تركيا بين التطبيع مع إسرائيل والتوتر مع أمريكا

السنة الخامسة عشر ـ العدد 173 ـ  (رجب - شعبان 1437 هـ ) ـ (أيار 2016 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تبدو تركيا وكأنها في أزمة سياسية مركبة، بين داخل يحاول رجب طيب أردوغان إحكام السيطرة عليه باسم الانتقال إلى النظام الرئاسي والسعي إلى إصدار سلسلة من القوانين التي تستهدف كل من يعارض سياسته وحكم حزب العدالة والتنمية، وبين خارج يعيش على وقع التوتر والصدام والخلافات والأزمات، بسبب التورط التركي في العديد من القضايا الداخلية لدول الجوار الجغرافي..

وبفعل هذه السياسة باتت العلاقات التركية حتى مع الحليف التاريخي أي الولايات المتحدة تشهد حالة من الفتور والخلافات، فيما بات من الواضح أن تركيا وكمحاولة منها للتعويض عن هذه الأزمة في سياستها الخارجية تسعى إلى العودة إلى المربع الأول، أي التطبيع مع إسرائيل تمهيدا لإعادة الدفء إلى العلاقات بين الجانبين، فضلا عن تحسين العلاقة مع السعودية.

أبعاد التطبيع مع إسرائيل

دخلت عملية المصالحة التركية - الإسرائيلية مرحلة تبادل المسودات للتوصل إلى اتفاق نهائي لإعادة تطبيع العلاقات بين الجانبين منذ أن توترت على خلفية الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة التي أرسلتها تركيا لكسر الحصار عن غزة وقتل 10 ناشطين أتراك كانوا على متنها في أيار/مايو عام 2010، وفي انتظار إعلان الاتفاق من المفيد التذكير بالشروط التي أعلنتها أنقرة منذ البداية لتحقيق المصالحة، وهي تقديم إسرائيل اعتذار رسمي عن ما حصل، وتعويض أهالي الضحايا، ورفع الحصار عن قطاع غزة، وفيما تجاوبت إسرائيل مع الشرطين الأول والثاني بشكل جزئي رفضت الشرط الثالث بشكل نهائي، بل وربطت عملية المصالحة باستجابة تركيا لمطالب تتعلق بالموقف التركي الداعم لحركة حماس، ووقف الملاحقات القضائية التي أطلقتها تركيا ضد المشاركين في الاعتداء، وهو ما جعلت عملية المصالحة الجارية معقدة، تخللتها جولات سرية وأخرى علنية من المفاوضات في أكثر من بلد.

في الحديث عن المصالحة التركية – الإسرائيلية، لا بد من التوقف عند أمرين أساسيين: 

الأول: السعي الأمريكي الدائم إلى تحقيق هذه المصالحة بين الحليفين المهمين للإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط من أجل الاستفادة من التعاون بينهما في كيفية التعامل مع التطورات الجارية في المنطقة.

الثاني: الرغبة التركية – الإسرائيلية المتبادلة في تحقيق المصالحة انطلاقاً من أهمية كل طرف للأخر في منظومة العلاقات الإقليمية في المنطقة، ولتاريخ العلاقة الجيدة بين الجانبين حيث كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل في عام 1949 أي بعد عام من الإعلان عنها، ولعل اللافت في سير عملية المصالحة، هو انقلاب الخطاب، فتركيا التي مارست في البداية نبرة عالية لجهة طرح الشروط انتهت بإرسال سلسلة من الرسائل الإيجابية لإسرائيل والتي تؤكد على أهمية المصالحة للطرفين، فيما اللافت أن إسرائيل انتقلت من مرحلة استيعاب النبرة التركية العالية إلى مرحلة فرض بنود خارج إطار قضية الاعتداء على سفينة مرمرة تطلعاً إلى تحقيق جملة من الأهداف السياسية والإستراتيجية. 

دون شك، مع التوتر الذي تعيشه العلاقات التركية بكل من مصر وروسيا وإيران والعراق وسوريا وارمينيا، تبدو تركيا مشدودة إلى إسرائيل أكثر من أي وقت مضى على شكل العودة إلى المربع الأول، فتركيا التي طرحت نظرية صفر المشكلات باتت في صدام متعدد المستويات مع الدول المذكورة، وبسبب هذا الصدام تعاني دبلوماسيتها من عزلة سياسية وضعتها أمام امتحان مع خياراتها السياسية، وعليه يمكن القول ان أهم دوافع تركيا للمصالحة مع إسرائيل هي:

1- محاولة الخروج من العزلة الإقليمية من خلال إعادة الدفء إلى تحالفها القديم مع إسرائيل التي تبدو المستفيدة الأكبر من التطورات الدراماتيكية الجارية في المنطقة، وبما يقوي ذلك من موقف تركيا الإقليمي في مواجهة سياسات موسكو وطهران، فضلا عن القضية الأهم في هذه المرحلة، أي الأزمة السورية.

2- اعتقاد تركيا بأن إسرائيل ما زالت تشكل عاملا أساسيا لتحسين العلاقة مع واشنطن، ومع الفتور الذي يشوب العلاقات التركية – الأمريكية والذي سنتحدث عنه في وقت لاحق في هذه المقالة، يحس أرودغان بأهمية تحسين العلاقة مع إسرائيل خصوصاً وأن الولايات المتحدة دخلت مرحلة استحقاق الانتخابات الرئاسية، واللافت هنا، هو أن أردوغان حرص خلال زياراته المتتالية إلى الولايات المتحدة على اللقاء مع رؤساء المنظمات اليهودية والحرص على دفع هذه المنظمات إلى القيام بدور مؤثر لدفع إسرائيل إلى المصالحة، حيث تم تكريم اردوغان من قبل المنظمات اليهودية المعروفة بالإيباك.

3- إن تركيا التي تشن حربا شرسة ضد حزب العمال الكردستاني وتحس بوطأة الصعود الكردي في المنطقة على أمنها وتخشى من إمكانية قيام دولة كردية خاصة بعد إعلان كرد سوريا الفيدرالية وإعلان إقليم كردستان عزمه إجراء استفتاء على تقرير المصير، تدرك تركيا أهمية إسرائيل سواء للاستفادة من خبراتها العسكرية في قتال حزب العمال الكردستاني حيث استخدمت طوال الفترة الماضية طائرات إسرائيلية من دون طيار (هيرون) في هذه الحرب، أو لخشيتها من أن تدعم إسرائيل مسألة قيام دولة كردية في المنطقة، وعليه باتت ترى في المصالحة معها فائدة إستراتيجية كبيرة لها، خصوصاً بعد التحالف الأمريكي مع كرد سوريا والعراق في محاربة داعش، وهو ما شكل توتراً في علاقات البلدين.

4- إن مسألة البحث عن بدائل للطاقة حاضرة في صلب الحركة التركية، ولعل ما يدفعها إلى هذا، أمرين.

الأول: الحرص على أن تكون طرفاً فاعلاً في مشاريع الغاز التي تعد في البحر الأبيض المتوسط، خصوصاً بعد أن قطعت مصر وإسرائيل وقبرص شوطاً كبيراً في هذا المجال والحديث عن مشاريع إقليمية مشتركة قد تكون على حساب ما تراه تركيا مصالحها.

والثاني: جملة العقوبات الروسية والتي وصلت إلى حد التلويح بقطع الغاز عن تركيا عقب إسقاط الأخيرة مقاتلة روسية على الحدود التركية السورية، وهو ما أدى إلى تضرر السياحة والاقتصاد بشكل عام في تركيا.

5- تطلع تركيا إلى إيجاد موطئ قدم لها في غزة عبر موافقة رسمية إسرائيلية، لأسباب معنوية وسياسية تتعلق بإيديولوجية حزب العدالة والتنمية والعلاقة الوثيقة مع حركة حماس، ومع التذكير بأن إسرائيل رفضت التجاوب مع شرط رفع الحصار عن غزة، ثمة من يتحدث عن احتمال موافقتها على منح تركيا إمكانية الوصول إلى غزة عبر إقامة ميناء بحري في شاطئ غزة يسمح بتقديم المساعدات الإنسانية لأهلها المحاصرين، شرط أن لا يؤثر مثل هذا الأمر على العلاقة مع مصر اللاعب المتحكم بقطاع غزة.

6- بدء روسيا تسليم إيران منظومة الصواريخ أس – 300 يشكل عاملاً إضافياً للتقارب التركي مع إسرائيل، حيث تحس تركيا بأن إيران وبعد الاتفاق النووي مع الغرب بدأت تحقق تفوقا عليها في العديد من ساحات الشرق الأوسط، وتخشى أكثر من يؤدي هذا الاتفاق إلى إعطاء قوة إضافية لإيران على المستويين الإقليمي والدولي.                     

إسرائيل تفكر بأبعد من المصالحة

منذ أن أعلن أردوغان أن تركيا بحاجة إلى إسرائيل مثلما هي بحاجة إلى تركيا، أدركت إسرائيل أهمية استثمار عزم تركيا إلى المصالحة معها لأسبابها الخاصة، وكالعادة وببراعتها السياسية سعت إلى الاستفادة من اللهفة التركية هذه لتحقيق جملة من الأهداف السياسية.

الثابت، أن إسرائيل تتطلع من وراء استعادة العلاقات الجيدة مع تركيا إلى أكثر من تطبيع العلاقات معها، ولعل في جملة الأهداف الإسرائيلية:

1- في صلب أهداف إسرائيل من المصالحة وضع نهاية للسياسة التركية الداعمة لحركة حماس وإغلاق مكاتبها ومقارها في تركيا وطرد قياداتها العسكرية، حيث يجري التركيز على صالح العاروري المسؤول عن النشاط العسكري للحركة في الضفة الغربية والذي عمل لفترة مسؤولاً لملف الأسرى في الحركة، وسط حديث عن استجابة تركية محدودة لهذا المسعى.

2- إن تركيا تظل لها مكانة إستراتيجية في سياسة إسرائيل تجاه دول المشرق العربي وإيران وروسيا وآسيا الوسطى والقوقاز، إذ أنها تعد تركيا حليفة مهمة للتنسيق معها تجاه هذه الدول والدوائر الجغرافية من جهة، ومن جهة ثانية تعلق أهمية خاصة على استخدام الجغرافية التركية أمنيا للقيام بنشاطات استخباراتية وعسكرية، ولعل من المفيد هنا، التذكير بجملة الاتفاقيات الأمنية والعسكرية التي كانت قائمة بين البلدين، وهي اتفاقيات وصلت إلى حد سماح تركيا للطائرات الإسرائيلية بالتحليق بالقرب من الحدود السورية والعراقية والإيرانية لجمع المعلومات عقب جملة من الاتفاقات العسكرية التي وقعت بين الجانبين عام 1996.

3 – كذلك تدرك إسرائيل أهمية العلاقات الثنائية بين الجانبين ليس على الصعيد الاقتصادي والتجاري فحسب، بل على صعيد الصفقات العسكرية، فتركيا كانت على الدوام واحدة من أهم مستوردي السلاح الإسرائيلي، فضلاً عن تحديث ترسانتها من الأسلحة ولاسيما الدبابات، وعليه يمكن القول إن المؤسسة الإسرائيلية للتصنيع العسكري ستكون أكثر الجهات المستفيدة من عودة هذه العلاقة وتفعيل الاتفاقيات والصفقات العسكرية التي جمدت خلال الفترة الماضية.

دون شك، باتت إسرائيل ترى أن مد جسور التطبيع مع تركيا سيحقق لها جملة من المكاسب السياسية والاقتصادية والمحلية والإقليمية، وفي المحصلة تظهر اللحظة السياسية الراهنة وكأن هناك ثمة تقاطعاً تركياً – إسرائيلياً يمكن أن ينتج تفاهماً أو اتفاقاً على تطبيع العلاقات بين الجانبين وعودة الدفء إليها، فيما تسعى واشنطن إلى الدفع بهذا المسار إلى الأمام، دعما للحليف الدائم (إسرائيل)، وانتصاراً لرؤيتها الأمنية التي تعطي قيمة إستراتيجية لتحالف تركي – إسرائيلي للتنسيق في مواجهة التطورات الجارية في المنطقة.

في انتظار اتفاق جنيف تركي – إسرائيلي يعلن عن عودة الدفء إلى العلاقات بينهما، يبقى من المهم القول إن تركيا في حركتها هذه تبدو في امتحان مع سياستها العربية والإسلامية، بعد أن أظهرت نفسها سندا للقضية الفلسطينية وخطابها العالي النبرة ضد إسرائيل، وقول أردوغان مراراً إن تركيا لن تدير ظهرها للقضية الفلسطينية حتى لو تخلى كل العالم عنها، ليبقى السؤال هنا، هل ستخسر تركيا ما تبقى لها من صورة لها لدى العرب بعد انعطافتها الجديدة نحو إسرائيل خصوصاً وأن بنود اتفاق المصالحة لا تتضمن رفع الحصار عن غزة؟ بالتأكيد من حق تركيا تحديد خياراتها وكيفية إدارة مصالحها بما في ذلك طبيعة العلاقة مع إسرائيل، لكن الثابت أيضاً أن ما يجري سيؤثر كثيراً على صورة تركيا التي أراد أردوغان تسويقها عربياً وإسلامياً كداعم للقضية الفلسطينية، كما سيشكل محدداً للعلاقة مع العرب بما في ذلك الذين راهنوا على سياسة أردوغان كثيراً، ولاسيما جماعة الأخوان المسلمين والتنظيم الدولي للحركة بعد أن نقلت ثقلها السياسي والتنظيمي والإعلامي والمالي إلى تركيا عقب سقوط حكم محمد مرسي في مصر.  

دلالات توتر العلاقة مع أمريكا

تعيش العلاقات الأمريكية – التركية هذه الأيام مرحلة مشوبة بالتوتر والفتور، لم نشهد مثلها منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، ولعل السبب الأساسي لذلك، هو اختلاف الأجندة إزاء الأزمة السورية وتداعياتها، فقد وضعت هذه الأزمة العلاقة التاريخية بين البلدين أمام ضغط هائل من الخلافات والمشكلات، في وقت يدرك كل طرف أهمية الحفاظ على هذه العلاقة لأسباب إستراتيجية.

لقد اتسمت العلاقات التركية - الأمريكية بالتحسن المتنامي مع إعلان الولايات المتحدة مبدأ ترومان وسياسة الاحتواء عقب الحرب العالمية الثانية، حيث انطلقت الولايات المتحدة في علاقاتها مع تركيا من تصور استراتيجي، مفاده الاستفادة من الدور الجيو/إستراتيجي لتركيا في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق، وهو دور لم يتضاءل مع انهيار الأخير، وانطلاقاً من هذا التصور الاستراتيجي أقامت واشنطن علاقات عسكرية وثيقة مع تركيا وبنت قواعد عسكرية على أراضيها، وقد حظيت تركيا على الدوام بمساعدات اقتصادية وعسكرية ضخمة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إلى درجة أن قواتها البرية تتلقى الحصة الكبرى من بين قوات الحلف الأطلسي، بل أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي حصلت على ترخيص أمريكي بصنع الطائرات أف ــ 16، ومع الزمن شكلت تركيا أحد أهم المفاتيح المهمة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، حيت امتلكت قدرة فائقة على تقديم نفسها للغرب كشريك يمكن الاعتماد عليه في منطقة جيو/سياسية بالغة الأهمية، وعليه جمعت بين البلدين روابط أمنية وعسكرية متينة منذ انضمام تركيا المبكر إلى الحلف الأطلسي عام 1952، إلا أن هذه العلاقات الجيدة لم تمنع من حصول فتور في العلاقات بين البلدين في أكثر من محطة، لعل أبرزها كانت عقب الاجتياح العسكري التركي لشمال قبرص عام 1974، ومن ثم رفض البرلمان التركي استخدام أمريكا الأراضي التركية لغزو العراق عام 2003 ، واليوم تشهد هذه العلاقات توترا على خلفية تناقض الأجندة إزاء الأزمة السورية بعد أن باتت تركيا في دائرتها الداخلية والخارجية.

ثمة من يتحدث في واشنطن عن خيبة أمل باراك أوباما من رجب طيب أردوغان بعد أن اختار أوباما تركيا أول دولة إسلامية يزورها عام 2009 ومدح النموذج التركي وأكد على ضرورة تعمميه في المنطقة، قبل أن يكتشف أوباما أن (ثورات الربيع العربي) خلقت شرخاً في سياسة البلدين إزاء مستقبل المنطقة والعلاقة بالقوى والأنظمة السياسية فيها، حتى باتت مواقف البلدين تحمل أجندة متباينة وبل متناقضة في الكثير من القضايا، ويبدأ الإعلام الأمريكي بشن حملة شرسة ضد أردوغان شخصياً ووصفه بالدكتاتور والسلطان المستبد القامع للحريات، ويحرض الجيش على الانقلاب ضده، فيما يرى أردوغان أن كل ذلك يعود إلى القرار التركي المستقل وللمخططات التي تحاك في الدوائر السرية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وأن تركيا الحليفة التاريخية للولايات المتحدة ليست مستثناة من هذه المخططات.

قضايا الخلاف

لعل أبرز القضايا التي تثير الخلافات بين تركيا والولايات المتحدة في هذه الأيام، هي قضية حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي بدا المستفيد الأكبر من الأزمة السورية بعد أن نجح بفضل الدعم الأمريكي والروسي في تحقيق نجاحات على الأرض، تمثل في دحر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مناطق شمال سوريا وشرقها، وأقام إدارة ذاتية قبل أن يعلن عن فيدرالية مؤخرا، مشهرا عزمه ربط المناطق الكردية في سوريا مع بعضها بما يوحي بإمكانية قيام دولة كردية على الأرض تمتد من جبال قنديل على الحدود العراقية - السورية وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط على الحدود السورية التركية، وهو ما ترى تركيا فيه تهديداً استراتيجياً لأمنها، خصوصاً أنها تعتقد أن الطرف الذي يقف وراء هذا المشروع هو عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من جبال قنديل في إقليم كردستان العراق مقراً له، وعليه ترى أن الصعود الكردي المثير في سوريا سيؤثر على المطالب الكردية في تركيا على شكل رفع لسقف المطالب والتطلعات خصوصاً بعد أعلن كرد تركيا تطلعهم إلى إقامة حكم ذاتي، ولعل هذا ما دفع برجب طيب أردوغان إلى الانقلاب على عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني وشن حرب شعواء ضد المدن الكردية.

تركيا التي دخلت في حرب طاحنة ضد حزب العمال الكردستاني لضرب إمكانية إقامة حكم ذاتي للكرد في مناطق جنوب تركيا وشرقها، ترى أن الموقف الأمريكي الداعم للكرد يشكل ليس تناقضاً فحسب بل خطراً عليها، وهي ترى أن سياسة واشنطن في هذا المجال لا تتناسب مع تصنيفها حزب العمال الكردستاني في قائمة المنظمات الإرهابية، وان جل ما تطلبه الإدارة الأمريكية منها في هذا السياق هو التحاور مع الحزب الكردستاني، كما أنها ترى أن الإصرار الأمريكي على عدم تصنيف حزب الاتحاد الديمقراطي في قائمة المنظمات الإرهابية بحجة أن الأخير حليف لها في محاربة داعش أمر غير مقنع، خصوصاً أنها قدمت لها العديد من الخطط للاعتماد على الفصائل السورية المسلحة بدلاً من وحدات حماية الشعب الكردية في محاربة داعش.

الخلاف الأمريكي - التركي يشمل كيفية حل الأزمة السورية، إذ ليس خافياً أن أردوغان بنى السياسة التركية تجاه الأزمة السورية على أساس إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد وسعت إلى تحقيق هذا الهدف بكل الوسائل والإمكانات من خلال تقديم كافة أشكال الدعم للجماعات المسلحة ورفدها بالسلاح والمسلحين والخبرة الاستخباراتية والأمنية، فيما من الواضح أن قضية إسقاط النظام السوري غير موجودة على أجندة واشنطن التي تركز على أولوية محاربة داعش، والتفاهم مع الروس على إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، وهو ما يثير استغراب تركيا خصوصاً بعد أن عملت واشنطن في وقت سابق على التخلص من نظامي مبارك والقذافي، كما أن أنقرة ترى أن الإدارة الأمريكية هي التي وقفت عمليا ضد إقامة منطقة أمنة في الشمال السوري، قبل أن تتدخل روسيا عسكرياً في سوريا وتلغي إمكانية إقامة مثل هذه المنطقة، وقد ازدادت شكوك تركيا إزاء الحليف الأمريكي عقب إسقاط أنقرة مقاتلة روسية، إذ وجدت أن المطلوب منها أمريكياً وأطلسياً هو استيعاب الضغط الروسي وحدها والمهادنة وعدم الانجرار إلى الصدام، لتتحمل وحدها النتائج والعقوبات الروسية، في وقت ترى أنقرة أن موقف واشنطن من التصعيد الروسي ضدها لا يتناسب ومقتضيات عضويتها في الحلف الأطلسي، وهو ما جعلت منها تشك بالتزامات الحلف نحوها، وربما الإحساس بأنها عضوا من درجة ثانية أن لم تكن ثالثة في الحلف، علماً أن حدودها الجغرافية هي الأهم أمنيا بالنسبة للحلف، وذلك لجوارها الجغرافي مع روسيا وإيران والعراق وسوريا.

على وقع هذه الخلافات، برزت قضية الحريات في تركيا ملفاً خلافياً جديداً بين البلدين، إذ بدا الإعلام الأمريكي والغربي عموماً وكأنه في حملة ضد أردوغان شخصياً من خلال إظهاره دكتاتورا قامعا للحريات والراي الأخر، ومعيقاً للعملية الديمقراطية في البلاد وللنموذج التركي الذي تم التعويل عليه كثيراً، ولعل ما يضعف الموقف التركي هنا، هو السياسات القمعية لأردوغان ضد معارضيه، إذ أن حملات الاعتقال ضدهم لا تتوقف، وقضية إغلاق المؤسسات الإعلامية المناوئة له واعتقال الصحفيين والناشطين وغير ذلك من القضايا المتصلة بالحريات الإعلامية والشخصية بلغت مرحلة خطرة تهدد تركيا من الداخل قبل الخارج، حيث بدأت التقارير الصادرة عن المنظمات الحقوقية والإنسانية ترسم صورة قاتمة لتركيا خاصة إذا استمر أردوغان في مثل هذه السياسة.

مع تفاقم القضايا الخلافية بين تركيا والولايات المتحدة، ثمة سؤال جوهري يدور في أنقرة وواشنطن معا، وهو هل قررت واشنطن إنهاء شراكتها الإستراتيجية مع أردوغان وتسعى للتخلص منه عبر خطوات متراكمة في الداخل والخارج؟ سؤال ربما يجد طرحه مشروعيته في حديث بعض الصحف الأمريكية الكبرى مؤخراً عن إمكانية حصول انقلاب عسكري ضد أردوغان، وأن مثل هذا الانقلاب لن يؤدي إلى ذرف الدمع عليه في الغرب، وأن المشهد لن يختلف عن ما جرى لمحمد مرسي في مصر.

بداية، ينبغي النظر إلى أن نشر مثل هذا الأمر في الصحافة الأمريكية ومن قبل المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأمريكية مايكل روبين، أمر ليس من دون معنى أو مجرد رأي صحفي، وإنما في الحقيقة تعبير عن ما يجري في الدوائر السرية والمغلقة. لكن السؤال هنا، هل الهدف من طرح هذا الأمر في الإعلام هو الانقلاب فعلاً أم الضغط على أردوغان للاستجابة لأجندة السياسة الأمريكية؟.

مع التأكيد على أن سبب الحملة الأمريكية على أردوغان ليست أخلاقية بمعنى أنها مرتبطة بالحرص على الحريات الصحافية والديمقراطية والقضية الكردية كقضية شعب حرم من حقوقه التاريخية، وأن انقلاب الجيش ضد أردوغان لا يتم من خلال الحديث عنه في الإعلام قبل وقوعه، فإن الأمر هنا يتعلق بما هو المطلوب أمريكياً من أردوغان.

في الواقع، على الرغم من البعد الاستراتيجي للعلاقة الأمريكية – التركية، إلا أنه من الواضح بالنسبة لواشنطن أن هذه العلاقة محكومة بالدور الوظيفي لتركيا وبمدى رؤيتها لحدود دور الحليف التركي. ولعل مشكلة واشنطن هنا، هي أنها بدت ترى أن هذا الحليف يخرج عن هذا الدور ويحاول أن يقوم بفرض أجندته الخاصة حتى لو تعارض هذه الأجندة مع الأجندة الأمريكية، وهو ما لم تعهده واشنطن من أنقرة من قبل، وهي ربما ترى أن السبب الأساسي في ذلك ليست تركيا كدولة وإمكانات وإنما طموحات أردوغان وتطلعاته الجامحة، تلك التي باتت تعرف بالعثمانية الجديدة على شكل طموحات توسعية تعارض واقع العلاقات الدولية والقرارات الدولية التي تؤكد سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية بحجج وذرائع واهية. مع التأكيد على أن الطابع العام للخلاف الأمريكي - التركي في هذه المرحلة الانتقالية هو حدود الدور والسياسات، فإنه ينبغي القول إن مسار هذا الخلاف بات مرتبطاً بمرحلة ما بعد باراك أوباما بعد أن دخلت قرارات إدارة الأخير في قطار انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، دون أن يعني ما سبق تغير في الثابت  الأمريكي الذي يقول بأهمية الحليف التركي لأسباب جيو/إستراتيجية كثيرة، وفي المقدمة منها توظيف الدور التركي في مواجهة روسيا وإيران والتطورات الجارية في كل من سوريا والعراق.

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة