|
|||||||
|
كما هو معروف فإن الثقافة الفلسطينية وحدة واحدة في فلسطين والشتات، وفي ذات الوقت تراعي الخصوصية المكانية باعتبارها ضمانة للحفاظ على الشخصية الوطنية التي ما زالت تكابد وتتحدى وتقدم الأجوبة اليومية لأسئلة الحاضر والمستقبل في مواجهة المشروع الصهيوني القائم على الاحتلال والإحلال والتذويب والإبادة. الهوية الثقافية، باعتبارها المعرّف الحضاري، وباعتبارها المعيارية السلوكية للأفراد والجماعات، تتعرض لهجمات شرسة ومبرمجة لتشويهها وتذويبها وتحويل مرجعياتها بما يخدم عولمة آخذة بالتوحّش. والقوة الغاشمة المحتلة تعمل على حفر مقولاتها بالحديد والنار؛ وسؤال الهوية الثقافية المترافق مع الضعف السياسي والحضاري قد يدفع الى ذروتين مرَضيتين هما التطرف أو الاستسلام. ولان الفضيلة (كما يقول الفلاسفة) تقع بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط، فلا بد من مواصلة الإضاءة والتنوير على المسألة الثقافية. والثقافة الفلسطينية أخذت بالتبلور منذ مطلع القرن العشرين، واكتسبت خصوصيتها من موقع حارس الأرض والمقاوم، ولكنها لم تكن إلا نَسَغاً حيوياً من جذور الثقافة العربية. ذاكرة تأبى النسيان "لو دلق فلسطيني ذاكرته لأغرقت البحر".. انطلاقاً من هذا المثل، تتسلح الكاتبة والروائية الفلسطينية حنان بكير بذاكرتها لتشهرها في وجه النسيان، تكتب "إبحار في الذاكرة الفلسطينيّة" لتثبت تجذّرها في أرضها التي أجبرت على النزوح عنها، ولتحتفظ بحلمها وبخريطة تلك الأرض كما كانت بعيداً عن التشويه الذي طالها على أيدي المحتلين. في كتابها الذي نشرته مؤسسة الرحاب الحديثة في بيروت، تحتل فلسطين الواقع والتاريخ والحلم والمستقبل بالنسبة لحنان بكير التي اشتغلت على تدوين الذاكرة الفلسطينية في الذكرى الخمسين للنكبة عبر سلسلة مقابلات مع شخصيات فلسطينية وعربية شاركت في النضال العام 1948. بكير الفلسطينية التي نشأت في لبنان وتقيم في النرويج، عملت في مجال التعليم بمدارس الأونروا، وتكتب في الصحافة النرويجية، وقد أسهمت في تأليف كتابين صدرا باللغة النرويجية، وهي مُحاضرة في مجال التفاعل الثقافي والاندماج. تكتب بكير في مجموعتها - التي تحوي 16 قصة قصيرة - ما تختزنه ذاكرتها من تفاصيل مؤلمة عن واقع الفلسطينيين عقب النزوح والتشرد في المخيمات والمنافي، تبحر في ذاكرتها التي تستمد منها حكاياتها على شكل صور مستعادة تواجه بها سطوة الزمن واستبداد العدو ومحاولة تغييره الجغرافيا الفلسطينية. في قصتها "رؤيا العودة" يخيل لها أنها تعود طفلة إلى شوارع عكا، تتعرف من جديد إلى وجوهها، تستسلم للبحر كي يغرقها ويلقيها على شواطئ بلادها جثة نابضة بالحلم. وبمشهد غير مألوف، يتفاجأ القارئ بتصوير الكاتبة وتخيلها أنها تسير في جنازتها، وتظل غريبة عن محيطها، تنبّه الغافلين إلى خطورة ما يخطط لهم. ولا ينفك حلم العودة يراودها ويحضر لديها في أكثر من قصة بطريقة أو بأخرى مثل "امرأة أخرى"، و"ليالي الرعب"، و"أنا وهي". لا تتكتّم القاصة على ما تعرّض له الفلسطيني على أيدي إخوته العرب، تشكّل تجربتها الشخصية نموذجا لتلك المعاناة، تحكي عن حوادث مفجعة وقعت لها، كما في قصتها "البوريفاج" كاعتقالها على أيدي القوات السورية في لبنان في ثمانينيات القرن المنصرم، وتسرد كيف عوملت بوحشية في السجن الذي كان فندقا محترماً قبل الحرب. وبالانتقال إلى تصوير جانب آخر من الازدراء الذي قوبلت به في مطار القاهرة في قصتها "إبحار في الذاكرة"، تحكي عن توقيفها ومعاملتها وطفلتها بنوع من الفوقية ومن ثم إرجاعهما إلى بيروت وعدم السماح لهما بدخول القاهرة، وتذكر مفارقة دخول الفلسطيني بجنسية أجنبية إلى بعض البلدان العربية في حين يحظر عليه دخولها بجنسيته المستلبة وهويته العربية. المعابر بدورها تشهد على كثير من الأسى الذي يعيشه الفلسطيني، وتحضر هذه المعاناة لدى بكير في أكثر من حكاية، مثل "معابر أم دروب جلجلة؟"، و"مخيمات الفلسطينيين في لبنان"، و"غزة، رفح 1948". ذلك أن معاناة الفلسطيني على الحدود والمعابر حكاية تطول ولا تنتهي فصولها عند معبر رفح وما بعد رفح، أو معبر غزة. ويحترف الانتظار ويجتر مرارته بصمت. معابر الرعب والذل والموت - كما تصفها - لا يقتصر دورها على الحصار أو السجن، إنما يتعداها إلى محاربة الأطفال بلقمة خبزهم اليومي وبالقليل من الأوكسجين الذي يتنفسونه. تستذكر بكير مآسي الحرب الأهلية اللبنانية، تحكي عن صعوبة اختبار تراجيديا الحروب ومعايشتها، وكيف أينعت في بيروت مواسم الدم والدموع والدمار في حروب أخوية أجبرت الناس على الانزواء في أماكن انتمائهم الطائفي، وضيّقت عليهم الحدود. تصف الحرب بأنها ليست حكاية تُروى، "إنّها وحش من دم ولحم، لكن بدون أحاسيس". وفي إشارة إلى توارث الذاكرة التي تعد الإرث المقدّس للفلسطيني، تحكي الكاتبة أسطورة الشجرة التي تزرع لكل مولود فلسطيني، لتكبر معه وتحيل إلى تجذره مثلها في أرضه، تصور في قصتها "الذاكرة تثمر في الشمال البارد" حميمية الاحتفاء بحفيدها القادم، وحديثها لجدته النرويجية كيف كان يتم زرع شجرة للمولود حديثا، لتكبر معه، تراها بذلك تحكي حكاية ذاكرة تستعصي على النسيان، وتنقل صورة للتمسّك بالجذور مهما كلفها ذلك من اغتراب أو تنكّر أو إقصاء. تحاول بكير أن توثق في قصصها ذاكرة قديمة وحديثة، تمزج بين طفولتها وطفولة بناتها وأحفادها، تسعى بنوع من التحدي بالذاكرة لتعبيد الطريق أمام أحفادها للاهتداء إلى المستقبل والتمسّك بالوطن الذي يظل الحلم المتجدد، وتظل أرضه عارفة كيف تحبّ وكيف تكره. ثم تراها تتحدث عن الأرض المدركة لما يجري عليها وبحقها من تغييرات، وبصرخة احتجاجية مناهضة للاحتلال وممارساته في قصتها "رحلتان إلى تخوم الوطن.. والوطن" تقول "انتهى زمن حملة المناجل والمعاول والياسمين.. إنه زمن القابضين على بنادقهم وبلطاتهم، لأنهم يعيشون بشعور السارق الطارئ على المكان". تركز الكاتبة في بعض قصصها على وضع المرأة الفلسطينية، كما تستقي أحداث قصصها من حياتها وماضيها وذاكرتها، تعتمد في إبحارها في الذاكرة الفلسطينية على تجارب شخصية، تدوّنها وكأنها وثائقها ضد التجاهل والنسيان، كما في روايتها الأولى "أجفان عكا" التي عكست صورة لمعاناة الفلسطيني منذ نكبة 1948، ومفاعيلها المستمرة حتى الآن. تهويد الذاكرة الفلسطينية ثمة دلالات عميقة وخطيرة تكمن خلف قرار "إسرائيل" إلغاء الأسماء العربية للشوارع والمدن والبلدات الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة عام 1948، واستبدالها بأسماء توراتية، دلالات تتجاوز استبدال لغة بلغة أخرى، لتلامس عصب الوجود الفلسطيني ممثلاً بقضيته الوطنية وذاكرته التاريخية. نحن أمام حلقة جديدة في مسلسل تهويد فلسطين وفرض يهودية "إسرائيل" على الجغرافيا والتاريخ والذاكرة الفلسطينية لمصلحة البعد الأسطوري للمشروع الصهيوني. منذ إنشاء "إسرائيل" تلجأ كل حكومة فيها إلى إعادة النظر في قرارات وسياسات سابقتها إلا عندما يتعلق الأمر بقرارات تهويدية أو عنصرية. فشعار يهودية "إسرائيل" ابتدعته حكومة أولمرت - ليفني، وجاءت حكومة نتنياهو - ليبرمان لتعمل على نحو حثيث لتكريسه سياسة أمر واقع تفرضها على فلسطينيي الـ 48 والسلطة الفلسطينية، وعلى خطاب التسوية، في مواجهة ما بات يسمى "حل الدولتين". لذلك لا يمكن فهم أي قرار "إسرائيلي" خارج هذا السياق، خصوصاً أن "إسرائيل" تشعر أنها في سباق مع الزمن وتحاول إلى أقصى طاقة استثمار الخلل الراهن في ميزان القوى لمصلحة مشروعها التهويدي، وتعمل لتكريس وقائع خاصة تستبعد أية تغييرات في هذا الميزان، وفرض سياسة أمر واقع على أية طاولة حوار، علاوة على أن مشروعها الأصلي الذي يقوم على الإحلال التام وإلغاء الهوية الفلسطينية من خلال محاصرة فلسطينيي الـ 48 وسحب البساط التاريخي من تحت أقدامهم، تمهيداً لترجمة شعار يهودية "إسرائيل" إلى واقع جديد لا وجود فيه لفلسطينيين ولأسماء فلسطينية، باعتبار أن هذه الأسماء تمثل جسر الذاكرة الوطنية بين الأجيال المتعاقبة. وحتى لا يفهم القارئ أن الأمر يتعلق بصورتين متناقضتين، فإننا يجب أن نوضح أن الحديث عن أي قرار "إسرائيلي" لا يعني أن السياسات "الإسرائيلية" قبله كانت قائمة على احترام التاريخ الفلسطيني والوجود الفلسطيني الصامد في أراضي الـ 48، فلقد دأبت الحكومات "الإسرائيلية" المتعاقبة على فرض العديد من القوانين، وإطلاق سيل من الشعارات والأوصاف التي تنال من هوية أصحاب الأرض الأصليين وتتعامل معهم ك "طابور خامس" أو كدخلاء على وطنهم، وفي هذا السياق شهدنا حالات مصادرة للأراضي، وقوانين تمنع فلسطينيي الـ 48 من البناء أو حتى ترميم منازلهم وخلاصة أرضهم، وكذلك تقليص ميزانيات المجالس المحلية للتجمعات السكنية الفلسطينية. إذن ودائماً، نحن لسنا أمام سياسة جديدة بل حلقات في مسلسل وتجليات عملية لتوجه سياسي وخط عملي بدءاً مع انطلاق المشروع الصهيوني، خط يتصاعد بشكل حلزوني مدماكي بحيث يؤسس الخطاب الإعلامي للبناء عليه عملياً، ثم البناء على ما يتم بناؤه مدماكاً آخر وصولاً إلى طرد ما تبقى من فلسطينيين صامدين في وطنهم، ولعل تصريح الحكومة "الإسرائيلية" الأخير الذي يطالب السلطة الفلسطينية بنسيان حق العودة، يندرج في هذا الإطار. وفي مواجهة هذا المخطط التهويدي ينبغي أولاً أن تنطلق هذه المواجهة من حقيقة أنه مخطط يستهدف الهوية الفلسطينية وليس "شأناً داخلياً"، ثم يأتي بعد ذلك التعاطي السياسي من جانب فلسطينيي الـ 48 الذين اعتادوا مواجهة هذه السياسات، ودور السلطة الفلسطينية التي يجب عليها حشد المواقف الإقليمية والدولية ضد محاولات "إسرائيل" محو الذاكرة الفلسطينية ووأد حق العودة. تهويد المناهج التربوية "نشيد الاستقلال الإسرائيلي" بدلاً من "النشيد الوطني الفلسطيني", "القدس عاصمة إسرائيل" بدلاً من عاصمة فلسطين, حيفا ويافا مدن إسرائيلية, شخصيات يهودية مارست الإجرام ضد الشعب الفلسطيني والإنسانية ستصبح شخصيات تاريخية ورموزاً وقادة, النكبة ستصبح عيداً للاستقلال اليهودي, الهيكل المزعوم بدلاً من المسجد الأقصى. هذه المفاهيم والقضايا المشوهة وغيرها الكثيرُ الكثير في صلب المنهاج الإسرائيلي الذي بدأ تطبيقه في خمس مدارس فلسطينية مقدسية في القدس الشرقية المحتلة, وهذه المدارس تخضع لسيطرة كاملة من قبل بلدية الاحتلال الإسرائيلي. وقوات الاحتلال وما تسمى بلدية القدس تنتهج مختلف الطرق لتهويد المدينة المقدسة ومعالمها, حيث إن التهويد يسير بخطوط متوازية فهناك تهويد للأرض والمعالم والمباني وهناك أيضاً تهويد للعقول والأفكار وفي هذا الصدد فإن تطبيق المنهاج في المدارس الخمس خطوة قد سبقت بخطوات, فما تسمى بلدية القدس أجرت التغيرات والتحريفات على المنهاج الفلسطيني الذي يُدرس في مدارس المدينة خلال العامين الماضيين، حيث شمل التحريف كُتب (الرياضيات، والتربية الإسلامية، ولغتنا الجميلة والعلوم اللغوية، وجغرافية الوطن العربي، والعالم الحديث والمعاصر، والصحة والبيئة)، وقد تم حذف نصوص ودروس بأكملها في حين تم حذف كلمات أو جمل أو تمارين من دروس وقصائد أخرى. وعلى سبيل المثال تم الحذف والتغيير من كتب الصف الأول والثاني والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن والعاشر، حيثُ حُذفت كافة النصوص التي تتحدث عن الانتفاضة، والشهداء والأسرى وعائلاتهم، والحركة الصهيونية، والاستعمار لفلسطين، وكل ما يتعلق بحق العودة والحنين إلى الوطن والحدود، والسجون والجهاد والاستشهاد، وحب الوطن في الإسلام، والدول العربية والنزاعات على الحدود. وتعاني المدارس التي تخضع تحت السيطرة الإسرائيلية في القدس من أوضاع سيئة من حيث البيئة التعليمية والمباني السيئة, وهي مستهدفة من قبل الاحتلال وفوق ذلك فإنها تخضع الآن لتهويد خطير يستهدف عقول أجيال الطلبة خاصة طلبة المرحلة الأساسية’ وذلك من خلال منهاج مشوهة وخطيرة تغير معالم التاريخ والجغرافيا وهي تزوير فاضح وسطو على الهوية القومية والثقافية والإسلامية. أن هذا الإجراء غير مقبول ومرفوض من قبل الأهالي في القدس, كما أن هناك ضرورة لتفعيل دور قادة الرأي والجامعات بعقد المؤتمرات واللقاءات الإعلامية وكتابة الأبحاث الدقيقة التي ستظهر مدى خطورة هذه المناهج التدميرية على الطلبة والمستقبل الفلسطيني. إنه على الرغم من ذلك فإن جميع المحاولات الإسرائيلية لتطبيق المناهج في القدس هي محاولات يائسة وفاشلة لن تستطيع محو الذاكرة الفلسطينية, لأن ذاكرة الشعب الفلسطيني راسخة ومتعلقة بوطنه ومقدساته التي يواصل العمل على تحريرها. أن الاحتلال يستغل سيطرته على المدارس في القدس من أجل تمرير مخططاته التهويدية ونزع الهوية العربية الإسلامية التاريخية من مدينة القدس وفرض طابع مستحدث جديد وهو الطابع اليهودي. ويجب التأكيد هنا على أهمية توجيه عدة رسائل في هذا الشأن الرسالة الأولى للمنظمات الدولية بأن تقف الموقف الجاد الذي يلزم حكومة الاحتلال على التراجع عن هذا القرار الذي ينتهك حقوق الإنسان في تلقي العلم والمعرفة الحقيقية الغير مزيفة, كما أن هناك رسالة إلى الأهل في القدس بأهمية رفض هذه المناهج والصمود أمام الضغوطات التي تمارس بحقهم وسحب أبنائهم من المدارس التي تدرس المنهاج المحرف, وهناك رسالة للعالمين العربي والإسلامي بأهمية توجيه الأنظار للقدس مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهي مدينة تهود من قبل الصهاينة وأهمية العمل على إيجاد استراتيجية عربية وإسلامية لمواجهة مخططات الاحتلال التهويدية بما في ذلك دعم أهلنا في القدس من أجل تعزيز صمودهم في مواجهة المخططات الصهيونية. الأرض في الذاكرة في اللهجة الفلسطينية يأتي مصطلح الأرض أو "الوطاة" ليعني المعنى العام والخاص، أي الأرض كاسم جنس وكملكية، سواء كانت خاصة أو مشاع للأسرة أو القبيلة أو القرية، وكان العديد من الفلسطينيين، كأخوتهم في سوريا الكبرى، يتهرّبون من تسجيل الأرض باسمهم في الطابو العثماني ليتفادوا دفع الضرائب الباهظة التي لا قِبَل لهم بها. ولذلك بقيت مساحات شاسعة في فلسطين مشاعاً أو مسجلة باسم "مقطعجية" أو"ملتزمين" يقيمون في المدن الفلسطينية أو في بيروت أو دمشق، واكتفى أصحابها بحق الاستعمال. وعلى الرغم من ضعف السيكلوجيا الفردية بتملك الأرض آنذاك، فإن الذاكرة الشعبية الفلسطينية تحمل قداسة خاصة للأرض، وكأن الجاحظ قصدهم عندما قال "حب الوطن طبع في الناس"؛ فهم يعتقدون أن أرض فلسطين مقدسة لسببين: الأول لأن الله باركها دون غيرها فجعلها مهبط الرسل جميعاً ومسرى آخرهم النبي محمد(ص) ومعراجه، فهي بوابة الأرض إلى السماء. والثاني لأنها مجبولة التربة بدم الشهداء المدافعين عنها (تاريخياً) ضد الغزاة منذ العبرانيين قبل الميلاد وحتى الإسرائيليين قبل أيام، ويعتقد الريفيون منهم أن ذلك هو سبب احمرار تربتها المسمّاة "سَمَكَة. ومنذ بداية الهجمة الاستيطانية اليهودية في فلسطين تطور لدى الفلسطينيين مفهوم الأرض فصارت ثلاثية الأبعاد: جغرافي واقتصادي واجتماعي، ونما التمسكُ بأرضهم الخاصة وتقديسها، وشيئاً فشيئاً صاروا ينظرون لها كجزء من شرفهم، وأصبح التخلي عنها معيباً، وتداولوا مقولة، سرعان ما أصبحت من المقولات العامة جداً: "الأرض كالعرض"، تدنيسهما عار، والتخلي عنهما مذلة، و"الأرض بتتعوضش". وعندما سئل أحد اللاجئين عن الارض أجاب بأن الأرض مثل العرض، ولكنه هرب من القبية (عام1948) بعرضه لأن "الأرض لا تـُسرق ويمكن استعادتها حتى لو اغتصبت، أما العرض فلا". وتتذكر لاجئة بأن أهالي زرعين لم يقبلوا أن يبيع أحدهم دونماً واحدا. وتتذكر أنه عندما عرض أحدهم على آخر بيع أرضه حصلت "ملحمة بالنبّوت" (أي معركة دموية بالعصي الكبيرة). وترى لاجئة أخرى أن من يبيع أرضه إنما يبيع عرضه ودينه معاً. ويتذكر احدُ سكان قرية الجديدة – قضاء جنين، أنه في عام 1946، وكان عمره عشر سنوات، اضطر أهله لبيع قطعة أرض لأحد سكان القرية، وكان ابن الشاري صديقه. وفي العام التالي زرعها المالك الجديد "مقثاة" (أي بندورة وبطيخ وفقوس وخيار ...)، وصدف ذات يوم أن ذهب مع صديقه إلى قطعة الأرض تلك فأكل من قثّائها. وعندما عاد أبلغ أهله بما كان، فاستشاطت أمه غضباً، وضربه أبوه صائحاً: ألا تعلم أيها الأهبل أن الأرض كالعِرض؟! واضطرارنا لبيعها لا يعني قبولنا أن يمتلكها آخرون لدرجة أن نذهب معهم إليها ويستضيفونا فيها!!.. فوجئ الطفل بالموقف، فقال لهم باكياً: هذه أختي، أليست عِرضنا؟! وزوجتموها لغريب، ونذهب لزيارتها كل يوم ويستضيفنا زوجها!!. ضحك الوالدان، وأسموه منذئذ "الفليسوف"، وصار ذلك له لقباً. ويؤكد العديد من الباحثين، ومنهم بعض المؤرخين الجدد الإسرائيليين أن الحقيقة ليست كما تزعم الأدبيات الصهيونية. فقد قاوم الفلسطينيون الاستيطان واستملاك الأراضي والتهجير منذ بدأت ملامحه. ففي عام 1910 وعام 1920 قاوموا بيع الأراضي للمؤسسات اليهودية على الرغم من أن البيع كان بدون علمهم من قِبل عائلات (سرسك مثلاً) لم ير الفلاحون أفرادها. لقد قاوم الفلاحون آنذاك طردهم من الأرض أكثر من مقاومتهم بيعها لأنهم أصلاً لا يملكونها. وكان رد الفعل الفلسطيني في البداية تجاه الاستيطان اليهودي وشراء الأراضي محلياً وانفعالياً، ثم اخذ منحى سياسياً ومستداماً. ومعارضة الشعب الفلسطيني للهجرة اليهودية والاستيطان سبقت تأسيس الحركة الصهيونية، ولكنها تصاعدت وتجذرت بعدها. ففي عام 1891 أرسل عدد من وجهاء البلاد برقية بتوقيعهم من القدس إلى اسطنبول تطالب السلطات العثمانية بمنع اليهود الروس من دخول فلسطين وحصولهم على الأراضي. وفي عام 1908 هاجم الفلاحون المستوطنين في منطقة طبرية، وأرسل وجهاء المدن الفلسطينية المختلفة برقيات احتجاج إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وكتبت الصحف (وخاصة نجيب نصار في جريدة الكرمل) مقالات تندد بالحركة الصهيونية وتدين تساهل السلطات الرسمية معها، وتحذّر من عواقب استيطانها. وفي 1910 تصاعد النشاط الفلسطيني ضد الاستيطان والهجرة وخصوصاً إثر بيع الثري البيروتي إميل سرسق أراض واسعة قرب طبرية. وازداد القلق الفلسطيني من الاستيطان اليهودي بعد الاحتلال الانجليزي نظراً لما لاحظوه من ممالأة بريطانيا للصهيونية من وعد بلفور إلى صك الانتداب مروراً بتعيين هربرت صوموئيل مندوباً سامياً. فتطورت نشاطات الفلسطينيين لمنع الاستيطان وبيع الأراضي والهجرة. وقد استخدم الفلاحون وفقراء المدن العنف ضد المستوطنين اليهود، أما النخبة فتنادت عام 1920 لتشكيل اللجنة التنفيذية لتوحيد الجهود السياسية السلمية للتأثير في السياسة البريطانية لوقف دعمها للحركة الصهيونية. وأكدت اللجنة التنفيذية على رفضها المطلق لفكرة الوطن القومي اليهودي، وأدانت تبني بريطانيا له وما ترتب على ذلك من سياسات وإجراءات. وفي عام 1923 عرضت حكومة بريطانيا على اللجنة التنفيذية تشكيل "وكالة عربية" تعترف بها بريطانيا على غرار الوكالة اليهودية؛ ولكن، وبما أن الحكومة البريطانية ستستشير الوكالة العربية فيما يخص المشاريع الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بالوسط العربي، أما فيما يخص الهجرة اليهودية والاستيطان فالوكالة اليهودية هي المعاون والمستشار، فقد رفضتها اللجنة التنفيذية عندما عُرضت عليها لأن الأولوية لديها هي لوقف الهجرة اليهودية والاستيطان وليس للمشاريع الاقتصادية والاجتماعية. وقال رئيس اللجنة موسى كاظم الحسيني "نحن غير معنيين (الآن) بنوع ومستوى المجتمع الذي سنبنيه، إنما نحن معنيون بحماية الأرض التي سنبني عليها مجتمعنا". وقد اعترف تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلها ولسون (الرئيس الأمريكي) عام 1919 برئاسة السيد كراين "بأن السكان غير اليهود في فلسطين – وهم تسعة أعشار السكان تقريبا- يرفضون البرنامج الصهيوني رفضا باتا، والجداول تثبت أنهم لم يُجمعوا على شيء مثل إجماعهم على هذا الرفض". خلاصة القول: في كل مرة تلجأ إسرائيل إلى تنغيص الحياة اليومية على الفلسطينيين تراهن على ضعف ذاكرة الشعب هناك وتكون هي الخاسرة حتى لو كانت يدها تملك السلاح والجنود والعتاد. في أسباب الأحداث الأخيرة هناك التي دفعت جون كيري إلى زيارة فلسطين ولقاء الطرفين في محاولة لتهدئة الأوضاع يتضح أن دولة الاحتلال كان هدفها الأول تسميم الأجواء والحياة اليومية للفلسطيني مستغلة في ذلك انشغال العالم والمنطقة بالأحداث في سوريا والعراق وبقاع أخرى في العالم. وكانت تعتقد أن الفلسطيني ربما يكون نفسه أقصر وربما يطاله الملل من المقاومة وفي كل مرة تتفاجأ قيادة الاحتلال أن هناك طرقاً جديدة وأساليب مؤلمة يبتكرها الطرف الفلسطيني نابعة من الألم نفسه الذي يحاول الاحتلال توصيله للفلسطيني بطرق شتى. لا جدال في الحق المقدس للفلسطيني في مقاومة كل أشكال الظلم والاحتلال وبكل الأساليب وفق ما يراه ملائماً له ولقدراته التي كانت خلال الفترة الأخيرة الحجارة والسكاكين وأحدثت تأثيرها لدى المحتل الذي تفاجأ بالأساليب الجديدة القديمة للمقاومة هناك وهي أساليب يحاول المحتل وصفها بالإرهاب والعنف رغم أنه يعلم أن أغلب شعوب العالم تعرف أنه محتل ويجب مقاومته. عودة إلى الذاكرة الفلسطينية وهي بالمناسبة ذاكرة طويلة وقوية ربما تختلف عن نظيرتها العربية تعززها التجارب المريرة والخبرة مع الاحتلال والخبرات المتراكمة التي تعطي الفلسطيني نفساً أطول يتناسب مع ذاكرته ممزوجاً بالصبر رغم شدة الحال وهي أمور قد لا يعلمها محللو السياسة ومنظرو الاستراتيجيات في الكيان المحتل عند التوصية بمزيد من الضغط على الفلسطيني في حياته اليومية. المراجع: 1- القلقيلي، عبد الفتاح (2004) الأرض في ذاكرة الفلسطينيين إصدار شمل-مركز اللاجئين والشتات الفلسطيني – رام الله. 2- السفري، عيسى (1937) فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية. يافا: مكتبة فلسطين الجديدة. 3- فرسون، سميح؛ ترجمة عطا عبد الوهاب (2003) فلسطين والفلسطينيون. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. نيسان. 4- القلقيلي، نائلة (2003) "صيرورة المؤسسة السياسية الوطنية الفلسطينية" من اللجنة إلى الدولة. أطروحة دكتوراه في الأكاديمية الدبلوماسية الروسية. موسكو. نيسان. 5- القلقيلي، عبد الفتاح (2005) على الرصيف، العودة للدراسات والنشر- رام الله باحثة في علم الاجتماع السياسي(*) |
||||||