محمد حسنين هيكل.. شاهدٌ على التاريخ

السنة الخامسة عشر ـ العدد 172  ـ (جمادي الثانية  1437 هـ ) ـ (نيسان2016 م)

بقلم: محمود إسماعيل

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

"أمثال هيكل يقررون متى يموتون ، امتناعه عن الطعام والدواء يؤكد على أنه حسم أمره واتخذ قراره". عبارة كتبها الصحافي المصري محمد الباز على صفحته على الفايس بوك قبل خمسة أيام من وفاة أبرز صحافي في تاريخ الصحافة العربية.

كان ذلك اليوم قد شهد أول شائعة عن وفاة الأستاذ هيكل أطلقتها كاتبة كويتية. بعدها، خرج عماد الدين حسين رئيس تحرير جريدة الشروق مؤكدا أن محمد حسنين هيكل في حالة حرجة وأنه ممتنع عن تناول الطعام أو إجراء عملية الغسيل الكلوي. لقد بدا أنه اتخذ فعلا قرارا بالرحيل.

لقد اختار الأستاذ هيكل لحظة رحيله، فأغلق الباب على نفسه لكي لا تهتز صورته في عيون أفراد أسرته، أراد أن يظل قويا أمامهم حتى النفس الأخير. كان قد حدد كل التفاصيل بالدقة التي طالما ميزت حياته، الصلاة عليه في "مسجد سيدنا الحسين(ع) "، على حد تعبيره، والجنازة إلى المدفن العائلي في مصر الجديدة ببساطة ودون رسميات. يبدو أن عصر الكبار في الصحافة قد انتهى كما في السياسة.

بفقد محمد حسنين هيكل، فقد العالم العربي صحافيا عملاقاً وأديباً بارزاً ومفكراً متنوراً، وقد رحل بعد عمر مديد خط فيه صفحات ناصعة ستبقى راسخة ومضيئة في الذاكرة العربية والوجدان. كان هيكل أستاذا بالنسبة إلى أجيال الإعلاميين، وبقدر ما كان قدوة كان ولا يزال مثيرا للجدل حتى بعد رحيله.

لقد استطاع الأستاذ هيكل أن يساهم في تشكيل الوعي السياسي والاتجاه الفكري للملايين من قرائه ومتابعيه على امتداد أكثر من نصف قرن. عاش هيكل ظروفا سمحت له بأن يكون شاهدا على أحداث ومحطات تاريخية هامة، واستطاع استنادا إلى موهبته الكبيرة واطلاعه المدهش واتساع رؤيته أن يشكل ظاهرة فريدة في الإعلام العربي وحتى العالم. لم يدرس هيكل الإعلام. كان طالباً في إدارة الأعمال في الجامعة الأمريكية في القاهرة عندما انتسب إلى دورة صحافية على يد أبرز الصحفيين الأمريكيين في ذلك الزمن. بعدها، تدرب على أساليب الصحافة الحديثة في " الإيجبشن غازيت ". هكذا بدأت مسيرة الرجل الذي استطاع أن يحافظ على مدى نحو ٧٥ عاما على موقعه كأحد أبرز الصحفيين العالميين البارزين.

الملاحظ في كتابات الصحفي الكبير أنه ينطلق من الوقائع والمعطيات وتفاصيل الأحداث الجارية ويضعها في قوالب منهجية عملية ونظرية، فقد بدأ عمله مراسلاً حربياً في فلسطين في عام ١٩٤٨، ثم غطى الحرب الأهلية اليونانية، وصراعات البلقان، وحرب كوريا، إلا أن الحدث المفصلي كان تغطيته للصراع على تأمين النفط في إيران في بداية الخمسينيات.

تجربة الأستاذ هيكل في إيران جعلته أحد أكثر الصحفيين العرب معرفة بهذه الدولة الإقليمية الأساسية، وأحد أبرز الداعين للحوار العربي معها وصولا إلى التكامل، وخاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية.

أما بالنسبة لتجربته الغنية إلى جانب الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والتي أثارت الكثير من الجدل حول علاقة الصحافي بالسلطة، فقد جعلت من هيكل أحد أبرز الشهود على تلك المرحلة، لا سيما أنه كان على اطلاع على دقائق الأمور وتفاصيلها في التجربة الناصرية. هذه التجربة ظل وفيا لها حتى آخر حياته. وقد دفع ثمن مواقفه في زمن الرئيس أنور السادات الذي أدخله السجن، وحيث روى هيكل تفاصيل هذه العلاقة في كتابه الشهير " خريف الغضب ".

لقد كان موقف الأستاذ هيكل معارضا بشدة للمفاوضات مع العدو الإسرائيلي، وهو قال لصحيفة نيويورك تايمز في أيار ١٩٨٠ " إن اتفاقية كامب ديفيد تعني أن أكبر دولة عربية مدعومة بتأييد الدول الكبرى، اختارت السير في طريق تجاهل التناقض الرئيسي في المنطقة، وأن ذلك سيقود، بحكم طبائع الأمور، إلى فتح الباب أمام التناقضات الثانوية، وبالتالي إلى عدم الإستقرار والفوضى والتوتر والحروب الأهلية والصراعات القطرية والإثنية والطائفية والمذهبية ".

والحق يقال أن هيكل كان صحفياً شجاعاً. صحيح أن شغف المعرفة والفضول العلمي كانا الصفتين الأبرز،إلا أن محطات كثيرة في حياته المهنية تظهر شجاعة كبيرة وتحديدا أمام إغراءات المال الخليجي الذي فتك بالوسط الثقافي والإعلامي العربي منذ ثلاثينيات القرن الماضي. عبر هيكل عن هذه القضية في مقالة كتبها عام ١٩٥٨ أخذت شكل رسالة للملك سعود بن عبد العزيز قال له فيها:  "يا صاحب الجلالة كل الأقلام تحطمت على أعتابك إلا هذا القلم". وبالفعل فقد ظل هيكل عصيا أمام المال السعودي حتى آخر أيامه.

كما أنه واجه كل محاولات تزوير التاريخ والتضليل الثقافي والفكري التي تجند لها كتاب وصحافيون اشترتهم أموال الذهب الأسود.

ومن الأمور التي عنت كثيرا لهيكل " المقاومة " فكرا وممارسة وقد كتب مصطفى فضل النقيب أن هيكل "شكل جسرا يصل بين كل ما هو أصيل وحقيقي وناصع في أيام حركة التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات وما هو حقيقي وأصيل وناصع في أيام المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق . جسراً يصل أيام المقاومة في ١٩٥٦ بأيام المقاومة في ٢٠٠٠، جسرا يصل أيام عبد الناصر بأيام حسن نصر الله.

محمد حسنين هيكل.. صاحب المواقف الجريئة

لم يكن محمد حسنين هيكل مجرّد كاتب أو صحافيّاً عابراً. بل هو كل ما له علاقة بفنّ الكتابة الصحافية والقرار الإعلامي. هو مدماك الصحافة المصرية التي عمل فيها وهي في أوج توهجها، أضاف إلى نجاحها نجاحات، وأثبت أن للقلم قوة الموقف، وعبق التغيير، وصوت الآخر. استلم جريدة "الأهرام" التي كانت في حينه منارة، وثابر حتى حافظ على نجاحها حتى التفوّق. تعوّد بعدما سار الدرب إلى جانب جمال عبد الناصر أن يعبّر عن أفكاره علناً من دون خوف من ردّ فعل الحاكم. انتقد جمال، وعبّر عن ارتكاب أنور السادات الأخطاء في تسليم مصر لـ"إسرائيل" حتى سُجن. وقف أمام سياسات حسني مبارك الوهمية الفاسدة. وحتى النفَس الأخير، كان يدعو السيسي كي يتصالح مع إيران.

إيران التي لم يستوعب ثورتها وقائدها الإمام الخميني (قده) في البدايات، لا بل وقف منتقداً بمناسبة ومن دونها، وبعد صدق مواقفها، خصوصاً إزاء " إسرائيل "، واحتضانها القضية المركزية فلسطين، أدرك هيكل أنها ثورة حقّ ضد الباطل، وأنها قوة للعرب والجغرافيا والتاريخ. وحينما قام بمراجعة منطقية لمواقفه ضدّ الثورة الإيرانية وضد بدايات المقاومة الاسلامية في لبنان، عاد ووقف شامخاً مؤيداً معهما، لا بل كان متعصّباً لهما، وينتظر الكثير من المقاومة في لبنان!

كانت كتب هيكل ممنوعة من العرض في معارض الكتب بقرار من حسني مبارك إرضاء لنظام آل سعود وهو القائل في مقال كرسالة للملك سعود بن عبد العزيز: " أنا صاحب القلم الوحيد الحرّ الذي لم تتمكّن من شراء حريته وضميره "…

هيكل هو حارس الصحافة الورقية التي تسلّم أوراق اعتمادها لعصر التقنيات الجامدة والسريعة، وهو حارس التاريخ العربي قبل أن يزوّر، وهو حارس الكلمة الموقف والمقال المطوّل والسرد المكثّف والحقيقة التي تغيب بأموال البترول.

في سقوط حسنين هيكل عن جواده، في هذه المرحلة صفعة للإعلام العربي الهجين، وطعنة لمعنى الكتابة العربية في زمن تزوير اللغة، وصرخة مدوية تربك الجميع لربما تذكرنا أن لنا بلادنا في فلسطين وسورية ولبنان واليمن والبحرين، وأنّ مصر لم ولن تباع في "كامب ديفيد".

رحيل هيكل خسارة، وإن عدنا إلى مواقفه وكتُبه سنتعلّم أن المصافحة مع العدو خيانة، وأن غالبية النظام العربي صافح العدو الصهيوني لذلك تاهت الأمة، والأمل يبقى بمن لم يصافح، بمن لن يعترف بالعدو المغتصب لأرض فلسطين ولفضائيات الأعراب ولغالبية الإعلام المكتوب بلسان المرتزقة الجَهلة وحبر الحاقدين!

علاقة محمد حسنين هيكل بحزب الله

كان هيكل يكن حباً وتقديراً للبنان، وعندما استأنف زياراته لبيروت بعد انقطاع دام حوالي ربع قرن من الزمن، أي منذ بداية الحرب الأهلية. سنحت الفرصة الأولى للقاء السيد حسن نصر الله غداة التحرير في العام ٢٠٠٠. في بداية ذلك اللقاء، لم تحطه إجراءات أمنية استثنائية كما هو الحال بعد صيف عام ٢٠٠٠. مد السيد نصر الله يده اليمنى ليمسك بيد هيكل اليسرى طالباً منه أن يتقدمه بالدخول إلى مكتبه. فجأة، قرر هيكل التوقف في مكانه وقال له "اسمع سماحة السيد، أعرف الكثيرين من قادة وزعماء العالم، من الولايات المتحدة إلى الصين وأوروبا وأفريقيا والعالم العربي والإسلامي... هؤلاء كلهم أنظر إليهم من فوق إلى تحت، أنت وحدك من بين هؤلاء القادة أنظر إليك من تحت إلى فوق". لم يكتف بذلك، بل أصر على تقبيل السيد قبل أن يعقدا جلسة من الحوار الشيق.

أما بالنسبة للقاء الأخير في العام ٢٠١٣، فقد تميز بأنه جاء في سياق التطورات السورية وانخراط حزب الله فيها. أعطى السيد حسن نصر الله الكلام لهيكل، فقدم على مدى ثلاث ساعات قراءة للتطورات، وعندما انتهى فوجئ بالسيد نصر الله يسأله إن كان هناك لقاء آخر قبل أن يغادر بيروت.

لم تمض ثلاثة أيام، حتى كان هيكل يمر بالممر الإجباري وسط إجراءات أمنية معقدة ومرهقة، إذ بدا مصراً على عدم تفويت فرصة الاجتماع الثاني ضمن الزيارة نفسها للبنان، حيث عقد لقاء بينهما دام حتى ساعة متأخرة وتميز بتقديم السيد حسن مقاربة شاملة بالوقائع والمعلومات والتحليلات لكل ما يجري في ساحات المنطقة.

لم يع هيكل، عن قصد، في بدايات حزب الله، ماهية هذا التنظيم، ولم يتقصّد الإطلاع على أهدافه. خمَّن، وبعض التخمين إثم، أننا أمام مجموعة تتقن حرب العصابات ستنتهي كسابقها من التنظيمات، أمام إسرائيل. لكن الصورة تغيّرت لديه تماماً حين قرأ تصريحاً لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين قال فيه: "إسرائيل تعاني بشكل صريح من ثلاثة تهديدات: دولة نووية عدوة، أو حرب كلاسيكية بينها وبين جيوش العرب، أو تنظيمات إرهابية على شاكلة حزب الله".

هيكل كان مقتنعاً بضرورة تمتين العلاقات مع إيران. في لقائه الأخير مع السيد، أبدى اهتمامه باستعادة مصر دورها في العالم العربي. وطرح، جدياً، لمكانته لدى الرئيس عبد الفتاح السيسي ومكانة نصر الله لدى مرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي الخامنئي، أن يساهما في حل الخلافات وتوطيد العلاقة بين إيران ومصر، "القيمتين الحضاريتين"، كما كان يصفهما.

ينقل من حضروا بعض لقاءاته مع السيد نصرالله عنه قوله فيه إنه " رجل طيب وعذب في تعامله ". وهو وصفه، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، بأنه " ظاهرة مقاومة... قومي عربي حقيقي " ، وفي أحد مقالاته بأنه " سيد كما يصفون. سيد في النسب فجده نبي الأمة، وسيد في الكلام والخطابة، وهو سيد في الوقار واللين، وسيد في القيادة والحنكة. أجلى من أن يعرَّف ... واتضح بعد لقائي به أنه أكبر من لبنان بكثير ".

حين كانت تصعب اللقاءات، كان يستعاض عنها بالمراسلات، وأشهرها تلك التي أرسلها هيكل إلى نصر الله بعد استشهاد ابنه قائلاً: "لقد رأينا الأبوّة تُمتحن بالجهاد إلى درجة الشهادة، ورأينا الجهاد يُمتحن بالأبوة إلى درجة البطولة. إنني لا أعرف ماذا أقول لك؟ فلا أنا راضٍ عن كلمة عزاء أواسيك بها، فأيّ كلمة عاجزة، ولا أنا قادر على الصلاة من أجلك، فصلاتك أقرب إلى عرش الله من أيّ قول أو همس يصدر عني أو عن غيري".

كان هيكل قد قال سنة ٢٠٠٨: "ما يجري في لبنان وراءه أصابع عربية، استخبارات عربية وأطراف كثيرة وفلتان أمني". وقال سنة ٢٠١٣: "إن قتال حزب الله في سوريا هو للدفاع عن نفسه وليس في معركة إثبات نفوذ".

علاقة صداقة مع إيران

علاقة محمد حسنين هيكل بإيران بدأت في عمر مبكر: "إيران بالنسبة إليّ جزء من شبابي"، عبارة قالها في إحدى مقابلاته مع الإعلامية لميس الحديدي ضمن سلسلة حواراته "مصر أين وإلى أين؟" على قناة (سي.بي.سي.). أرّخ هيكل الجمهورية الإسلامية في كتابين: الأول "إيران فوق بركان" (١٩٥١) ليليه بعد ٣٠ عاماً كتاب "مدافع آية الله ــ قصة إيران والثورة" باللغة الإنكليزية، قبل أن يترجم إلى العربية.

لم يقاربها من وجهة نظر صحافي "منبهر"، كما قال، بل ضمن "اهتماماته"؛ في "مدافع آية الله"، حلّل الثورة الإسلامية في إيران، والمراحل التي مرّت بها، وصولاً إلى الأثر الذي تركته في دول الخليج ووضع هذه البلدان أكثر في دائرة الضوء والجاذبية العالمية.

استند هيكل في كتابه إلى عدد من قيادات الثورة، وعلى رأسهم الإمام الخميني. ولعلّ أبرز ما خاطب به قائد الثورة، آنذاك، لدى لقائه في باريس نهاية عام ١٩٧٨، تركيزه على الجانب المدني ــ إن صح التعبير ــ عندما أشاد بالقوة العسكرية لأركان الثورة الإسلامية. وأشار بوضوح إلى أهمية وجود السياسيين والخبراء القادرين على "تنفيذ مهام الثورة وبرامجها". ومن العبارات الشهيرة التي ما زالت تتردد أصداؤها إلى اليوم، وصف هيكل الإمام الخميني بـ"الرصاصة التي انطلقت من العصور الوسطى واستقرت في القرن العشرين".

لطالما عبّر هيكل عمّا يدور في المنطقة، وحذّر من مغبة السقوط في الفتنة السنية الشيعية، وعدّ ذلك "خطيئة تاريخية"، ووقوعاً في حالات التقسيم العربي ــ العربي. ورأى أن إيران كما باقي الدول العربية لها "طموحاتها". وفي حديث مع صحيفة "السفير" في تموز الماضي، أثار ضجة عارمة في الإعلام السعودي والمصري بسبب تصريحاته حيال الجمهورية الإسلامية؛ فقد كشف أنّ "مصر تسعى إلى التقارب مع إيران" بعيد الاتفاق النووي بينها وبين الغرب، من دون أن يغفل الضغوط التي كانت تمارس على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لثنيه عن "الانفتاح" على هذا البلد.

أشار الأستاذ هيكل إلى أهمية دور الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسعي أمريكا لاستعادة بعض من نفوذها في إيران حيث قال هيكل "أمريكا تسعى إلى عودة ما كان لها من نفوذ في إيران وهي أكبر خسارة لأمريكا باعترافها، هي خسارة إيران في الثورة الإسلامية، فإيران كانت مهمة في مسألة البترول، والآن أصبح الكثيرون لديهم بترول لكن الأهمية الكبرى لأمريكا باتت هي الموقع المتميز فأنت في عصر المرتكزات."

دلالات تصريحات هيكل ضد السعودية

كان الأستاذ محمد حسنين هيكل قد كال سيلًا من المدائح على كل من إيران وحزب الله، وهجومه في الوقت نفسه على السعودية التي قال إنه يتوقع انهيارها، والملك سلمان شخصياً، وتأكيده أن: "النظام السعودي غير قابل للبقاء"، أشبه بتدشين رسمي مصري للحرب مع السعودية في ضوء ما يثار في الخفاء عن خلافات ورفض السعودية تقديم مزيد من الدعم لمصر.

فالنقد لم يتناول السعودية وحدها ولكنه انتقد الملك سلمان بن عبد العزيز شخصياً، قائلاً إنه "ليس حاضراً بما يكفي" في إشارة للتقارير الأمريكية العديدة التي نشرت قبل توليه وزعمت أنه مصاب بـ"الخرف" بفعل مرض الزهايمر؛ بل وهاجم هيكل السعودية ودول الخليج، واصفاً إياها بأنها "دول متخلفة"، كما هاجم ضمناً وليّ ولي العهد محمد بن سلمان حينما قال إن "جيل الصغار متكبرون، ويأخذهم غرور القوة"، وشدد على أن "الجيش في السعودية يتحكم به أمراء الأسرة".

في مقابلته مع جريدة "السفير" هاجم هيكل بعنف غير معتاد السعودية، وقال إن "السعودية، التي تهيمن على الخليج، قوة ترهلت قبل أن تبلغ الشباب، والنظام السعودي غير قابل للبقاء، وانعدام البدائل هو ما يبقي السعودية"، مضيفاً: "السعوديون سيغرقون في مستنقع اليمن".

وحاول هيكل تصوير إيران على أنها "صاحبة الصمود" الأسطوري الذي مكنها من التوصل إلى الاتفاق النووي مع القوى الغربية بما فيها الولايات المتحدة، وتابع: "السعودية ودول الخليج أضعف من أن تشاغب على الاتفاق النووي"، في إشارة إلى عدم قدرة دول الخليج على التصدي للاتفاق.

وقد سيطرت حالة من الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية ودول الخليج، بعد حوار هيكل مع جريدة السفير، ودشن نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، هاشتاغاً تحت اسم "#هيكل_يهاجم_السعودية"، وآخر تحت اسم "#هيكل"، هاجموا فيه الكاتب بعنف وركزوا على اتهامه بأنه رجل الأنظمة الفاشلة وهجومه جاء بعد "توقف الرز"، في إشارة إلى أموال الدعم الخليجي لنظام السيسي، متهمين إياه بتلميع إيران على حساب النظام السعودي.

عاصفة الحزم تطال الكاتب محمد حسنين هيكل

وجه محمد حسنين هيكل بأسلوبه المعروف الانتقاد للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز وللرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي جراء سلوكهما في القمة العربية الأخيرة حيث تساءل هيكل: "أليس ملفتاً أن الملك قام وقام معه الرئيس اليمني عبد ربه منصور السابق أو الحالي لا أعلم، وفهمت أن الملك سلمان أنهى كلمته وأنهى رسالته وأعطى إشارته ورحل، وأنا مستعد أن أجد الأعذار للملك سلمان، لكن الغريب أن رئيس اليمن غادر والقمة منعقدة من أجل اليمن، وكنت أتصور أنها قضيته، وأنه ربما عليه أن يبقى بعض الشيء ولكن لأنه علم أن القرار اتخذ فقرر الرحيل".

وأشار هيكل إلى أن السعودية كانت قد اتخذت قرارها بشأن التدخل العسكري في اليمن بشكل منفرد وجاءت إلى القمة العربية في شرم الشيخ لتفرض الأمر الواقع على العرب ليقول الملك السعودي "هذا قرارنا ومن يريد أن ينضم لنا فلينضم، ومن لا يريد فله ما يشاء"، ألقى سلمان كلامه هذا وفرض على الحكام المجتمعين ما يريد ثم غادر غير آبه بالمجتمعين فهو كان قد اتخذ قراره ولن يرده عنه أي شيء.

وأضاف هيكل: "إن قيادات الخليج التي دخلت في "مود" أن العدو إيران ومن خلفهم الشيعة، يخوضون المعركة وهم مطمئنون بسبب العقوبات التي تفرضها أمريكا على إيران، وهم بشكل ما يعتبرون ذلك سنداً يمكن الاطمئنان إليه في هذه اللحظة، لكن رفع أوباما هذا السند بالتحدث مع إيران ومحاولة تسوية الخلاف معها، ذلك كان بمثابة الصدمة لكثيرين، وهو ما دفع التطورات فيما بعد إلى أن تستبق التصرفات القرارات".

وانتقد هيكل اللجوء الخليجي إلى خيار الحرب في اليمن بقوله: "واليمن يعانى إما من صراعات سلطة أو صراعات قبلية أو حروب أهلية محتملة، وفي الثلاث حالات عليك أن تفكري، مخاطباً الإعلامية لميس الحديدي، قبل استخدام قوة السلاح، في بدائل أخرى سواء بالترتيب أو بالتوازي.. أنا أعتقد أن أفضل شيء فعلته هذه الدول حتى الآن، أنها لم تشتبك برياً، وفي الحلقة السابقة قلت إن السلاح يلعب دوراً لكنه لا يحل كل المشكلة، السلاح يلعب دوراً في القوة بمعناها الشامل وفي أداء القوة بالقدر الذي تمكنه وسائله منه، لكن إلى الآن ليست هناك قيادة عربية مشتركة، كل ما نراه هو ضرب بالطائرات".

لخص هيكل سبب لجوء السعودية إلى العدوان العسكري على اليمن في أمرين اثنين، الأول التوصل إلى اتفاق إطار بشأن الملف النووي الإيراني وتحول إيران إلى دولة نووية باعتراف جميع دول العالم، والثاني قلة تجربة الحكام الجدد في السعودية. يقول هيكل: "قلت إن كيري أبلغ الزعماء العرب الموجودين في شرم الشيخ إنه سيتم التوصل لاتفاق مع طهران قريباً، وقلت إن هذا صدمة.. فلماذا؟ لم يكن يتصور أحد لفترة طويلة أنه يمكن أن تثمر هذه المباحثات المعقدة عن اتفاق... وهذا تصادف مع شيء مهم جداً وهو انتقال السلطة في السعودية، فالملك سلمان تولى الحكم في المملكة وأنا أعرفه.. الملك سلمان ينتمي لجيل الأبناء، وهذا الجيل ورث من الملك عبد العزيز التقاليد القبلية وكل ما يمكن أن تتعارفي عليه في المجتمعات التقليدية، وسلمان عندما جاء عين ابنه محمد بن سلمان وزيراً للدفاع ورئيساً للديوان الملكي وليس هو فقط، فأنت هنا تتحدثين عن ظاهرة مهمة جداً وهي انتقال السلطة من الجيل التقليدي إلى جيل جديد وهو جيل الأحفاد."

انتقادات واتهامات وتخوين

شن عدد كبير من الصحفيين والكتاب الخليجيين والعرب حملةً إعلامية شعواء لم تترك قدحاً أو ذماً إلا واستخدمته ضد الأستاذ هيكل حيث ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بكلام وتغريدات هؤلاء الكتاب. المستشار السابق لرئيس الجمهورية المصري أحمد المسلماني وصف هيكل بأنه كان مستشاراً إعلامياً للإمام الخميني(قده) منذ أن قابله في باريس وزاره في طهران مشيراً إلى تولي هيكل الحملة على الشاه والتعظيم للإمام الخميني وثورته وأضاف بقوله إن نقد هيكل للعمليات العسكرية في اليمن أمر طبيعي، ذلك أن هيكل كان دوماً حليفاً فكرياً وإعلامياً للمنظومة الإيرانية - بحسب ادعاءات المسلماني-.

وفي هذا السياق لم يترك الصحفي المصري سليم عزوز المؤيد للرئيس المخلوع محمد مرسي تهمةً إلا وألصقها بهيكل حيث خصص عزوز لاتهاماته مقالة نشرتها صحيفة القدس العربي في عددها الصادر بتاريخ ٤/١٠، إلى ذلك علق الدكتور السعودي محمد عبد الله العزام على تصريحات هيكل قائلاً: "أخيراً يعترف هيكل بأن السعودية والخليج لها قرار مستقل عن قرار أمريكا!!.. صدق وهو كذوب.. والفضل ما شهد به العدو".

كما تساءل الصحفي عبد الله العذبة رئيس تحرير صحيفة العرب القطرية: هل يريد هيكل أن يتم دفنه في إيران كأمنية أخيرة يا إخوان؟...

بينما عمدت الصحفية الكويتية فجر السعيد المعروفة بولائها للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك إلى الاستهزاء بالأستاذ هيكل في حين اتهمه الكاتب المصري عبد الواحد عاشور بالجنون والخرف.

من المؤكد أن ما تضمنته تصريحات الصحفي العريق محمد حسنين هيكل من انتقاد لحكام دول مجلس التعاون جراء شنهم عدوانهم على الشعب اليمني وما ذهب إليه هيكل من نصح هذه الدول ومعها مصر بعدم التمادي في خيار الحرب والعودة إلى الطرق السلمية والحوار من أجل إنقاذ اليمن ومنع انتشار الفوضى إلى سائر الدول العربية كانت هي السبب الرئيس لما لاقاه هيكل من انتقادات واتهامات، محمد حسنين هيكل والذي تكلم بكل صراحة ومن دون مواربة نسف بكلامه هذا محاولات دول مجلس التعاون وشركائها تصوير عدوانهم على اليمن كأنه محاولة لإحلال السلام والأمن ودحر (الإرهاب) من اليمن، وكشف للمتابع العربي لهث هذه الدول وراء مصالحها الضيقة غير آبهة بأمن المنطقة وما سيعقب هذه الخطوة من ويلات سترتد حتماً على هذه الدول نفسها

لقد غدا الراحل محمد حسنين هيكل في أعوامه الأخيرة مرجعية رأي ورؤيا بعد حياة صاخبة بين الصحافة والسياسة. لكن هذا لا يختصر مسيرته كنموذج للصحفي المؤرخ الذي بقي متعلقاً بمهنته وهو في أروقة السلطة وكواليس الصحافة جامعاً الوثائق والشهادات التي جعلت منه لاحقاً شاهداً على عصره، مفنداً أبرز المنعطفات والتغيرات. لا شك أن هيكل كان صانع نجومية الحكام، كما أطلق عليه البعض، فقد حاور أبرز الرموز السياسية والثقافية والفكرية في القرن العشرين، وهو بحق "شاهد على التاريخ".

اعلى الصفحة