اللوحة الرابعة: ملامح وأقلام

السنة الخامسة عشر ـ العدد 172  ـ (جمادي الثانية  1437 هـ ) ـ (نيسان2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


لمدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

الفلسفة بين العلم والسياسة

الكتاب: مدخل إلى الفلسفة السياسية والاجتماعية
الكاتب: الأستاذ الدكتور مصطفى حسن النشار
الناشر: دار المسيرة للنشر والتوزيع

 

هناك فرق كبير بين علم السياسة والفلسفة السياسية، فعلم السياسة علم وصفي تحليلي يقوم فيه عالم السياسة بوصف النظم السياسية المختلفة وتحليل الفروقات بينها في ضوء ما يعرفه عن الحكومة وأنواعها وسلطات الدولة المختلفة وعلاقتها ببعضها البعض؛ فهذا نظام سياسي رئاسي وهذا نظام برلماني وهذا نظام يجمع بين هذا وذاك. وما أصلح هذه النظم لبلد ما من البلاد في ضوء ظروف كل واحدة من هذه البلاد؛ فباختلاف بيئات البشر وتجاربهم في إنشاء مدنهم وتطورها تختلف طبيعة النظام السياسي لكل منها فبعضها تعود على الحكم الملكي وبعضها يميل إلى الحكم الرئاسي الديمقراطي وبعضها يفضل حكم القلة والآخرون يفضلون حكم الفرد وإن كانت الأغلبية من دول العالم تفضل حكم الشعب للشعب.

وعالم السياسة وظيفته تحليل هذه النظم السياسية كما صنعها أصحابها ويقارن بينها محاولاً الوصول إلى أكثر الصيغ ملاءمة للارتقاء بحياة البشر في ظل ظروف معيشية وبيئية معينة. إنه يصف يحلل ويفسر أما فيلسوف السياسة فهو يتجاوز الوصف والتحليل والتفسير إلى رسم صورة لما ينبغي أن يكون عليه حال الدولة. إنه يحاول وضع مثال للدولة ولنظامها السياسي بصرف النظر عن ما يجري في الواقع وإن كان يضعه في اعتباره حين التحليل ووضع المثال.

إن علم السياسة يختلف عن فلسفة السياسة اختلاف العلم عن الفلسفة عموماً؛ فالعلم دراسة وصفية تجريبية بينما الفلسفة دراسة معيارية، العلم دراسة لما هو كائن، والفلسفة تضع تصورات حول ما ينبغي أن يكون. العلم يدرس الجزئيات والفلسفة دراسة للكليات. نتائج العلم تتسم بالضبط والدقة وهناك معايير لقياسها والتأكد من صحتها بينما لا يملك الفيلسوف إلا الحجج العقلية التي يمكن أن يؤكد من خلالها صدق تصوراته. ومع ذلك فإن المذاهب الفلسفية حتى في فلسفة السياسة تعلو فوق الزمان والمكان ويمكن أن يستفاد بها في أي عصر لأنها وبحسب طبيعتها تركز على ما هو جوهري في حياة الإنسان السياسية؛ فما من إنسان إلا ويرغب في أن يعيش حياته السياسية والاجتماعية شاعراً بالحرية ومتمتعاً بالعدالة وهذا هو حلم الفلاسفة في أي مجتمع سياسي مثالي ينشدونه.

وليكن معلوماً أن الفلاسفة يبنون تصوراتهم السياسية للمجتمع المثالي على تحليلهم لطبيعة الإنسان. فالإنسان لديهم حيوان اجتماعي سياسي بمعنى أنه لا يستطيع العيش بمفرده وهو لا يحقق ذاته بحق إلا وسط الناس وبين أفراد مجتمع وهو لا يستطيع بدونهم تلبية مطالبه سواء أكانت مادية أو معنوية. والإنسان لديهم جوهره العقل وليس الجسد ومن ثم اهتموا - رغم اختلافاتهم المذهبية - ببناء العقول أكثر من بناء الأجساد، كما اهتموا ببيان أن تحقق الحرية والعدالة في المجتمع همان يميزان يميزا المجتمع المدني الإنساني ويجعلانه مجتمعاً ذا خصوصية. فالعمران الإنساني بلغة ابن خلدون أو الحضارة الإنسانية بلغتنا الحديثة هو ما يميز المجتمع الإنساني عن غيره من المجتمعات الحيوانية. إن مجتمعاً يشعر أفراده بكافة الحريات ويمارسونها في ظل احترام القانون الذي يراعي الحقوق الأساسية للإنسان هو الحلم الذي سعى ويسعي إلى تحقيقه كل الفلاسفة في أي عصر وفي أي مكان. وبقدر ما يتفاعل الناس في أي عصر مع المذاهب الفلسفية السياسية التي يقدمها الفلاسفة بقدر ما تتطور الحياة السياسية التي يعيشها البشر إلى الأفضل.

إن الفلاسفة لا يقدمون في الفلسفة السياسية مذاهب مغلقة بل يقدمون تصورات للدولة المثالية وللحكومة المثالية ولصور من العدالة وكيفية تحققها في المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً..الخ وهذه التصورات قابلة للحوار والنقاش والتعديل حسب ظروف كل مجتمع سياسي. والحقيقة التي ينبغي أن نؤكد عليها هنا أن الفلسفة السياسية طوال تاريخها ولدى كل ممثليها عبر العصور لم تتطور إلا عبر عاملَيْن اثنين هما الرؤية النقدية التي يقدمها الفيلسوف اللاحق على سابقِيه، والظروف المستجدة في كل عصر على كافة الأصعدة العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى جانب المبادئ الفكرية السائدة في هذا العصر أو ذاك.

والحقيقة الثانية التي نود أن نؤكد عليها هنا أن الفكر السياسي قديم قِدَمَ المجتمعات البشرية؛ فقد ظهر مع ظهور أول حضارة من الحضارات الإنسانية على وجه الأرض. وقد ضرب الكاتب في هذا الكتاب المثل على ذلك بالحضارة المصرية القديمة التي بنت أول مدينة سياسية في تاريخ الإنسانية وأوضح كيف أنها أقامت هذا الصرح السياسي المدني الذي كانت تمتد دورة استقراره لألف عام على أساس من العدالة والنظام (ماعت) وكانت تلك كلمة السر التي جعلت هذا المجتمع يتقدم بحكامه ومحكوميه ويحقق الرفاه والسعادة لأفراده لدرجة جعلتهم يتركون لنا كل هذه المنجزات الحضارية التي لا تزال معجزة يتبارى العلماء والمحللون في محاولة فك رموزها حتى الآن.

إن الفكر السياسي القديم قدم الحضارة المصرية القديمة ومثيلاتها في الشرق القديم، بينما الفلسفة السياسية لم تبد بوضوح إلا مع أفلاطون باعتباره صاحب أول مذهب فلسفي سياسي شامل عبر عنه في كتاباته جميعاً وخاصة في محاوراته الثلاث الشهيرة (الجمهورية - السياسي - القوانين)، وفي هذه المحاورات الثلاث عبر أفلاطون لأول مرة بصورة فلسفية مجردة عن معالم المدينة المثالية المبنية على تحليله الخاص لجوهر الإنسان وجوهر المجتمع السياسي الأمثل؛ وإن كان قد سبقه ـ فيما يرى الكاتب ـ اخناتون في مصر القديمة، وكونفوشيوس في الصين القديمة في الحلم بدولة مثالية حاول كلاهما تحقيقها في الواقع باعتبار أن اخناتون كان ملكاً فيلسوفاً، وباعتبار أن كونفوشيوس قد عين في عصره كبيراً للوزراء، فإن أفلاطون بنى تصوره للدولة المثالية على رؤيته الفلسفية العامة والمجردة دون أن ينجح في تحقيقها على أرض الواقع. ومن ثم بقيت يوتوبيا خيالية وإن كان الناس عبر العصور قد استفادوا من بعض عناصرها سواء فيما يتعلق بالعدالة أو بنظريته في التربية أو من رأيه حول أنواع الحكومات وأفضلها..الخ.

وهكذا بدأت الفلسفة السياسية بمعناها النظري المجرد عند أفلاطون ثم أرسطو وأثرت مذاهبهما على كل تاريخ الفلسفة السياسية اللاحق. وهذا ما يجده القارئ العزيز في ما كتبه الدكتور مصطفى حسن النشار بين دفتي هذا الكتاب الذي يقع في 288 صفحة من القطع العادي.

إن التأثير والتأثر بين فلاسفة السياسة كما في تاريخ الفلسفة العام لكن يبقى أن لكل فيلسوف مذهبه المتفرد ورؤيته الخاصة التي تنعكس على كل ما تأثر به عن الآخرين وتتبلور في إطارها تحليلاته للواقع السياسي الذي عاشه. فما من فيلسوف قدم آراءه دون أن يتأثر بسابقيه، أو قدم مذهباً دون أن يكون للواقع السياسي الذي عاصره وعاش فيه أثراً عليه. إن الفيلسوف - أي فيلسوف - مهما كانت درجة مثاليته هو ابن عصره تأثر بظروفه وبعوامل بيئته الشخصية والقومية وبدرجة التطور الذي شهده هذا العصر.

وربما يكون القارئ لهذا الكتاب من محبي الفلسفة وعاشقاً لتاريخها، وربما لا يكون لكن ما أن يقرأ فلا بد أنه سيتفاعل مع آراء هؤلاء الفلاسفة عبر التاريخ وسيكون مع هذا الرأي أو ذاك أو ضد هذا الرأي أو ذاك. وهذه درجة من درجات التفلسف لدى القارئ حرص الكاتب على أن تكون سمة أساسية من سمات القارئ العربي بوجه عام فهذه الدرجة البسيطة من درجات التفلسف لقارئ الفلسفة السياسية وتاريخها ـ كما يرى الكاتب ـ في غاية الأهمية لصنع الوعي السياسي المطلوب لكي نطور من حياتنا السياسية عموماً في ضوء ما عرفناه من حقائق الواقع السياسية وما عرفناه من تصورات هؤلاء الفلاسفة الذين عانوا في تقديمها إلينا. وكل المطلوب هو التفاعل معها سلباً أو إيجاباً، رفضاً أو قبولاً، وفي الحالتين القارئ هو من يكسب زيادة في الوعي وأملاً في حياة أفضل نتمناها له ولنا.

اعلى الصفحة