|
|||||||
|
في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تناولت مسألة الحديث والكلام والتخاطب والتعبير بشكل عام، وهي تمثّل اليوم بلاءً عامّاً، ولاسيما مع اتّساع وسائل التواصل الاجتماعي الذي أدخل التخاطب وأساليبه في حركة اللحظة الزمنيّة السريعة.... ... ما جعل الإنسان يواجه في لحظة واحدة كمّاً كبيراً من الكلام، وخيارات متعدّدة في دعوات الحوار أو السجال، بحيث باتت تفرض الاستجابة إليها تراجعاً في مستوى التفكير الناقد تجاهها، وذلك لتحديد ما يصلح للدخول فيه وما لا يصلح، وما ينسجم منها مع المبادئ وما لا ينسجم. والذي يهمُّها هنا هو الإشارة إلى بعض المبادئ التي أكّد عليها القرآن الكريم، والتي شكّلت أمرًا أو توجيهاً إلهيّاً للإنسان في امتثالها وتحقيقها، وهو ما يتطلّب عادة تفكيراً مسبقًا؛ بل تدرّباً عمليّاً يحوّل الاحتكام إليها، والتأمّل فيها، والتأنّي قبل الانخراط فيها، إلى ثقافة يعيشها الإنسان بعفويّة وسليقة. أهمّية الكلام الكلام في الأصل موقعه في الفؤاد والنفس، والمقصود هنا المعنى الذي يختلج في داخل الإنسان، كما قال الشاعر: إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فإذا ما أراد الإنسان أن يخرج ما في نفسه إلى الخارج، تكلّم به، فكان الكلام هو الوسيلة التي نستخرج من خلالها هذا المعنى الذي في الباطن ليصل طرف آخر، هو المخاطب. الكلام هنا نوعٌ من إيجاد صلةٍ ما بين ما في قلب الإنسان وقلب الإنسان الآخر. نحن هنا في عالم وصل بين العوالم الداخلية للناس. ويمكن أن أستخدم هذا الكلام لأنقل قناعاتٍ في فكري إلى أفكار الآخرين، فإذا شكّلت قناعةً لديهم فهنا نحن نؤسس لشبكة علاقات حول قناعة ما، فكرة ما، والتعبير اللساني هو وسيلة إيجاد الخيوط الأساسيّة لهذه الشبكة. هذه واحدة من الوظائف التي تبيّن لنا أهمّية الكلام. من وظائف الكلام أيضاً هو التأثير على المخاطَب أو المخاطَبين، وذلك باستثارة مجموعة من المعاني المرتبطة بالكلمات، أو بجمل معيّنة، تشكّل – هذا الربط – عبر الزمان وتفاعل المجتمعات أو نتيجة تجارب خاصّة، فهنا يستخدم الكلام لإثارة مشاعر وأحاسيس إيجابيّة أو سلبيَّة تبعًا لطبيعة الربط.. فمثلًا يكفي أن يُصاب إنسان ما بأزمة صحّية حال نزوله من طائرةٍ في بلدٍ ما ويدخل على أثر ذلك إلى المستشفى، ليشعر بالضيقِ أو بالتوتّر كلّما ذكر أمامه اسم ذلك البلد؛ لأنّ هذه التجربة – وإن كانت واحدةً – إِلَّا أنّها كانت كافيةً للربط بين كلمةٍ، هي اسم البلد، أو حالٍ (كالسفر مثلًا) وبين المشاعر التي ارتكزت في النفس على أثر الإصابة بذلك المرض. في العلاقات المذهبيّة ثمّة تاريخ طويل من المفردات التي ارتبطت بأحاسيس ومشاعر، قد تكون مشاعر عداوة أو بُغضٍ أو رفضٍ، أو – في المقابل - مشاعر صداقةٍ أو حُبٍّ أو قبولٍ، حيث يكفي التكلّم بها في ظرفٍ ما لإثارة شَيْءٍ من تلك المشاعر في النفس. اليوم أصبح لدينا علمٌ قائمٌ بذاته يبحث في آليّات التواصل والتأثير على الجماهير، ليس فكريّاً فحسب، وإنمّا التأثير النفسي والشعوري. وفيما يخصُّ الشأن المذهبي ثمّة وسائل إعلام متخصّصة، هي استثمار لحصيلة تلك الدراسات في كثيرٍ منها بلا أدنى شكّ! وبذلك يمكن للكلام أن يكون وسيلةً من وسائل قطع الاتّصال بين الناس، وذلك عبر خطاب الفتنة والنميمة والبهتان والكذب وما إلى ذلك، سواء في الحياة الخاصّة، الزوجية أو العائلية أو في علاقات الصداقة والزمالة، أو في الحياة العامَّة عندما يرتبط الأمر بجماعات ومجتمعاتٍ وشعوبٍ بأسرها. مبادئ الخطاب في القرآن المبدأ الأول: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنا﴾(1) الإنسان المؤمن لا بد أن يحتكم في طبيعة مضمون كلامه وأسلوبه على حدّ سواء في إطار الحُسن. وحُسْن الكلام مرتبط في أمرين: أن يكون في مضمونه حسناً، وأن يكون في تأثيره أو وصوله حسنًا إلى الطرف الآخر. وهذا الأمر يختلف باختلاف الناس؛ لأنّ بعض الناس إذا تحدّثت معه ببعض الكلمات في ظرفٍ عاطفيّ معيّن تستفزّه الكلمة ذاتُها التي يراها في وقتٍ عقلانيّ كلمة حسنةً. في اللحظات المذهبيّة المتشنّجة قد تحرق كلمة ما مجتمعات بأسرها؛ لأنّ الظرف قد يحمّل الكلام الكثير منا لمشاعر والأحاسيس المتشنّجة، وعندئذ قد لا تنفع عقلانية الكلمة أو حُسنها في ذاتها في التخفيف من هذا التشنّج. طبعاً الإعلام – كما أشرنا آنفاً - يلعب كثيراً على هذا الجانب؛ ولذلك وجدنا بأنّ بعض وسائل الإعلام الفتنويّة على المستوى المذهبي عملت على ضخٌّ الكثير من الكلام لكلّ فريقٍ ضدّ الطرف الآخر، وهذا الكلام ربما قيل سابقاً ولكنّه لم يؤثّر في ذهن الكثيرين؛ لأنّ الظروف السياسية والاجتماعية كانت لا تسمح كثيراً للخيال أو للمشاعر السلبية أن تعلو على سطح النفس من خلال ذلك الكلام. اليوم كلُّ الأمور التي تقال حول السنة أو الشيعة هي قديمة، وكثير من الناس كانوا قد سمعوا بها؛ ولكنّ الظرف التاريخي الذي تمرّ به الأمّة قد شحن النفوس بالكثير من المشاعر الضدّية التي جعلت الإنسان يشعر بتأثيرات جديدة للكلام لم يكن قد اختبرها عندما كان يسمع والواقع كان يعيش نوعًا من السكينة والسلام. ولو غضّينا النظر عن كلّ ذلك، وحاولنا أن نرصد انطباق هذا المبدأ على كثير من مفردات خطابنا المذهبي، سواء في حواراتنا في وسائل الإعلام أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تجد الغلظة والسباب والشتم واللعن، بل قد تجد القذف والاعتداء على الأعراض! بمعزلٍ عن أي ظروف اجتماعية أو سياسية، الكلام هنا في نفسه ضدّ هذا المبدأ، فكيف يمكن لنا أن ندَّعي الإسلام والعمل بالقرآن ولا نقيس كلامنا على هذا المبدأ؟! ولعلّ أوضح من ذلك قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾(2)، الذي يوحي بأنّ على المسلم أن يختار أحسن الكلمات؛ لأنّ ذلك هو الذي يفوّت الفرصة على الشيطان في أن يدخل فيما بينها لإثارة فكرة أو شعورٍ قد يؤدّي إلى العداوة والبغضاء بين الناس. بل قد يمكننا القول هنا – بلغة الفقه – إنّ هذه الآية ومثيلاتها حاكمة على أيّ كلامٍ ينسب التوجيه فيه إلى الدين أو الشريعة؛ فإنّه لا يمكن للشريعة أن تقرّ مبدأً بهذا المستوى من الوضوح والرقيّ، ثمّ تخالفه إلى جملةٍ من المفردات أو التعابير التي يُراد لها أن تحكم العلاقة بين الأطراف الإسلاميّة. ولا بدّ هنا من إعادة التأكيد على أنّ هذه المسائل من الأمور المتحرّكة بين الأزمنة والأمكنة والظروف؛ بحيث يمكن لبعض المفردات أن تكون حسنةً في ظرفٍ، وقبيحة في ظرفٍ آخر. المبدأ الثاني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(*) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾(3). الإنسان المؤمن لا يتكلم بكلام وهو لا يعيشه على مستوى قناعاته الذاتية، سواء في عالم الوعظ والإرشاد، أو في عالم إطلاق المواقف في عالم السياسة، أو كذلك في الترويج للبضائع والسلع الاقتصادية للناس. وهنا نجد الكثير من هذه النماذج التي تنشئ للناس المدارس وتدرّس أولادها في مدارس خاصّة، أو تستورد للناس طحيناً مغشوشاً وتأكل من غيره، وتنشئ للناس سبل المياه وتشرب من المياه المستوردة؛ وهكذا... وربّما يحسن بنا هنا أن نلتفت إلى الخطاب الإسلامي الوحدوي الذي يعلو أعواد المنابر، أو منصّات المؤتمرات والندوات، وشاشات الإعلام، وصفحات الكتب والصحف والمجلّات، ولكنّه لا ينعكس عندما يخلو كثير من الناس إلى جماعته المذهبيّة، في مسجد أو حسينية أو جلسة مغلقة، فإذا بهؤلاء لا يعيشون من الوحدة حرفاً، وكلامهم ينضح بكلّ العصبيّة المذهبيّة الضيّقة، على طريقة أولئك الذين قال الله عنهم: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾(4). إنّ هذا كلّه نوعٌ من النفاق الذي يعكس معه الكلام وجود شخصيّتين؛ واحدة تمثل القناعات النظرية التي تتحوَّل إلى ما يُشبه "عدّة الشُّغل" التي يُحتال فيها على الناس، والأخرى نفس شيطانية هي التي تمثّل ميدان الفعل؛ وهذا في حدّ ذاته يمثل تدميراً للنفس البشرية. المبدأ الثالث: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ﴾(5). لا يمكن للناس أن يأمروا الناس بالبر وينسون أنفسهم؛ لأنّ هذا الأمر قد يُضعف قناعة الناس بالبرّ نفسه. ونحن نعلم أنّ الإنسان أسرع تصديقًا للكلام عندما يتطابق مع الفعل؛ فكيف إذا كان هؤلاء في مواقع الوعظ والإرشاد والقيادة لأولئك الناس!. كثير من الناس إذا نفذنا إلى حياتهم الضيقة والخاصة، لوجدنا هناك ازدواجية بين الخطاب الخارجي والخطاب الداخلي. قد ينظّر كثيرون للحوار وهم لا يطيقون النقد. وقد يحاضر كثيرون بالعفّة وهم لا يبالون أن تتحرّك المنكرات في حياتهم أو في القوانين التي يشرّعونها، أو في القرارات التي يصدرونها إذا كانوا في موقع الحكم. إنّ الإسلام من خلال هذا المبدأ يريد أن يؤكّد على الشخصيّة الإيمانية المتجانسة، التي تعيش ما تقتنع، ولا تتكّلم إلا بما تلتزم، وعندما تعيش مع الناس فإنّها لا تواجههم بخطاب لا تواجه به جماعتها الأقربين. المبدأ الرابع: ﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾(6) الافتراء على دين الله افتراء على الله ليس فقط أن يقول الإنسان (قال الله كذا)؛ بل يكفي أن يتبنّى الإنسان فكرة ما من دون دليل لينسبها الإنسان إلى الإسلام، أو أن يقول الإنسان إن هذا ضروري من ضرورات الدين أو المذهب والبرهانُ على عكس ذلك، ليكون في موقع الافتراء على الله. ولذلك قال تعالى: ﴿قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون﴾(7)، والله تعالى لم يأذن أن يُدخل الإنسان إلى معتقداته فكرةً من دون دليل ولا برهان، فقال تعالى: ﴿قل هاتوا برهانكم إن كُنتُم صادقين﴾(8). وعلى هذا يعتبر النقد الموضوعي لأي فكرة الوسيلة التي نستطيع من خلالها تمييز الفكرة التي يمكن نسبتها إلى الله، والتي لا يمكن نسبتها إليه جلّ وعلا. وهذا الميدان خطيرٌ جدًّا؛ لأنّ عالم الأفكار هو عالمٌ متّسع مع الزمن؛ قد تجد ديناً أو اتجاهاً ما قد حمل كثيراً من الأفكار من خلال ما أضافه الناس إليه بفعل تمثّلهم له، وربما يحصل ذلك بشكل عفوي ومن دون تخطيط تآمري، فضلاً عن وجود مؤامرات تاريخية على الدين كذب فيها أناس على لسان رسول الله(ص) وفي زمانه، حتى قال(ص): "من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار"(9). ولهذا يمكن لنا القول إنّ الموقف الذي يعتبر فيه أتباع ديانة ما أو مذهب ما أنّ ما وصل إليهم من أفكارٍ ومعتقدات تمثّل المقدَّس الذي لا يمكن أن يناقش، هذا بابٌ واسعٌ من أبواب الافتراء على الله؛ لأنّنا عندما نعتبر ذلك كلّه دينًا، فنحن نقول – بشكل غير مباشر – إنّ الله أمرنا، وَإِنَّ الله نهانا، وَإِنَّ هذا المنهج الأخلاقي هو ما أنزله الله في كتابه، وهذه القاعدة الشرعية هي ما سنّه النبي في سنَّته؛ وهكذا.. المبدأ الخامس: ﴿عن اللغو معرضون﴾(10). المؤمن معرضٌ عن اللغو، لا عن استماع اللغو فقط بل عن إنتاجه أيضاً، سواء في ذلك في الخطاب الديني، كما في المسائل التي لا تنفع من علمها ولا تضرّ من جهلها وَمِمَّا لا يدخل في نطاق مسؤوليّاتنا العملية، أو في الخطاب الإعلامي، أو في أحاديث السمر وجلسات البطالة! عندما يريد الإنسان أن يطلق أيّ كلامٍ أو أن ينخرط في حوار فلا بد من تحديد الهدف، فلا يمكن أني كون الإنسان في حديثه بلا هدف؛ لأنّ هذا الكلام طاقة، وهو يدخل في نطاق المسؤولية أمام الله، وقد مرّ عليٌّ بن أبي طالب(ع) برجلٍ وهو يتكلّم بفضول الكلام، فقال: يا هذا! إِنَّك تملي على كاتبيك كتابًا إلى ربّك"(11). أخيراً لسنا هنا في مقام استقصاء كلّ الآيات المرتبطة بمبادئ الخطاب، بقدر ما أردنا أن نأخذ عيّناتٍ منها في سبيل التفكّر في أساليبنا وأوضاعنا التي ربّما ألفناها ولم نشعر بالحاجة إلى التأمّل في مصادرها، فلعلّنا نأخذ بغير ما أنزل الله ونحن نحسب أنّنا نطبّق كلام الله وسنّة رسول الله؛ والله من وراء القصد. هوامش 1- سورة البقرة: ٨٣. 2- سورة الإسراء: ٥٣. 3- سورة الصف: ٢-٣. 4- سورة البقرة: ١٤. 5- سورة البقرة: ٤٤. 6- سورة يونس: ٦٩. 7- سورة يونس ٥٩. 8- سورة البقرة: ١١١. 9- صحيح البخاري (١٢٢٩). 10- سورة المؤمنون: ٣. 11- ميزان الحكمة، ج٣، ص٢٧٣٥. |
||||||