|
|||||||
|
الأمم تصنع أدوارها في الحياة على قاعدة التنافس والعطاء والتضحية وإذا فشلت أمة من الأمم في صناعة دور مشرف لها في الحياة فلا يصح أن تلقي بأعباء فشلها على عاتق أمة أخرى، لأن السبب الحقيقي لفشلها كامن فيها وليس فيما يفعله الآخرون، وهو أنها غير مؤهلة لمواجهة التحديات التي اعترضت أو تعترض مسيرتها... هذه التحديات هي التي يشكل النجاح في مواجهتها اللّبنات التي يقوم عليها صرح المجد، الأمم تصنع أمجادها بيد أبنائها ولا تهدى لها من قبل أمم أخرى، والمجد ليس له صورة واحدة كما قد يخيّل للبعض، وهي صورة الجيوش والجحافل تفتح الأمصار وتقهر الشعوب وتستولي على ثرواتها ومقدراتها، إنما المجد هو أن تبرع الأمة في مواجهة تحديات الحياة، وأن تجد الحلول للمشاكل والأزمات الصعبة، وأن يصل برُّها ويعم نفعها الإنسانية جمعاء، مجد الأمم أن تترك بصمات الخير والعلم والتطور على صفحات البشرية لهذا نحن نؤمن أن لكل وقت مجده، وتكرار مشاهد التاريخ ليست إلا وهماً، والذين يتصورون أن إعادة ذات المشهد الذي كان في يوم من الأيام مجداً هو صناعة مجد، فهؤلاء واهمون ومخدوعون خدعتهم أمانيهم ورغباتهم الطفولية، هؤلاء بكل تأكيد عاجزون وأصحاب رؤية قاصرة عن إدراك معنى المواجهة والتحدي الذي تفرضه الحياة بتطورها وتقدمها سواء كان التطور والتقدم سلبياً أو إيجابياً. اليوم ليس كالأمس، إنه زمن آخر بما له وما عليه، زمن كما تختلف مشاكله تختلف أدوات مواجهتها وتختلف أيضاً أساليب المواجهة. التجارب والربط بين الماضي والحاضر إن الإنسان في ثروته العقلية والفكرية إنما هو ناتج تراكم التجارب البشرية، أو ناتج تراكم تجارب الأجيال، وبقدر ما يستطيع الإنسان التواصل مع الآخرين والإطلاع على تجاربهم بقدر ما يغني معارفه وبالتالي يغني ثروته العقلية والفكرية. ولأن سنّة الحياة هي التطور والتغير، ولأن التطور لا يكون إلا بالبناء على أصل موجود والزيادة عليه، فإن معرفة ما هو موجود وما كان موجوداً من قبل يعتبر أمراً أساسياً لتحقيق التطور، لهذا نرى البشرية لاسيما الشعوب المتقدمة منها تسعى بكل ما أوتيت من علم ومقدرات وإمكانيات لمعرفة ما كان من أمر هذا الكون وكيفية نشوئه وتطوره، لأنها تدرك أنها بقدر ما تكتشف من أسرار الماضي بقدر ما يُسهّل عليها أمر صناعة المستقبل. ونحن نرى أن ما ينطبق من هذه الناحية على الجمادات ينطبق أيضاً على الفعل الإنساني، ولن تستطيع الإنسانية تحقيق التقدم والتطور ما لم تكن على بيّنة مما كان عليه السابقون من أجيالها. وكما هو معروف ليست كل التجارب الإٌنسانية تجارب ناجحة، فهي كما تعرف النجاح فإنها أيضاً عرضة للفشل، ورُبّ تجربة بدأت ناجحة ثم انتهت بالفشل، غير أننا يجب أن ندرك أن كل تجربة مهما كانت نتيجتها بالنسبة لمن خاض غمارها، فإنها تجربة مفيدة لمن يطلع عليها، وهي بكل تأكيد مفيدة لمن يدرسها لأنه يستخلص منها العبر، ويعممها لتعم الفائدة من دراستها وكشف أسرارها. إن مسألة الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل في حياة الأمم والشعوب تحتاج إلى مفاهيم دقيقة لكي تكون نافعة وإيجابية، وإلا تحوّلت إلى عملية قاتلة ومدمّرة، وبدل أن تساهم في تقدم وتطور ورقي التجربة الإنسانية، فإنها تساهم في ولادة تجربة مشوّهة مسخ وعقيمة، وما يحصل في بلاد المسلمين أسطع دليل على ذلك. فما هي هذه المفاهيم والأسس التي ينبغي أن تنضبط عملية الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل؟. المفهوم الأول: أن التجربة الماضية هي حدث في التاريخ مختلف تماماً في عناصره وظروفه ومجرياته وأن إمكانية تكراره مستحيلة. المفهوم الثاني: أن الحاضر أو المستقبل زمانان لم يسبق وجودهما لا في العناصر ولا في الظروف ولا في المجريات. المفهوم الثالث: أن التجربة الماضية خاضها أُناس أعملوا فيها عقولهم ومصالحهم واستثمروا فيها إمكانياتهم، فهي تجربتهم وفهمهم، وقد انقضى كل ذلك. المفهوم الرابع: إن مسؤولية كل جيل هي أن يقدّم تجربته وفق قراءته للحاضر الذي يعيشه ضمن إمكانياته وقدراته وفهمه مستفيداً من كل العوامل والظروف والمعطيات ومن التجارب السابقة. المفهوم الخامس: إن قراءة التجارب السابقة وتقييمها ليست بهذه البساطة بحيث يقوم بها كل متنطح لها، إن قراءة التجارب وتقييمها يحتاج إلى متخصصين على مستوى رفيع وذوي أهلية علمية عالية، وإلى أُناس حياديين ومتجردين، بعيدين عن الخضوع للأهواء والرغبات الشخصية. إن الانحياز في قراءة التجربة إلى طرف أو فكرة يجعل هذه القراءة عديمة الجدوى، بل أكثر من ذلك يجعلها قراءة مسيئة ومضرة. المفهوم السادس: إن أخذ العبر والاستفادة من التجارب شيء واستنساخ التجارب شيء آخر، فالاستفادة أمر مطلوب ومشروع أما الاستنساخ فهو في أحسن أحواله حلم من أحلام اليقظة. المفهوم السابع: إن المسار الطبيعي لتطور الحياة يفترض أن اللاحق يمتلك من العلم والخبرة ما لا يمتلكه السابق وبالتالي فإن اللاحق ينبغي أن يقدم تجربة أرقى وأسمى من تجربة السابق ولو كان الجميع ينطلق من أسس فكرية أو اعتقادية واحدة. هذه الأسس أو المفاهيم ضرورية جداً لكي نعيش حاضرنا الذي نحن فيه وفق سفن تطور الحياة، ولكيلا نغرق في سلفية تقلب توجهنا إلى الوجهة المعاكسة فيصير حلمنا أو مشروعنا هو التطلع إلى الماضي لاستنساخه وليس إلى المستقبل لبنائه. الثابت والمتغيّر ما هو الثابت عندنا وما هو المتغيّر؟.. نحن كمسلمين ليس لدينا ثابت سوى النص الديني الأساسي، وهو القرآن الكريم وهو مصدر العقيدة عندنا، وهو نص واحد صادر عن خالق الكون والحياة، وهو نص توجيهي، إرشادي، يُخاطب العقل البشري، ويُحاوره بلغة ومفاهيم بشرية، مقدماً الأدلة والحجج والبراهين من واقع التجربة الإنسانية، وفيه تأكيد على أن الخيار متروك للإنسان في تقرير إيمانه بالنص أو إنكاره، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. أما السنّة النبوية فهي الشارحة والمبينة للنص الأساسي أي القرآن الكريم إما قولاً وإما عملاً، وإما تقريراً كما يقول علماء التفسير ومصطلح الحديث وأصول الفقه. وإذا كان القرآن الكريم قطعي الثبوت جملة، فإن السنة النبوية منها ما هو قطعي الثبوت ومنها ما هو ظني الثبوت، وقطعي الثبوت له قيمة تشريعية كالقرآن الكريم، أما ظني الثبوت فهو في مرتبة أدنى ويدور حوله أخذ ورد. هذا بغض النظر عن مسألة الدلالة من حيث هي ظنية أو قطعية، ولكل حكمه. أمّا المتغيّر فكل ما عدا النص الأساسي فهو قابل للتغيير بمعنى أن النص ثابت أما ما يدور حول النص من فهم وشرح وتفسير وآراء فهي خاضعة لعوامل كثيرة ومتعددة. إذ أنها في حقيقتها آراء الأفراد ومعبّرة عن فهمهم واستيعابهم للمعاني، وأفهام الأفراد مهما بلغوا من العلم أو المكانة تعتريها العيوب، لهذا ينبغي للعقول أن تكون ناشطة دائماً في محاولة فهم النصوص واستخراج مكوناتها تبعاً لما يفتح الله على الناس من أبواب العلم والمعرفة والتطور، وقراءة النصوص وتدبّر معانيها لاسيما من قبل من يملكون الأهلية، لذلك ينبغي أن تكون دائمة ومستمرة، وينبغي أن تكون لكل جيل قراءته وخلاصاته تبعاً لما يستجد عليه من وقائع تكون مفيدة في استجلاء واستخراج إمكانيات النصوص. وعلى هذا الأساس فإنه إذا كان النص ثابتاً وله قدسيته فإن فهم النص ليس ثابتاً وليس له قُدسية الثابت - بالمعنى العلمي حتى لا يذهب الظن بالبعض إلى أننا نقول بالاستخفاف بالعلم- ووضعه للمناقشة والحوار. وإذا كان البعض يعتقد أن مُسلّمات الدين أو الإيمان ينبغي أن تكون فوق النقاش والحوار، فهذا ليس صحيحاً من ناحية الدين، الذي أعطى لكل إنسان الحق في مناقشة كل ما ينتاب عقله وأفكاره من تساؤلات وشكوك سواء أكان ذلك متعلقاً بالغيبيات أو بالمشاهدات، وواجب العلماء وأهل الإيمان أن يشرحوا ويوضحوا ويبينوا ويناقشوا ويجيبوا على كل استفسار أو شك أو ارتياب، وأن يفندوا ما يطرحه المشككون بأسلوب علمي وأدبي راقٍ يحترم عقل الآخر وتفكيره للتوصل إلى إقناعه بحقائق الإيمان أو الشريعة، دون ممارسة أية ضغوط أو تخويف أو إرهاب، لأن الإيمان هو المطلوب من الآخر، والإيمان لا يحتمل الإكراه أو القهر أو القمع. الأحزاب السياسية الحزب في اللغة هو الجماعة أو الفريق من الناس، وهو الجماعة فيها قوة وصلابة، وهو أيضاً كل قوم تشاكلت أهواؤهم وأعمالهم. وفي القرآن الكريم: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ "أي إن لديهم أمراً أو أموراً اجتمعوا عليها جعلت منهم حزباً وهم بها معجبون. وفي الاصطلاح أن الحزب هو تنظيم يسعى لبلوغ السلطة وممارستها وفق رؤية سياسية اجتماعية اقتصادية، ولديه برنامج عملي لتحقيق ما يصبو إليه(1). وإذا كان هذا المصطلح ينطبق على الأحزاب في النظم الديمقراطية فإن حركات التنافس على السلطة ربما لم تكن كذلك عبر التاريخ فلقد انقسم الناس إلى أحزاب تنافست وتقاتلت للاستيلاء على السلطة ولكن لم يكن لها ما يجمعها سوى فكرة معينة أو شخص معين تسعى لإيصاله إلى السلطة وقد شهدت الأمة الإسلامية عهوداً مريرة من الصراع على السلطة أدت إلى سفك دماء كثيرة وهتك حرمات لا حصر لها، وهي في ذلك كبقية أمم الأرض. لقد شهد العالم الإسلامي قيام حركات اعتراض أو تمرد أو ثورات كما يسمّيها البعض، كان يقف وراءها جماعات لكل منها مزاعمه وأسبابه ودوافعه، وهذه الجماعات وإن لم ترتق إلى مفهومنا المعاصر للأحزاب إلا أنها وبحسب واقعها ودوافعها كانت تمثل أحزاباً سياسية بمعنى أن هدفها وطموحها هو الوصول إلى السلطة. وما يميز تلك الأحزاب التي احتكمت في النهاية إلى السيف لتحقيق أهدافها أو للدفاع عن وجودها بسبب أن السلطة قد بادرتها باللجوء إلى السيف أو العنف، أنها لم تمارس العمل السياسي بالمصطلح المعاصر، وإنما عملت على تهيئة الناس للتصدي للحاكم بالقوة ولإزاحته عن سدة الحكم. ومما يؤسف له أن هذا التراث من العمل للوصول إلى السلطة ما زال متأصلاً في نفوس وعقول الأكثرية الساحقة من المسلمين الذين يطمعون في الوصول إلى السلطة وذلك عبر السلوك العنفي واستخدام السلاح وغيره من وسائل القتل، ومبررهم لذلك هو مفهومهم الخاطئ لمعنى الجهاد المذكور في القرآن الكريم، وهم من يُطلق عليهم اسم الجهاديين، ويُطلق على معتقدهم اسم الإسلام الجهادي. فهل يمكن أن نطلق على الجماعات التي تسعى للوصول إلى السلطة عبر استخدام العنف اسم أحزاب سياسية، وهل يكمن أن نسمّي الجماعات التي تعتمد السرية في العمل من أجل الوصول إلى السلطة، وليس لها أنظمة داخلية أو أساسية مُعلنة أو برامج سياسية اجتماعية واقتصادية محدّدة وواضحة أحزاباً سياسية، أم إنها عصابات أو ميليشيات أو زمر أو غير ذلك من التسميات. وفي النهاية هل لدينا أحزاب سياسية إسلامية أم أن الأمر مجرد التباس وعلينا إيضاحه وتبيانه؟؟ إنه من المؤكد ليس لدينا في عالمنا الإسلامي أحزاب سياسية إسلامية بالمعنى العصري للكلمة، فمعظم الأحزاب التي تدّعي أنها إسلامية إما أنها سرّية أو بدون نظام داخلي عصري أو أنها بدون رؤية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، أو إنها تسعى للوصول الى السلطة عبر استخدام العنف والقوة. وتعتمد معظم الأحزاب الإسلامية على شعارات ديماغوجية دينية لا مضمون لها ولا تجسيد لها في أنظمة أو قوانين أو رؤى محددة. ومن أمثال هذه الشعارات" القرآن ودستورنا" أو "الحاكمية لله" أو تبني شعار الخلافة والشورى وغيرها من الشعارات والعناوين العريضة التي لم يستطع جماعة الإسلام السياسي أن يؤطروها في أُطر قانونية بحيث تكون واضحة وجلية على الأقل لأهل الاختصاص من القانونيين أو علماء الدستور، ناهيك عن عامة الناس الذين يفترض أنهم أداة الأحزاب للوصول إلى السلطة. ولعلّ سبب فقر الأحزاب السياسية التي تزعم أن الإسلام هو مرجعيتها الدستورية لإقامة دولة الإسلام في النصوص القانونية والدستورية هو أن النصوص الإسلامية الأساسية جاءت خالية من التنظير للدولة ومؤسساتها وهياكلها، ولا يجد هؤلاء إلا الواقع العملي التاريخي المتمثل في التجارب التي خاضها المسلمون بعد رسول الله(ص) والتي كانت مضطربة وغير ثابتة وتختلف من وقتٍ لآخر ومن سلطة لسلطة. ولأن الأحزاب الإسلامية تطرح الإسلام كمرجعية سياسية ودستورية فإنها لا تجرؤ على تبني النظريات والأفكار العلمية المعاصرة حول الدولة وتشريعاتها، فإنها أغرقت نفسها في سلفيةٍ سياسية أدّت إلى عجزها عن مواكبة العصر وتحدياته، وغرقت في محاولات استنساخ التجارب السابقة بعد تزيّفها وتزيّنها والتستر على مخالفتها للدين وأخلاقه وآدابه بل إنها تتصوّر أنّ بإمكانها استعادة التجربة بدون عيوبها التاريخية. الإسلام والسلطة ما هي علاقة الإسلام بالسلطة؟ وما هي علاقة الإسلام بالدولة؟ تلك أسئلة لا يمكن الإجابة عليها إلا باستقراء النصوص الأساسية للدين. وللوصول إلى الجواب الصحيح لا بد من أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: هل الدولة أو السلطة هي مطلب ديني أم مطلب اجتماعي؟ مما لا شكّ فيه أن القول بأن الدولة - السلطة هي مطلب اجتماعي هو أمر مُسلّم به ولا يجادل فيه أحد، لأن كل المجتمعات الإنسانية تتخذ من الدولة إطاراً لتنظيم شؤون المجتمع ومعالجة مشاكله وحل قضاياه عبر ما يسمّى بالسلطة التي تتمتع بصلاحية إدارة أمور المجتمع بناء على تكليفه لها بتلك المهمة. ولا يوجد مجتمع مهما كانت عقيدته أو ديانته إلا وهو خاضع لهذه القاعدة، قاعدة إقامة الدولة الراعية لشؤونه المتمتعة بالسلطة سواءٌ تجسّدت هذه السلطة في شخصٍ أو مؤسسةٍ واحدة أو مؤسسات متعددة تتوزع السلطة فيما بينها. والسؤال التالي: هل الدولة مطلب ديني؟ كما قلنا لا بد للجواب على هذا السؤال من الرجوع إلى النص الديني الأساسي وهو القرآن الكريم والى السُّنة النبوية التي تعتبر النص المفسّر للقرآن الكريم. إنك إذا نظرت في الكتاب العزيز فلن تجد أنه استخدم كلمة دولة بفتح الدال وإنما وردت كلمة دُولة بضم الدال بمعنى تداول الأموال أما الدولة بمعنى السلطة وهي بفتح الدال فلم ترد لا في الكتاب ولا في السُّنة. بل إننا نجد القرآن تحدث عن الأمة وهم الجماعة من الناس الذين تجمعهم عقيدة واحدة أو مصالح واحدة ، وقد يكونون من أعراق مختلفة كما أن الآيات القرآنية ليس فيها آيات تتحدث عن تنظيم الدولة أو السلطة أو هيكليتها أو مؤسساتها أو طرق الوصول إليها، وكذلك السنة النبوية المبينة للكتاب لم تتطرق إلى هذه المسائل. ولو كانت الدولة أو السلطة مطلباً دينياً لكان ورد بشأنها ما يبيّن أمرها أو كيفية التعاطي معها أو لكانت السُّنة النبوية شرحت كيفية تكوينها. إن الدولة أو السلطة هي مطلب اجتماعي متروك أمره للمجتمع يقرّر بشأنه ما يخدم مصالحه وما ينسجم مع قيمه وأخلاقه ومبادئه. فإذا كان المجتمع مسلماً فإنه سيختار القيم التي يؤمن بها وهي قيم الإسلام وإذا كان غير مسلم فإنه يختار ما ينسجم مع قناعاته وقيمه. وحينها نقول أن المجتمع مجتمع مسلم ولا نقول أنّ الدولة مسلمة، أو نقول أن المجتمع غير مسلم أو كافر ولا نقول الدولة كافرة. فالدولة لا تكون مؤمنة ولا كافرة، إن هذا الوصف يتعلق بالأفراد والمجتمعات وليس بالكيانات السياسية. مقولات الإسلام السياسي يطلق تعبير الإسلام السياسي على الجماعات التي تعتقد أن الإسلام كدين هو المرجعية لإقامة الدولة، وأن أحكامه وتشريعاته تشكّل الأساس القانوني والدستوري لذلك، أما هم فيسمون أنفسهم"الإسلاميون". ويرجع نشوء الإسلام السياسي إلى فترة سقوط الدولة العثمانية التي كانت بمثابة الخلافة ودولة الإسلام الأولى في ذلك العصر وسبب انهيار السلطنة العثمانية يعود إلى حجم الفساد الهائل الذي أصاب أركانها ومؤسساتها، مما جعلها كدولة غير مؤهلة لمواجهة التحديات التي واجهتها وآخرها الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من أحداث. ورغم كل ذلك الفساد الذي عرفته فإن كثيراً من المسلمين اعتبروا أن دولة بني عثمان تمثل بالنسبة إليهم رمزية الخلافة أو السلطة وأنها القوة التي تواجه أعداء دينهم، لذلك شكّل انهيار السلطنة على يد القوى الدولية التي استغلت ضعفها فعملت على إسقاطها وتقسيم تركتها فيما بينها بعد تفتيتها، شكّل عامل خوف ورعب من مصير الأمة بعد سقوط رمزها السياسي، فانطلق الغيورون على الأمة من العرب والمسلمين إلى البحث عن كيفية استعادة السلطة وبناء الكيان السياسي الذي يشكّل عاصماً لها من الاضمحلال والزوال. وقد انطلقت الدعوات إلى إيجاد الأطر الملائمة التي تُعوض فقدان السلطنة فمن دعوات إلى إقامة جامعة إسلامية للشعوب التي تتكون الأمة منها إلى محاولات بعض الحكام إدعاء الخلافة كالشريف حسين وملك مصر فؤاد الأول، وكانت تلك الدعوات تُواجه بأخرى مناقضة لها تدعو إلى القومية واستقلال الشعوب عن بعضها. وكانت هذه الدعوات متأثرة بنهضة القوميات في أوروبا ونجاحها في تشكيل كياناتها السياسية. ولمّا كان الإسلام هو الجامع الوحيد بين الشعوب التي كانت تحت سلطة الدولة العثمانية، ولمّا كان الإسلام القوّة الوحيدة المؤثرة في تلك الشعوب. ولما كان المسلمون يعلمون أنه لا قوة لهم إلا بالإسلام وأنهم بدونه يعودون كما كانوا في الجاهلية قبائل متناحرة فقد تفتقت قريحة المفكّرين والدعاة عن فكرة ربط الدين بالدولة وجعل الدولة مطلباً دينياً وتكليفاً إلهياً لا بد منه لإقامة الأحكام وحفظ الدين وإنفاذ الحدود والقصاص، وقد ساعد على ذلك تاريخ عريق من سيطرة الدولة- السلطة على الدين وتجييره لصالح الحاكم عبر السيطرة على علماء الدين والفقهاء والمجتهدين الذين أدى سلوكهم إلى جعل الحاكم شخصاً مقدساً ومختاراً من قبل الإرادة الإلهية ليسوّس البشر. ولمّا لم تكن هناك نصوص أساسية واضحة تتعلق بالدولة والسلطة وهيكليتها، فقد عمد دعاة الإسلام السياسي إلى تأويل النصوص وليّ أعناقها خدمة لمشروعهم القائم على فكرة أن إقامة الدولة واجب ديني وأن الدولة يجب أن تكون دينية. وتطورت إلى تنظيمات تسعى لإقامة الدولة عن طريق الدعوة الدينية، وكان أبرز تلك التنظيمات جماعة الإخوان المسلمين. نشأت حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنّا وكانت حركة دعوية تسعى لنشر الالتزام بالسلوك الإسلامي في مجال العبادات والأخلاق والمعاملات. وقد حققت الحركة انتشاراً واسعاً في مصر ثم امتدت إلى بقية أنحاء العالم وتحوّلت مع الأيام إلى تنظيم سري عالمي وذلك بعد اغتيال حسن البنا وظهور فكر أبو الأعلى المودودي وسيد قطب الذي شكّل فكره انقلاباً على أسس حسن البنّا الدعوية وحول الإخوان المسلمين من حركة سلمية إلى حركة تتبنى الفكر الجهادي في مواجهة الدول والمجتمعات. كتب سيد قطب عدداً من المؤلفات التي تنظر لما أسماه مسألة الحاكمية، وكان أبرزها كتابة معالم على الطريق، حيث شرح فيه هذه النظرية في أكثر من مائتي صفحة، ولكنه لم يتحدث عن كيفية تنفيذها إلاّ في بضعة أسطر. وقد ردّ مرشد عام الجماعة مأمون الهضيمي في كتاب دعاة لا قضاة على فكر سيد قطب الذي دعا إلى مواجهة الدولة والمجتمع بالقوة من أجل إعادتهم إلى حظيرة الدين. وأصبح للإخوان المسلمين في كل بلدٍ إسلامي تنظيم محلي، ولكنه يخضع في النهاية لقيادة الإخوان العالمية، ونبت على أطراف الإخوان تنظيمات وجماعات كثيرة تستقي من مبادئهم وشعاراتهم وإن حاولت التميز عنهم في ناحية من النواحي. لقد غرقت حركات الإسلام السياسي وفي مقدّمها الإخوان المسلمون في الشعارات والعناوين العريضة، فكانت تطلق شعاراتها من أجل اكتساب الأنصار والمؤيدين، ولكن تلك الشعارات لم تتحول إلى برامج ومناهج وخطط عملية، فكان الناس كمن لديه قطعة قماش غير مفصّلة ولا مخيّطة وهو يظن أن لديه ثوباً يستطيع لبسه عند الضرورة. وقد ظهر ذلك جلياً عندما وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة في السودان وباكستان ومصر وتونس وقبلها تركيا. فلم يستطيعوا أن يقدموا نموذجاً إسلامياً سليماً ومقبولاً للحكم. أدى حكمهم للسودان إلى جعله في أدنى سُلّم الدول، والى تقسيمه فيما بعد، بعدما كانوا يمنون أنفسهم بحكم أفريقيا بأسرها انطلاقاُ من السودان، كما حدثنا الدكتور حسن الترابي عندما زرناه في سنة 1993 م وكما فشلت تجربة السودان كذلك فشلت تجربة الجنرال ضياء الحق في باكستان الذي استنجد بمفكرين من الإخوان ليضعوا له دستوراً إسلامياً لباكستان. أما في مصر فقد كانت الفضيحة الكبرى للفكر الإخواني، حيث وصل الإخوان إلى الحكم عبر الانتخابات، ولكنهم فور وصولهم إلى الحكم واستلامهم للسلطة انقلبوا على شعاراتهم ومبادئهم وراحوا يمارسون السلطة أسوء مما كان يمارسها النظام السابق، وعندما انقلب الناس عليهم وتم خلع مرسي على يد الجيش، لم يكن لديهم ما يدافعون به عن الرئيس محمد مرسي إلا أنه كان يُصلّي الفجر حاضراً ويحفظ القرآن الكريم. ونسوا أنه وهم معه عجزوا عن تقديم نموذج لطالما أمّلوا الناس به نموذج لدولة فيها الإنصاف والعدل والحرية للناس. وكما رفضتهم أكثرية الشعب في مصر، كذلك حصل في تونس وخسرت النهضة الحكم لصالح أنصار النظام السابق حيث أصبحت صور الحبيب بو رقيبة الرئيس العلماني تُزيّن كافة المجالس والدوائر الحزبية والحكومية وربما اعتبر البعض أن تجربة الإخوان المسلمين في تركيا ناجحة بدليل استمرارهم في السلطة لأكثر من اثني عشر عاماً وفوزهم الأخير بالأغلبية المطلقة في الانتخابات. والحقيقة أن تلاميذ نجم الدين أرباكان لم يبقوا على شيء من مبادئ وشعارات الإخوان، بل أنهم لم يدعوا حتى الآن أنهم يقدمون تجربة إسلامية في الحكم، إنهم يقدمون تجربة تمثل استمراراً لما كان سائداً في تركيا قبل وصولهم الى السلطة وهم علمانيون في كل ممارساتهم، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن الإسلام يتحقق بغطاء رأس السيدتان أردوغان وأوغلو. لم تنجح تجربة الإخوان المسلمين في أي مكان، ولم يستطيعوا تقديم نموذج صالح للحكم أو للدولة، وظهر أن معظم شعاراتهم إنما هي شعارات ديماغوجية خادعة، تهدف الى جمع الأنصار والمؤيدين لحركتهم، وان النموذج الذي يتحدثون عنه وهو دولة الإسلام، لم تكن في حقيقتها عبر التاريخ دولة دينية، بل كانت دول تستغل الدين لإرضاء العامة فيما لا تختلف في الممارسة عن أي نظام أو دولة في المجتمعات غير المسلمة ولتوضيح هذه الصورة نقول: - إن دولة الخلافة الراشدة لم تستمر إلا لفترة قصيرة من الزمن وأن ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلاً على يد مسلمين. - انتقلت الدولة إلى الحكم العضوض مع بني أمية بشكل يتعارض مع قيم ومبادئ الإسلام واستمرت لذلك طيلة العهد الأموي - لم يكن حكم بني العباس أفضل من حكم بني أمية، فقد مارس الجميع القتل والسحل والاضطهاد، وقتل الخلفاء خصومهم من أصحاب الفكر كما قتلوا خصومهم من حملة السيوف وكما تآمر الخلفاء على آبائهم وإخوتهم وظهر في الدولتان من الفساد الأخلاقي والسياسي ما يكفي لتأكيد انحرافهم عن الدين. - خلفاء أو سلاطين بني عثمان صنعوا تاريخاً مليئاً بالإجرام يقوم على القتل والسحل وفقأ عيون منافسيهم على السلطة ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم، ومن كان هذا سلوكه مع أهله وإخوانه فكيف يكون سلوكه مع سواهم. - إن كل الدول التي سُمّيت إسلامية عبر التاريخ قد أساءت إلى الإسلام بممارساتها، ولولا ثبات النص الديني الأساسي وهو القرآن الكريم لما بقي من الإسلام شيء حتى يومنا هذا. - لذلك إذا أردنا أن نتحدث عن دور للأحزاب والتنظيمات السياسية في مواجهة ما يلحق بالعالم الإسلامي من أزمات لا بد من قراءة بعيدة عن الخلفيات والأحكام المسبقة ولا بد من وضع الأمور جميعها على طاولة النقاش للخروج بالحد الأدنى من المصداقية التي بدونها سنبقى نمارس الخداع بحق أنفسنا لأننا لا نريد تشويه صورة مزيفة استوطنت ذاكرتنا ومنحناها من القداسة ما يحول بيننا وبين نقدها. هوامش: 1- يقول الدكتور سمير عبد الرحمن الشمري أن الحزب هو جماعة اجتماعية تطوعية واعية ومنظمة ومتميزة من حيث الوعي السياسي والسلوك الاجتماعي المنظم ومن حيث الطموحات والآمال المستقبلية ولها غايات قريبة وبعيدة وتهدف هذه الجماعة إلى الاستيلاء على السلطة (إذا كانت في المعارضة). |
||||||