|
|||||||
|
في حياتنا العملية نوعان من المشاعر تجاه الآخرين: حبّ وبُغض، لمن حولنا أو لبعض من حولنا. وهذه المشاعر إنسانيّة طبيعيّة يعيشها الإنسان بمقتضى فطرته وخلقته. فقد جعل الله الإنسان قابلًا للحب والبغض انطلاقًا من بعض الخصوصيّات التي يجدها أو يفقدها لدى الطرف الآخر. وعادة ما يحبّ الإنسان عندما يجد بعض الخصائص لدى شيءٍ أو شخصٍ تمثّل – هذه الخصائص - بالنسبة إليه أمراً مهمّاً. فالإنسان الذي يحبّ الجمال ينجذب إليه أنّى وجده، ويتوطّد الانجذاب ليتحوّل إلى حالة حبّ عندما يستحوذ هذا الشعور على الإنسان. بعضُ النّاس يحبّون أصحاب المال، وبعضهم يحبون أصحاب السلطة، أو أصحاب العقول أو العلماء، أو الأشخاص المشهورين، أو لاعبين رياضيّين أو ما إلى ذلك. أيضًا قد يحبّ الإنسان على أساس ديني، بمعنى أنّ هناك أشخاصاً يدخلون من ضمن الاعتقاد الديني للإنسان المؤمن والمتديّن، وغالبًا ما يجد فيهم عناصر الكمال؛ فالإنسان المؤمن بالرسالات يحبّ الأنبياء والأولياء والصالحين وما إلى ذلك، ويُكرّس علاقة الحبّ بهم عن طريق جملة من الطقوس التي تحاكي مشاعره وأحاسيسه وتغذّيها باستمرار.. في المقابل، نجد أنّ الإنسان قد يبغض أشياء أو أشخاصاً؛ لأنّه ينفر منها بحسب بعض الخصوصيّات التي تهمّه فيجد ما يضادّها، فيعيش نوعًا من النفور وقد يتحوّل إلى كراهية.. هناك الكثير من الأشخاص الذين نختلف معهم في الجانب الديني والمذهبي يمثّلون بالنسبة إلينا حالات أو مواضيع للبغض، وربما يتحوّل البغض إلى عداوة تتكرّس بفعل تراكم المشاعر السلبيّة عبر الزمن، وعبر طقوس يقوم بها الفرد أو الجماعة.. الحبّ والبغض من منظور الإيمان كيف يمكن التأسيس له؟ وما هي المعايير التي ينبغي لهما أن ينضبطا في إطارها؟ قبل الإجابة على ذلك لا بأس في استعراض بعض الإشكاليّات التي تنتج عن مشاعر الحبّ والبغض في حياتنا العمليّة، تبعًا للتربية التي قد نلاحظها في مجتمعاتنا عمومًا. إشكاليّات الحبّ والبغض عمليّاً عندما يحبّ إنسانٌ شخصًا ما، أو جهةً ما، فهذا يفترض لديه توافقًا مع ذلك الشخص أو الجهة من عدّة جهات: 1- توافقٌ مطلق في الرأي. 2- توافق مطلق في المشاعر. 3- توافقٌ في العلاقات التي ينسجها الشخص أو الجهة من افتراض إمكانيّة أن يكون للإنسان رأيٌ في هذه العلاقة أو تلك. 4- الثقة المطلقة بمن نحبُّ، فما يقدّمه من سردٍ لوقائع، أو نقلٍ لمواقف، أو حكايةٍ لأحداثٍ، ينبغي أن تكون موضع التصديق المطلق من قبل من يحبّه، وليس له أن يفترض إمكانيّة الخطأ أو الاشتباه!. إنّ هذا النوع من التربية يجعل الضابط والميزان في اتّخاذ المواقف، ونسج العلاقات، إنّما هو العلاقة العاطفيّة التي تربط إنسانًا بإنسانٍ ما، أو بجهةٍ ما، وهذا الأمر في حدّ ذاته بناءٌ على أمرٍ متأرجحٍ مع العوامل والتقلّبات التي تعتري الإنسان داخليًّا أو خارجيًّا؛ إذ الحالة العاطفيّة لا قيود لها في حركة المشاعر، وهو غير إراديّ عندما تتوفّر عناصره الذاتية، ولذلك ترى الإنسان ينقلب حبُّه كُرهًا في لحظة تجربة سلبيَّة، وقد ينقلب حُبًّا في لحظة تجربة إيجابيّة. في المقابل، تربّي مجتمعاتٌ عديدة أبناءها على البُغض بلا ضوابط؛ فالآخر الذي نختلف معه في فكرة ما، أو في اتّجاه ما، أو في موقفٍ ما، وتتملّكنا مشاعر البُغض تجاهه، يتحوّل – بفعل ذلك – إلى فحمةٍ سوداء، لا نرى فيها بياضاً، ولا نلمح فيها أيّ نقطة من نقاط الخير. وعلى هذا نجد أنّ تقويمنا في حالات الاختلاف يأتي مطلقاً في السلب، بحيث لا نستطيع أن نرى أيّ عنصر للإيجاب نستطيع أن نعتمد عليه في أيّة عمليّة تقارب يفترضها الواقع، وهذا – في حدّ ذاته – يؤسّس للانفصال التام. أمّا الموقف من ذلك الإنسان الآخر، أو الجهة الأخرى، فهو ضدّيٌّ دائماً، دونما حسابٍ لكون ذلك الآخر متوافقًا مع الحقّ أو العدل أو مخالفاً لهما. العلاقات التي نبنيها على أساس الخصومة، فهي الخصومة لكل من يمتّ لذلك الذي نخاصمه أو نبغضه بأيّ صلة، فصديقه عدوّ لنا ولو لم نعرف أصله وفصله، وعدوّه صديقٌ لنا حتّى لو كانت العداوة بينهما لها ما يبرّرها في ميزان القيم لو نظرنا إليها بموضوعية. لقد وجدنا – في واقعنا أخيراً – كيف تعزّزت النزعة الانفصاليّة في المجتمعات، فأصبح التقسيم السياسي للكيانات والدول والمجتمعات أمراً مقبولاً؛ لأنّ السنّة لا يَرَوْن في الشيعة ما يمكن البناء عليه في تأسيس مجتمع واحد، وكذلك الشيعة لا يَرَوْن في السنّة ذلك، والمسلمون لا يَرَوْن في المسيحيّين ما يمكن أن يوحّدهم عليه، أو العكس؛ وهكذا. وهذا النمط من التربية يجعلنا نتوقّع أن تتحوَّل الدوائر التقسيميّة – لو حصلت لا قدَّر الله! – إلى دوائر احتراب تنقسم بدورها على ذاتها باستمرار!. وثمة مشكلة كبيرة في انعكاسها على مختلف أنشطة الإنسان، وهي أنّ مشاعر البُغض تتطلّب تغذيةً مستمرّة لكي تقاوم عوامل النسيان الطبيعية لدى الإنسان؛ ذلك أنّ الإنسان الذي يستغرق في زحمة الحياة، تخفُّ طبيعيّاً لديه مشاعر البُغض والكراهية، ولذلك يحتاج إلى تغذيتها بين وقتٍ وآخر عبر موقفٍ سلبيّ، أو استعادة ذكرى أليمةٍ... ومن جملة هذه الآليات هي انجذابه إلى ما يتوافق مع حالة البُغض والخصومة والعداوة ممّا ينقله الناس عادةً من روايات حول ذلك الشخص، وهو اليوم مادّة أساسيّة في وسائل الإعلام الفتنوي، ولذلك تجدنا غالباً نبرّر قبولنا لذلك من دون تثبُّتٍ: "فلان ليس بعيدًا عنه شيءٌ من ذلك". ولعلّنا نستطيع أن نرجّح أنّ تأثير وسائل الإعلام الفتنويّة قد تمّ على هذه القاعدة، ونجح إلى حدّ كبير في فصل شعوري بين السنّة والشيعة؛ فأصبح الإنسان الشيعي أو السنّي لا يطيق جاره المخالف، مع أنّ بينهما الكثير من الخبز والملح في تاريخ يرقى إلى عشرات السنين، وأحدُهما لم يرَ من الآخر إِلَّا كلّ خيرٍ في حالات الضيق والضعف والحاجة! وبين مشاعر الحبّ والبُغض يتأرجح الإنسان صعوداً وهبوطاً، إيجاباً وسلباً، ولا تراه يقف موقفاً متوازناً على طول الخطّ، ويفقد بالتالي المعايير التي تجعله ثابت الخطى، محافظاً على كيانه الإنساني والقيمي، فكريّاً وعمليّاً، في حالات الحبّ والبُغض على حدّ سواء، وهنا يصبح الفكر تابعاً لمشاعر الحبّ ومشاعر البُغض على ما يصوّر ذلك الشاعر: وعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ كما أنّ عين السُّخْط تُبدي المساويا العاطفة المذهبية الجمعية انطلاقاً ممّا، قد نستطيع أن نرسم ملمح العاطفة المذهبيّة وتأثيرها على المجال الإسلامي بعامّة؛ حيث إنّه لا شكّ في تشكّل عاطفة جمعيّة – إذا صحّ التعبير – تجاه الكثير من الأشخاص الرمزيّين مذهبيًّا، وكذلك تجاه أحداث تاريخيّة مؤثّرة في تاريخنا الإسلامي، ومن شأن هذه العاطفة الجمعيّة أن تطبع مشاعر الأفراد المنضوين تحتها، سواء الذين يعيشون حاليًّا أو الذين سيولدون في المستقبل. إنّ العاطفة هنا هي نوعٌ من الثقافة التي يتشرّبها الفرد من حيثُ لا يشعر، والتي تتغذّى من خلال جملة التعابير المتراكمة للجماعة، عن نفسها كما عن الآخرين الذين هم خارج إطارها المذهبي، وبذلك تتفوّق على أيّ حالة عقلانيّة يمكن لها أن تفنّد عناصر الحبّ أو البغض، عبر إرجاعها إلى أصلها الموضوعي الواقعي، لتحدّد مدى وجود ما يبرّرها هنا وهناك، ومن الواضح أنّ عناصرها لا ترقى إلى مستوى الكمال التامّ في الإيجابيّات (في حالات الحبّ) أو في السلبيّات (في حالات البغض). وهنا نجد أنّ كثيراً من النقاشات العلميّة أو التحقيقات التاريخية التي استهدفت إعادة كتابة التاريخ أو تصنيف أحداث شكّلت منعطفات في التاريخ الإسلامي، لم تستطع أن تخفّف من العاطفة أو المشاعر الجمعية تجاهها أو تجاه رموزها. بل إنّ هذه العاطفة قد شكّلت السدّ المنيع أمام تأثير هذه النقاشات أو التحقيقات في اتّجاه هذه الجماعة المذهبيّة أو تلك، وجعلت القائمين بها مُضطهَدين في مجتمعاتهم، يرميهم بنو جلدتهم بالزندقة أو الهرطقة. في أيّامنا هذه، دفع استفحال الشعور المذهبي وسيطرته على الذات إلى نوع من "التقيَّة" التي بات يمارسها أتباع المذاهب كلّها؛ لأنّ الإنسان أصبح يخاف على نفسه من الرفض الاجتماعي إذا ما ضُبط متلبّساً بالحديث إيجاباً عن الآخر المذهبي! لا يحتاج ذلك إلى مزيد عناءٍ لرؤيته جليّاً على أرض الواقع!. العاطفة المذهبيّة والروح العلمية ولا يقف تأثير العاطفة المذهبيّة الجمعية عند الجانب الاجتماعي، بل يتعدّاها إلى الجانب العلمي، وهنا قد يكون من المفيد جدّاً لنا أن ندرس مدى تأثير هذه العاطفة الجمعيّة على قبول الروايات ورفضها، وتأثيرها حتّى على عالم الجرح والتعديل في علم الرجال الذي هو عماد تحقيق نسبة الرواية إلى مصادرها؛ فإنّ الموقف الشعوري المذهبي لدى الباحث الشيعي مثلاً يمكن أن ينعكس على مدى تقبّله للمعطيات التي يمكن أن تعزّز وثاقة الراوي السنّي أو عدالته في الرواية على الأقلّ، وكذلك بالنسبة للموقف ذاته لدى الباحث السنّي في انعكاسه على قبول المعطيات التي تعزّز وثاقة الراوي الشيعي أو عدالته في الرواية. قد يلمح الباحث إشكاليّة علميّة هنا، وهي أنّ المجال العلمي السنّي قد رفض مجاميع حديثيّة بأسرها من دون أن يكلّف نفسه عناء البحث العلمي التفصيلي فيها، وكذلك صنع المجال العلمي الشيعي بالنسبة للمجاميع الحديثيّة السنّية؛ مع أنّ العلم لا يقبل التأطير المذهبي، بل يحتكم إلى معايير دقيقة هي أوسع بطبيعتها من ذلك، الأمر الذي انعكس بسلبيّة على تراكم العلوم الإسلاميّة، والتي تحرّكت بانفصال تامّ بين مجالين أساسيّين، ثمّ انفصلت حركة العلم في كلّ مجالٍ عن بعض عناصرها الأساسيّة. في كل الأحوال، تهوى العاطفة المذهبية الاستغراق في الجزئيّات السلبيّة للآخر المذهبي، وقد تنزع نحو تعميم تلك الجزئيّات على ذات ذلك الآخر، بحيث قد يبدو للوهلة الأولى أنّ معايير وثاقة الراوي هي العصمة الكاملة عن الخطأ والاشتباه، وهي لا تكون إلّا لأهلها! وبذلك تضعف في كلّ مجالٍ مذهبيٍّ الروح العلميّة المتعالية على المشاعر المذهبيّة حُبّاً وبُغضاً. وقد نجد في هذا المجال أنَّ عدداً ممَّن رُموا – من الرواة - بالغلوّ في الأنا المذهبية، أو بالبُغض للآخر المذهبي، تمّ قبول رواياتهم لدى بعض العلماء هنا وهناك، في الوقت الذي ندرك فيه أنّ العلميّة تقتضي التوقّف على الأقلّ فيما يرويه هؤلاء متوافقًا مع حالة الحبّ أو البُغض، فضلاً عن كون ذلك الغلوّ في حدّ ذاته يمثّل علامة استفهام كبيرة حول التوازن لدى الشخصيّة التي تعيشه في طريقة نظرتها إلى الأمور، وتصوّرها للأشياء التي تسمعها أو تراها أو ترويها لاحقاً. ولعلّ من المفيد الالتفات جيّداً إلى ما نشهده حاليّاً في مجتمعاتنا، في ظرف تأزُّم الحالة المذهبيّة في المنطقة، كيف هي طريقة الإعلام المحسوب مذهبيّاً، ولاسيما في وسائل التواصل الاجتماعي الذي يعكس الحالة الشعبية عموماً، في سرعة تبنّي أي فكرة أو رواية سلبية عن الطرف المذهبي الآخر، وفي رفض أي فكرة أو رواية عن الذات أو الـ"نحن" المذهبيّة؛ الأمر الذي يمكن أن يعطينا ملمحاً عامّاً عن التاريخ وكيفية كتابته عبر الرواية التي تناقلها الرواة من عامّة الناس أو حتّى من علمائهم متأثّرين بأجواء الجماعة المذهبيّة التي ينتمون إليها، أو يختلفون معها. عودة إلى الكتاب والسنّة بالرجوع إلى بعض الأدبيّات الواردة في الكتاب والسنّة، نستطيع أن نتبيّن كيفيّة تناولها لمسألة المشاعر، سواء كانت شخصيّة أو عامّة، وسواء كانت مشاعر حبٍّ أو بُغضٍ، وتأثيرها على الموقف الإيماني بما يجعل الإنسان خارج دائرة الإيمان في مواقفه. قال تعالى: ﴿ومن الناس من يَتَّخِذ من دون الله أنداداً يحبّونهم كحبِّ الله والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله﴾(1)، وإذا ضمنا إلى ذلك قوله تعالى: ﴿قل إن كُنتُم تُحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله﴾(2)، نفهم أنّ محبّة الله الشديدة من قبل المؤمنين تتجلَّى في عدم مخالفتهم لمعايير الحقّ والعدل والخير عندما يريدون أن يقفوا أيّ موقف؛ لأنّهم عندما يتنازلون عن معيارٍ هنا أو هناك لصالح شخصٍ أو جهة ما انطلاقاً من علاقة المحبّة التي تربطه به أو بها، فإنّ ذلك يمثّل – عمليّاً – تغليباً لمحبّة غير الله على محبة الله. ليس ما يدعو إلى حصر مفردة "الأنداد" بخصوص ما تم التعارف عليه من حالات الشرك وأوضاعه، فإنّ أي طاعة لغير الله تعالى تمثّل شركاً عمليّاً؛ بل لعلّ هذا هو الغالب في استعمال مفردة الشرك والكفر في القرآن الكريم، أعني الشرك والكفر العمليّين. وهذا هو ما أكّد عليه بالتفصيل قول الله تعالى: ﴿قل إن كان آبَاؤُكُم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجهم وعشيرتهم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره﴾(3). وهو الواضح من قوله تعالى في مقامي الحبّ والبغض -: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين﴾(4)، ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾(5)؛ فإنّ حالتي الحب دافعٌ موضوعي للانحراف عن القسط في العلاقات في مقام الشهادة، وكذلك هو دور البغض في دفع الإنسان نحو التنازل عن خطّ العدل في الإشارة إلى المواقع الإيجابية لدى الطرف الآخر. كيف لنا – كمسلمين – أن ندَّعي الإيمان بالله وبما أنزل على رسوله من كتابه، ثمّ تجدنا في إدارة علاقاتنا المذهبيّة، في مواقفنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وكذلك في حركتنا العلمية والفكرية، نتحرّك بعيداً عن خطوط العدل؛ ليحرفنا الحبّ لذواتنا وما يتعلّق بها، والبغض للآخر وما يرتبط به، نحو ما يضادّ قيمة القسط والعدل في الكلمة والموقف والتوجُّه، وما ذلك إلا كمن يريد للحقّ أن يتَّبع هواه، وفي هذا فساد الأرض والمجتمعات، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: ﴿ولو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن﴾(6). لا يستطيع الشيعي في غمرة الأزمة المذهبيّة أن يجد للسنّيّ أيّ منقبة، ولا يستطيع السنّيّ أن يجد للشيعي أيّ فضيلة في تلك الحال، وهذا كلّه مانع من التقارب، وتعزيز لعناصر البغضاء والعداوة، وهي المنفذ الطبيعي الذي تنفذ منه كلّ مخطّطات الأعداء، الذين لا يهمّهم سنّة ولا شيعة، بقدر ما تهمّهم مصالحهم الآنية والإستراتيجية! بعض ما أصيبت به الأمّة الإسلاميّة – مع كلّ أسف – أنّها غلّبت منطق العداوة لفئة من الأمّة – بعنوانها المذهبي - في تصنيفها للناس، فأصبح يُراد للإنسان أن ينسج علاقاته تبعًا لتشخيص هذه الجهة السياسية؛ لأنها محسوبة على مذهبٍ معيّن، فيقطع علاقاته التي لا تحبّها هذه الجهة، وينسجم مع علاقاتٍ أخرى لأنها علاقاتٍ تحبّها. أمّا أين هو الله في كلّ ذلك؛ وأين هي قيم الحقّ والعدل، فلم يعد له مجالٌ في كلّ هذا الجنون المذهبيّ الذي يعصف بأمّتنا ومجتمعاتنا! قد تحبُّ أنت إنساناً ما وتقترب منه لخصوصيّة تراها، فلماذا تفترض أنّ علاقة المودّة لك تفترض أن أجعل علاقاتك علاقات قربى لي؟ وقد تبغض إنساناً لموقفٍ ما، وقد لا يعنيني هذا الموقف؛ بل قد أوافقك فيه، فلماذا تفرض عليّ أن أبغضه اتّكالاً على علاقة المودّة أو التقارب بيني وبينك؟ إنّ الناس يختلفون في تحديد علاقاتهم، تبعًا لخصوصيّاتهم. في عالم العلاقات الدبلوماسيّة، لا تتحرّك الدول بهذا المنحى؛ بل تجد دولتين حليفتين؛ كلّ منهما تقف موقفاً مختلفاً من دولة ثالثة، فتقطع الأولى علاقتها بها ولا تقطعها الأخرى؛ لأنّ ثمة خصوصيّات تدخل في تحديد الموقف، قد تجعل من المستحيل قطع العلاقة لإحداهما، وهي خصوصيّات ليست ضاغطة على الدولة الأولى. نحن لا نريد هنا أن نخضع العلاقات للمصالح الآنية، ولكنّنا أردنا تقريب الصورة، وهي أنّ تقارب اثنين لا يعني الاتفاق على إدارة العلاقات مع الأطراف الأخرى بنحوٍ واحد، كما لا يعني تقارب اثنين أنّ أحدهما يتبنّى كلّ ما يقوم به الآخر... إنّ حُبَّنا لسنّيّتنا أو لشيعيّتنا لا ينبغي أن يعلو حبّنا لله عزّ وجلّ، وإلا فنحن نجعل الشيعية والسنّيّة حالات صنميّة حاجزة عن تفعيل القيم الإلهيّة في حياتنا العملية، وفي هذا يقول تعالى: ﴿ما تعبدون من دونه إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان﴾(7)؛ إذ ليس المقصود هنا هو الاسم بحدوده اللفظية، فقد يُسمَّي الإنسان نفسه مسلماً – تماماً كما سمّاه الله: ﴿هو سَمَّاكُم المسلمين من قبل﴾(8)– ولكنّه يتحرّك من دون معنى ومضمون في واقع الحياة، موقفاً وسلوكاً. ليست مسألة تجرُّد الإنسان من مشاعره بالهيّنة والسهلة، وإنّما تحتاج تدريب وجهاد نفس، كما تحتاج إلى تسديد من الله تعالى، وهو من الأمور التي يتوجَّه الإنسان فيها بالدعاء إلى الله، كما أثر ذلك عن الإمام عليّ بن الحسين: "وارزقني التحفُّظ من الخطايا، والاحتراس من الزلل في الدنيا والآخرة، في حال الرضا والغضب، حتّى أكون بما يرد عليَّ منهما بمنزلةٍ سواء، عاملًا بطاعتك، مؤثرًا لرضاك عمّا سواهما، في الأولياء والأعداء، حتّى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليّي من مَيْلي وانحطاط هواي"(9). هوامش 1- سورة البقرة: ١٦٥. 2- سورة آلِ عمران: ٣١. 3- سورة التوبة: ٢٤. 4- سورة النساء: ١٣٥. 5- سورة المائدة: ٨. 6- سورة المؤمنون: ٧١. 7- سورة يوسف: ٤٠ 8- سورة الحج: ٧٨. 9- الصحيفة السجّادية المروية عن الإمام علي بن الحسين، من دعائه عند الشدّة. |
||||||