|
|||||
|
نافذةٌ على الحياة خمسةٌ وخمسونَ عاماً والعمرُ الذاوي بَيْنَ قَوْسَيْنِ مِنْ مَرْمَرٍ ودُمُوعٍ.. أُسَرِّبُ ظِلّي إلى الآسِ.. والطُرُقات العَتيقةِ.. أُطْلِقُ شَمْساً شِتائيَّةَ الثَّوْبِ.. ملفوفَةً بالمنازِلِ والمتعبينَ.. أُسَمِّي الطَريقَ إليها هَوايَ وأَمنحُ للسنواتِ رُجوعي، سَأعبُرُ جِسْرَ الحياةِ مِنْها- إليْها.. ألُفُّ الأزقّةَ في الفَجْرِ غُصْناً فَغُصْناً.. وَجُرْحاً فَجُرْحاً.. أَدورُ على العَتَباتِ النَّظيفةِ رُكْناً فَرُكْناً.. وَقَلْباً فَقَلْباً.. عَلى جانِبٍ مِنْ سَماءٍ شَباطيّةِ الريحِ.. قُرْبَ المخاوِفِ والأمنياتِ.. تَفَيّأ ذاكَ الفَتى منِّي نَجْمةً في السطوحِ.. احْتوى قَمَراً حَطّ في كَفّهِ ذاتَ حُزْنٍ وَهَيَّأَ مِنْ حُلْمِهِ قارِباً يَعْبُرُ الليْلَ والجوعَ يَكشِفُ أعجوبةَ الألقِ البرزخيِّ.. يُقبِلُ تحتَ مصابيحَ واهنةٍ كَنْزَهُ المُستنيرَ.. يُسافِرُ في شَفَقٍ قُرمِزيٍّ وَيَدْخُلُ بَسْمَلَةَ الاخضِرارْ.. كانَ الجَسَدُ الطِفْلُ النابضُ فيَّ بَيْنَ يدي العمرِ لَهيباً. فَصْلانِ رَبيعيّانِ.. وَبضعةُ أقْمارٍ وشموسٌ أرْبَعُ تَنسابُ عَلى الخدَّيْن.. خَدّانِ مِنَ القُطْنِ الأبيضِ.. كَفّانِ مِنَ العَسَل الجبليّ وخُضرةُ الحقولِ لونٌ ساطِعُ طَيَّ ذُهولِيَ.. أوّلُ أسْرارِ الصلاةِ تفْتَحُ باباً خَلْفَ جِدارِ القلبِ.. جِوارَ النبضِ.. وَمَساءٌ أطيبُ مِنْ النوافذِ.. وظَلامٌ أدْفأُ مِنْ مِعْطَفِ صوفْ.. في حِوارِ الأزقَّةِ والنَّهْرِ أمْضي سادِراً فَوْقَ طينٍ وخَوْفْ.. أتَملّى غُيومَ المدينةِ، أعوامَ أزْهارِها زَهْرةً زَهْرةً.. وأَوانَ الربيعِ.. رَبيعاً ربيعاً.. مَآتِمَ شُطآنِها وشواهِدَ أبنائها شاهِداً.. شاهِداً.. يَعبُرونْ. أَجْلِسُ اليومَ مُبْتَسِماً بينَ قوسينِ من حَجَرٍ وبُكاءٍ.. عَلى مِسْطَباتِ الحَدائِقِ مُنْفَرِداً مع النوافذِ المشرعةِ أربعينَ ربيعاً على الكتابةِ والولهِ والوجعِ والعشقِ العصي أُراجِعُ أشعارَيَ.. وَأسوّي جَدائِلَ القرى على الحدود وخارجها.. إثْرَ الحَرائقِ العدوّةِ.. أُصَفّي حِسابي مع العُرب المتآمرين.. والغُربِ الطامعين.. والشركاءِ في وطنٍ أكلته نفاياتٌ من سياسة.. وحساباتٌ للآخرينْ.. خارطةٌ مِنْ مصابيحَ.. طَيْرٌ.. سَتائِر.. تَدخُلُ شيئاً فشيئاً إلى ظُلمةٍ ورَمادٍ.. مَناديلُ أتلَفَها الدمعُ.. نافذةٌ أطفأَ الثلجُ شمعَتَها.. شارعٌ تاهَ.. بيتٌ يصيرُ إلى حَجَرٍ وتُرابٍ.. ظِلالٌ أضاعَتْ طريقَ الرُّجوعِ إلى الدارِ.. غزلانُ تبكي.. من القمحِ كانَتْ تَجيءُ مُعبأةً بشذَى الخُبْزِ واللبنِ القُرَويِّ.. انْتهتْ في أغاني المحبّينَ مَرْثيَّةً من بنفسجِ ما يحمِلُ الحقلُ والغيمُ.. قَوْسانِ من مَطَرٍ وغصُونْ.. لِنَهارٍ بحجمِ المحبّةِ.. ليلٍ بحجمِ الظُّنونْ.. أإلى غابةِ السنديانِ أريدُ؟!!!.. الطريقُ إليها معبدةٌ.. سأتمَشَّى إليْها..أصِلُ النَّهْرَ بالذاكرةْ والأماني بفُقْدانِها والنَّدى بالخريفْ.. أتَعَلّقْ برمْلِ الشَّواطِئِ بالساحِلِ الأبديّ الذي لَنْ يَخونْ.. خمسةٌ وخمسونَ عاماً مَضَتْ.. لَسْتُ أملِكُ شَمْساً.. ولكنّها خمسةٌ وخمسونَ مَداراً مِنَ الوَهَجِ الشبابيِّ.. وَلَيْسَ لقلبي إسْمٌ وحيدٌ.. ولكنّهُ ألفُ وَريدٍ مِنَ الرئتينْ.. وقافلةٌ للشهداءِ عَلى خَطْوِ الكرامةِ.. وَنقاءِ سرائِرهمْ فَتَحَ القلبُ شُبّاكَهُ. على مَهَلٍ أَقِفُ الآنَ جِوارَ البسمةِ.. عندَ السورِ الحَجريِّ قليلاً أشرَبُ مِنْ عَيْنِ هَوىً وَأمُرُّ عَلى الجِسْرِ الأولِ بالعشقِ الغائبِ في قَعْرِ القلبِ.. وبالقلبِ النابضِ بالوريدِ الغابرِ.. آهٍ لا أملِكُ شيئاً.. لكنّي أملِكُ كُلَّ البلادِ.. أرصفةً وحدائقْ.. غَيْماً وحَرَائقْ.. بَيْنَ قَوْسَيْنِ مِنْ شَجَرٍ وَسَحابٍ.. يَعودُ المَساءُ إلى البيتِ.. أحلمُ بقنطرةٍ تظلِّلُ الروحَ بالأمانْ.. أُغلِقُ البابَ خَلْفَ أوجاعي العصيةِ.. تغْزو الحِكاياتُ وَهْمَ الطفولةِ أمامَ المواقِدِ.. أَنْعَسُ آكُلُ جَوْزاً وتيناً.. أنامُ.. أأنامُ الآنَ..؟ بَدا الصُّبْحُ.. ارتفعَ التكبيرُ مِنَ المسجدِ والشتاءُ علَى أهبة الرحيل.. العرباتُ ستركُضُ قُرْبَ النَّهْرِ.. تعودُ الخَيْلُ وحيدةْ.. الزورَقُ يمشيْ.. والشاطئُ مفتوحٌ والدُّنيا مَطَرٌ.. أفتحُ نافذةَ الفَجْرِ.. أُخَلّيها تتنفسُ مِثْلَ الأشجارِ سأغرِسُ في الغاباتِ غَداً جَذْراً آخَرَ.. أغرسُ عِنْدَ الشَطِّ غداً بَيْتاً آخَرَ.. أكتُبُ فوقَ مفرداتي الصباحيةِ أنشودةً أخرى عَنْ قافلةٍ مِنْ عشقٍ مضى.. شَرِبَ كَأْساً مِنْ خَمْرِ الرُّمّانْ. وأضاعَ في مَطَرِ البُستانْ.. أسْراراً وقَدحْ.. جِسْرٌ ثالثُ.. جِسْرٌ رابعُ.. جِسْرٌ خامِسُ.. تَخْطو قَدَمايَ عَلى الجِسْرِ الأوّلِ يبتعِدُ المصباحُ عن المصباحْ.. ينكسِرُ الحُلْمُ على الأقداحْ.. الفَتى الذي يسكُنني عِنْدَ أثيرِ النوافذِ يَقرأُ شيئاً على العُشْبِ مُتَّخِذاً هيئةَ الخمسين.. بِقليلٍ مِنَ الظمأِ في شفتيهِ قليلٍ من الشَّيْبِ في رأسهِ وقليلٍ من الياسَمينْ.. يَتَغنى بِصَوْتٍ خَفيضٍ.. - لَقَدْ كانَ يمشي على العُشْبِ دونَ حذاءٍ يصيدُ الغاصبينَ.. مِشيَتُهُ الآنَ أهدأ.. عيناهُ مُتعبتانِ ويَخشى مِنَ البردِ.. هذا أنا.. على نافذةِ الخمسة وخمسين عاماً أغنيّ.. وفي عامي الخامس والخمسين أُشْرِعُ نافذةً أخرى على الحياةْ.
|
||||