|
|||||||
|
يكاد مشهد العنف والإرهاب يختصر حالةَ أمةٍ بأكملها من خليجها إلى محيطها، ويقدّمها لنفسها وللآخر على قاعدة مشروعية العنف الثوري، لا مشروعية السلم والحوار والتفاهم.. حيث نرى كيف يضرب الإرهاب بسيوفه الدموية مختلف مواقعها وبنياتها الثقافية والاجتماعية، ويهدد كيانات دولها السيادية، محاولاً التلاعب بسلمها الأهلي التعايشي التاريخي الذي جرت المحافظة عليه ورعايته على مدى قرون طويلة في ظل رعاية وراية الإسلام الحضاري ذاته الذي يحاولون اليوم الاختباء (والتلطّي) خلفه – قسراً وزوراً وبهتاناً - لتفجير تلك الانتماءات "التاريخية - الاجتماعية"، واستثمار مقتضيات وجودها الطبيعي، والمساومة بها وعليها كمجرد ورقة سياسية بين أطراف الصراعات والمصالح.. وكنتيجة إجمالية لهذا الوضع المأساوي للأمة، عادتْ مجتمعاتنا إلى الوراء، وتقهقرت إلى الحضيض والقاع حضارياً وإنسانياً وثقافياً، ونكاد نقول بأن وجودها ودورها ومهمتها الإنسانية، اندحر كله إلى هاوية سحيقة لا قرار لها، بحيث لم تتمكن نخبتها ومختلف مؤسساتها وهيئاتها من تخفيف تكاليف خسائرها وحمايتها، ومنع سقوطها الذي كان أكبر بكثير من إمكاناتها وقدراتها ونواياها الحسنة إذا سلّمنا أصلاً بوجودها إلا لدى القلّة الصابرة العاملة.. ومآلات السقوط كانت لها مقدمات لم تقتصر على مشهد العنف والصراعات الأهلية واستباحة القوى الدولية الكبرى للأمة، بل ظهرت أيضاً في شؤون ومجالات أخرى، اقتصادية وتنموية واجتماعية، فعلى سبيل المثال نلاحظ أن العرب ما يزالون يعتمدون في أكلهم وغذائهم (في صورة أساسية) على الاستيراد من الخارج، وفي شكل يتفاقم تدريجياً، حيث ارتفعت نسبة الأغذية المستوردة من 29.9% عام 1971م، إلى 49.5% عام 1990م، لتبلغ نهاية العقد الأول من القرن الراهن59.4 مليار دولار.. كما أن الطبقة الوسطى تتلاشى وأعداد الفقراء آخذة في الارتفاع، خصوصاً في الأرياف، حتى بات هناك 220 مليون فقير في الأقطار المتوسطة والمنخفضة الدخل، إضافة إلى 14.4% عاطلين عن العمل، وتتركز البطالة بين الشباب، ومنهم 40% من خريجي الجامعات والمعاهد والثانويات. وهكذا نجد أن هذا الواقع المرير أصاب الناس جميعاً في مقتل، وجعل اليأس صديقاً لها وحضناً يلوذون به، والكل يسأل عن الأسباب والمسببات، وعن دور الثقافة والمثقف في مواجهة تلك المظاهر المتخلفة المكلفة من الحروب الأهلية المتنقلة، وتفشي حركات التطرف ومناخات القتل والإرهاب باسم الدين، خصوصاً "المثقف الديني" الناظر إلى أفق الإسلام الحضاري الرسالي المنفتح كحالة في الفكر والإحساس والممارسة.. تسأل عن مصداقية رؤيته للإشكاليات القائمة، ومدى نجاحه ليس في التحليل بل في المعالجة واقتراح الحلول.. وتسأل أيضاً عن أسباب هذا التركيز الدائم على الجانب الثقافي في مثل هذه المراحل الصعبة والمنعطفات الخطيرة التي تمر بها الأمة.. فهل من مسؤولية تقع على كاهل المثقفين فقط (من أصحاب الأفكار والمبادئ الرسالية المثالية) في الفشل الحضاري القائم، وانتشار ثقافة العنف والتعصب، نتيجة عدم نجاحهم في تحصين المجتمع والأمة من خلال تشكيل بيئة ثقافية حاضنة لقيم الحداثة والعقلانية والتنوير، ومانعة للتعصب، وقادرة على ضرب جذور التطرف والإرهاب، وفتح دروب الفكر الإسلامي أمام النسبية والوسطية والمراجعة والنقد الذاتي؟.. لكن من جهة أخرى، لماذا لا نسأل السياسة وأهلها أيضاً، قبل الثقافة والمثقفين، الذين نحمّلهم مندرجات الفشل واستتباعاته؟ ولماذا لا نملك الجرأة الكافية لمساءلة صُناّع القرار عن دورهم في واقع الأزمات، أو عن النتائج المتواضعة التي أظهرتها عقودُ التطبيق النخبوي الفوقي القسري، وكانوا مشاركين فيها مباشرة أو عن غير قصد..!!؟.. فالمثقف ينطلق دوماً من حقيقة أنه لا يملك مواقع التّأثير مثل السّياسي، وليستْ بيده سُلطة القرار، ولا علاقة له بموازين وقوى الأمر الواقع القادرة على الدفع بالأمر والنفوذ اللازمين لتغيير مجتمعه، أو على الأقل مواجهة تداعيات سقوطه.. أصلاً هو لا يبحثُ عن هذا، وهو ليس اختصاصه ومجاله الحيوي، ولكنه يوضح أنه بلا قوة أو "سلطة أمر" يستحيل إحداث صدمة التغيير المطلوب، بمعنى أنه كمثقف عضوي (والتعبير لغرامشي) (معنيٌ بالإصلاح والتغيير والمساهمة في نهضة الأمة، وتشذيب وتهذيب أفعال السياسي، ومواجهة سلطته، والحد من مناسيب قمعها، وفسادها، وكبح جماح تسلطها) لا يملك سوى سحر البيان والقلم والورقة، ورسالته تكمن في هذا الإصرار والضغط الفكري المعنوي (فقط) القائم على الحس النقدي الجمالي، سعياً صادقاً ودؤوباً نحو إقامة دول الحق والعدل والمساواة، دول الكرامة والحقوق الإنسانية.. الدول المدنية القانونية غير المرتهنة لأحد، وغير المرهونة بشخص أو فئة أو مخلّص منقذ..!!.. ومع ذلك نلاحظ أن كل مواقع السلطات والنفوذ والقرار، تخاف المثقف، حتى لو بقي وحيداً وراء مكتبه برفقة قلمه وورقته وكلماته، يخافونه أكثر من المتطرفين و"الإرهابيين" ربما بآلاف المرات.. فالإرهابي أو المتطرف لا عقلانية لديه، وإنْ كان لديه عقل، ولكنه عقل مفخخ بقنابل الماضي الموقوتة الجاهزة للتفجير والتشظّي والقتل في وقت الحاجة، وقت الاستثمار.. كما أن تفكيره مصمت على مقولات متصنّمة، وأفقه مغلق على أدبيات صخرية، يريد تطبيقها بالقوة والإكراه من خلال سلاحه الوحيد، العنف وأدواته القاتلة الدموية المعروفة. أما المثقف النقدي (الذي يسخر منه الساسة وأصحاب القرار، ويتهكمون عليه إلى درجة الاستهزاء المسف)، صاحب العقل التنويري، طبيب الحضارات، والذي لا يعرف التمييز بين مسدس "اللعب بالماء" و"المسدس الحربي"، فهو إنسان واقعي عملي، قوته دائمة ومستمرة لا تنفذ بحكم نبع المعرفة الفيّاض، قواه العقلية متطورة ومتجدّدة، لاشتغالهِ على القراءات الناقدة، وقدرته الفائقة على الكشف والفضح والتعرية، وهتك الحجب وفض بكارة "الأستار" العقلية، وتحقيق الاستنارة الواقعية، لديه آفاق لا منظورة، ويمكن أن يرى بعين ثاقبة وبصيرة نافذة، لا يرى غيره بها.. من هنا خطورة ما يمثّله من (عقلانية سلمية) بالغة ومؤثرة ودائمة ومستمرة هي الأكبر والأمضى والأشد تأثيراً (مقارنةً بخطورة الإرهاب والإرهابيين اللحظية) على كافة مواقع التسلط وقوى الإرهاب والظلام الفكري الواقعي والاستبداد التاريخي.. أما عن صعوبة تطبيق أفكاره ومثاليتها في تربة مجتمعه، فهي بلا شك صعبة، تجعل مهمته الرسالية شبه مستحيلة، ولكنّها أولاً: ليست مثالية أو غير واقعية، لأنها أفكار مطبّقة في بلدان وأمم أخرى، نجحت نجاحاً نوعياً باهراً في حياتها الحضارية بالعقل والعلم والتطبيقات العلمية الهائلة، على طريق التكامل والتقدم والتطور، وثانياً: صعوبتها ليست ناتجة عن مثاليتها أو عدم واقعيتها، بل هي ناجمة عن عدم امتلاك أصحابها (وهم للتذكرة مجرد أصحاب مشاريع فكرية عقلية نهضوية) لقوة الدفع والتطبيق، ووسائل الإمكان الواقعي، وتباين أدوات التطور، وعقلانية وسلمية أسس التحقق والإنجاز... هذا إذا سلّمنا جدلاً بتوافق مصالح السياسي مع الثقافي والمجتمعي..!!.. وصعوبة التطبيق عند "المثقف النقدي" تشابه كثيراً (أو مَثَلُها في ذلك مثل) أي مبدع في أي حقل آخر من حقول العمل والإنتاج والمعرفة البشرية (كمهنة الطبابة مثلاً)، حيث نلاحظ أنَّ الطبيب قد يعيش في أجواء ممارسة مهنته وعمله بطرق صعبة وسبل عمل قاتمة وموبوءة، قد لا تتيح له تطبيق قواعد مهنته الصحيحة المبدئية، ولا تتوفر فيها الحدود الدنيا من معايير القانون والمهنية والرسالية، أي قد تكون ذات معايير طبية منحطّة ومبتذلة وغير قانونية، ولهذا فليس له (كصاحب رسالة إنسانية) سوى العمل بأخلاقياته القيمية الأصيلة، وتربيته الصالحة وحسه الفطري الإنساني والتزامه القانوني... حتى ولو بقي يغرد وحيداً خارج سرب تلك المعايير الشخصية، وأنماط العمل السلبية السائدة البعيدة عن قوانين المهنة وأنظمتها القانونية والأخلاقية والرسالية الطبيعية المعهودة... طبعاً وإنْ كنا نقف مع المثقف، وندافع بقوة وصلابة معرفية عن واقع ودور الثقافة والمثقفين في مواجهة تحديات واقع التخلف وهيمنة قوى التسلط التي تمنعه من ممارسة حتى دوره الفكري والعقلاني الرشيد، فهذا لا يعني أن أخطاء كثيرة ارتكبها مثقفنا النقدي، وبالتالي لا بد أن نلقى ضوءاً على كثير من تلك الأفكار التاريخية الخاطئة التي أعاد كثير من مثقفينا ضخ الحياة فيها لتؤثر سلباً في واقع وتحولات مجتمعاتهم المعاصرة، فالأحداث الخاطئة الراهنة هي نتيجة أفكار وسلوكيات خاطئة، وعلينا ألا نغضّ الطرف عن مسؤولية المثقف فيها أيضاً.. بالنظر إلى الدور الخطير الذي لعبته (تلك الأخطاء) في تأجيج الصراعات والحروب والتهجير القسري للملايين في كل الأرض العربية.. حيث كان لأفكار وسلوكيات الانقسام الطائفي والتحريض المذهبي دور أساسي في الاضطرابات والحروب التي عاشتها ولا تزال تعيشها أقطار مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا، وإلى حد أقل غالبية أقطار الوطن العربي الأخرى.. تلك الأفكار والسلوكيات أليست مبثوثة في كثير من كتب الفقه وصادرة عن كثير من علماء الفقه ومفكري ونخب التاريخ.. وهي منسوبة زوراً وبهتاناً إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية وروايات أهل البيت(ع)، عن طريق قراءات خاطئة وأفهام عرفانية غيبية و"بضاعات" فكرية رخيصة تتعارض مع روح الإسلام ومقاصده الكبرى، قام ببثّها كثير من مثقفي هذه الأيام.. ألا تنشر يومياً بين صفوف الملايين من الجهلة البسطاء عن طريق المحطات الفضائية الطائفية البغيضة؟!.. وإذا لم تتغير تلك الأفكار والسلوكيات الطائفية (التي يقدمها مثقفون ورجال دين على أساس أنها ثوابت فكرية تاريخية) في ذهن ووجدان الفرد العربي المسلم والجماعات العربية المسلمة، فلن يحدث أي تطور حقيقي في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي.. إن إبراز الفكر والسلوك الطائفي مراراً وتكراراً لم يكن بسبب حالة هوس، أو تقليل لأهمية الأفكار والسلوكيات الخاطئة الأخرى في حقول السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، وإنما بسبب الدور الكبير الذي يلعبه في أحداث الحاضر، من خلال الجنون الجهادي التكفيري الذي ينتشر كالوباء بين صفوف شباب الأمة العربية والشباب المسلمين في أنحاء المعمورة، وإنما أيضاً بسبب استعمال ذلك الفكر والسلوك الطائفي استعمالاً خبيثاً من قبل الكثير من أجهزة الإعلام والأمن العربية، ومن قبل بعض حركات الإسلام السّياسي، ومن قبل بعض أجهزة الاستخبارات الأجنبية ومراكز بحوثها(1). إذاً ومن هذا المنطلق، لا نبالغ إذا قلنا بأن جزءاً من ثقافة العنف والتطرف، وانتشار ثقافة التحريض والفتن المتنقلة التي تتفاقم يومياً في عالمنا العربي، يتحمل مسؤوليتها المثقفون، مهما توزعت وتباينت انتماءاتهم الفكرية وخلفياتهم الأيديولوجية، وسواء كانوا في خندق اليسار أو القومية أو الإسلام السياسي. وبالطبع، أحدث ذلك شروخاً كبيرة في الثقافة العربية المعاصرة، فعوض أن تكون الأخيرة عاملاً حيوياً ومؤثراً في التّدبير السّلمي للاختلاف الفكري والسّياسي والاجتماعي، تحوّلت إلى أحد روافد العنف الذي يجتاح كلّ شيء، الحجر والشجر والبشر. على ضوء ذلك، يمكن فهمُ عجز مثقفين كثيرين عن استيعاب وتدبر واقع وآفاق وقيم حركة الثورات العربية (التي كان الأمل منعقد عليها لإحداث خرق في الجدران العالية، وتدفع قدماً باتجاه التغيير السلمي المدني لولا الثورات المضادة) والآفاق التي سعت إلى فتحها في السياسة والاجتماع وأنماط الوعي والتفكير والسلوك.. ولمْ يستطعْ هؤلاء أيضاً فتح قنوات للتفاعل بإيجابية وحيوية مع مختلف الأسئلة والقضايا التي أفرزها الحراك الشعبي الذي اندلع آنذاك، بسبب أحادية فكرهم ونظرتهم المتخشبة للواقع، وخلفياتهم الاعتقادية الموروثة. ومن المؤسف أنَّ الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى ما هو أسوأ وأفظع وأشد كارثيّة، من خلال انخراط مثقفين كثيرين في تأجيج الاحتراب الطائفي والصراع المذهبي الحاد الذي وقع في أنحاء شتى من هذه الأمة. ونحن عندما تحدثنا عن تلك الفتن المتنقلة، لا يمكننا إلا وأن نستذكر الدور الحيوي لأفكار تاريخية بقيت تؤثر إلى اليوم على مثقفينا وأبناء مجتمعاتنا، وأعني بها مجمل هذا الموروث أو الإرث التاريخي التقليدي الكبير الذي قسّم المسلمين إلى طائفتين كبيرتين منذ تداعيات يوم السقيفة، وهو ما يزال حاضراً بقوة في واقعنا المعاصر في سياسات حكومات واستراتيجيات دول ونظم تعيش في القرن الحادي والعشرين عضوياً، وفي القرن الأول الهجري روحياً ونفسياً، ليس لقناعة عميقة وجذرية بالمعتقد التاريخي أو الموروث الديني الذي تستظل بظله، بل للاستغلال والاستثمار ضد مسلمين آخرين، بما يخدم أجندات ومآرب سياسية، واستمرار التلاعب بمقدرات شعوب كانت وما تزال تتعامل بالمقدس الديني خوفاً أو طمعاً، أو الاثنين معاً.. منذ عهود تاريخنا القديمة الأولى، حيث كان التقديس للأشخاص والرموز والقيادات منذ زمن الفراعنة والسومريين وغيرهم وحتى اليوم.. فكان هناك معبد ديني وزعيم سياسي زمني، والناس ترتبط بهما وعلى الرأس بشخص وقائد ورمز تاريخي، تحاول وضعه في خانة تشبه خانة المقدس التاريخي حتى لو لم يكن على هذا النحو. أي أن استثمار السياسي أو الزمني في الديني حدث منذ زمن طويل، فبقيت السلطة والقيادة في عوالمنا العربية الإسلامية منوطة بزعيم صاحب كاريزما، ودور وحضور، وقوة وألمعية ما... فمن الفرعون إلى الملك إلى الرسول والإمام إلى الأمير والخليفة إلى القائد والزعيم الملهم إلى إلى..الخ، مع الفوارق النفسية والرمزية والعملية بطبيعة الحال بين كل تلك المواقع، فلا مقارنة بين زعيم وفرعون وبين رسول وإمام طبعاً.. فالخلفية تختلف، والرسالات مناقضة، والقيم والأهداف متباعدة.. ولا شك بأن الشعارات والغايات التي كانت موضوعة ومرفوعة كبيرة وضخمة، وذات عناوين برّاقة جميلة تأخذ بالألباب، وتلامس حنايا الروح والخلاص الذاتي، فمن لافتات وشعارات قدسية سماوية إلى شعارات ولافتات مرفوعة دنيوية أرضية، كلها كانت تأتي وتتحرك لتبرير سياسات وأعمال، وتثبيت مواقف، ولعب أدوار ووظائف ذاتية خاصة.. ولكن الناس هنا (في عالمنا العربي) وعبر كل هذا التاريخ كان همّها الوحيد في تصوري (مثل باقي الناس والأمم والمجتمعات) تأمين سبل عيشها وشغلها وتجارتها واستقرارها، وتحقيق أمنها، أكثر مما كانت مهتمّة برأسمالها الرمزي (الديني والتقليدي الثقافي) على أهميته ووظيفته ومحوريته في حياتها (دين ومعبد وقيم وطقوس)، وما عدا ذلك كذب قراح على الذات قبل الآخر... فلم يكن يهمّها من يأتي ويحكم ويقود دفة السفينة، أو يفرض عليها من حكام الزمان من الملوك والأباطرة والرؤساء.. بل همها أن تتحقق ثنائية الخبز والعيش الآمن المستقر.. والدليل هو أن نفس هذه المجتمعات التي صفّقتْ لهولاكو، ومشتْ مع سلاطين بني عثمان، وغرّدت مع انتدابات المستعمرين، وهللت لبيارق أمريكا وغيرها في الخليج والعراق وغير العراق... ثم عادتْ وقاتلت بعضها بعضاً على مشاغل رمزية ومادية وتجارة وأراضي وبقع جغرافية وثروات ومواقع إستراتيجية.. خلف هذا السلطان أو ذاك الأمير أو الرئيس.. و..و.. و..الخ.. وهو أكبر دلالة على أنها مجتمعات دنيوية سهلة الانقياد، تختبئ وراء إصبعها، وتستغل الشعار لتحقيق المصلحة الدنيوية ناسية أو متناسية شعارها هي!!، وهذا طبعاً ليس عيباً أو حراماً.. العيب كل العيب والنفاق كل النفاق هو في الكيل بمكيالين مع رئيس من هنا وآخر من هناك، مع نظام من هنا وآخر من هناك، مع تيار وحالة من هنا، وأخرى من هناك.. العيب هو في الطائفية والطائفيين، وهذا ما وقع كثير من مثقفينا في مطبّه تارة باسم الشيعة وأخرى باسم السنة، وعلى ماذا، ومن أجل ماذا؟.. على تغيير قناعات وتوجهات وأفكار الناس من خلال سلوكيات وتقاليع نضالية مزمنة ومكلفة تتغير عناوينها فقط، فيما المضمون واحد؟!.. إنّ تغيير واقع الناس، أو تحسين ظروف حياتهم، هو الكفيل بتغيير كثير من قناعاتهم الخاطئة التي تقودهم إلى سلوكيات خاطئة وغالية الثمن، وهو الذي يدفع (مباشرةً) لتغيير أفكارهم، وتجديد أبنيتهم المعرفية، وفتح مغاليق هوياتهم على الحياة والعصر لتتنفس الهواء النظيف بعيداً عن هواء التاريخ الملوث.. وبعيداً عن التلاعب بمصائرهم، فأصحاب الأيديولوجيات الخلاصية دينية أو وضعية (وهم غالباً منظّمون تنظيماً حديدياً متماسكاً للغاية) صادقون ومتصالحون مع "جوهرهم" النقي الصافي، ولا إمكانية لتغيير تلك الثوابت الراسخة والقناعات المتجذّرة الصلبة، أو على الأقل حَرْفها عن مسارها أو التأثير النقدي فيها، لهذا من الأفضل بالنسبة للمثقف النقدي التكامل مع السياسات العقلانية، للعمل على تغيير الواقع الخارجي الذي تعمل فيه تلك الأفكار الثابتة الراسخة من خلال تهيئة ظروف واقعية سياسية واقتصادية واجتماعية مناسبة لإنتاج بيئة صحية عقلانية تستقطب البشر للعمل الذي يستفيدون منه، لتطوير أنظمة حياتهم ودوائر معاشهم، وبحيث تغرقهم في اقتصاد الرفاه والإنتاج، فالواقع أصدق إنباءً من الكتب.. والنظريات.. والنقديات... ووالخ.. وبهذا يشعر الفرد عندنا بالأمن والأمان والاستقرار، ولا تهزّه نتائج استعصاءات الفكر والتاريخ المعقّد، ولا يقع مجدداً ضحية لأفكار التاريخ السلبي المستحضر، فالأمن نعمة لا تفوقها نعمة من النعم، بل هي أهم من الأكل والشرب وأية لذة أخرى، وكل النعم تزول بزوالها.. ولهذا أعطاها الله تعالى أهمية على غريزة الجوع، في قوله: ﴿وآمنهم من خوف﴾.. بينما قال ﴿وأطعمهم من جوع﴾ ولم يقل أمنهم.. وأهمية الأمن تنبع من كونه ضرورة حياتية ومجتمعية للعيش المستقر، يتم من خلاله اتخاذ إجراءات وتدابير مؤسساتية قانونية (تحت سقف القانون طبعاً!!) تحمي الناس من المخاطر المحدقة المتوقعة، وتوفر لهم مناخات العمل والنشاط اليومي والإنتاج والفاعلية الوجودية والحضور المجتمعي وظيفةً ودوراً ومكانة.. واليوم، أحوج الدول للأمن الحقيقي (أمن الوطن والمواطن!) هي دولنا وشعوبنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تعاني تاريخياً من انقسامات إثنية ومذهبية حادة وتصدعات تاريخية ذاتية مزمنة مقيمة، ما تزال ترحّل كأمراض من زمن سابق إلى آخر لاحق، ولم تعالج فكرياً ولا سياسياً للأسف عبر كل مراحل التاريخ السياسي والثقافي لهذه الأمة، مع أنّ علاجها بسيط وغير مكلف، وهو "سياسي – اجتماعي - اقتصادي" بالدرجة الأولى كما قلنا.. ويجب أن يجري ويتحرك عبر توفير تربة ملائمة ومناخ "مواطنة" حقيقي سلمي، بما يسمح للناس بالتعبير عن ذواتها المقموعة، وآرائها وتعبيراتها وثقافاتها الخاصة المكبوتة، تحت سقف القانون والنظام العام بلا عنف ولا فوضى ولا دعوات انقسامية تحت أي عنوان جاءتْ.. واستطراداً نقول، وحيث أن أمامنا وقائع صعبة ومعاناة شديدة، لا يمكن غض النظر عنها، وأعني بها أزمتنا السورية الخانقة والمكلفة، بأنه لم يكن كثيرون منّا (نحن السوريين) يقدّرون حق التقدير تلك النعمة التي كانت قائمة وموفورة والكل يتنعّم بها قبل عام 2011م، على ما كان فيها من سلبيات وأخطاء، وعلى ما اعتراها من نواقص وتعقيدات تكدست وتراكمت بلا حلول جدية وسياسات مساءلة قانونية حقيقية.... أما اليوم فقد بات الكل - إلا قلّة تعيش في المريخ!! - يثني ويمدح وربما يبكي حزناً وندماً على تلك النعمة الزائلة، ويأمل بعودتها، ويقدّرها حق تقدير.. والسوريون اليوم (وكذلك العراقيون واليمنيون وو..!!) على العموم هم أكثر شعوب الأرض تقديراً لتلك النعمة بعدما باتوا يفتقدونها.. مثل المريض الذي يرى رأس الإنسان السليم متوجاً بتاج الصحة والعافية. نعم: أخطاء الأمن كبيرة، ولكن كان يمكن إصلاحها بالحنكة والوعي الوطني والسياسات القانونية العادلة ومحاسبة المخطئين والمرتكبين بقوة وبهدوء وبلا تدخلات أو تداخلات، وهي تحت السيطرة، ولكن كوارث الفوضى اللا خلاقة، والتدخلات الخارجية والمؤامرات الشغّالة، والمصالح والانقسامات وضخ السموم والطائفية... كلها من سيقف في وجهها، ومن سيصلحها ويعيدها ويتحمّل تكاليفها الباهظة في دول تعيش ضمن جغرافية متصدعة وزلزالية التكوّن الإثني والقومي والطائفي....!!! من هنا وطالما نحن على هذه الحالة المزرية من البطالة والعطالة المعرفية العلمية، والانقسامات الطائفية والجهوية، والتبعية الاقتصادية والغذائية، نعيد تساؤلنا، كيف سيكون مستقبل هذه الأمة وهذه البلدان التي باتت تبحث عن الأمن قبل الخبز، ومتى سننتهي من تلك الانقسامات والتعقيدات، ومتى وكيف الخلاص في ظل دول مثل دولنا تحسبها دولاً سيادية بينما هي لا توفر لمواطنيها كفاف العيش؟!!.. في الواقع، يؤكد علماء الاجتماع والسياسة على وجود مقوّمات كثيرة للدولة، غير أنّ أهم المقومات هي نظام الحكم والقانون، فالدولة التي لا يوجد فيها نظام حكم يضمن استقلال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويعلي مبدأ المحاسبة وسيادة القانون، ويخدم مواطنيه، ويقدم لهم الأمن والعيش السعيد، هي دولة فاشلة رغم أنها تحوي مقومات الدولة الأخرى وأهمها الأرض والسكان.. من هنا مستقبل التغيير والإصلاح الحقيقي في عالمنا العربي والإسلامي رهن بالتصدي لكل تلك الإشكاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية، والانطلاق في ذلك من رؤية محض عقلانية تقدم حقوق الإنسان على أساس المساواة المدنية والوطنية، وتؤكد الفصل (لا الانفصال) بين السياسي والديني، وانتظام الدولة في السياق المؤسسي الحداثي. تواجه الفساد الأخلاقي وتعيد النظر في واقع المرأة العربية وتخلفها التاريخي، لتذهب في اتجاه تنمية شاملة تنزع فتيل الفتنة والحرب الأهلية(2). من هذه المقدمات الأساسية في رأينا يبدأ التغيير الجذري في المجتمعات العربية. إننا الآن أمام تحديات تاريخية سيتقرر على أساسها مستقبلنا كأمة وكحضارة. وقد كنا سابقاً نعوّل على إحداث هذا التغيير المنشود على الطبقة الوسطى، لكن اليوم وللأسف لا يوجد عندنا في مجتمعاتنا العربية طبقة وسطى مثقفة عقلانياً ومعتدلة فكرياً وأيديولوجياً.. تخرّبت هذه الطبقة منذ زمن بعيد... وبتنا نحن اليوم في مواجهة عقليات إقصائية دموية إرهابية تحيط بنا من كل حدب وصوب، تنطلق من فكرة بدائية غاية في الابتذال الأخلاقي والقمع الفكري وهي: إما أن تكون معي، وبالتالي تكون ضد الآخر.. وإلا فلا تكون..!!!.. فالإيديولوجيات العربية التقليدية التي مرت على عالمنا العربي، من أقصى اليمين لأقصى اليسار نخرت فينا حتى العظم، وحولتنا إلى أشباه عقول، ومجرد آلات فاقدة للحس والتفكير، لا وزن ولا قيمة ولا معنى لها إلا بالريموت كونترول.. في مثل هذا الواقع... كيف يمكن أن تنشأ مجدداً مناخات للتفكير العقلاني الحر، القائم على التسامح والانفتاح والاعتراف بالآخر المختلف؟.. وكيف ستتولد وتتفجر سلوكيات تفكيرية معتدلة بعيدة عن الغلو والتعصب والإسفاف القيمي والأخلاقي والسلوكي المهيمنة حالياً خصوصاً لدى قطاع واسع من المثقفين؟!.. إنني أعتقد أن عملنا كمثقفين صعب وشاق للغاية.. لأنه عمل رمزي نشتغل فيه على أفكارنا وقناعاتنا المنحوتة بالصخر. والعلة ليست في الواقع دائماً، بل في الأفكار المتحجرة، والعقول القاصرة المنتجة للأفكار الزائفة الخاطئة التي أسهمت في مشهد الخراب الراهن.. حيث أن أصحاب هذا الاتجاه يؤمنون بأن العلة في الواقع، ولذلك فهم يسعون دوماً –وهنا أصل الداء، ومكمن العلة الجوهرية- إلى تجيير الواقع، ومطابقة وقائعه مع مقولاتهم المتكلسة العفنة التي لم تنجز فكراً سياسياً عقلانياً حديثاً تبنى عليه دولة حديثة راقية هي دولة القانون والمؤسسات.. الأمر الذي سيؤدي –كما أدى سابقاً وحالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره، وتقاليعه النضالية بحيث يظهر عملياً في الواقع وهو يعمل ضد مبادئه وأهدافه التي كلفته –وكلفت الأمة- كثيراً من الدماء والدموع. باحث وكاتب سوري(*)
هوامش: 1- فخرو، علي محمد، "تحسن الأحداث أم تحسن الأفكار والسلوكيات".. صحيفة الشروق، عدد: 6/1/2015. صفحة مقالات. الرابط: https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=06012016&id=245a1601-e821-421a-a197-56018609ea06 2- الحلو، كرم. "شروط التغيير في العالم العربي". صحيفة الحياة، صفحة مقالات، تاريخ النشر: 1/1/2016م.. الرابط: http://www.alhayat.com/m/opinion/13143695 |
||||||