|
|||||||
|
درجت العادة أن يطلق بعض المثقفين أحكاماً معيارية (سلبية) على الإسلام من دون قراءة معمقة للفكر والنص الديني الإسلامي، وذلك عندما يجري الحديث حول قيم التسامح والحرية في الفضاء الثقافي التاريخي الإسلامي.. فهل يقبل الإسلام وهل يقبل المسلمون في مجتمعاتهم الأفكار المخالفة لتوجهاتهم الدينية التي آمنوا بها واعتادوا عليها تاريخياً؟ هل يقبلون بقيم التسامح وحرية الاعتقاد حتى للمناقضين لهم، بما في ذلك احترام الحريات الشخصية والفردية في اختيار الإلحاد؟!. في جواب مكثّف، نقول: نعم يقبل الإسلام والمسلمون قيم التسامح والحرية واحترام الآخر.. وقد عاشوا سابقاً مع مختلفين عنهم، وتعايشوا مع مغايرين لهم في بيئة اجتماعية وسياسية تدين بالإسلام.. ولكن بالشرح نقول: قبول العقل الإسلامي لقيم الحداثة ومكتسباتها الفكرية وجوانبها المعرفية العملية، وعلى رأسها حرية الفكر والاعتقاد، له منحنيان أو جانبان: نظري (فكري قيمي)، وعملي (تطبيقي سلوكي)، يتحركان في مديين زمنيين تاريخي ومعاصر.. فعلى المستوى النظري القيمي، يمكننا ملاحظة أن الفكر والخطاب الديني الإسلامي يزخر بنصوص وأحاديث وروايات تتحدث عن (وتحض على) قيم التسامح واحترام الآخر، والدعوة إلى حرية الاعتقاد على أي صورة جاء، بقطع النظر عن ثغرات ونقائص شابت تطبيقات كثيرة، وقعت هنا وهناك من التاريخ العربي والإسلامي، وما تزال تحدث بقوة وشدة، فهذه النواقص ليست فيصلاً حاكماً، ولا ميزاناً أو معياراً.. إننا نعتبر أن دعوة الإسلام إلى التعارف (والتعرّف) على الآخر، تقتضي التفاعل الخصب والخلّاق معه، وهذا يستدعي بدوره السعي الحثيث لمد جسور التواصل معه، لمعرفته ومحاورته، وقبوله والاعتراف بوجوده، والعيش "التسامحي" معه، كما جاء في قوله: ﴿.. خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..﴾(سورة الحجرات: 13).. بما دلّ ويدل على البذور الإنسانية في هذا الدين (الذي هو خاتم الأديان والرسالات وجامع لها)، وأن الفضاء الاجتماعي الذي خلقه في البيئة التي نزل فيها، كان فضاء الحرية والحوار والتسامح الإنساني، والاعتراف بالآخر المختلف والمغاير، بل واحتضانه والحفاظ عليه، ورعايته واعتباره شرطاً لوجود الفرد المسلم.. ويبدو لي أن المبدأ الأساسي الذي تنطلق منه "قيمة التسامح" مع الآخر، وقيمة الحرية، حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، (والذي يصل إلى درجة الواجب الأخلاقي والشرعي) هو مبدأ التكريم الإلهي "للإنسان- الخليفة"، خليفة الله في الأرض، الذي يفضي بالضرورة إلى ضرورة العيش الوجودي في الظلال الوارفة لقيم العدل والرحمة والمحبة والعفو والتسامح والحكمة والموعظة الحسنة والحرية، وعدم التفريق بين الرسل (ضمناً بين الديانات، بما يعني حتمية القبول والتسامح).. والوارد في آيات عديدة: ﴿إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..﴾(سورة البقرة: 30).. ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَم..﴾(سورة الإسراء: 70). ﴿ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(سورة الأنبياء: 107). ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾(سورة النور: 22). ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾(النّحل: 125). ﴿لَاْ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾(سورة البقرة: 285). ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾(سورة الكهف: 29). فالخليفة (الإنسان) المستخلَف والمستأمَن بناءً على عهد وميثاق الأمانة (أمانة الإعمار والبناء الحضاري)، يجب أن يكون وعيه وسلوكه صورة ناصعة ووجهاً مشرقاً يعبر عمن استخلفه (وهو الخالق)، في العلم والمعرفة والقدرة والتسامح والحكمة، أي في تمثُّل صفاته وقيمه الذاتية حسب قدرته واستطاعته وكماله الممكن له.. فالله تعالى عادل، ولهذا مطلوب من الإنسان (الخليفة) أن يتمثّل ويعيش قيمة العدل في حياته الخاصة والعامة، والله تعالى عفو غفور متسامح، ولهذا يجب على الإنسان أن يكون متسامحاً وعفوّاً في حياته وأفعاله ومختلف شؤونه.. وهذا ما ورد في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾(الانشقاق: 6).. والكدح هنا كناية عن المشقة والتعب والمعاناة في تحصيل الأشياء، وتمثل قيم وصفات الخالق على الأرض في حياة الإنسان ليس أمراً يسيراً وسهلاً، فدونه عمل ومشقة وكدح ارتقائي متواصل نحو الله، الكمال المطلق.. كما وجاءت في التاريخ الثقافي العربي والإسلامي، روايات وأحاديث ونصوص كثيرة تتحدث عن الحرية والتسامح، ورفض الانغلاق والعصبية (كقيم سلبية مقابلة للحرية والتسامح).. يقول الرسول الكريم(ص): "من تعصّب أو تُعصِّب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"(1). وقوله: "إن الله رفيق يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف"(2). وقوله: "الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله، أحبهم إلى خلقه"(3). وقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"(4). وقول الإمام علي(ع):"لا تكن عبداً وقد خلقك الله حراً"(5). وقوله(ع) في وصيته لمالك الأشتر (عامله على مصر): "أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ"(6).. وقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عن العصبية في توصيفه لمعنى العصبية: "العصبية التي يأثم صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"(7).. وهذا كله له معنى واحد وهو أن القيم والمبادئ الإنسانية في الدين تتقدم (من منظور العدالة والحق) على كل المعايير (العرفية) الأخرى، العصبية والانتماء الاجتماعي والديني وغيرها.. طبعاً، هذا لا يعني أن الإسلام يقف على طرفي نقيض مع الانتماءات التقليدية الاجتماعية، أو أنه يمنع الإنسان من أن يتعاطف شعورياً مع قومه أو أهله وأبناء جلدته، بل يعني ضرورة أن يعقلن ويؤنسن المسلم انتماءه القومي أو الاتني أو المذهبي، وأن يكون مع قومه ولكن من دون أن يُعينهم على الظّلم في حال كانوا ظالمين.. ولهذا فعندما تقترب العصبيّة من المبادئ، فلا بدَّ من أن تتأخر العصبيّة وتتقدّم المبادئ. إذاً نحن أمام كمّ كبير من النّصوص الدينية الصريحة والمواقف التاريخية الصارخة في تأكيدها على قيمة التسامح وأهمية الصفح والحرية في الاعتقاد، بلا قهر ولا قسر ولا عقد ولا ضغوط، وبلا أية شروط أو قيود.. فالإسلام دين يسر لا عسر، وهو جاء لخدمة الإنسان، وتيسير سبل وجوده وعيشه الآدمي الإنساني، وليس الضغط عليه بما لا يطيق أو يحتمل. وأما على صعيد السّلوك والممارسة التاريخية لفكرة وقيمة التسامح، ففي هذا تباين واضح، واختلاف معايير وأحوال ومستجدات تتبع للظروف الاجتماعية والسياسية التي حكمت واستحكمت، وهيمنت من خلالها عادات وأعراف اجتماعية ومعايير حكم سياسية لا قِبَل للدين بها، ولا علاقة لها البتة بالفكرة أو النص الديني المؤسّس القائم على "حرية الاختيار" و"هدفية القصد".. فقد وجدنا في تتبعاتنا التاريخية أن المسلمين عموماً كانوا -على مر التاريخ- متسامحين مع غيرهم ربما أكثر من تسامحهم مع أنفسهم وفيما بينهم، وحتى عندما هاجر الكثير من المسلمين إلى بلاد الغربة لم يربكوا حياة الآخرين، بل عاشوا معهم، وتكيّفوا مع عاداتهم، أي تعايشوا معهم بشكل طبيعي جداً.. أما المؤسسات الدينية الرسمية التي حكمت بالتكامل والتعاضد مع المؤسسات السياسية (خلافة وسلطنة وإمارة ووالخ) فقد كانت على العموم مؤسسات جهازية وظيفية أداتية اشتغلت بالتّقليد والعرف (والمزاج الحاكم)، ولم تتحرك أو تحكم بالعقل والتجديد،فجاءت مقولاتها "الفتوائية" مزاجية رغبوية ذاتية، لتعبر عن مصالح رجالات الدين ومطامع السّلاطين والزعامات السياسية الزمنية.. وما زال هذا النهج قائماً ومهيمناً حتى لحظتنا الراهنة، على اختلاف الظروف والأوضاع والأشكال والمقارنات.. ولنا أن نلاحظ كيف دفعت سلوكية العنف والقتل والإرهاب المنظم (لكثير ممن يدعون تمثيل الدين والتبشير به) دفعت الناس دفعاً للبعد عن الدين، وهجر الإسلام، والارتماء في حضن الأفكار والتيارات والقوى المضادة للدين، ومنها أفكار ومذاهب وتيارات الإلحاد على اختلاف توجهاتها.. أي أن كثيراً من الناس رفضوا الدين من أساسه، بما يعطينا فكرة هنا عن أن المشكلة ربما ليست قائمة أو كامنة في الملحد ذاته، بل المشكلة هي في سلوك كثير من التنظيمات الإسلامية، وأعمالهم(الشنيعة) البعيدة اليوم عن روح الإسلام ومعناه "التسامحي" المنفتح.. ولهذا فالملحدون في عصرنا وفي الماضي ألحدوا بأخطاء وجهل وغباء رجال الدين.. ولم يلحدوا بالدين الصحيح لو توفّرت لهم ظروف معرفته الصحيحة.. فلو وجد علماء الدين الذين يفهمون الدين بروحانيته وحكمته وعقلانيته وواقعيته وصوابه، لربما رأينا الملحدين يسابقون المؤمنين إلى الإيمان. ولكن، وبغض النظر عما قام (وما يزال يقوم) به كثير من المنتسبين للإسلام، (نخباً وتيارات وجماعات دينية مسيّسة) يبقى هذا الدين (في عمقه وجوهره الروحي والمفاهيمي) دين التّسامح والرّحمة والمحبة(8)، دين العدل والأخوة والإنسانية، ويدعو في كلّ أحكامه وتعاليمه وتشريعاته إلى نبذ العنف والتطرّف والعصبيات، وإحقاق الحق وبناء الحياة البشرية على ثقافة الحوار والحرية والسّلام الفردي والمجتمعي، والالتقاء على كلّ معاني الخير والعطاء، وتقدّم البشريّة نحو الأفضل على المستوى المادي والمعنوي، فكل ما يطوّر حياة الناس ويجعلهم أفضل وأرقى فكراً وسلوكاً هو أمر من صلب التفكير الاعتقادي الإسلامي. وكل ما يؤذيهم ويفرّقهم ويؤسس للعداوة والتفرقة فيما بينهم هو أمر خارج نطاق التفكير والمبادئ الإسلامية الأصيلة. أما بخصوص حرية المرء في اختياره لقناعاته السياسية والفكرية فيما يتعلق بنهج طريق وخط الإلحاد، فهذا موضوع يمكن أن يتحرك على مستوى القناعات الذاتية الخاصة، حيث أنه من حق أي إنسان – حتى على المستوى الديني (مثل ما جاء في آيات ونصوص كثيرة)- أن يختط لنفسه طريقاً فكرياً معيناً حتى لو كان طريقاً مخالفاً للسائد، ورافضاً للمبادئ الدينية ذاتها، بما فيها "مبدأ الخلق والخالقية"، ولكن شرط ألا تتحول المسألة إلى حالة وخط فكري وسياسي عام له رموزه ودعاته ومواقعه التي تبشر فيه علناً بين الناس.. هذا سلوك ربما من الصعب تحققه في سياقنا العربي والإسلامي المعاصر، باعتبار أن طبيعة التكوين التاريخي للأمة، والتزاماتها الحضارية والدينية ربما لا تسمح بنشوء أحزاب وتيارات تتبنى أفكاراً مضادة و"صادمة" للقيم التاريخية العامة، وللمشاعر العامة، ترفض مبدأ وجود الخالق بالذات، بما يمكن أن يؤدي إلى الدخول في نزاعات اجتماعية وسياسية وعملية مستمرة مع الناس والمجتمع (المتدين تاريخياً)، ويعرّض حياة الناس وأمنهم واستقرارهم للخطر الدائم.. وهذا أمر لا يقتصر على البيئة الدينية الإسلامية بالذات، بل هو قائم وموجود ومعمول به لدى كل الدول والحضارات قديمها وحديثها، فالدول الرأسمالية كانت تمنع الحركات والأحزاب الشيوعية (الماركسية) من ممارسة دعوتها ونشر أفكارها، بل وكانت تجرمهم وتعاقبهم لمخالفتهم أنظمتها القانونية.. وكذلك الدول الشيوعية كانت تفعل الأفاعيل ضد كل من لا ينتمي للفكر الشيوعي.. وحتى اليوم هناك قوانين غربية (في فرنسا مثلاً) تمنع وتجرم كل من يشكك في محرقة "الهولوكست" اليهودي في ألمانيا النازية. طبعاً، الفكرة هنا هي أن الدولة المدنية والديمقراطية التي ننشدها ونتمنى أن تصل إليها مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً، تسمح في قوانينها ودستورها وأنظمة قيمها، بحرية التعبير، وحرية الاعتقاد حتى بأفكار الإلحاد المناقضة للدين.. لكن وحتى لا نكون مثاليين وطوباويين في طرحنا ورؤيتنا، لا أتصور أننا سنصل إلى مرحلة وجود أحزاب مرخّصة تدعو إلى القيم الإلحادية علناً.. أصلاً موجة الإلحاد مضى زمنها بالمعنى الذاتي، وربما ما بقي منها بعض الآثار السياسية والفكرية البسيطة المنتشرة هنا وهناك من عالمنا المعاصر.. ومع ذلك كله، لم يتحول الإلحاد بعد إلى حالة عامة أو ظاهرة خطيرة ملفتة في عالمنا العربي والإسلامي، فمن رأيناهم وتابعناهم وعايشناهم ممن يتبنون أفكار الإلحاد، ويعلنون معاداتهم للدين عموماً، لا وزن ولا ثقل عملياً لهم، ولا قيمة معرفية وعلمية عليا لأفكارهم وطروحاتهم حول قضايا العلم والدين والإنسان وأصل الوجود والحياة، إذا ما قمنا بمقارنة بسيطة بينهم وبين الملاحدة في الغرب الذين عارضوا الدين وأعلنوا عن تخليهم عن معتقداتهم على اختلاف هذه المعتقدات. وأما إن كان المقصود بالإلحاد هنا هو قيام تيار أو جماعة بتشكيل حزب فكري وسياسي ينكر الخالق والخلق علناً، وينادي بالكفر الصريح بقيم الأمة الدينية المعروفة، ويسخّر في سبيل ذلك المال والأفكار والإعلام وغيره، بما يمكن أن يفضي لاحقاً إلى هدم أسس (ومرتكزات) الدين والتكوين الاجتماعي التاريخي للأمة، فهذا أمر –كما قلنا- مستبعد حدوثه في بيئتنا السياسية والاجتماعية العربية والإسلامية غير القابلة لاستيعاب وتقبُّل مثل هذه الأفكار التي تبقى نخبوية غير شعبية.. وحتى إن حدث، فهو يتحرك في سياق تدمير المجتمع، وليس فقط على سبيل الدعاوي الفكرية.. والسلطة الرسمية أو الدولة القائمة ستمنعه وتواجهه بقوة لأن يهدد (في نظرها) وحدة المجتمع والأمة.. أما إن بقي في سياق الدعوة الفكرية، فأنا أعتبر بأن من حق كل التيارات الفكرية أن تملك حرية التعبير السلمي والتصريح المدني الحضاري عن معتقداتها وقناعاتها ضمن سقف القانون والنظام العام.. والأمر الأهم في الموضوع كله، هو "سلمية وعقلانية" الطرح الفكري والسياسي حتى لو كان طرحاً صادماً للثقافة السائدة.. ..طبعاً الإلحاد(9)، كاتجاه مادي أو كمدرسة في التفكير والاعتقاد والمنهج، يقوم على الشك واللا يقين، والإيمان بأصالة المادة، بمعنى الاعتقاد بالواقع الموضوعي العيني الخارجي، (في مقابل اتجاه آخر يؤمن بأصالة الروح كاتجاه مثالي في التفكير والسلوك) ليس حالة فكرية جديدة أو تياراً أو مذهباً حديثاً في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، فقد نشأت منذ البواكير الأولى للحضارة العربية الإسلامية تيارات واتجاهات مادية صرفة، وظهرت أيضاً كثير من الحركات والنخب الفكرية الرافضة للدين ولعموم الثقافة الدينية، ومنذ العصر الجاهلي (بحسب التقسيمات التاريخية الدارجة المعروفة عن التاريخ العربي الإسلامي) بدأت تثار مثل هذه الأفكار المادية، وقد دخل القرآن مع أتباع هذا الخط (ممن أنكروا الله والمعاد) صراعاً فكرياً، كما في قوله تعالى: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ"(سورة الجاثية: 24). ولاحقاً اتسع نطاق تلك الحركات والتوجهات أو الاتجاهات الفكرية، مع توسُّع حركة الفتوحات الإسلامية، حيث أنّ الحضارة العربية الإسلامية لم تكن مقفلة أو مغلقة على ذاتها وأفكارها بل كانت حضارة تبشيرية دعوية (إذا جاز التعبير)، انطلق أتباعها في الآفاق لفتح البلدان والأقاليم والأمصار، فحدث الاحتكاك والتفاعل والتمازج والتلاقح الفكري والروحي مع حضارات وأمم أخرى، لها أفكارها وعقائدها وعاداتها وتقاليدها المختلفة (شكلاً ومضموناً) عن حضارة العرب والمسلمين.. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التفاعل، والتوسع الكبير في حركة النقل الحضاري المتبادل، والتأليف والترجمة، ونشر العلوم الكلامية والمنطقية والفلسفية خاصة خلال عهد الخليفة المأمون، كانت نتيجته ظهور أفكار وافدة جديدة مخالفة للسائد من الأفكار الدينية المعروفة، عرف أصحابها في وقتها بالدهريين أو بالزنادقة(10)( أصحاب بدع مخالفة لأهل السنة)، وهم فئة تنزع للتشكيك والمجادلة والسفسطة، ورفض القناعات والاعتقادات التقليدية السائدة على مستوى المعرفة الدينية خصوصاً.. وقد تطورت تلك الحركات في فكرها ومعرفتها، وباتت تستند على ما تعتبره "حقائق علمية" تؤيد وجهة نظرها، في رفض مبدأ الخلق، والاعتماد فقط على العقل والتجربة في الوصول إلى المعرفة والحقيقة. أما بخصوص معنى الإلحاد والملحدين في ثقافتنا، فنقول بأن الثقافة العربية الإسلامية كانت وما تزال تعتبر أن العلوم الدينية (بأشكالها المتعددة: فقه وحديث وقرآنيات وتاريخ سير وتراجم، وعلوم الأمر والنهي وغيرها)، هي العلوم الوحيدة التي تحوز على الشرعية الدينية (والمجتمعية ربما)، بينما العلوم العقلية والفلسفية والكلامية القائمة على التأمل والتفكر والجدل والشك والنظر، بقيت مصدرَ إزعاج للفقهاء والسلاطين، ولهذا حاربوها بشدة، واعتبروها مروقاً على الدين.. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نقلت وذكرتْ مصادر التاريخ لنا أن "شيخ الإسلام ابن تيمية" قال عن المنطق، وهو أحد فروع المعرفة العقلية: "أن فيه من شغل القلب عن العلوم والأعمال النافعة ما ضرّ كثيراً من الناس، كما سدّ على كثير منهم طريقَ العلم، وأوقعهم في أودية الضلال والجهل"(11). وهكذا فالثقافة الدينية (الرسمية والعامة) في مجتمعاتنا ما تزال تنظر سلباً لكل العلوم العقلية، فما بالك بفكرة الإلحاد التي ترفضها وتواجهها بشدة، بل هناك تشريعات وقوانين قضائية تجرّم "الملحدين" إذا ما أعلنوا الكفر البواح، وقد يصل حكهم إلى الإعدام للأسف.. لكن أود هنا أن أفرّق وأميز بين عدة مفاهيم تدور حول موضوعة "الإلحاد": أولاً- مفهوم "اللادينية"، كرؤية سياسية وفكرية "دنيوية" يؤمن بها الكثير من الناس والسياسيين والأحزاب الوضعية العلمانية، تقوم على الفصل بين الديني والدنيوي، وترفض أن يكون للدين أي دور، وأي تأثير سياسي (وقيمي) على الدولة ومؤسساتها وإداراتها.. أي ترفض أية وصاية أو مرجعية للدين في حياة الإنسان، وتؤمن بحق هذا الإنسان في رسم حاضره ومستقبله، واختيار مصيره بنفسه دونما اعتبار لشيء إلا للعقل والقانون.. وهذا من حق أتباع هذه الرؤية الفكرية والسياسية، ولهم كامل الحرية في تبنيه والدعوة إليه. ثانياً- الإلحاد كحالة إنكار لوجود الله قطعياً، أي كقناعة وإيمان بعدم وجود علة (غير مرئية) خالقة للكون والحياة.. طبعاً بعض الملحدين ينكرون وجود الله نهائياً، وبعض الملحدين يكتفون فقط بعدم الإيمان به دونما دخول في تفاصيل ومواجهات. ثالثاً- اللاأدرية.. وهي عبارة عن توجُّه فلسفي شكّي يعتبر بأن القيمة الحقيقية للقضايا الدينية أو الغيبية غير محددة وربما لا يمكن لأحد تحديدها أو تأطيرها لأنها من نوع المعنويات والغيبيات غير المنظورة وغير الخاضعة للمقياس العلمي الحسي المعروف. فقضايا مثل "وجود الله" أو "الذات الإلهية" بالنسبة لهم موضوع غامض كلية، ولا يمكن تحديده في الحياة الطبيعية للإنسان.. أي أنّ"اللا أدري" لا ينفي ولا يؤكد وجود الله. وقد يتساءل البعض، وهو محق، حول أسباب هذه "الحساسيّة المفرطة" التي تبديها الثقافة الدينية الإسلامية، كلما أثير موضوع الإلحاد في المجتمعات العربية والإسلامية، مقارنةً مع ثقافات الأمم الأخرى التي تبدي انفتاحاً على الاختلاف والتنوع والتعدد، ولا تخشى أن يهدد هذا الاختلاف ثوابتها.. فهل بات وضع الإسلام اليوم في العالم من الهشاشة والضعف، بحيث لا يسمح بالتعايش مع الفكر المختلف والعقائد المغايرة؟!!.. في اعتقادي أن هذه الحساسية (النّفسية) المفْرطة وصلتْ (في بعض أوساطنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية، وكنتيجة للاستثمارات "والاستخدامات" السياسوية المحلية والعالمية لها) إلى حدود"الرفض" العملي الكامل، واستخدام القوة في مواجهة أية أفكار (وليس فقط فكرة الإلحاد) "غريبة" عن المناخ الفكري والتاريخي التقليدي العام للأمة، والذي ما برح يتسلط ويهيمن منذ قرون عديدة على ثقافتنا التاريخية والحضارية.. والأسباب هنا عديدة: - فمن جهة هناك حالة نفسية عامة (تشكّلت عبر مراحل تاريخ الانحطاط الحضاري العربي المستمر منذ أكثر من ألف عام) من الشعور بــ"التميز" لدى كثير من المسلمين، بأنهم مؤمنون وملتزمون بالدين (قابضون على الحقيقة المقدسة!)، بينما غيرهم "غير ملتزم"، وبعيد عن روح الإيمان، وواقع في ودية الضلال والكفر.. هذه العقلية المتخلفة الشائعة حتى يومنا هذا في مجتمعات المسلمين (والتي توسعت وامتدت وتجذّرت أكثر مع تفجر الحركات الجهادية السلفية التكفيرية وشيوع مناخ القهر والاستبداد السياسي الرسمي) باتت تشكل ظاهرة مقلقة للغاية، خاصّة بين رموز الدين ومشايخ الوعظ "المسجدي" العتيق الذين يستلمون منابر المساجد والمؤتمرات والإعلام والمعلوماتية والفضائيات، بتأويلاتهم المتخلفة وأفهامهم وتأويلاتهم المنحرفة للنصوص والمفردات الدينية، وعدم التصدي لهم من خلال بناء ثقافة إسلامية أصيلة رصينة ومنفتحة على الحياة والعصر، تقوم على التسامح والمحبة والإقرار بوجود آخر هو نظيرنا في الخلق، وأن حياته ووجوده شرط لوجودنا وحياتنا كمسلمين.. - ومن جهة أخرى، هناك إحساسٌ تاريخي ومعاصر لدى المسلمين، تراكم وما زال يتراكم لديهم (وهو مبني على حقائق مؤلمة من واقعنا العام) بمصادرة الغرب لعالمنا العربي والإسلامي سياسياً واقتصادياً، مما خلق (ويخلق على الدوام) حالة إحباط ويأس، وحالة رفض لكل ما هو قادم أو ناشئ من الغرب، خاصة على صعيد الأفكار الوضعية غير التقليدية والصادمة لمعتقدات المسلمين.. وبالأخص منها "فكرة الإلحاد" التي بقيت فكرة إشكالية في مختلف الرؤى والتوجهات والتشريعات الإسلامية، فهو إما "التشكيك" في النص القرآني، أو إنكار أن يكون القرآن إلهياً، دون الاقتراب من فكرة "إنكار الخالق"، في حين أن مصطلح "الزندقة" غلب على مختلف العصور الإسلامية شاملاً كل من يشكك في النص الديني أو "يشرك" بالله أو ينكره، وقد كان حكمه القتل في حال الإظهار والإشهار والعلانية الصريحة. - أما تلك الثقافات العائدة لأمم أخرى، والتي اندمج فيها الدين في الحياة المجتمعية، كرأي غير مقدس، وانطلق رجالات الدين فيه ليمارسوا حياتهم العامة من موقع مواطنيتهم لا قداستهم، فلم يأتي هذا المناخ الإيجابي أو يتكرّس كواقع قانوني مدني، إلا بعد أن حسمت عقلية الحداثة الفكرية والعلمية، معركة النهضة ضد التخلف والعقل الكنسي القروسطي، لصالح بناء الدولة المدنية المؤسسية العادلة والقادرة والقانونية، التي تقوم على حرية الفرد، وتضمن لهم حق الوجود والعيش الحقيقي المنتج والفاعل في مجتمعاتهم، انطلاقاً من منظومة الحقوق والمبادئ الإنسانية التي هي حق وليس مكرمة من أحد. - أما بخصوص قوة أو ضعف حال ووضع الإسلام اليوم، وأنه بات من الهشاشة بحيث أنه يخشى أو يخاف من مجرد نشر أفكار مضادة له، أقول: علينا أن نميز هنا بين الإسلام والمسلمين، بين الإسلام الأصيل، وحركات الإسلام السياسي التي أخذت كامل الصورة المشهدية (الفجائعية) في واقعنا المعاصر... فكلنا يعلم أننا نعيش اليوم حالة لا مثيل لها من الهوان والضعف والارتكاس الحضاري المادي والعضوي على كل المستويات والأصعدة، بسبب هيمنة العقل الفقهي التقليدي، وزعامات "التسييس" الديني على مجتمعاتنا وعقول العامة عندنا، وفي مثل هذه الحالات الصعبة والمعقدة التي تمر بها المجتمعات المهزومة نفسياً ومادياً وحضارياً، لا يكون حال الأمة الثقافي والفكري بعيداً عن حالتها ووضعها المدني والحضاري والاجتماعي، فتفقد مناعتها، ويصبح جسدها عرضة لشتى أنواع العلل والأمراض، وتعشش فيها أفكار التخلف التاريخي، وتنتشر في تربتها قيم التعصب العقدي والفكري، والتطرف"الفتوائي" الأعمى، وتنشأ في واقعها السياسي (الاستبدادي الفاسد) تيارات وتنظيمات العنف والإرهاب الدموي التي يفتي (أمراؤها) بقتل كل من يخالفها الرأي والمعتقد.. .. نعم في مثل هذه الأجواء والمناخات السلبية الإقصائية ليس وضع الإسلام على ما يرام، بما يعني أن الصورة اليوم قاتمة وسيئة للغاية في أذهان الناس عموماً عن واقع المسلمين، بل عن الإسلام ذاته، فالناس مرهونة للصور والمشاهد وللواقع الذي تراه وتعاينه أمام ناظريها، ولهذا هي غير قادرة (وربما لا تملك الوقت) على التمييز بين الإسلام كفكر حضاري إنساني كما هو في واقعه الأصيل، وبين أفعال وسلوكيات كثير من "المتأسلمين" ممن يقتلون ويدمرون ويذبحون وووالخ، صورة هؤلاء للأسف باتت هي الإسلام في نظر وفكر الكثيرين. وأنا شخصياً لا أحمل تيارات الإسلام السياسي (ولا العقول الفقهية التقليدية) وحدهم مسؤولية تشويه صورة الإسلام، وإثارة الأزمات، وإشعال نيران الفتن والاضطرابات والانقسامات المجتمعية (وهم يتحمّلون بالتأكيد)، بل هي مسؤولية تلقي بظلالها الثقيلة بالذات على أولئك الممسكين بناصية القرار، من نخب دول الاستبداد والتسلط السياسي العربية التي حكمت وهيمنت منذ مرحلة ما بعد الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي.. لقد قامت تلك الدول بمشروعيتها الثوروية الانقلابية على العنف والقمع ومصادرة الحريات، واغتيال "العقل" الإبداعي في الأمة، ورفضتْ أن يكون للفرد أي دور أو حتى أي حق له بالمشاركة في الحياة العامة، والإسهام البنائي لمجتمعه وأمته، بل وقامت بإثارة الغرائز والنّعرات، والتركيز على الطائفية والبنيات العشائرية والقبلية الراسخة في البلدان العربية، بما لا يعكس إدراكاً لمخاطر حقيقية وحتمية، بقدر ما كان يعبّر للأسف عن حالة من الكسل والبؤس والجمود الفكري والعملي كصفات اتسم بها عموم الفكر اليساري والقومي، والوطني المحلي، الذي اتجه (في سياق سعيه إلى إقامة دولة وطنية حديثة، وإضفاء المشروعية السياسية عليها) إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج، بدل بناء مفهوم المواطنة، والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط تحقيقها، وهي الحرية والمساواة القانونية وحكم القانون الذي لا تقوم من دونه أي مواطنة، ولا رابطة سياسة، أي وطنية. وقد أفضى ذلك كله (وعلى رأسه عدم بناء دول وطنية تقوم على العدالة والمساواة) مع وجود أرضية تاريخية خصبة بطبيعة الحال، إلى انتعاش جو التطرف ورفض الآخر وتكفير المخالف وانعدام شروط بث ونشر قيم التسامح والانفتاح، وتفشي الإرهاب والتوحش والهمجية في التعامل حتى مع الموافقين.. فما بالك بالعلاقة مع المخالفين.. .. وفي اعتقادي لم يصبح "الإلحاد" ظاهرة عامة، أو حالةً ثابتة ومعيارية لدى الشارع الديني الإسلامي عموماً، بل بقي محصوراً كتيار فكري وسياسي في الغرف الحزبية والمنتديات الثقافية والفكرية، ومؤطراً كحالة نخبوية لدى المفكرين والسياسيين وأصحاب الشأن العام، ولم يتحول إلى ما يشبه الحالة العامة لدى الشارع والجمهور العام، وذلك لأسباب كثيرة وعديدة (تاريخية وحضارية وثقافية دينية) ليس من مجال لذكرها هنا.. وربما لا يتحول ليشكل ظاهرة مخيفة ومرعبة للإسلام والمسلمين.. ولهذا ليس هناك ما يدعو للقلق الشديد بشأن تلك الحالة، مع أنني –كمثقف حداثي نقدي- لست خائفاً من المختلف والمناقض أو النظير، ولست معقّداً من "فكر الإلحاد وثقافات الملحدين" نفسها، بل أنا منفتح عليها كثقافة من جملة ثقافات وجملة معارف في الصميم، حيث أن من حق هؤلاء وغيرهم، من كل تيار أو كل حزب أو جماعة سياسية معارضة سلمياً، وتملك أدبيات فكرية وقواعد سلوك والتزامات فكرية وسياسية مخالفة لرأي المجموع، تخاطب بها الناس والشارع، أقول: من حق تلك الجماعات الفكرية والكيانات السياسية (من حقها الشرعي الدستوري القانوني) التعبير عن ذاتها، وعن نفسها وتعابيرها وقناعاتها واعتقاداتها العملية في الهواء الطلق، وفي مختلف الساحات الفكرية والميادين الثقافية والمنابر السياسية والإعلامية كلها، ضمن مبادئ الحريات الشخصية والعامة، وتحت سقف قيم الدولة المدنية، وحقوق المواطنة الصالحة بلا عنف ولا قسر أو ضغط ولا خوف، كحق طبيعي بديهي يكفله الدستور والقانون كما قلنا.. طبعاً وعلى الرغم من ذلك، وبلغة الأرقام لم تتمكن الأحزاب الشيوعية (وهي التي مثّلت الفكر الإلحادي في عالمنا العربي والإسلامي) في زمن الحكم الشيوعي أيام الاتحاد السوفييتي السابق، لم تتمكن من كسب ولاء الشارع والجمهور العربي، وبقيت مجرد أحزاب سياسية نخبوية (طليعية!) تفوز بعدة مقاعد نيابية في انتخابات مجالس الشعب أو البرلمانات كجزء من "الديكور الديمقراطي" إذا صح التعبير، في تلك البلدان، وكنوع من "الوفاء" لرعاة تلك الأحزاب في موسكو السوفيتية سابقاً.. وربما ساهم القمع السياسي والأمني الرسمي الذي مارسته نخب الدولة التحديثية التسلطية العربية بحق تلك التيارات الإلحادية (وبحق غيرها من كل التنظيمات والجماعات المعارضة لها ولو كانت من نفس لونها السياسي)، في منع تداول وشيوع هذا الفكر، بل ومحاربته بشدة، وتجريم حامليه، والمعتقدين به، مثقفين وسياسيين على السواء، وبدعم كامل من المؤسسات الدينية الرسمية العربية التي تحالفت وتمفصلت كلياً مع النظم الرسمية على هذا الصعيد. وهناك مسألةُ أخرى تتصل بالموضوع، ويجدر ذكرها هنا، وهي أن انتشار فكر أو فكرة الإلحاد (أو على الأقل رفض التوجهات الدينية كنوع من ردة الفعل السلبية) قد جرى وحدث بسبب تفشي النظرة السلبية الخاطئة عن معنى الدين التي أسهمت حركات ورموز التطرف والإرهاب "الإسلاموية" في تثبيتها في وجدان الناس نتيجة ممارساتها الدموية وتاريخها الأسود، وانغلاقها ورفضها لقيم العقل والانفتاح والمعاصرة، ومحاربتها لحق الاختلاف.. من هنا، فالإلحاد، في حد ذاته، ليس هو المشكلة، لا ذاتاً ولا موضوعاً، لا فكراً ولا جماعات منظمة، فالعلم والقوانين والحقائق العلمية وفلسفة العلوم، قطعت (كما أزعم) أشواطاً كبرى في نقد فكر وثقافة وبراهين الإلحاد التي طرحت من قبل أصحابه، ولكن المشكلة برأيي تبقى في إعلانه في ظروف مجتمعاتنا وأمتنا، حيث هيمنة التيارات اللا عقلانية رسمياً وشعبياً.. لذلك فإنّ منْ يعلنون عن إلحادهم في العالم العربي يحاربون بشكل أقل من أجل حرية الاعتقاد عما يحاربون من أجل حرية التعبير. من هنا أتصور أن من أبرز الأسباب التي تدفع الشباب إلى ترك الدين عموماً، والارتماء في حضن ما يسميه السؤال (ثقافات غازية) تتبنى الإلحاد، ليس تحريضَ الآخر، أو غزو العقول الخارجي، بقدر ما هي ممارسات وأفعال الجماعات التكفيرية والإرهابية الناطقة باسم الإسلام، التي تبنت أدوات العنف والترهيب والذبح باسم الإسلام، وقدمت مفهوماً مشوهاً لتعاليم الدين، ورسخّت صورة وحشية له. ..الإسلام وقبول حق الاختلاف والتعايش الحضاري: الأصل في الإسلام هو التعايش بالمشتركات العامة (وليس بالخصوصيات الذاتية) بين الناس المختلفين والمتنوعين، فأصل هذه الآيات أنها آيات محكمات لا متشابهات، والمحكم هو الكلام المتقن والواضح الذي لا لبس ولا التباس فيه على أحد.أي أنه أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه والتأويل.. كما في الآية التالية التي تعتبر أن الاختلاف أصل الأشياء: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"(هود: 118)... بما يعني تشريع الاختلاف والتنوع كحالة طبيعية في الاجتماع البشري، واعتباره سنة وناموس حياتي عام، بما يؤسس لقبول الآخر المختلف ضمن الفضاء الثقافي والمجال الحضاري والتاريخي للأمة. إن مشكلة المشاكل التي يعانيها اجتماعنا الديني المتنوع والغني في "تعددياته" اليوم (إذا جاز لنا التعبير) تكمن في رفضنا لبعضنا بعضاً، خصوصاً رفض التيارات المتطرفة الفكرية والسياسية لعقلية التنوع الحضاري، وقبول الآخر، حتى لو كان كافراً أو ملحداً أو مؤمناً بأية عقيدة أو دين، أي لم نتمكن بعد من "حسم" مشكلة التنوع العرقي والثقافي والديني الكبير القائم في حضارتنا منذ الأزل، واستمرار الصراعات الدينية والطائفية، والفشل الذّريع في وعي وإدارة تنوع مجمل المعتقدات والمقدسات، حيث هيمنة الانتماءات التقليدية ما قبل وطنية، وانتشار مناخ وعقلية الانغلاق المذهبي والتقوقع الهوياتي والاتني.. فظهرت بلداننا ومجتمعاتنا العربية (ونتيجة لأمراضها السابقة) منكشفة بالكامل أمام تحديات الحياة والواقع المعاصر، في مواجهة حقائق وشروط الحداثة العقلية والعلمية والسياسية.. بعدما عجزت نخبتها عن قيادتها إلى بر الأمان المجتمعي، فكان الفشل حليفها ورفيقها في مسيرتها، وبقيت تتنقل من هزيمة إلى أخرى، ومن سقوط إلى آخر، وها هي تدور في حلقات مفرغة بل ومكلفة للغاية، من إشكاليات وأسئلة النهضة والاجتماع الديني والسياسي الحضاري، تنتظر على أرصفة الضياع والتشتت والتفتيت إجابات عملية حقيقية شافية ووافية. إن أبناء مجتمعاتنا، وإن كانت متدينة، ومقبلة على ثقافتها وطقوسها الدينية من خلال هذا التدين الاجتماعي البسيط والسهل غير المتكلف وغير المتنمّط، بحاجة ماسة لعقد وطني سياسي جديد يقوم على فكرة المواطنة الصالحة، أو الحكم المدني الصالح، المفضي إلى بناء دولة مدنية تفصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع (مع عدم المقدرة على ذلك أو عدم مطلوبيته أصلاً، أقصد فصله عن المجتمع).. يكون للدين فيها دور إشرافي معنوي توجيهي توسطي، وليس مؤسسي أوامري تدخلي. خاصة مع هذا التنوع الديني والمذهبي، وتعدد الإسلامات والجماعات الإسلامية المختلفة في رؤاها وطروحاتها ومناخات عملها.. يعني لا بديل عن إرساء إسلام مدني حضاري متسامح ومتصالح مع العصر والحداثة الفكرية والعقلية، يقر شرعاً وفقهاً (عملياً وليس نظرياً) بالاختلاف، والاعتراف بآخر مختلف موجود كمواطن وليس ككائن ديني أو مذهبي.. والهدف من ذلك كله تخفيف التوتر، وتهدئة الأوضاع، وإنجاز الاستقرار، للبدء بالعمل والإنتاج الحضاري العلمي والتكنولوجي المادي، وليس فقط العيش على فتات موائد الآخرين، فالمرء لا يستطيع أن يعطي وينتج ويهتم بالآخرين (المتوافقين معه أم المخالفين) إلا في حالة الاستقرار، ومناخ الراحة المجتمعية، حيث يتجه التفكير الفردي والجمعوي سياسياً واجتماعياً نحو مزيد من الانفتاح على الآخر، والتعاون معه، وتحييد الخلافات، وإبراز المشتركات العامة، على عكس مناخ الصراع واللا استقرار الذي نرى فيه الناس يميلون لجانب التوتر والعصبية، ويعلون من شأن الانتماءات الأهلية التقليدية، فتحدث التنازعات والتدافعات، وتصبح الوسطية والاعتدال في خبر كان. نعم، لا يمكن لأي إنسان أن يعيش وينتج ويتطور ويبدع في إنتاجه، في ظل هيمنة مناخات العنف وانعدام الأمان في حياته، واستمرار تحليق طائر الخوف فوق رأسه.. مجتمعات الخوف - وبلداننا العربية على رأسها - لا تنتج إلا أفراداً أو أناساً مشوّهي التفكير، مسلوبي الإرادة، (أشباه بشر وليسوا كالبشر)، وعاجزين عن تقديم أي فعل أو حضور أو إنتاج.. والدليل هو أن تلك البلدان والمجتمعات (الخائفة والتي كان تعصبها وتطرفها الشديد وهروبها نحو خيارات التكفير والغلو والإلحاد -في جزء كبير منه- رداً على خوفها) ما تزال مستهلكة غارقة في الفوضى والتفكك واللا انتماء، وتتنقل من أزمة إلى أخرى أشد خطورة من سابقاتها.. ولم تفلح كل مشاريع ورؤى وأفكار النهوض والعمران الحضاري الفكري في التأثير الكبير عليها.. وأما قراءات التجديد (في الفكر الديني) التي ظهرت لدى نخب تيارات الإسلام (خاصة الجماعات السياسية بجناحيها السّني والشّيعي)، فقد كانت متكلفة وقاصرة وبعيدة عن الواقع، وهي بمعظمها لم تقدم شيئاً جديداً مختلفاً عن أفكار سابقة على صعيد حركة الفرد والمجتمع، في مواجهة تحديات العصر ومشكلات الواقع القائم الكثيرة، فوعيهم لمشروع الدولة مثلاً بقي ضبابياً وربما غائباً عندهم بصورة كلية، والولاء اقتصر على العصبيات المذهبية والطائفية، وكان مقدماً على الولاء للوطن، والسمة الوحيدة الحاضرة والبارزة عندهم هي تكفير المخالف، سواء كان مسلماً أن غير مسلم، ورفض كل مرجعيات الحضارة الحديثة.. إن المطلوب اليوم هو أمران: الأول: إعادة التواصل الإبداعي مع قيم التسامح في حضارتنا، وتمتينها فكرياً وفقهياً، بقراءات جديدة، بهدف تأصيلها كثقافة ومناهج عمل فكرياً ومفاهيمياً. وهي على فكرة ثقافة مهمة وواسعة وليست ضيقة على الإطلاق.. يعني مثلاً أنا عندما أقرأ هذه الرواية، قد أستغرب أنها وقعت منذ أكثر من ألف عام، حيث أن إماماً كالإمام جعفر الصادق يقبل بالمخالف الشاك (الملحد).. والرواية موجودة، وهي أن رجلاً جاء إليه (إلى الإمام الصادق) قال له: رجل شك في الله وفي رسول الله... ثم عقب الإمام: "إنما يكفر إذا جحد". أي أنه ما دام سائراً في حركة الشك نحو اليقين لا يُعتبر كافراً. وأيضاً هناك حديث آخر يقول: "لو أن الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا، لم يكفروا".. وأكثر من هذا، في النص القرآني منهج الحوار، هو منهج قائم على أساس اعتبار "الشك" الوسيلة التي يحاور بها المحاور صاحبه: يقول القرآن: "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"(سورة سبأ: 24).. هذا منطق النبي ولسانه؛ هو ليس شاكاً، ولكنه أراد أن يجتذب الآخر إلى الحوار، فقال له إني قد أكون على هدى أو في ضلال وكذلك أنت. الثاني: تأسيس ثقافة إسلامية إنسانية جديدة (كهدف كبير واسع) تعي ذاتها من داخل تراثها، وتستثمر وتستفيد من تجارب الآخرين الذين مرّوا بما مررنا ونمر به اليوم من استقطابات وصراعات واستحكامات وعصبيات مقيتة.. إن الإسلام والإيمان لا ينعقدا بالقسر أو بالقهر أو بالقوة والعنف والضغط، بل بالعقل والإدراك والحرية، حرية الاختيار، "من شاء فيؤمن ومن شاء فليكفر".. "إنك لا تهدي من أحببت إن الله يهدي من يشاء".. ولهذا يبقى اللقاء والحوار والتفاعل مع الآخر هو الوسيلة الوحيدة البسيطة غير المكلفة، والضمانة الأسلم الباقية لمعرفة هذا الآخر (بعد معرفة الذات طبعاً) والانفتاح عليه، والانطلاق لإنتاج قناعات مشتركة معيارية صلبة، وصياغة رؤية سياسية حضارية مستقبلية رصينة للعالم الإنساني بعيداً عن التمييز والتوتر واليأس والقلق السلبي المدمر. هوامش 1- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 371. 2- المصدر نفسه، ص:355. 3- المصدر نفسه، ص: 422. 4- الطبري، أبو جعفر. "تاريخ الأمم والملوك". جزء:2، ص: 58. 5- الريشهري، محمد. "ميزان الحكمة"، دار الحديث، جزء: 1، ص/ 205. 6- راجع نهج البلاغة، الخطبة 53، شرح محمد عبده، دار كرم، دمشق 1995م. وقد أورد "كوفي عنان/أمين عام منظمة الأمم المتحدة سابقاً، هذه المقولة خلال كلمته في احتفالية الأمم المتحدة بالذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان واليكم نصها باللغة الانكليزية: :Kofi Annan, the UN secretary states "The words of Ali ibn AbiTalib, ‘O Malik! The people are eitherbrothers in religion or yourequal in creation’ must beadhered to by all ”.organisations and itis a statementthat all humanity must embrace وترجمتها بالعربي: "كوفي عنان، سكرتير الأُمم المتّحدةَ يصرحُ: «قول علي ابن أبي طالب (يا مالك: إن الناس إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق)، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية". 7- راجع بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 70، ص 289.. وموسوعة الإمام زين العابدين.. الرابط: http://www.mezan.net/mawsouat/sajad/kessar3.html 8- حتى أن الإسلام ربط بين مفهوم الإيمان بالله، وبين محبة الناس في قول الرسول(ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".. 9- الإلحاد لغةً مصدر قولهم: ألحد يلحد، وهو مأخوذ من مادة (ل ح د) التي تدل على ميل عن الاستقامة، يقال ألحد الرجل: إذا مال عن طريقة الحق والإيمان، وسمي اللحد لحداً لأنه مائل في أحد جنبي الجدث (القبر)، والملتحد: الملجأ، سمي بذلك لأن اللاجئ يميل إليه، وقال الراغب: يقال: لحد بلسانه إلى كذا: مال. وقال الجوهري: وألحد فلان: مال عن الحق، وألحد في دين الله، حاد عنه وعدل، ولحد لغة فيه، وألحد الرجل : أي ظلم في الحرم، والتحد مثله، وأصله من قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)، والباء في (بإلحاد) زائدة. الملحد: الجائر بمكة. وقال ابن منظور: لحد في الدين يلحد، وألحد مال وعدل، وقيل : لحد مال وجار. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: المُلْحِدُ: العَادِلُ عَنِ الحَقِّ المُدْخِلُ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، يُقَالُ: قَدْ أَلْحَدَ فِي الدِّينِ وَلَحَدَ أَيْ حَادَ عَنْهُ، وَرُوِيَ: لَحَدْتُ: مِلْتُ، وَأَلْحَدْتُ: مَارَيْتُ وَجَادَلْتُ وَأَلْحَدَ: مَارَى وَجَادَلَ، وَمَعْنَى الإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ المَيْلُ عَنِ القَصْدِ، وَلَحَدَ عَلَيَّ فِي شَهَادَتِهِ يَلْحَدُ لَحْداً: أَثِمَ، وَلَحَدَ إِلَيْهِ بِلِسَانِهِ: مَالَ. 10- قسم عبد الرحمن بدوي الزنادقة (من حيث الدوافع) إلى ثلاثة أقسام: - رؤساء (المانوية) في الإسلام المؤمنين بها إيماناً صحيحاً صادراً عن رغبة دينية صادقة. - طائفة المتكلمين التي تتخذ من الزندقة وسيلة من وسائل اللهو الفكري، وصورة من صور المجون الشقي. - طائفة الأدباء التي تتخذ من التراث القومي للآباء وسيلة للتفاخر القومي وتزكية للنعرات الشعوبية، ووسيلة للتماسك القومي أمام التراث الوافد. (راجع بدوي، عبد الرحمن. "من تاريخ حركات الإلحاد في الإسلام". مركز نماء للبحوث والدراسات). 11- ابن تيمية، مختصر كتاب نقض المنطق، ص175، طبعة مصر لعام 1951م. باحث وكاتب سوري(*)
|
||||||