم على الجنسية الإسرائيلية إلا أنهم لا يتمتعون بحصانة المواطنة فيمارس ضدهم التمييز والقمع والذي يحمل في طي الفكر الصهيوني الاستخباراتي الهاجس الأمني بوصلة دائمة لتحركه.

اعلى الصفحة