|
|||||||
|
رفض الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وضع العرب بين أمرين: إما الطغاة أو الغزاة!، قائلاً إن "الأمة العربية لا تريد الطغاة ولا تريد الغزاة..".. وقد استحق القاسم عن جدارة، ما وصفه به، يحيى يخلف وزير الثقافة الفلسطيني السابق، بأنه "شاعر فلسطين وتاريخها ومقاومتها وكرامتها وعنفوانها وألقها"... وسميح القاسم وحّد "بين واقعه القومي وواقع الإنسان الفلسطيني، فنزع عن قوميته إطارها الضيّق وجعل ما يعانيه الإنسان العربي فيها ضوءاً لمعاناة الإنسان عامة". فقد برع الشاعر منذ بداياته في اقتناص الواجهة المثيرة لبنائه الفني، وشد إلى الحدث الذي يبدأ بصورة مفاجئة جميع العيون والجوارح، فكان "شاعر المواقف الدرامية وشاعر الصراع". وظل مُنتصب القامة يمشي.. حتى صرخ في وجه الموت: "أنا لا أحبك يا موت/ لكنني لا أخافك/ أعلمُ أنّي تضيق عليّ ضفافك/ وأعلمُ أن سريرك جسمي/ وروحي لحافك/ أنا لا أحبك يا موت/ لكنني لا أخافك!".. مولده قبل تسع سنوات من قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، وفي (11-5-1939)، وُلد سميح القاسم في مدينة الزرقاء الأردنية، لعائلة فلسطينية من قرية الرامة القريبة من مدينة عكا في شمال فلسطين التاريخية التي كانت تقع تحت الانتداب البريطاني. وكانَ والدُهُ ضابطاً برتبةِ رئيس (كابتن) في قوّة حدود شرق الأردن وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم. حينَ كانت العائلة في طريق العودة إلى فلسطين في القطار، في غمرة الحرب العالمية الثانية ونظام التعتيم، بكى الطفل سميح فذُعرَ الركَّاب وخافوا أنْ تهتدي إليهم الطائرات الألمانية! وبلغَ بهم الذعر درجة التهديد بقتل الطفل إلى أن اضطر الوالد إلى إشهار سلاحه في وجوههم لردعهم، وحينَ رُوِيَت الحكاية لسميح فيما بعد تركَتْ أثراً عميقاً في نفسه: "حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم سأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لنْ يقوى أحدٌ على إسكاتي". وقد ورد في مقدمة سيرة الشاعر سميح القاسم الذاتية "إنها مجرد منفضة" الصادرة فى كانون أول/نوفمبر 2011، عن دار النشر "راية"، حيفا، أن طفولته البائسة المصعوقة بالنكبة لا تعني بالضرورة طفولة الحرمان من الثياب والأحذية الجديدة والطعام والحلوى والسرير المريح واللعبة الجميلة والبيئة المحبّة المتعاطفة المتجانسة فهو يتحدث عن حرمانه وجيله من الروح لا المادة، من هيمنة ثقافة المحتلين الذين استماتوا في طمس الهوية الوطنية لشعبه. واستعرض الشاعر الذي وضع أول قصيدة وهو في الرابعة عشرة كيف سقطت بلدته، الرامة المسكونة بعدة طوائف، في الجليل بعدما داهَمَها اليهود، جمعوا رجالها في ساحتها وهم يطلقون النار في الهواء ويشير إلى رفض سكانها الدروز إبقاءهم وطرد إخوانهم المسيحيين ليفشلوا لاحقاً في ممارسات "فرق تسد" الإسرائيلية. وضمن مسلسل ملاحقته يكشف القاسم عن محاولة أفشلها أقاربه في آخر لحظة لمغادرة البلاد بحثاً عن أفق جديد في لحظة ضجر وغضب عام 1958 عقب تضييق الخناق عليه عقب تراكم تهديده وعائلته ومنعه من المشاركة في مهرجان شعري وهي لحظة كادت تفضي به إلى طريق سلكها زميله لاحقًا محمود درويش. من الرعيل الأول يعتبر القاسم من الرعيل الأول لشعراء المقاومة كما سمّاهم آنذاك الأديب الشهيد غسان كنفاني. و"شكّل" مع راشد حسين، ومحمود درويش وتوفيق زياد، ما اصطلح على تسميته "أدب المقاومة". يقول الشاعر سامي مهنا، رئيس "اتحاد الكتاب الفلسطينيين العرب" في الداخل المحتل في مقابلة صحافية إنّ "ظاهرة أدب المقاومة أدهشت العالم العربي في أعقاب النكسة. أفاق هذا العالم على وقع الهزيمة وسمع أصواتاً مجلجلة تقف أمام "الأسطورة الإسرائيلية" من داخل الأرض المحتلة". لاحقت السلطات الإسرائيلية القاسم ورفاقه الشعراء والكتاب في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي، واعتقلته عدة مرات وأبعدته عن سلك التدريس، وأيضاً أبعدته عن قريته. في ريعان شبابه، انتقل إلى مدينة حيفا، وتعرّف فيها على الشاعر الراحل محمود درويش وغيره وهناك التحق بالحزب الشيوعي وعمل في وسائل إعلامه بعدما اكتوى بنار البطالة. في تلك الفترة واجه سميح القاسم ومحمود درويش ورفاقهما الكثير من الحرمان والضيق بعكس ما جاء فى المسلسل الدرامي "في حضرة الغياب"، كما ورد في صحيفة "اليوم السابع" المصرية (20/8/2014). والقاسم شاعر مُكثر من الكتابة فما أن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت شهرة واسعة في العالم العربي، إلى جانب الشعر كتب عددًا من الروايات: "إلى الجحيم أيها الليلك"، "الصورة الأخيرة في الألبوم"، ومن كتاباته النثرية كتاب عن "الموقف والفن"، "من فمك أدينك"، "حسرة الزلزال"، وغيرها، وله عدد من البحوث والرسائل. من مجموعاته الشعرية: "مواكب الشمس"، "أغاني الدروب"، "دمي على كتفي"، "دخان البراكين"، "سقوط الأقنعة"، "الموت الكبير"، "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، وغيرها. ومن أعماله المسرحية: "قرقاش"، "المغتصبة" ومسرحيّات أخرى. وظلت الأرض حاضرة في شعره، ولم يتوان في قيادة أول تمرد ضد تجنيد أبناء طائفته الدرزية – من عرب 48- في جيش الاحتلال الإسرائيلي فكان نصيبه السجن مرات عديدة، وطرد من عمله عدة مرات بسبب نشاطه الشعري والسياسي.. عمل معلماً وعاملاً وصحفياً.. أسّس عدة صحف، كان أهمها "كل العرب"، وتنوعت أعماله بين الشعر والنثر والمسرحية، وتجاوز عددها السبعين، تُرجم عدد كبير من قصائده إلى معظم لغات العالم، وحاز على عديد الجوائز الأدبية من مختلف أقطار الأرض، تشبث بأرضه ولم يغادر فلسطين وقبل بجواز سفر "إسرائيلي"، لكنه في الوقت نفسه، ساند المقاومة والانتفاضة ودعا إليها.. العروبي والحداثي كان سميح القاسم صوت الفلسطينيين في داخل الأرض المحتلة الرافض للانتماء للدولة العبرية حتى لو اضطروا لحمل جنسيتها بحكم الأمر الواقع. كانت معاناته صادقة في شعره وواقعه، فلم يخذل شعبه. فكان القاسم كما تقول الكاتبة أماني أبو رحمة: "جسر الجمال بين من بقوا وبين من هُجروا وبينهم وبين العرب والعالم كله. هذا فضلًا عن أن وجوده في الداخل حماه من أي تورط في موقف سياسي من أي نوع. فبقي انتماؤه لفلسطين وحدها ولشعبها المحتل والمشرد". وتضيف أنه "من ناحية نقدية بحتة كان القاسم أكثر الشعراء الفلسطينيين الذين كتبوا عن القضية أو كانت هي أهم موضوعاتهم، كان أكثرهم ميلًا إلى التجريب والتجديد. ففي حين أن درويش، رفيق دربه وصديق صباه حتى افترقا حين قرر الأخير مغادرة الأرض المحتلة إلى المنافي، أقول في حين أن درويش حاول الابتعاد عن معظم تقنيات ما بعد الحداثة الأدبية واحتفظ لنفسه بخط قصيدة السهل الممتنع، نجد أن القاسم أهم شعراء ما بعد الحداثة الفلسطينيين وربما العرب. كان مكثرًا وفي الوقت ذاته كان مجربًا، ففي كل مجموعة تغيير وتطور ملحوظ وتقانات وأخيلة وصور معجزة ورؤى استشرافية جعلت منه الشاعر الرؤيوي الأكثر بصيرة وصدقًا والشاعر ما بعد الحداثي الأكثر فلسفة وعمقاً وتجريباً". وقال الناقد اللبناني محمد علي شمس الدين إن "سميح القاسم "لم يكتب القصيدة الخرساء، وهي أصعب أنواع الكلام، ولا القصيدة البيضاء، بل القصيدة المجروحة، ودمها يرشح من أطراف الحروف، وصوته يصعب أن نخطئه بعد مسيرته الطويلة، حتى ولو اشتبك أحياناً مع أصوات أخرى من شعراء المقاومة الفلسطينية، (معين بسيسو، محمود درويش، توفيق زياد، حنا أبو حنا، أحمد دحبور...)، فثمة شحنة من الغضب مزروعة كلغم في أصل كل قصيدة، من ديوان "دمي على كفي" (1967) و"دخان البراكين" (1968)، حتى مجموعته الأخيرة "كولاج 3" (2012)، ولعل الشاعر قد رش شيئاً من النار على هشيم الكلمات المهزومة للشعر العربي، وعلى المناحات الطويلة، من ديوان "نهر الرماد" لخليل حاوي، إلى قصيدة "شعراء الأرض المحتلة" لنزار قباني، أي من خمسينات القرن الفائت حتى سبعيناته". وتميزت جملة القاسم الشعرية بالغضب الثوري، وبحسب أنطون شلحت فإنّ ما يُميّز شعر سميح القاسم أن "جملته الشعرية عكست أكثر من أي شيء آخر غضباً ثورياً خضع لتحولات لم تَنه عن الأصل، وتحولت إلى ما يشبه النبوءة الثورية. كذلك، فهي جملة تتميز بمتانة اللغة وبالنهل من التراث الشعري العربي القديم ومتمكنة من العروض الشعرية التي كان يعتبرها أهم معايير كتابة الشعر ولا تشكل قيداً عليه". وكان القاسم واسع الثقافة غزير المعرفة بالقديم والجديد على السواء. وقد وظّف ثقافته وروحه الجميلة وموهبته لصالح شعره فكان بالفعل كما قال هو نفسه في حوار "الشاعر تصنعه قصيدته ولا شيء آخر".. وتعتبر أماني أبو رحمة أنه "كان من الممكن لهذا التجريب والتعقيد أحيانًا أن يبعد الشاعر عن الجماهير فيتحول إلى شاعر فلسفي نخبوي غير مقروء من العامة أو من القارئ بسيط الثقافة والمعرفة ولكنه، وبسبب التصاقه بشعبه وجمهوره، ولأنه يعلم أهمية أن يتداول العامة شعره الثوري المقاوم كتب أيضًا مجموعة من القصائد الغنائية الشفافة الجميلة، غناها فنانون معروفون فأصبحت كالنشيد الوطني للجماهير العربية. كل ذلك جعل من صاحب (منتصب القامة أمشي) قامة وطنية وفنية وإنسانية عالية لا تضاهى". ويمكن القول إن القاسم قد ابتكر "أسلوباً درامياً محكماً يقوم على جدلية التناغم بين الشّخصي والتّاريخي"، بحسب الكاتب عابد إسماعيل في مقالة له في صحيفة "الحياة اللندنية"، ونراه في ديوانه "كولاج 3"، "أكثر نزوعاً إلى التأمّل الذاتي، والتحديق في مرآة ذاته، والكشف عن تناقضات خفية، منسية، تدفعه لطرح أسئلة فلسفية عن علاقته بالزّمن، ودلالة المكوث في اللّغة طيفاً عابراً للضرورة التاريخية". ويتحدث الدكتور الناقد رياض كامل في بحثه "قراءة تمهيدية في شعر سميح القاسم" فيقول: "بكل ثقة، يمكننا القول إن شعره مرآة لقضيتين هامتين في الشكل وفي المضمون. وهو يتوازى في مسيرته مع تطور الشعر العربي في أشكاله وأنساقه، وفي كونه مرآة للقضايا الفكرية الكبرى منذ أكثر من نصف قرن من الزمن على الصعيدين المحلي والعربي والعالمي". العلاقة مع درويش شكّل سميح القاسم ومحمود درويش جناحي طائر ووصفا بأنهما شطرا البرتقالة. ويورد القاسم في سيرته الذاتية "إنها مجرد منفضة"، فصلاً خاصاً "بعلاقاته مع محمود درويش التي شهدت انعطافات مختلفة"، ويروي أنه في منتصف الثمانينيات تبودلت هذه الرسائل التي نشرت أسبوعيًا ثم جمعت في كتاب (الرسائل) الذي "يُعد من عيون النثر العربي"، بأنها "بدأت لعبةً بين صديقين، لكنّ الإقبال الواسع لدى القرّاء على مُتابعة هذه الرسائل، جعلها ظاهرة "أدبية" استثنائية آنذاك". كان القاسم في فلسطين ودرويش في باريس وكتب له في ختام إحدى الرسائل "أرى وجهاً للحرية محاطاً بغصني زيتون... أراه طالعاً من حجر. أخوك محمود درويش – باريس 5 آب /أغسطس 1986". ويوضّح القاسم أنه ودرويش لم يبحثا عن فكرة تجديد أدب الرسائل.. وكل ما في الأمر هو أنّ الضرورة دفعتهما إلى هذا الشكل من أشكال التواصل نتيجة البعد والفراق عقب رحيل محمود من البلاد عام 1971. وخاطبه درويش في قصيدة يقول في بعض سطورها "أما زلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائرات؟ إذن كيف لم يستطع امرؤ القيس فينا مواجهة المذبحة؟ سؤالي غلط- لأن جروحي صحيحة- ونطقي صحيح- وحبري صحيح- وروحي فضيحة. أما كان من حقنا أن نكرس للخيل بعض القصائد قبل انتحار القريحة؟ سؤالي غلط- لأني نمط- وبعد دقائق أشرب نخبي ونخبك من أجل عام سعيد جديدٍ جديد".. لقد كانت الصداقة التي تجمع الشاعرين القاسم ودرويش تتصف بأنها "أقوى من الحب"، ولا يخفي القاسم مرور تلك الصداقة بمراحل مختلفة ومتعددة كأي علاقة إنسانية بين صديقين. وامتدت تلك الصداقة منذ إصدار القاسم في العام 1958، مجموعته الشعرية الأولى "مواكب الشمس"، وكان لتوه قد تخرج من الثانوية العامة، ويقول في واقعة بدء صداقتهما التي رواها في مجلة (نزوى، 1-4-2011 ): بعد إصدار ديواني الأول تلقيت رسالة من طلاب من مدرسة ثانوية يني يني في كفر ياسيف، قالوا لي إنهم قرأوا مجموعتي الشعرية، وأعجبوا بها ويريدون زيارتي والتعرف علي، وكان بين الموقعين محمود درويش، محمد علي طه، سالم جبران، وكلهم تحولوا مستقبلاً إلى شعراء وكتاب كبار، فرددتُ عليهم برسالة رحبت بهم فزاروني في بيتي في الرامة، كنت أكبر منهم بعامين، لذا تخرجت من الثانوية قبلهم. تعرفنا إلى بعضنا البعض، وقضوا ذلك اليوم في بيت أسرتي وباتوا عندنا، وبقينا طوال الليل نتحدث في الشعر والأدب، وعلى سبيل المداعبة قلت لمحمود درويش "أنت يا شاب لديك حساسية شيلي"، قاصداً الشاعر الإنجليزي شيلي، فقال لي: "وأنت عندك عنفوان بيرون"، منذ ذلك الحين أصبحنا صديقين طيلة خمسين عامًا الفائتة، ولكن بعض الناس يعتقدون أن صداقتنا كانت دائماً كما يقول إخواننا في مصر (سمن على عسل)، هذا غير طبيعي وخصوصاً بين شاعرين، كنا نختلف على قضية سياسية، وعلى قضية فنية، ونختلف على امرأة أيضًا.. ويستدرك القاسم ذاكراً الحقيقة التي جسّدها محمود درويش في رسالته الأخيرة له عندما كتب: (صداقتنا أقوى من الحب). مؤكداً أنهما كانا يختلفان وهذا فقط هو الطبيعي، ولكن، لم يكن إنسان أقرب إلى قلبي من محمود، ولم يكن إنسان أقرب إلى قلب محمود مني، هكذا عشنا الخمسين سنة في صداقتنا الأقوى من الحب كما قال درويش، وأنا اتفق معه في هذا الطرح. ويردف: كنا نختلف، ولكن لم نكن نسمح لأي إنسان بالتدخل في علاقتنا الإنسانية الاستثنائية، وهو كان واحداً من أفراد أسرتي عندما تسألني أمي عن صحتي، كانت تسأل عن صحة محمود، وعندما تسأل أمه عنه كانت تسأل عني. وعن الغيرة والمنافسة بينهما، يقول القاسم: "أنا متأكد وعلى ثقة ويقين بأن المنافسة والغيرة أمور لم تطرق ولو لثانية علاقتنا، فهو يعبر لي عن مدى حبه لقصيدتي، وأنا أعبر عن مدى حبي لقصيدته. نحن كملنا بعضنا البعض، بالتأكيد نحن لم نكتب بنفس الأسلوب والأداء، فلكل واحد منا شخصيته، وبالفعل الفرق بيننا كالفرق بين شيلي وبيرون. بيرون المغامر الصاخب العنفواني، وشيلي الحالم الوديع الرقيق. قد يتناقض أحدنا مع الآخر ولكنه يكمله، ولو كانت طبيعتنا واحدة لما كان هنالك أي مبرر لصداقتنا". وأحدث موت درويش لقاسم إشكالاً، ويورد أنه عندما سُئل في رام الله هل زرت قبر محمود درويش، فردّ ليس لمحمود درويش قبر في رام الله، لديه شقة جديدة، وقد زرتها، "لأني بالفعل لم استوعب رحيله". نماذج عن أعماله نورد بعض النماذج عن قصائد القاسم، ونبدأ بقصيدة من ديوانه الأول (مواكب الشمس) التي تقول أبياتها الثلاثة: "فجر الشعوب أطل اليوم مبتسما فسوف نغسل عن آفاقنا الظلما مواكب الشمس قد مارت محطمة ظلام ليل على أيامنا جثما ونحن سرنا بها والحق رائدنا والشمس أضحت لنا في زحفنا علما". وسجن القاسم أكثر من مرة كما وضع رهن الإقامة الجبرية وتعرض للكثير من التضييق بسبب قصائده الشعرية ومنها (تقدموا) التي اعتبرت تحريضًا ضد الاحتلال وتسببت في أزمة داخل "إسرائيل" بعد تحولها إلى ما يشبه البيان الشعري-السياسي. يقول القاسم في قصيدته (تقدموا): "تقدموا.. تقدموا كل سماء فوقكم جهنم وكل أرض تحتكم جهنم. تقدموا.. يموت منا الشيخ والطفل ولا يستسلم وتسقط الأم على أبنائها القتلى ولا تستسلم. تقدموا.. بناقلات جندكم وراجمات حقدكم وهددوا.. وشردوا.. ويتموا.. وهدموا.. لن تكسروا أعماقنا - لن تهزموا أشواقنا - نحن قضاء مبرم". وللقاسم قصائد حظيت بشهرة في عموم العالم العربي ومنها (منتصب القامة أمشي) التي غناها الفنان اللبناني مارسيل خليفة وتحولت إلى ما يشبه النشيد الشعبي الفلسطيني حيث يقول فيها.. "منتصب القامة أمشي - مرفوع الهامة أمشي - في كفي قصفة زيتون - وعلى كتفي نعشي - وأنا أمشي وأنا أمشي. قلبي قمر أحمر - قلبي بستان فيه العوسج - فيه الريحان. شفتاي سماء تمطر ناراً حينا - حباً أحيان. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي - وأنا أمشي وأنا أمشي". وزاوج القاسم في كثير من قصائده بين جماليات الشعر ودور الشاعر المحرض ومنها قصيدة (بيان عن واقع الحال مع الغزاة الذين لا يقرأون) ويقول في بعض سطورها.. "يا أيها الآتون من عذابكم - لا. لا تعدو العشرة - وغازلوا قاذفة - وعاشروا مدمرة... خذوا دمي حبرا لكم - ودبجوا قصائد المديح في المذابح المظفرة - وسمموا السنابل - وهدموا المنازل - وأطبقوا النار على فراشة السلام - وكسروا العظام - وكسروا العظام - لا بأس أن تصير مزهرية عظامنا المكسرة... من أوصد السحر على قلوبكم؟ من كدس الألغاز في دروبكم؟ من أرشد النصل إلى دمائنا؟ من دل أشباح الأساطير على أسمائنا؟". "شاعر الغضب الثوري" في الختام، صدَرتْ في العالم العربي وفي العالم عدّة كُتب ودراسات نقدية، تناولَت أعمال الشاعر سميح القاسم وسيرته الأدبية وإنجازاته وإضافاته الخاصة والمتميّزة، شكلاً ومضموناً، ليصبح كما ترى الشاعرة والباحثة الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي، الشاعر الوحيد الذي تظهر في أعماله ملامح ما بعد الحداثة في الشِّعر العربي (صحيفة الوطن العمانية). وجاءَ في تقديم طبعة القدس لأعماله المنشورة عن دار "الهدى" (الطبعة الأولى سنة 1991) ثم عن دار "الجيل" البيروتية و"دار سعاد الصباح" القاهرية: (شاعرنا الكبير سميح القاسم استحقَّ عن جدارة تامة ما أُطلِقَ عليه مِن نعوت وألقاب وفاز به من جوائز عربية وعالمية، فهو وُصف بأنه "شاعر المقاومة الفلسطينية" و"شاعر القومية العربية" و"الشاعر العملاق" و"شاعر الغضب الثوري".. لقد كان القاسم يعتز بأنه أول شاعر عربي عرضت عليه نوبل مقابل الحصول على جائزة إسرائيل. فقال لهم "أنا أخذت أعظم جائزة من شاب سوري في بلودان بعد الغداء، عندما قدّم لي القهوة، فشربتها فتناول الشاب السوري الفنجان وكسره على الأرض. إلى جانبي كان محافظ ريف دمشق فقال لي: "يا بختك.. هذا الشاب كسر الفنجان بالتقليد الشامي القديم، ليعني أنه لا أحد يستحق أن يشرب من فنجانك بعدك". اقشعر بدني وقلتُ هذه أكبر جائزة يتمناها شاعر. كان يكفي أن أقبل بجائزة "إسرائيل" لأحصل على جائزة نوبل، ولكني رفضت. |
||||||