|
|||||||
|
ينشغل كثير من المراقبين بمجريات الساحة السورية بشكل خاص، والتي أعطاها زخماً ومساراً مختلفاً، التدخل الروسي المباشر في 30 أيلول 2015 بناءً على طلب الرئيس السوري بشار الأسد. لكن المسألة ليست مجرد نجدة روسية للرئيس السوري وليست مجرد ضرب الجماعات الإرهابية، إنها أبعد بكثير مما يُقال، ومما يُرى على الشاشات... إنها حرب الجيوبوليتيك. لقد انتهت حرب باردة دامت عقوداً بين مشروعين إيديولوجيين: الاشتراكي ممثلاً بالاتحاد السوفييتي والليبرالي ممثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية، ومعها انتهت الحرب لدواعٍ إيديولوجية. ما بقي هو الصراع، استمرار الصراع للسيطرة على الجغرافيا، بحيث أنك لا تستطيع أن تفهم جيداً ما يجري في سوريا، ومعه في المنطقة العربية دون أن تضع أمامك خريطة العالم لتعرف ما يجري، وما قد يجري ولعل ذلك يجعلك قارئاً سياسياً رؤيوياً. ما تشهده المنطقة العربية من صراعات وحروب ومنها سوريا، هو جزء من صراع الجغرافيا، صراع بين مشاريع جيوبوليتيكية. في الجيوبوليتيك العالم العربي ليس بمنأى عن اهتمامات هذا العلم، علم الجيوبوليتيك، وما انبثق عنه من مشاريع إستراتيجية للسيطرة، لكن في موقع المفعول به، تقع عليه سياسات ومشاريع القوى الدولية الطامحة، ولم يحدث بعد على الأقل في التاريخ الحديث والمعاصر، أن تشكل مشروع (نهضوي) جيوبوليتيكي فاعل، يقرأ الجغرافيا ويمارس السياسة على ضوء معطيات الجغرافيا بكل تفرعاتها: البشرية والاقتصادية والإستراتيجية والسياسية. وهو ما يعنيه الجيوبوليتيك، أي دراسة تأثير أرض الدولة في البر والبحر، ومساحتها وموقعها وتأثير هذه الأرض على السياسة، سواء الداخلية أو تلك المتعلقة بمحيطها الخارجي، أي سياستها الخارجية وتصورها عن ذاتها وتأثرها وتأثيرها بالعالم الخارجي، وكيفية صياغة السياسات والنشاطات التي تحقق لها أكبر العوائد ويجنبها المخاطر. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ وربما كان محقاً هل كانت الأيديولوجية (اشتراكية أم ليبرالية) ذريعة أو رأس حربة للامتداد الجغرافي والسيطرة على بلدان ما وراء البحار والمحيطات؟.. ألم تكن الجغرافيا بكل معانيها وحقولها هي الهدف وهي الساحة لكل صراع وحروب عبر التاريخ؟. إن الصراع بين القوتين الاشتراكية السوفييتية والليبرالية الأمريكية مثّل (حسب رأي بريجنسكي في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى) تحقيق نظريات الجيوبوليتيكيين الأكثر تشدداً إذ وضع أقوى قوة بحرية في العالم تسيطر على المحيطين الأطلسي والهادي (الولايات المتحدة الأمريكية) مقابل أقوى قوة برية في العالم تتموضع في مركز البر الأوراسي وهي الاتحاد السوفييتي. توظيف الجيوبوليتيك يعتبر الألماني فريدريك راتزل( 1868-1904) الأب الأول لعلم الجيوبوليتيك، حيث وضع أساساً جغرافياً للسياسة والعلاقات الدولية، واعتبر أنه كلما وسّعت الدولة مجالها الجغرافي ازدادت قوتها السياسية والاقتصادية، فأعطي بذلك أهمية خاصة للمجال الحيوي وللحدود السياسية. الألماني كارل هاوسهوفر (1869-1946) طور أفكار راتزل بعد أن أنشئ المعهد الألماني للجيوبوليتيك. ألمانيا النازية عملت بآراء راتزل وهاوسهوفر، واستند هتلر إلى الجيوبوليتيك لتطبيق المجال الحيوي فانطلق ليحتل النمسا عام 1938 ثم تشيكوسلوفاكيا العام 1938 ثم بولونيا وليتوانيا والدانمرك عام 1940 ويوغسلافيا واليونان وكريت ثم نحو موسكو لكنه انكسر عند ستالينغراد. بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد ما فعله هتلر بناء على ما اعتنقه من النظرية الجيوبوليتيكية ساءت سمعة هذا العلم، وارتبط أسمه بالعداء والتدمير والتوسع على حساب الدول الأخرى، وامتنعت بعض الدول عن تدريسه في جامعاتها، ومنها الاتحاد السوفييتي. لكن في سبعينيات القرن الماضي، أحيا هنري كيسنجر وزير الخارجية الأسبق في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون وجيرالدفورد، أحيا مصطلح الجيوبوليتيك والذي يعني من وجهة نظره:" لعبة تحقيق التوازن في القوة والسياسات التي يضطلع بها اللاعبون على الخارطة السياسية العالمية". وفي تسعينيات القرن الماضي استعاد علم الجيوبوليتيك وهجه لاعتماده على عنصر ثابت في السياسة الدولية هو عنصر الجغرافيا (بعد سقوط صراع الإيديولوجيات عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه). ومذ ذاك ترددت عبارات مثل: حقائق جيوبوليتيكية، منظور جيوبوليتيكي، ووقائع جيوبوليتيكية... واستعيدت نظريات كبار الجيوبوليتيكيين منذ راتزل وماكندر وصولاً إلى المنظر الروسي ألكسندر دوغين الذي صدر له كتاب قيّم في مجاله تحت عنوان: أسس الجيوبوليتيك، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي. في الجيوبوليتيك وضعت نظريات سياسية ترسم حركة صراع الدولة، واعتبرت الدولة كائناً عضوياً، وطرحت فكرة الحدود الشفافة للدولة، وقسم العالم إلى قلب وهلال داخلي وهلال خارجي، والقوى إلى بحرية وبرية. وجاء نيكولاس سبيكمان (1897-1943) الذي سُمي أبو علم الاحتواء والذي نظّر لضبط حركة العالم عبر: - صنع نظام عام لتوازن القوى كالأمم المتحدة. - السيطرة على الهلال الداخلي للسيطرة على العالم. والهلال الداخلي يُقصد به معظم قارة أوروبا والعالم العربي وإيران وأفغانستان والصين وجنوب شرقي آسيا وكوريا وشرق سيبيريا، وهذه تسمى أيضاً أرض الحافة، والصراع قائم بينها وبين قوى البحر (الولايات المتحدة الأمريكية)، وبنظره أن من يسيطر على الهلال الداخلي أو أرض الحافة يسيطر على أوروبا وآسيا، ومنها يسيطر على العالم. وبالإجمال، فإن الجيوبوليتيك كعلم ينطلق من ثنائية متضادة ومتصارعة بين البر أو التيلوروكراتيا، والبحر أو التالاسوكراتيا. ويرى بعض الباحثين في علم الجيوبوليتيك إنه لقوى البر، ثقافتها وقيمها لجهة الثبات والاستقرار والروح المحافظة ورسوخ الأخلاق، وهو رسوخ مستمد من ثبات اليابسة، وتتمثل في روسيا وألمانيا. أما قوى البحر، فلها ثقافة ديناميكية تتركز على الفرد والحركة والتطور، ولا تبرز لديها القيم الأخلاقية، وتتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية. والصراع اليوم المحتدم في المنطقة العربية، هو صراع قديم بين الدول البرية (القارية) والدول البحرية. دول محاصرة بدون سواحل أو منفذ إلى البحر، سعت دوماً إلى فك الطوق عنها للوصول إلى البحر والتواصل عبره مع العالم (71% من الكرة الأرضية يغطيها الماء)، في حين سعت، واليوم تسعى الدول البحرية للتوغل داخل الدول البرية للسيطرة على مواردها. ووفق الجيوبوليتيك، فهناك منطقة تصادم أو ارتطام هي الهلال الداخلي (والعالم العربي جزء منه) فهو نقطة التقاء بين ثلاث قارات وعقدة طرق برية وبحرية وجوية تربط العالم وهو ما عبر الجيوبوليتيكي الروسي ألكسندر دوسيفرسكي بقوله: "هذه المنطقة العربية هي المعبر الذي يربط قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا وهي مفتاح الدفاع الجوي عن قارتي أفريقيا وأوروبا". إذاً نفهم من كل ذلك، أن ما يجري في سوريا هو صراع متجدد بين قوى البر وقوى البحر. ولا نستطيع بحال من الأحوال أن نعزل ما يجري في المنطقة العربية والحروب واحتشاد الجيوش العالمية فيها والإقليمية، عما يجري في مناطق أخرى من العالم. فروسيا اللاعب القوي الذي دخل الحرب في سوريا ضد الإرهاب تعتبر أن هذه حربها الثالثة بعد الحرب في الشيشان (1999-2009) والحرب ضد جورجيا (2008)، وهي في كل مرة حسمت المعركة لصالحها ضد من حاول ضربها وتمزيقها وتطويقها (قوى الغرب وإسرائيل والسعودية التي دعمت انفصال الشيشان). واليوم في سوريا لا مجال أمام روسيا إلا أن تحسم الحرب لصالحها مهما كلف الأمر، إنها معركة تكاد تكون مصيرية لروسيا، وقد ذهب ألكسندر دوغين، الذي وُصف بأنه دفاع بوتين إلى اعتبار أن التخلي الروسي عن الأسد يعني الانتحار الجيو/سياسي لروسيا. ووصف الأزمة السورية بأنها المعركة الكبرى بين القوى البرية والقوى البحرية التي يجب أن تنتهي بالحسم العسكري. ألكسندر دوغين في كتابه " أسس الجيوبوليتيك، مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي" رأى أن تخلي روسيا عن الأسد يعني أن بوتين يكتب بنفسه شهادة وفاة روسيا ووفاة العالم المتعدد الأقطاب. إن حدة المعركة في سوريا مرتبطة بحجم ما تعول عليه روسيا من مكتسبات جيو/سياسية في المنطقة العربية والبحر المتوسط والعالم لجهة فرض تعدد الأقطاب. وبنظرة فاحصة ومدققة على الخريطة الدولية، يظهر موقع روسيا وإطلالتها الضيقة على البحر الأسود، ومن ثم صعوبة وصولها إلى البحر المتوسط، حيث لا مرسى لها إلا في سوريا. وبانكفائها عن سوريا تنكفئ عن البحر المتوسط إلى ما وراء البحر الأسود الذي تشكل أوكرانيا (كانت تشكل) بوابتها الواسعة إليه، لكن أوكرانيا خرجت عن الطوع الروسي، وباتت من دول الاتحاد الأوروبي، وبالتالي هي جزء من الطوق الغربي حول روسيا. ألا تبدو المعركة متصلة الأوصال بالنسبة لروسيا والولايات المتحدة الأمريكية؟ وفي هذا السياق الدراماتيكي يبدو العالم العربي والإسلامي في أمس الحاجة إلى رؤية جيوبوليتيكية تنقل العرب والمسلمين من كون بلادهم جغرافياً مفعولاً بها، تتنازع عليها وفيها القوى الدولية ذات المشاريع والرؤى الجيو/سياسية، إلى موقع تكون بلادهم كتلة جغرافية وسكانية واقتصادية كبرى لها رؤيتها في السياسة الدولية، ودورها القائم على تبصّر بذاتها وبقدراتها وأهميتها، وتبصّر بما تريده من الآخرين في المحيط الدولي, هل يحتاج الأمر إلى معجزة؟؟!. |
||||||