غسان كنفاني والرواية الفلسطينية

السنة الخامسة عشر ـ العدد 172  ـ (جمادي الثانية  1437 هـ ) ـ (نيسان2016 م)

بقلم: هيثم محمد أبو الغزلان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

أدركت إسرائيل منذ البداية أن غسان كنفاني (عكا 8 نيسان - أبريل 1936)، الروائي والقاص والصحافي والسياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بأنه يُشكّل خطراً على روايتها المزيفة؛ فاغتالته المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في (8 تموز - يوليو 1972)، بتفجير سيارته في منطقة الحازمية قرب بيروت، مما أدى إلى استشهاده عن عمر يناهز 36 عاما، مع ابنة أخته لميس.

وبهذا الموت/الاستشهاد، حقق الشهيد غسان كنفاني مقولته: "الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت.. الثورة وحدها هي التي تواجه الموت وتستخدمه لتشق سبل الحياة".. فكان سلاح "كنفاني" قلمه حيث حارب إسرائيل في كتاباته ومقالاته ورواياته، حيث كانت تلك الأسلحة أقوى من أسلحة إسرائيل نفسها.

ولأن القادة الإسرائيليين أدركوا حجم المخاطر التي تتعرض لها روايتهم؛ فقرروا التخلص من كل رموز النضال الفلسطيني، وأصدرت رئيسة وزراء الاحتلال الإسرائيلي آنذاك جولدا مائير تعليمات بتصفية غسان كنفاني إلى جانب وديع حداد، وكمال عدوان، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار، وبسام أبو شريف، وأنيس الصائغ..

معجون بالوطن

وتفاعل كنفاني مع واقع الشعب والمواطنين، فعكست كتاباته مبكراً واقع النزوح واللجوء، فروى في قصة "عائد إلي حيفا" رحلة مواطني حيفا في انتقالهم إلى عكا، وكانت تلك القصة من الأحداث التي ظلّت في ذاكرته منذ أن كان طفلاً صغيرا.

أما قصة "أرض البرتقال الحزين" فقد حكت رحلة عائلته من عكا وسكناهم في الغازية، وكانت صرخة عالية للمقاومة الفلسطينية، و"تُعدُّ أول الأعمال التي غاصت في قلب المخيمات واخترقت قلوب وعقول الفلسطينيين المنكوبين ورسمت أحاسيسهم وانفعالاتهم التي كتبتها دماء ذويهم". أما قصة "موت سرير رقم 12" (1961)، فقد استوحاها من مكوثه بالمستشفى بسبب المرض، وقصة "رجال في الشمس" فكانت تحكي حياته وحياة الفلسطينيين بالكويت وإثر عودته إلى دمشق في سيارة قديمة عبر الصحراء، كانت المعاناة ووصفها هي تلك الصورة الظاهرية للأحداث أما في هدفها فقد كانت ترمز وتصور ضياع الفلسطينيين في تلك الحقبة وتحول قضيتهم إلى قضية لقمة العيش مثبتاً أنهم قد ضلّوا الطريق.

في قصته "ما تبقى لكم" التي تعتبر مُكمّلة "لرجال في الشمس" (1963)، يكتشف البطل طريق القضية، في أرض فلسطين وكان ذلك تبشيراً بالعمل الفدائي. قصص "أم سعد" وقصصه الأخرى كانت كلها مستوحاة من أشخاص حقيقيين. في فترة من الفترات كان يعد قصة ودراسة عن ثورة فلسطين 1936 فأخذ يجتمع إلى سكان المخيمات ويستمع إلى ذكرياتهم عن تلك الحقبة والتي سبقتها والتي تلتها وقد أعدّ هذه الدراسة لكنها لم تنشر (نُشرت في مجلة شؤون فلسطين) أما القصة فلم يكتب لها أن تكتمل بل اكتمل منها فصول نشرت بعض صورها في كتابه "عن الرجال والبنادق". كانت لغسان عين الفنان النفاذة وحسه الشفاف المرهف فقد كانت في ذهنه في الفترة الأخيرة فكرة مكتملة لقصة رائعة استوحاها من مشاهدته لأحد العمال وهو يكسر الصخر في كراج البناية التي يسكنها وكان ينوى تسميتها "الرجل والصخر".

واعتبر فخري صالح، في مقال له على "الجزيرة نت" أنه "إذا كانت روايات غسان قد اهتمت بتقديم إجابة سردية على الخروج الفلسطيني ومواجهة تهديد الموت، كما في "رجال في الشمس، ما تبقى لكم" على اختلاف ما في هاتين الروايتين من تجلية لوضع الفلسطيني وشروط استجابته لتهديد الموت، فإن قصصه (التي لم تحظ حتى هذه اللحظة بدراسة تفصيلية تكشف عن فرادتها وتميزها وأفقها الإنساني الرحي)، تقرأ تراجيديا العيش الفلسطيني في حياة شخصيات مغفلة الهوية تعيش ضمن الحدود الدنيا لشروط الهوية".

ويضيف أن "(عائد إلى حيفا) هي بحث عميق في معنى الهوية والمصير والانتماء. لأن الدم ليس هو الرابط المصيري بين الفلسطينيين بل الفعل والانتماء إلى الأسئلة المصيرية نفسها".. و"لا شك أن غسان كنفاني كان يكتب قصصه، بدءاً من "كعك على الرصيف" وصولا إلى آخر قصة لم يتح له أن يكملها، وفي ذهنه تجربته الفلسطينية المريرة اللاهبة. ولم يكن راغباً في كتابة قصص تغيب عنها فلسطين لتحضر في صورها المطلقة المجردة".

ويؤكد صالح أن "غسان كنفاني أدرك، مثله مثل محمود درويش، أن الحكاية الفلسطينية هي من بين الحكايات الكبرى في التاريخ والتراجيديات المعقدة التي تصلح أن نفسر على خلفيتها معنى صراع البشر على الأرض والتاريخ، فكتب هذه الحكاية بصورة تضعها في سدة هذه الحكايات الكبرى".

ويضيف أن "غسان كنفاني يُحوّل رواياته وقصصه ومسرحياته إلى حكايات رمزية قادرة على إضاءة نفسها فيما هي قادرة على إضاءة حكايات الآخرين. وبهذا المعنى فإن "ما تبقى لكم" ليست رواية عن مصير الفلسطيني، ورحلته التي قرر فيها أن يأخذ مصيره بيده ويجابه عدوه، بل هي رواية تحدي الإنسان للشروط المذلة المفروضة عليه".

ويُوضّح أن كنفاني "من خلال الشخصيات التي يرسمها والشروط التي يغمس فيها هذه الشخصيات، أن خلاص الإنسان ينبع من داخله، من قدرته على المواجهة واتخاذ قراره بنفسه. وهو لكي يضع قارئه في مواجهة هذه المحصلة الفلسفية الوجودية لبحثه الإبداعي، يقيم بناء سرديًا مركبًا يوحي بأن القدر يلغي مشيئة الإنسان".

ويخلص الكاتب فخري صالح بالقول: "..لا أظن، في سياق مراجعة ما أنجزه غسان كنفاني على الصعيد الإبداعي، أن هناك روائيا فلسطينيا آخر استطاع أن يغوص في أعماق التجربة الفلسطينية ويكتب جوهر هذه التجربة، جاعلًا مغامرة الفلسطينيين تتقاطع مع مصائر البشر جميعاً، معطياً الحكاية الفلسطينية ملامح تاريخية مركبة وامتدادات فلسفية تدور حول أسئلة المصير والإرادة وقدرة الإنسان على التدخل في اللحظة الحاسمة لتقرير مصيره الفردي والعام. ومن هنا أهمية غسان المزدوجة: على الصعيد الإبداعي إذ استطاع أن يضع الرواية والقصة الفلسطينيتين في أفق الكتابة السردية العربية المبدعة، وعلى صعيد التعبير عن الحكاية الفلسطينية التي أصبحت في كتابته حكاية البشر لا حكاية الفلسطينيين وحدهم..".

من فضاء التجريد إلى أرض التحديد

لقد قاد كنفاني سيرورة تنزيل الفلسطيني من فضاء التجريد إلى أرض التحديد، بحسب مقال للكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت موضحاً أن ذلك يأتي: "لا بالمفهوم المباشر التنميطي، بل بمفهوم نقل الفلسطيني من صورة البطل المبهم الغائم الملامح، المؤسطر، إلى صورة الشخصية الروائية التي تتحرك ضمن حيز من التاريخ الشخصي، السياسي والاجتماعي والنفساني، فضلًا عن التاريخ الجماعي. وهذا الأخير تبدّى، على يدي كنفاني، في صيغة ذاكرة حافلة مركبة أكثر من صيغة السجل التنميطي. وهذا الأمر هو إثبات على أن كنفاني سعى إلى ثقافة أخرى تغاير الثقافة المسيطرة، بل وتنقضها، ثقافة لا تنفصل، في الوقت ذاته، عن الممارسة الكفاحية بوصفها إطاراً لا استغناء عنه للوعي بالواقع، لناحية إدراكه في محدداته أكثر من أوهامه".

ولعل المسعى الأهم لبحوث كنفاني الأدبية هو ذلك المتمثل في ترسيخ أسس ولادة الفلسطيني الجديد، لجهة التأني عن الإنسان المجرد والفلسطيني المجرد والاقتراب من الإنسان الفلسطيني الذي يعي أسباب نكبته ويدرك أحوال العالم العربي ويعرف أكثر ماهية الصهيوني الذي يواجهه.

وتصف الدكتورة صبيحة عودة أدب غسان كنفاني بأنه "بحث عن دلالة الإنسان السوي لذلك ترسم كتاباته في مسار تطورها، جملة من التغيرات التي تعاقبت على بنية الفكر العربي، وانبثقت من التفاعلات الطارئة على المجتمع العربي بشكل عام، والمجتمع الفلسطيني بشكل خاص، إنها تنتمي إلى تربيتها الوطنية، وتشكل في بنيتها وعي الذات الفلسطينية، وانبعاثها في دائرة الضوء، بعد أن كانت الكتابة تغطي هذه الذات، وتلغيها في كومة الشعارات، والتباكي على المصير. إن دل هذا على شيء، فإنه يعني تمكن غسان كنفاني من تجسيد قضايا أمته بصورة مباشرة أو غير مباشرة، الأمر الذي جعل جبرا إبراهيم جبرا يقول: يمتلك غسان كنفاني أساليب تعبيرية متعددة يجسد من خلالها رؤيته الفكرية والحياتية، ويستنطق الوجود البشري والفلسطيني".

وتؤكد عودة أن كنفاني قد استطاع أن يعكس أيديولوجيته حين أطلق صرخته (الفكرية) المدوية في روايته (رجال في الشمس) لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟، لماذا؟، لماذا؟! احتجاجًا على الموت المجاني. وأن يبلور أسئلته الفكرية العارمة في خطابه الروائي، لتحمل في طياتها إجابات على وجود الإنسان الفلسطيني وهو يشق طريقه دون سند خارجي، وتتجلى أيديولوجيته في رواية (ما تبقى لكم) على لسان البطل "حامد": "أورثني يقيني بوحدتي المطلقة، مزيداً من رغبتي في الدفاع عن حياتي دفاعاً وحشيا؟".

واستطاع غسان كنفاني، بحسب سيف الرحبي في كتابه "ذاكرة الشتات" "أن يكون الشاهد الفاعل والحقيقي على عري عصره وارتجاج موازين القيم فيه، حيث يتحول الجلاد إلى ضحية، وحيث الاستلاب الداخلي والخارجي والأشياء تفقد طعمها تحت وطأة القمع المتمازج مع الثروة".

اغتيال الجسد أم الرمز؟!

كتب الياس خوري عن غسان: "لم يكن كنفاني سوى حلقة من الموت الفلسطيني الكثير الذي غطى تاريخ المنطقة منذ بدء الغزوة الصهيونية"... فاغتيال "كنفاني أخذ شكل القتل الرمزي، وبه افتتحت إسرائيل سياستها المركزية مع الجسد الفلسطيني، فصار قتل القادة والمناضلين الفلسطينيين أشبه بطقس رمزي، يسعى ليس إلى قتل الشخص المحدد فقط، بل إلى قتل الفكرة الفلسطينية".

ويوضح خوري فكرته، فيقول: "عندما اغتيل كنفاني في بيروت عام 1972، اعتبر الكثيرون هذا العمل محض اغتيال سياسي، أما تحويل جسد الكاتب أشلاء فلم يكن مقصوداً في ذاته. إذ أن الهدف هو قتل الكاتب والمناضل الذي كان يترأس تحرير أسبوعية "الهدف" الناطقة باسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". لكن الشاعر الفلسطيني كمال ناصر كان له رأي آخر. فقد روى محمود درويش أن كمال ناصر جاءه غاضباً، بعدما نشر درويش مقالاً في "الملحق" يرثي فيه كنفاني، وسأله: "ماذا ستكتب عن موتي، بعدما كتبت كل شيء عن غسان؟".

ضحك محمود درويش يومذاك من "النرجسية" الفلسطينية المرتبطة بالموت، ونسي الحكاية، إلى أن قُتل كمال ناصر بعد تسعة أشهر من اغتيال كنفاني. ففي العاشر من نيسان 1973، تسللت وحدة كوماندوس إسرائيلية إلى بيروت، واغتالت ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية، كمال عدوان ومحمد يوسف النجار، عضوي اللجنة المركزية في حركة "فتح" وكمال ناصر الناطق الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية.

أمام جسد كمال ناصر المُدمّى، أصيب الناس بالذهول. إذ لم يكتفِ الإسرائيليون بقتل الشاعر الفلسطيني رمياً بالرصاص، بل القوه أرضاً على ظهره، يداه مصلوبتان، وهناك رصاصة في فمه.

يومذاك اتضحت دلالة الرمز في الموت الفلسطيني. كاتب "رجال في الشمس"، تمزق أشلاء وتطايرت أعضاؤه، والشاعر الناطق، أُخرس برصاصة في فمه، وصُلب على الأرض".

ورثى محمود درويش كمال ناصر في قصيدة العرس الفلسطيني، واضعاً اغتيال الشاعر الفلسطيني ورفيقيه، في سياق "عرس الدم" الذي يجعل العاشق شهيداً، بقصيدته "طوبى لشيء لم يصل"، فقال:

 "هذا هو العرس الذي لا ينتهي/في ساحة لا تنتهي/في ليلة لا تنتهي/هذا هو العرس الفلسطيني/لا يصل الحبيب إلى الحبيب/إلا شهيداً أو شريداً".

وقرأ خوري هذا الاغتيال بعد نشر صحف بيروت الصور الفوتوغرافية لكمال ناصر وهو شهيد، بأن هذه الصور "قدمت قراءة رمزية أخرى للاغتيال. فالشاعر الذي عمل ناطقاً رسمياً باسم منظمة التحرير أخرسته رصاصة في فمه. والفلسطيني المسيحي صُلب على الأرض وليس على الخشبة، والرسالة الإسرائيلية تبحث ليس عن القتل فقط بل عن القتل الرمزي".

دقّ جدران الخزان

قتل الإسرائيليون "غسان كنفاني" لأنه ظل في كتاباته مشغولاً بالوطن الضائع يبحث عنه، وكتب أحمد إبراهيم الشريف في صحيفة "اليوم السابع": "إن كنفاني في روايته "رجال في الشمس" والتي تحولت لفيلم "المخدوعون" قد وصف حال الفلسطينيين بشكل دقيق، حين كتب "كانت السيارة الضخمة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم وبأسهم وقوتهم وضعفهم وماضيهم ومستقبلهم.. كما لو أنها آخذة في نطح باب جبار لقدر مجهول". ولهذا قتل الإسرائيليون "غسان كنفاني" لأنه قدّم شهادة إدانة للجميع الذين سرقوا الوطن والذين لم يقوموا بدورهم وتركوه ينهب ويضيع فأبطال روايته ماتوا لـ"صمتهم"، لأنهم "لم يدقّوا جدران الخزان" الموجود في السيارة وقبعوا محبوسين بداخله، بدا كأنه يقول إن فلسطين ماتت حين غاب عنها الصوت. كذلك بجانب الإبداع صنع غسان دراسة عن "الأدب الصهيوني"، ونشرتها مؤسسة الأبحاث بعنوان "في الأدب الصهيوني"، كما عبّر عن الأطفال في قصصه التي نشرها بعنوان "أطفال غسان كنفاني" وكتب في فن المسرح "جسر إلى الأبد"".

انضم كنفاني إلى حركة القوميين العرب التي ضمّه إليها جورج حبش لدى لقائهما عام 1953. ذهب إلى الكويت حيث عمل في التدريس الابتدائي، ثم انتقل إلى بيروت للعمل في مجلة الحرية (1961) التي كانت تنطق باسم الحركة مسؤولاً عن القسم الثقافي فيها، ثم أصبح رئيس تحرير جريدة (المحرر) اللبنانية، وأصدر فيها (ملحق فلسطين) ثم انتقل للعمل في جريدة الأنوار اللبنانية وحين تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 قام بتأسيس مجلة ناطقة باسمها حملت اسم "مجلة الهدف" وترأس غسان تحريرها، كما أصبح ناطقاً رسمياً باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. تزوج من سيدة دانمركية (آن) ورزق منها بولدين هما فايز وليلى.

وأصيب غسان مبكراً بمرض السكري، وبعد استشهاده، استلم بسام أبو شريف رئيس تحرير المجلة، رثاه صديقه الشاعر الفلسطيني (عز الدين المناصرة) بقصيدة اشتهرت في السبعينات بعنوان (تقبل التعازي في أي منفى). وكان غسان في طفولته لافتاً للنظر بهدوئه بين جميع إخوته وأقرانه، ولكن الجميع كان يكتشف دائماً أنه مشترك في مشاكلهم ومهيأ لها دون أن يبدو عليه ذلك.

وتأثر غسان بشقيقته التي كانت تشجعه على الكتابة والرسم وتأخذ بيده فكان لها في بداية انطلاقته تأثيراً كبيراً علي حياته.

الأدب الفلسطيني المقاوم

إن غسان كنفاني هو أول من كتب عن شعراء المقاومة وعن أشعارهم، ولو نظرنا للتاريخ لوجدنا أن غسان كنفاني هو الأب الوحيد للدراسة الوحيدة الجادة عن الأدب الصهيوني التي سماها (حالة اللاحرب واللاسلم). وورد في مجلة الهدف وفي الموقع الرسمي لغسان كنفاني أنه "لا أحد يجهل أن غسان كنفاني هو أول من كتب عن شعراء المقاومة ونشر لهم وتحدث عن أشعارهم وعن أزجالهم الشعبية في الفترات الأولى لتعريف العالم العربي على شعر المقاومة، لم تخل مقالة كتبت عنهم من معلومات كتبها غسان وأصبحت محاضته عنهم ومن ثم كتابه عن "شعراء الأرض المحتلة" مرجعاً مقرراً في عدد من الجامعات وكذلك مرجعاً للدارسين".

وأضاف الموقع أن "الدراسة الوحيدة الجادة عن الأدب الصهيوني كانت لغسان ونشرتها مؤسسة الأبحاث بعنوان "في الأدب الصهيوني". أشهر الصحافيين العرب يكتب الآن عن حالة اللاسلم واللاحرب ولو عدنا قليلا إلى الأشهر التي تلت حرب حزيران 67 وتابعنا تعليقات غسان السياسية في تلك الفترة لوجدناه يتحدث عن حالة اللاسلم واللاحرب أي قبل سنوات من الاكتشاف الأخير الذي تحدثت عنه الصحافة العربية والأجنبية".

وتعبيراً عن الأهمية الخاصة التي أولاها كنفاني لأدباء الأرض المحتلة، أورد في مقدمة كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال: 1948-1968"، "قدّم المثقفون العرب في فلسطين المحتلة، من خلال أقسى ظروف القمع، والأسر الثقافي، نموذجًا تاريخيًا للثقافة المقاومة، بكل ما فيها من وعي وصمود وصلابة، وأهم من ذلك، بكل ما فيها من استمرار وتصاعد وعمق. وبهذا "..فإن المقاومة الفلسطينية قدّمت، على الصعيدين الثقافي والمسلح، نماذج مبكرة ذات أهمية قصوى كعلامة أساسية من علامات المسيرة النضالية العربية المعاصرة". و"..إذا كانت الثورات المسلحة التي خاضها شعب فلسطين قد أنتجت أسماء من طراز عز الدين القسام مثلاً، فإن أدب المقاومة قد أنتج، قبل ذلك ومعه وبعده، أسماء من الطراز نفسه، ما زال المواطن العربي يذكرها بكثير من الاعتزاز، ومن أبرزها إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وأبو سلمى (عبد الكريم الكرمي) وغيرهم".

وأورد أنطوان شلحت في مقالة له أن دراستي كنفاني "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة"، و"في الأدب الصهيوني" أنه قد تحددت ريادة كنفاني في تعريف الشارع العربي الثقافي على أدبنا الفلسطيني هنا ـ أي في داخل الأراضي المحتلة منذ العام 1948 ـ، وصدق أحد الدارسين حين ذكر أنه قبل هذه الدراسة لم يكن القارئ العربي، من المحيط إلى الخليج، يعرف إلا القليل أو لا يعرف أي شيء أحياناً عن أسماء مثل: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد. وبدورهم لم يكن هؤلاء الأدباء يدركون على نحو واضح ما يمكن أن يؤديه أدبهم من ديناميكية كبيرة في الاتصال والتواصل مع العمق العربي.

أما في الدراسة الثانية "في الأدب الصهيوني" فقد برزت ريادته في دخول مناطق ملتبسة هي تلك التي لا تقنع فقط بما يفرضه الشعار المعروف: "اعرف عدوك". وبذل فيها ربما للمرة الأولى محاولة مخصوصة تتمفصل على محور اشتقاق معرفة الذات من معرفة الآخر.

إسرائيل تُعلن مسؤوليتها.. متأخرة

اعترفت دولة الاحتلال الإسرائيلي رسمياً للمرة الأولى في عام 2005 في بيان نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية في 3 تشرين الأول/ أكتوبر، بمقال كتبه الصحافي إيتان هابر المتحدث باسم إسحاق رابين رئيس الوزراء الأسبق، باغتيال الشهيد غسان كنفاني، حيث قال هابر: إثر عملية "ميونيخ" أصدرت جولدا مائير رئيسة الوزراء حينذاك "أمرًا بالانتقام" يتضمن ما سماه بتنفيذ "أحكام بالإعدام" ضد عدد من الشخصيات الفلسطينية بالعواصم الأوروبية، من بينها كنفاني..

لم يكن كنفاني هو الضحية الوحيدة لهذه العمليات، فملفات الموساد تكتظ بعمليات شبيهة استهدفت فيها دولة الاحتلال مفكرين ومبدعين وفنانين فلسطينيين، منهم: وائل زعيتر الدبلوماسي والأديب الفلسطيني (اغتاله الموساد في عام 1972)، والصحافي والكاتب ماجد أبو شرار (9-10-1981) الذي اغتيل في روما، بعد أن تم زرع قنبلة تحت فراشه قتلته فورا. وهو صاحب "الخبز المر" الذي ولد في 1936 بدأ حياته رئيساً لتحرير صحيفة "فتح" اليومية التي كانت لسان حال حركة فتح، ثم أصبح بعد ذلك مسؤولًا عن الإعلام الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما اغتالت علي سلامة (أبو حسن)، ومحمود الهمشيري، وباسل الكبيسي، وكمال ناصر، وكمال عدوان، وخليل الوزير، والشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة "حماس"، والدكتور فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والمهندس يحيى عياش، وأبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية... ‏

ويعتبر الكاتب انطوان شلحت أن كنفاني قد سعى إلى "إثبات وجود ثقافة أخرى تغاير الثقافة المسيطرة، بل وتنقضها، ثقافة لا تنفصل، في الوقت ذاته، عن الممارسة الكفاحية بوصفها إطاراً لا استغناء عنه للوعي بالواقع، لناحية إدراكه في محدداته أكثر من أوهامه، ولدى قراءة كنفاني اليوم نكتشف، أولًا ودائمًا، أنه في عمق وعيه كان يدرك أن الثقافة أصل، من عدة أصول، للسياسة وأنه ما من مشروع سياسي دون مشروع ثقافي".

ويضيف شلحت: "لعل المسعى الأهم لبحوث كنفاني الأدبية هو ذلك المتمثل في ترسيخ أسس ولادة الفلسطيني الجديد، لجهة التأنّي عن الإنسان المجرد والفلسطيني المجرد والاقتراب من الإنسان الفلسطيني الذي يعي أسباب نكبته ويدرك أحوال العالم العربي ويعرف أكثر ماهية الصهيوني الذي يواجهه".

الحياة من أجل الحرية

في وقت كتب فيه غسان كنفاني في إحدى رسائل الحب التي نشرتها الأديبة السورية غادة السمان، "سأظل أناضل لاسترجاع الوطن لأنه حقي وماضي ومستقبلي الوحيد، لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب وجذور تستعصي على القلع".

فإن بسام أبو شريف كتب عن غسان: "أَحبَّ الحياة من أجل الحرية.. وقاوم اللهيب من أجل الحياة وتذوّق الحرية قبل أن تأتي وهتف لها وهي قادمة. ورحل معها إلى عكا.. لذلك كتب للأطفال وللرجال وللنساء.. ولذلك أحبَّ ولم يكن يطيق العيش أو الكتابة دون حب.. مقاومته كانت حباً للحياة والحرية.. وكتاباته كانت بيارقها ترفرف فوق ريشته وقلمه.. وبرتقاله الحزين كان يبشر بالفرح. ولهيب الصحراء كان يفجر الأمل... اغتاله الإسرائيليون، لأنه معطاء.. ويحب الحب والحياة والحرية".

أما الشاعر محمود درويش فقد رثى كنفاني، بقوله: "أيها الفلسطينيون... احذروا الموت الطبيعي!. هذه هي اللغة الوحيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسان كنفاني. ويا أيها الكتّاب... ارفعوا أقلامكم عن دمه المتعدد! هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمته الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن.

لا يكون الفلسطيني فلسطينياً إلا في حضرة الموت. قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجّلوا ويعودوا من رحلتهم، لأن غسان كنفاني يبعثر أشلاءه ويتكامل.. لقد حقق التطابق النهائي بينه وبين الوطن".

في الختام، خاضت وتخوض إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني معركة رمزية، إلى جانب معركتها السياسية – العسكرية، ـ بحسب الياس خوري ـ لكن السياسة الإسرائيلية صنعت من دون أن تدري ربما، مخزوناً رمزياً فلسطينياً جديداً، فصار الرمز أكبر من وعائه الأدبي، ولم ينحصر بالموت وحده، بل امتد إلى حقول متنوعة..

وبناء عليه، فإن الوجود الفلسطيني الراسخ في الوطن، ينفي الرواية الإسرائيلية المزيفة؛ كتبها غسان والشهداء بالدم انتصاراً على الموت، والموت الرمزي..

اعلى الصفحة