التفسير التجزيئي والموضوعي للقرآن الكريم

السنة الخامسة عشر ـ العدد 173 ـ  (رجب - شعبان 1437 هـ ) ـ (أيار 2016 م)

بقلم: د.عصام العيتاوي

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

قبل الدخول في صلب هذا الموضوع لا بد من التفاتة إلى بيان معنى التفسير والتفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي.

أولاً، التفسير

هو البيان والتوضيح، وفسَّره يعني أبانه، وهو بمعنى اللفظ المراد فهمه، أو اللفظ المشُكْلِ علينا، والذي لا نعلمه سواء تعلق بالناحية اللفظية كما تقدم، أو الناحية الأدبية والبلاغية والفكرية التي يضمها أي نص، في القرآن الكريم أو غيره، أو الحديث الشريف أو سائر النصوص المأثورة.

أما التفسير التجزيئي: هو الذي يتناول تفسير القرآن آية آية، وتبيان مفرداتها، التي أصبحت اليوم صَعْبةً علينا، وعلى أجيالنا الجديدة غريبة، ونظراً لبُعْدِنا عن لُغتنا العَرَبية الفصحى الأصلية؛ ويعود السببُ للعامية الدارجة المنتشرة في أغلب بلداننا، أي في الدول العربية والإسلامية من ناحية، ومن ناحية ثانية لاهتمامنا باللغات الأجنبية التي نشجع أبناءنا على تعلمها مع بذل الغالي والنفيس لأجلها، باعتبارها أَضحت اليوم، وخصوصاً اللغة الإنكليزية لغة العصر والأجيال الصاعدة في ضوء ثورة التقدم الإلكتروني والعولمة المتوثبة للقضاء على كل تراث غير تراثها، ومن ضمنها اللغة العربية الحافظة لهذا التراث.

وبفعل بُعْد الزمن عن الأصول اللغوية لا بد أن يَنْشَغل الذهن بتعابير مستخدمة تبعده عن واقعه الأساس، تماماً كما ينحرف الولدُ في أول عمره في المدرسة عند كتابته للحظ العربي، فأول سطرٍ، يقوم بتقليده يكون متساوياً مع الكلمات التي خطَها المعلمُ له، وينحرف عن التركيز كلما اتجه إلى أسفل الصفحة، كما يُضاف عوامل عدة إلى ضَعف اللغة العربية عند المتكلمين بها نذكر على سبيل المثال، ما دخل على اللغة من ألفاظ من لغات أُخرى بفضل دَور التجارة، والاستعمار في فرض لغته ومصطلحاته على الشعوب المستعمَرة. ولعل الشيء الوحيد الذي نستفيد منه من التفسير التجزيئي للقرآن الكريم هو معرفة صورة الشيء من الكلمة التي بالسورة، والتي بات الكثير منا يقرأ تلك الألفاظ دون معرفة معناها، فنخرج من التلاوة كأننا لم ندخل. 

وأخيراً ما يمكن تلخيصه عن التفسير التجزيئي، أنه أوقف عملية القهقرى والتدهور إلى الوراء في الدلالة والفهم، وحفظ المعاني للألفاظ من الاندثار والوقوع في الفراغ الذهني.

ثانياً، التفسير الموضوعي

نتطرق أولاً لكلمة موضوعية، فهي تعني فصل الموضوع عن الذات، في لغة تقانيات ومنهج البحث العلمي، فعندما نقول تكلم أو نتكلم بموضوعية أو منطقية، فهذا يدل على أننا نتخلى عن الرأي المسبق إحساساً منَّا وشعورنا تجاه الموضوع المعين، لنحدده بتجرد تام، وبعيد عن العواطف والإحساسات والشعور.

أما التفسير الموضوعي: فالمقصود بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، أن يتناول دراسة موضوع معين من موضوعات الحياة العقائدية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية أو السياسية، أو القضايا المتعلقة بالكون أو سائر المخلوقات، أو بما وراء الطبيعة الخ... فيركّز الباحث فيه بالتنقيب والمثابرة، وبذل الجهود المضنية ليكلل بحثه بالوصول إلى نتيجة أقرب إلى الحقيقة، إن لم نقل الحقيقة بذاتها، وهذا يتوقف على طاقة المفسّر الفكرية والعلمية وما يتمتع به من خبرات وعلوم مختلفة، استطاع سَبْرَها وهَضمها بالتمام، متوغلاً إلى معرفة أسرارها ومقاصدها. وهدفُه من التفسير الموضوعي تحديد موقف صحيح لمواضيع القرآن الكريم، ومدى انطباق هذا الموقف عملياً على شؤون الحياة أو على حقائق الكون المعيوشة.

صفات المُفَسّر الموضوعي: إضافة لما تقدم، على المفسّر أن يلم الماماً متيناً بأفكار عصره، وما احتواه التراث البشري منذ القدم وحتى تاريخه، مضافاً إلى إطلاعه على تجارب الآخرين مسخراً كل طاقاته في سبيل بحثه حتى يفي الموضوع حقه ويصل إلى هدفه، بإجادته منهج المقارنة والاستقرار خاصةً، وكلما كان فكره ناضجاً أكثر استطاع أن يسبر في مضامين القرآن مجالات رحبة لهذا النضوج، وآفاقاً كثيرة تتكيف مع وقائع الحياة والإنسان والكون، وهذا الثالوث المميّز الذي من يجد له أجوبة منافسة ومقنعة يسمّى فيلسوفاً.

وكما هو المعلوم إن للغة مهما كثرت مفرداتها ومشتقاتها التي تبقى ذات طاقات محدودة، باعتبار أن اللغة والمفردات عندما يكشف معناها وتعرف دلالاتها مهما كانت، لا يمكن لها أن تتجدّد مع الزمن، بل تبقى على وتيرتها، وبذلك يبقى المعنى ثابتاً بثبوتها ومقتصراً عليها فقط. ولا يمكن لها أن تمتلك طاقاتٍ لامتناهية إلا إذا تحولت إلى تفسير موضوعي، يملك القدرة على التجدّد كلما تغيرّ العصر، أو كلما تغيرت عقليات ونفسيات الشعوب، بفضل الثورات العلمية الدائمة التجدّد، والتغيرّ الفكر البشري لتخلصه من قيده لما هو أفضل، مواكبةً مع الحراك التفسيري والفقهي العام.

وهذا على الرغم من توفره، أو توفر أكبر طاقة منه يبقى الإنسان بشكل أكثر إحاطة لمكنونات القرآن الكريم، كلما استطاع العلم أن يصل إلى اكتشاف الحقائق بشكل أفضل، وهذا يدل على أن التفسير الموضوعي ليس له حدود يقف عندها إطلاقاً، بينما نجد التفسير التجزيئي يقف عند حد نهائي وثابت في آخر المطاف. وهذا هو المقصود من الفرق بينهما. إذ يبقى التفسير الموضوعي متغيراً بشكل دائم، يساير كل زمنٍ مهما تغيرت المدنّية وتجددّت العقول.

ومن هذه الزاوية ندرك أهمية وحركة الاجتهاد الفقهي المطلوب استمراره، حتى يبقى مفهوم الدين مجّدداً ومواكباً لكل العصور، وتصبح الحاجة هنا إلى الاجتهاد، ضرورةً حتمية حتى لا يتخطى العلم الدين وهذا بالطبع محال. لأن القرآن يثبت أكثر فأكثر إنه نزل بكل ما يحمل من مضمون لكل العصور، وذلك حتى يقضي الله أمراً كان مقضياً، وهكذا تتخطى حالة الاجتهادي المعرفي لتفسير القرآن الموضوعي حاجزَ المذهبّية، التي يريد أن يسخرَّها كلٌّ لصالحه ووفقاً لأهوائه، وبذلك تبقى مقولة: هم رجال ونحن رجال سارية المفعول والتجدد مع الحراك المستمر كما هو أفضل لصالح الإنسانية جمعاء، دون الالتفات إلى من يتضرر من صلاحيتها وأهميتها في كنه وإجادة كل الطرائق التي تجعل من الدين موضوعاً متجدداً ومحرّكاً للعقل البشرى بشكل عام.

طرائق التفسير الموضوعي: الطريقة الأفضل في هذا التفسير، أن ينطلق المفسّر من موضوع معّين أو واقعة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك (فينكبُ عليها ويجمع بقدرته العلمية ما استطاع من معلومات ومفاهيم عنها، محاولاً أن يلم بمختلف الدراسات حول تلك الظاهرة، ثم ينظر ببصيرته كيف عالجها القرآن الكريم، فيجمع الآيات كل الآيات التي تَمُتُّ إليها بصلة، فيصنّفها ويباين بينها أو يقارن، حتى يصل إلى الرابط الأساس فيما بينها، فُينظمها عن طريق الاستنتاج الذي يخاطب العقل محاولاً إقناعه عن طريق المنطق، ومستعيناً بكل الوسائل والإيضاحات والبراهين الدالّة. هذا من جهة، ثم يعمد إلى ما في الأحاديث النبوية الشريفة التي تكلّمّت عنها أو عالجت على شاكلتها. ويضيف إليها أحاديث أئمة أهل البيت، لأنهم لا ينطقون إلا عن لسان جَدِهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله والمنتجبين من أصحابه الكرام الذين وعوا عنه ما سمعوا وشاهدوا دون مواربةٍ أو محاباة .

كما يعمد إلى أقوال أَئمة المفكرين المتبصرين من المسلمين وغيرهم، فيستعين بها لبيان ما أَشكل على العقل خاصة في الآيات والأحاديث المتشابهة، فيعمل عبرَ المنهج الاستقرائي على محاكاتها وفهمها وهضمها وإعادة إِ نتاجها، ملماً بكل تفسيراتها وتأويلاتها، حتى يصل جرّاء بحثه العميق هذا إلى قرارة جواب مقنعٍ يتماشى مع كل المناحي الفكرية المنتشرة، غايته الوحيدة والفريدة أن يتقرّب إلى الله بما يعمل ويجتهد، لنيل رضاه فقط، تمهيداً لمنزلةٍ يعملُ من أجلها وهي الخلود في الجنة، لا يخشى لومة لائم، من أي جهة أتت، أو مهما علا شأنها في الحياة الدنيا.

وهكذا يجب أن تكون جميعُ الأبحاث الفقهية، حتى يتسنى للمسلم والفرد المؤمن أن يختار الأفضلَ في حياته، حتى ولو خالف مذهبه الذي يتمسك به، وطريقته التي نشأ عليها، مهما كانت مكانة هذا المذهب ومؤسساته، وما لها من أهمية لديه أو عند أهل بيته وخاصة جلدته ومَراجعه وأسانيده، وليخرج خطاب العقل البحثي متوجهاً إلى العقول، ولينطق به لسان القلبِ ليصل إلى القلوب النقية دون هوية.

ولا شك أن من التفسير الموضوعي يأتي التغييرُ في النفس، بناءً على الدراسات الموضوعية العلمية التي لا يهزها الانتقاد، وتستفيد من النقد؛ لأن غايتها التقدم بعينه، وليعترض من يعترض، من أصحاب الأفكار الموروثة التي لا تمت إلى العقل المؤمن بصلة، أو التي تدَّعي الحفاظ على الأفراد على ما هم عليه؛ لأنه في نظرهم الأفضل، لكنه بحد ذاته واقعاً يبقي هذا الفرد في دوامة من الحيرة والتقليد الذي لا يُغني عن الحق شيئاً. وبالتالي تبقى مجتمعاتُنا كما صنفت من قبل المستعمِر، مُستَعَمرةٌ جامدة صفتها في حدها الأعلى الإيجابي مجتمعات نامية إن لم يقل عنها متخلفة أو وحشية أو بربرية كما جاء في بدايات العلوم الإنتروبولوجية في القرن السابع عشر، وهذه هي الخانة التي يريد أن يضعنا فيها الآخر، لكي نبقى متقوقعين، كلٌ على ما شب عليه، وهذا هو الجمود والتخلف بذاته، الذي يمكن اعتباره أساس وجود شعورنا بعقدة النقص الكامنة فينا.

والمقصود بالموضوعية أيضاً ما أشار إليه سماحة العلّامة الزين في تفسيره الموضوعي للقرآن الكريم، تناول موضوع معين من موضوعات الحياة، بدءاً من الواقع وانتهاءً به إلى حكم القرآن عليه. آيات + أحاديث، وتوحيد مدلولاتها لاستخراج المضمون القرآني حولهً. وهذا الاتجاه هو ما سارت عليه الأبحاث الفقهية في غالبها. إلا أنها لم تبلغ درجة الشمول في المواضيع التي تناولتها (وأقول بدوري أنها لم تستطيع هذا البلوغ بشكل نهائي نظراً للمستجدات التي تطرأ على نمو التفكير البشري). ولغايةِ الآن لم تبلغ الأسباب، نظراً لمحدودية الانفتاح الكلي على الآخر، ومن جهة ثانية ما يصادفه العقل الديني من المستجدات الطارئة في الساحات الإسلامية، وما يوصف بها من الأمور السياسية المفتعلة بشتى نواحيها، كذلك لم تأخذ هذه الأبحاث بمجمل التجارب السابقة لذلك تبقى هذه الدراسات حالياً مرتبطة بحالة تقدم المعيوشة، (التي تعتبر بما يتساوق معها من حالاتٍ كاملة،لكن في الواقع تبقى منقوصة في إطار علم المستقبل). أي بما يحدث من تطوراتٍ علمية. هذا مع العلم (أن معظم أولئك الفقهاء تناولوا وقائع الحياة التي عايشوها، وبحثوا في المسائل التي عكستها تلك الوقائع، كما هو الحال في مسائل: المضاربة، المزارعة، المساقاة، النكاح والمعاهدات وما إليها من مسائل التصقت بحياة الناس. ثم استطاعوا، أن يستنبطوا الأحكام الشرعية لتلك المسائل من مصادر الشريعة الإسلامية التامة الكاملة.

المفسر والاتجاهات التفسيرية

القول للعلامة الزين على المفسّر أن يكون مختصاً بالعلوم الدينية (كل الأديان) ومن أهل السلسلة المتعلمة، الذين يتقنون ما يتعلمونه، ويعرفون ما يعلنون، ويلتزمون بما يقولون، كثرت أعمالهم وقلّت أقوالهم، يخضعون لعلوم شتّى مكتسبة، وبحاجة دائمة إلى تأييد مستمر، إذا ما أخلّوا بمستلزماته فقدوه. وقد حدد العلامة الطبرسي في هذه العلوم، بخمسة عشر علماً ثم أضيف إليها علم آخر سمي الإلهام، وهو علم معطى موهوب غير كسبي، لا يوجب إلا لأهله ولا يكتسب من معلم، ًفعلم الموهبة هو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم(1) أما الخمسة عشر علماً فشرطها أن تكون على وجه الإتقان والكمال وهي: اللغة – النحو- التصريف – الاشتقاق - المعاني – البيان – البديع – القراءات – أصول الدين – أصول الفقه – أسباب النزول والقصص – الناسخ والمنسوخ – الفقه - الأحاديث المبيّنة لتفسير المجمل والمبهم – إضافة إلى علم الموهبة.

أما الاتجاهات التفسيرية فلها طرائق مختلفة وهي تندرج حتى الآن تحت ستة أنواع كما يقول العلامة الطبرسى: وهي تعود وفقاً لطبيعة اختصاص كل مفسّر. فإذا كان يميل للفلسفة، كان التفسير فلسفياً، وإذا كان روحياً ذوقياً يميل إلى العرفان، كان التفسير ذوقياً عرفانياً، وإذا كان اجتماعياً يميل إلى السياسة المعاشة، يميل تفسيره اجتماعياً وفقاً للحالة المعيوشة، أما إذا كان تفكيره يميل إلى المنهج العلمي القائم على التجربة والتحليل فيكون التفسير علمياً. وإذا مال إلى المنهج الأدبي الذي يعتمد على تحليل وفقه اللغة وتفسير المفردات، وبيان أنواع البيان والبديع والمحسنات اللفظية والكلامية كان التفسير لغوياً، وأخيراً بعض التفاسير تجمع أكثر من علم واحدٍ، بسبب التكوين الفكري المتعدد لصاحبه.

وعليه تتعدد كتب التفسير، بتعدد الاتجاهات العامة لمؤلفيها، من حيث اختصاصهم، وكلما زادت الاختصاصات عند أي منّا، يزداد سعة في ربط المعلومات، وبالتالي يكون التفسير أشد وأقوى، فيمتاز عمّن سواه في هذا العلم المطلوب، لحاجة النفس البشرية وإشباع نهمها في التعرف دائماً بطريقة أفضل على كتاب الله.

وهذا ما يؤدي إلى نشر العلم والثقافة في المجتمع، بالقدر الذي تعدد به المنارات الفكرية عند الخاصة والمنتجين للفكر، والعامة الذين يفهمون ويعقلون هذا الإنتاج ويصبحون عدول العلماء، ما ينقل المجتمعات الإسلامية إلى درجات أفضل في سلم الحضارة، والفهم الصحيح للأحاديث والمفاهيم الدينية، أو بالأحرى الفهم الأفضل بما يتوافق مع ضرورات التقدم، والوقائع المستحدثة التي ترافق الإنسان جراء توغله في تداعيات تدخل التكنولوجيا والعلوم الأخرى في حياة الإنسان، ما يتطلب الرد السريع على إشكاليات معاصرة، وهذا ما يسمى التجديد عبر الاجتهاد الذي لابد منه؛ لأنه في أحد طرفيه يحمل على زعزعة ركون العلوم الدينية ويهز من مقامها، إن لم يتجرأ أحد من العلماء أو من المفكرين على البروز لحل هذه المعضلات الراهنة، والتي يتكرر حصولها في الزمان والمكان، المتحركان دائماً، نحو المزيد من التعقيدات المتداعية، في سائر مناحي الحياة في عمر الإنسان، وفي تتالي الأجيال المؤمنة المتعطشة دائماً إلى الاستناد على الدليل الساطع في حل الأزمات المستجدة. وهنا يكمن جوهر الدين في أنه ًلكل زمان ومكانً، أي لكل مستقبل الشعوب. وهذا ما يبعده عن الركون إلى الماضي والتمثل بالسلف، على قاعدة (ما كان أفضل دائماً) فلنعمل على شاكلته (كل يعمل على شاكلته)، ولا يخفى أن آية المشاكلة في القرآن الكريم، آتت بمعرض الذم، والإنفراد بالرأي، لا بمعرض المدح، وهي متضمنة دعوة كافية إلى العمل بطريقة الإجماع، والتعاون للعمل على شاكلة واحدة يتمثل بها الإسلام كواجهة عامة لها، وينطلق منها سلوك المسلمين في تأدية واجباتهم والتعرف على حقوقهم كما يجب، بما يتوافق مع الكتاب والسنّة في حينه.

ومن هذه القاعدة (الحينية)، لا بد من تعدد التفاسير الموضوعية نفسها، وسوف تكون بجديتها لمقدار إحاطة المفسّر بالعلوم الفكرية الدينية مضافاً إليها إلمامه بدقائق العلوم العصرية المتعددة، وكلما كان هذا التمازج أقوى كانت نتائج التفاسير أفضل وأشمل، حيث تحتل أهمية المنافسة في إجلاء الحقائق والتوصل إلى مقاصدها ودورها الأهم في سياق هذا الفن الرفيع، الذي يقود الأمة جمعاء إلى معرفة الله بشكل أوسع، وكلما ازدادت المعرفة، انخفض الجهل في الجانب المظلم عند المسلمين، وبلغت الأنوار ذراها. وهذا ما يقضي على حركة الجمود الفكري، في الوسط العلمي، والحوزات الدينية، الذي يؤدي إلى تنكب الأمر الديني عن غايته التي من أجلها نزل.

ونستطيع القول هنا، إنه بتعدد العلوم العصرية يجب أن تكون التفاسير ملمة بهذه العلوم، وهذا ما يدعو إلى تنوع الدروس وتوزيع الطلبة في الحوزة وإرشادهم إلى الإلمام بمختلف الاتجاهات العلمية، بما يفرض في الوقت ذاته، تنوع البرامج والمناهج العلمية الحوزوية. كما يوجب الاستعانة في أمور الاختصاص الدقيق من المبادرة إلى فتح باب التعاون والتنسيق المتين بين الحوزة والأكاديميين المختصين الملتزمين بالشريعة الإسلامية، للوقوف صفاً واحداً في وجه التيارات المادية بشتى مظاهرها، التي تعمل من أجل نجاحها مناوئةً للدين، وتتخذ الذرائع الواهية بأنها دائماً هي الأفضل، إضافة إلى ما تزرعه في نفوس الناشئة من ميزة أولويتها وأهميتها على الخطاب الديني.

وهذا التعاون يكفل لنا سد الفجوة الحاصلة في بعض النواحي العلمية الدينية، أو ما يمكن أن نصل إليه في المستقبل من زيادة بمثل هذه الاختلالات التي يراها الأخر أنها من الممكن أن تؤدي إلى الوهن عند الطرف الآخر وركونه في النهاية إليها.وهنا نلتقي مع مقولة العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر لا يفسر القرآن بالعلوم، بل العلوم هي التي تفسر القرآن حتى نهاية الإنسان. أو كما جاء في التفسير عند السيد الخوئي(رحمه) فسّر بعضهم من ناحية الأدب أو الإعراب، ويفسره الآخر من ناحية الفلسفة، وثالث من ناحية العلوم الحديثة أو نحو ذلك، كأن القرآن لم ينزل إلا لهذه الناحية التي يختارها ذلك المفسر وتلك الوجهة التي يتوجه إليها. وأقول هنا ما أفضل لو كانت التفاسير تأتي عن مجموعة علماء متحدين كل في اختصاصه، يظهر عملهم ايجابياً على مستوى المقلدين عملاً جماعياً  ناجحاً وافياً كافياً، يعمل به المجتمع مباشرة (وهنا فليكثر المجتهدون) هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية تأتي التفاسير لفضل علوم القرآن متقدمة دائماً على العلوم العصرية. في استشرافات المستقبل، وهذا ما يبقي للجو الفكري من طرفيه الديني والعلمي. الحرية المطلقة في التوصل دائماً بما يسعد الناس كل الناس في الدارين الأولى والآخرة، وتبقى حلبة التنافس دائمة الجهوزية للاسترفاد بكل جديد نافع.

أخيراً بما أن الأَحداث والوقائع تتجدد بشكل مستدام وينتج عنها تداعيات مستمرة جرّاء تجدد الحياة، لذلك فالحاجة مستمرة للتفسير الموضوعي المتجدّد الواجب توفره لمواجهة هذه الوقائع التي سوف تظهر مع ما تبقى من زمن لعمرِ الاستخلاف في مرحلة الحياة الدنيا. وإذا كان التفسير التجزيئي لا يمكن تطويره لانتهاء مدلولات الألفاظ وثباتها على قاعدة لا يمكن تجاوزها، يبقى التفسير الموضوعي وحدَهُ القادر على مواكبة الحياة بكل آفاقها وميادينها، ويبقى هو المطلوب دائماً، لما يوفره من حراك يواكب الإشكاليات الطارئة المتطلبة لفقهٍ متجدّدٍ ومرنٍ دائم الحركة، وهذه هي ميزة الاجتهاد في الدين الإسلامي. أما نحن فقارئين وكاتبين فلنأخذ حذرنا قبل حلول الفوت ونزول الموت، وفي وقت بتنا معه، أو كدنا نعلم علم اليقين، بأن مذاهبنا جميعاً حالياً لا تقدر على الإيفاء بواجبها تجاه الدين الواحد، إلا بفضل الاجتهاد في الفتوى، ولعلها حتى اليوم لم تقدم الرؤية الواحدة الناجحة لمعالجة شؤون الحكم الإسلامي، فيما يتعلق على سبيل المثال: الناحية الاقتصادية أو السياسية وغيرها. ما يجعلها بأمسّ الحاجة إلى تجميع قواها، وعرى تواصلها والتضامن والتكافل في سبيل إخراج الأحكام الدينية الإسلامية في كل مسائل الدولة الإسلامية المأمولة. شرط أن تسمح مكاسب المتبوئين سدة المناصب الدينية، على التنازل عن مصالحهم الخاصة، للصالح العام الإسلامي، والركون إلى إكمال ملكاتهم الروحية والنقدية الفاضلة، من أجل الحفاظ على سمعة وصواب المسألة الدينية الإلهية، التي من المتوقع أن تصبح الطرح البديل للرأسمالية والاشتراكية على حدٍ سواء. وإذا ما أعملوا بصيرتهم وبصرهم بالتعمق بالأفكار والمفاهيم العالمية للطرح القرآني، ككتاب أنزل للناس كافة، لا للمذهب الواحد أو المذاهب المتعددة. (كما هم عليه المسلمون اليوم...).

أخلص إلى القول بغض النظر عن الاصطفاف والمصطّفين، في طوابير المذهبية البغيضة والمرفوضة، ودون الإخلال أو المس من أهمية كل من يدّعي الحفاظ على بيضة المسلمين، في جميع بقاع الأرض، وتحت أي شعار رَفَعَ، فإن لم يقدم المصلحة الإسلامية العليا للمسلمين وللحضارة الإسلامية الغابرة، والتي ستعود يوماً لتعم العالم بإذنه تعالى. فلنعمل جميعاً للحفاظ على حضارتنا الإسلامية، ولنبذل كل طاقة في محاكاتها تجديدياً حضارياً لاستمرارها بشكل لافت للعقول لنحقق مجتمعنا الإسلامي العصري المأمول.

فإذا عملنا متحدين كمسلمين نؤمن بالدين الإسلامي أولاً وأخيراً، نابذين المذهب التاريخي في تأويل وتفسير أسباب الضعف التي وصلنا إليها اليوم، فلا أهمية لمعرفة أسباب سلفت، وما عادت تمت إلى واقعنا بشيء، إن حلت بشكل ايجابي أو سلبي فلا خير في ذلك. بل المهم أن نعقد النية على الحفاظ على حضارتنا التي بناها من سبقنا من المؤمنين، ونعمل جاهدين كل بقدر طاقته، على تجديد هذه الحضارة بما يتوافق مع زمننا، وهكذا نكون قد أدينا قسطنا من الوفاء لديننا وحضارتنا، ونترك للأجيال اللاحقة تأدية واجباتها مفتخرة بأعمالنا في مواصلة الحراك الفكري، لا لائمة علينا في تقاعسنا ولهونا بالرد على بعضنا البعض بما لا يساهم إلا  في تراجع حركة الوعي والتشرذم، ضمن أوهام حدود مصطنعة بين أوطاننا، تأكلنا الغيرة ويسيطر علينا الحسد، وتمحقنا الديموغرافيا المذهبية، نعيش الوهم في انتصارات سرابية لا تمت إلى الوجود بصلة، تذهب أعمارنا سدى، فمتى نستيقظ لنرى ضوء الفجر يلوح مع أشعة الشمس الذهبية. 

اعلى الصفحة