|
|||||||
|
تبدو تركيا مع مطلع العام 2016 وكأنها دخلت مرحلة جديدة على صعيد التحالفات والاصطفافات الإقليمية والدولية، فبعد أن أفضت سياستها الخارجية إلى حالة من الصدام مع التحالف الذي يتألف من روسيا وإيران والعراق وسورية وأرمينيا وحزب الله في لبنان فضلاً عن عدوها القديم أي اليونان، تبدو تركيا أمام حركة دبلوماسية باتجاه دوائر جيو/سياسية مهمة لسياستها الخارجية، حيث تبدو هذه الدوائر كنقاط ارتكاز إقليمية جاذبة للسياسة الخارجية التركية في هذه المرحلة.. وعلى وقع هذه الاصطفافات والتحولات تبدو تركيا في خياراتها السياسية وكأنها في صراع بين براغماتية تقرأ التطورات وتبحث عن المصالح وتسعى إلى تجاوز التحديات، وبين أجندة مسبقة تهدف إلى إنتاج هوية منطلقة من عوامل ثقافية وتاريخية وسياسية تعرف بالعثمانية الجديدة على شكل أيديولوجية أدت إلى المزيد من الصراعات وتفجر الخلافات المذهبية والطائفية على أرضية تاريخية وحضارية وسياسية واقتصادية وثقافية، وهكذا تبدو (تركيا العثمانية السنية) في صراع مع (إيران الشيعية) على ساحات سورية والعراق ولبنان، و(تركيا الإسلامية) في مواجهة مع (روسيا القيصرية الأرثوذكسية) التي ترى وجودها في المتوسط قضية حياة أو موت، وتركيا الجمهورية الحاملة لمشروع سياسي مدني في مواجهة مع أنظمة أيديولوجية أمنية رافضة لأي تغير حقيقي يفسح المجال لعبور الإيديولوجية إلى الدولة الديمقراطية، وعلى وقع ما سبق، ينتج الداخل التركي متغيره الخاص على شكل بناء حكم يتجه نحو الشمولية على حساب تلك التجربة المدنية التي كثيرا ما صورت على أنها تنتج الحداثة والمعاصرة وبما يتناسب مع التغير الديمقراطي والسياسي في منطقتنا. متغيرات إقليمية تدعم التحول التركي لعل المتابع والقارئ لن يجدا صعوبة في القول إن نظرية صفر المشكلات التي أطلقها رئيس الوزراء التركي البروفيسور أحمد داود أوغلو قبل نحو عقد من الزمن لم تعد ممكنة التطبيق خصوصاً بعد أن تحولت الحدود مع دول الجوار الجغرافي إلى مناطق اشتباك ساخنة وبؤر توتر على وقع حرب التحالف الدولي المعلنة ضد تنظيم الدولة الإسلامية – داعش في العراق وسورية، ومن هذه الخلاصة الصفرية يبدو ان تركيا لا تجد أمامها سوى العودة إلى المربع الأول، أي الارتماء في حضن الحلف الأطلسي (انتسبت تركيا إلى الحلف الأطلسي عام 1952) الذي ما زال ينظر إلى تركيا على أنها عضو من الدرجة الثانية، فضلا عن سياسة أمريكا التي تنظر إلى تركيا كحليف جيو/استراتيجي ينبغي أن يكون على الدوام على علاقة جيدة مع إسرائيل وتوتر مع الدول العربية والإسلامية وروسيا، وعليه، فإن ثمة أسئلة كثيرة تطرح في هذه اللحظة السياسية الراهنة، منها: هل باتت تركيا أمام تحولات مهمة على صعيد خياراتها وعلاقاتها السياسية؟ وهل الطريق باتت مفتوحة أمام عودة التطبيع بينها وبين إسرائيل؟ وهل سنشهد تحولا في علاقاتها مع مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد أن ناصبه أردوغان العداء طوال الفترة الماضية؟ والأهم كيف سيكون تأثير هذه التحولات وتداعياتها على البنية الأيديولوجية للسياسة التركية في وقت تقف تركيا أمام استحقاقات سياسية كبيرة في الداخل؟ في الواقع، الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن إلا من خلال النظر إلى جملة من التطورات والمتغيرات الجارية، والتداعيات التي تخلفها هذه المتغيرات على أمن تركيا وخياراتها السياسية، ويمكن تلخيص هذه المتغيرات بالوقائع التالية. 1- التغيرات الجيو/سياسية التي أفرزتها الأزمة السورية بعد أن تحولت ثورة المطالب إلى حرب مسلحة دمرت البلاد والعباد بفعل التدخل الخارجي، وتحولت الأزمة السورية إلى أزمة دولية وإقليمية بامتياز، كانت تركيا أكثر الدول المتأثرة بها نظراً لعامل الجوار الجغرافي وبناء تركيا إستراتيجيتها على أساس إسقاط النظام السوري والمجيء بقوى سياسية (الإخوان المسلمين) تدور في فلك السياسة التركية، ولعل من سوء حظ تركيا أن دول الجوار كلها اصطفت إلى جانب النظام السوري وباتت تركيا في صدام متعدد المستويات معها، خصوصاً وأنها اتبعت نهجاً أيديولوجياً قام على دعم الجماعات الإسلامية المتشددة التي باتت في دائرة الاستهداف الروسي في سورية، فضلاً عن دعمها الثابت لجماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي بعد أن راهنت على وصولهم إلى السلطة لتوسيع دورها الإقليمي ونفوذها في المنطقة. 2- الصدام الروسي - التركي على الساحة السورية منذ التدخل العسكري الروسي في سورية ومن ثم إسقاط تركيا مقاتلة حربية روسية، وممارسة موسكو سياسة تصعيد متدحرجة ضد أنقرة التي ترى انه لا مناص من الاستنجاد بالحلف الأطلسي لمواجهة تصعيد الدب الروسي وفرض المزيد من العقوبات على أنقرة، فيما جل سياسة الحلف يقوم على استيعاب الرغبة التركية ومهادنة موسكو دون الصدام معها، بما يعني ذلك مفاقمة معاناة أردوغان الذي وصلت سياسته تجاه الأزمة السورية والقضية العراقية إلى طريق مسدود، وبدأت تنعكس تداعياتها على الداخل التركي خاصة في ظل بروز ما يشبه إقليم كردي في شمال سورية يثير التطلعات القومية لكرد تركيا الذين يقارب عددهم قرابة 20 مليون نسمة وباتوا يطالبون بحكم ذاتي لإدارة مناطقهم، وهو ما تراه تركيا إحياء لاتفاقية سيفر عام 1920 والتي كانت أول اتفاقية دولية تنص على إقامة دولة كردية في جنوب شرق تركيا. 3- تصعيد حدة التوتر بين المملكة العربية السعودية وإيران مؤخراً، وتداعيات هذا التصعيد على أزمات المنطقة كاليمن وسورية والعراق ولبنان، وما أنتجه من فرز واصطفاف وإقليمي، أدى إلى بروز تحالف تركي – خليجي في مواجهة إيران، وتركيا هنا تبدو واقعة بين سندان مصالحها الاقتصادية الكبيرة مع إيران وبريق تحالفها السياسي مع دول الخليج ولاسيما السعودية وقطر. فيما تبدو محاولة تركيا التوفيق بين الأمرين من خلال التصريحات المتناقضة أشبه بمناورة مكشوفة تؤثر سلباً على مصداقية تركيا لدى الطرفين كما حصلت في الموقف من قضية إعدام السعودية الشيخ نمر النمر. 4- دخول الاتفاق النووي الإيراني – الغربي حيز التنفيذ، وهو اتفاق منح إيران قدرات سياسية واقتصادية للتحرك أكثر اتجاه قضايا المنطقة، فيما تشعر الدول الإقليمية ولاسيما السعودية وتركيا بالخشية من تزايد دور الجمهورية الإسلامية وقدراتها الكبيرة في مجال بناء الصناعات النوعية ولاسيما الحربية منها. ومن الواضح ان تركيا وبدلا من ملاقاة إيران سياسياً تتهرب إلى افتعال العديد من المشكلات من باب تأكيد الدور الإقليمي، وما تدخلها العسكري الأخير في بعيشقة بشمال العراق بحجة تدريب العشائر العربية لمحاربة داعش سوى إشارة تأكيد إلى نهج الهروب إلى الإمام على الرغم من أن هذا النهج يجلب لها التوتر الدائم في علاقاتها مع الجوار الجغرافي. العودة إلى الثابت الإسرائيلي في الواقع، وضعت المتغيرات السابقة أنقرة أمام امتحان مع خياراتها السياسية لتجد نفسها أمام حليف قديم هو إسرائيل التي تبدو المستفيدة الأكبر من كل ما سبق، حيث تحاول الأخيرة وببراعة سياسية، واستفادة من دور الحليف الأمريكي، في مد جسور التطبيع مع تركيا بحثا عن تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية محلية وإقليمية، وهكذا تظهر اللحظة السياسية الراهنة وكأن هناك ثمة تقاطع تركي – إسرائيلي يمكن أن ينتج تفاهماً أو اتفاقاً على تطبيع العلاقات بين الجانبين وعودة الدفء إليها، لكن المفارقة هنا، هي أن تركيا تبدو هي الراكضة نحو هذا التطبيع بعد أن كانت تضع جملة شروط لإعادة العلاقة الطبيعية مع إسرائيل، ولعل ما يقف وراء الاندفاع التركي هو تداعيات تدخل روسيا في سورية وقطع الطريق أمام تركيا لإقامة منطقة أمنية عازلة في شمال سورية فضلا عن حاجة تركيا إلى تأمين بدائل عن الغاز الروسي، خصوصاً وأن مثل هذا الخيار بات ممكناً مع اكتشاف كميات كبيرة من الغاز في البحر الأبيض المتوسط وطرح إسرائيل جملة مشاريع لإيصال هذا الغاز إلى أوروبا عبر تركيا وقبرص. لكن الثابت أن إسرائيل تتطلع من وراء استعادة العلاقات الجيدة مع تركيا إلى أكثر من تطبيع العلاقات معها، ولعل في صلب أهدافها تلك السياسة التي أظهرت تركيا ظهراً للقضية الفلسطينية ولاسيما غزة وحركة حماس، إذ سبق وأن أعلن أردوغان مراراً أن تركيا لن تدير ظهرها للقضية الفلسطينية حتى لو تخلى كل العالم عنها، ولعل أيضاً تخلي تركيا عن مطلب رفع الحصار عن قطاع غزة هو في صلب الهدف الإسرائيلي. في المقابل، فإن تركيا المحكومة جيو/سياسياً بجوار كله مشكلات تبدو في حركتها الجديدة نحو إسرائيل تمارس براغماتية سياسية تنطلق من البحث عن بدائل لتأمين الطاقة وتقوية علاقاتها الإقليمية وتحسينها مع واشنطن التي لم تعد تقف وقفة الحليف مع تركيا في مواجهة التصعيد الروسي والسياسة الإيرانية، وكذلك في طريقة التعاطي مع الصعود الكردي وتحول الكرد إلى حليف للولايات المتحدة على الأرض في سورية والعراق في الحرب ضد داعش بما يجعل منهم لاعبا إقليميا بعد أن كانوا ورقة أمنية في الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، وهكذا تدخل تركيا في حركتها البراغماتية هذه في امتحان مع سياستها العربية بعد أن أظهرت نفسها سندا للعالم العربي من خلال الخطاب العالي ضد إسرائيل وإعلان التأييد السياسي للقضية الفلسطينية ، ليبقى السؤال، هل ستخسر تركيا ما تبقى لها من صورة إيجابية لدى العرب بعد انعطافتها الجديدة نحو الحليف الثابت إسرائيل، فضلاً عن النكسات التي تعرض لها حلفاؤها من قوى الإسلام السياسي وتحديدا جماعات الأخوان المسلمين في أكثر من بلد عربي. ولعل المفارقة هنا، هي أن اردوغان الذي صعد إلى قمة شجرة الخلافات التركية – الإسرائيلية عقب الاعتداء الإسرائيلي على سفن أسطول الحرية التي كانت متجهةً إلى غزة هو نفسه الذي يريد أن ينزل عن قمة هذه الشجرة من تلقاء ذاته، وإلا كيف يمكن تفسير تصريحاته بان تركيا بحاجة إلى إسرائيل بقدر حاجة إسرائيل إلى تركيا، وتنازله عن شرط رفع الحصار عن غزة واستبداله بوصول إمدادات تركيا إلى قطاع غزة، وكذلك قبوله بدور الشرطي الإسرائيلي ضد النشاط العسكري لحركة حماس وأبعاد أنقرة القيادي الحمساوي صالح العاروري مسؤول ملف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي والقائد العسكري عن الضفة الغربية المحتلة الذي تطالب إسرائيل بمحاكمته. الانعطاف نحو مصر! لعل من شأن التحولات السابقة التمهيد لحدث سيكون الأهم لجهة التحول في السياسة الخارجية التركية على شكل انعطافة من شأنها الكف عن حضور البعد الإيديولوجي في هذه السياسة تجاه مصر، فالإعلام التركي والمصري بدأ يتحدث مؤخراً وبقوة عن احتمال قيام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بزيارة إلى تركيا في نيسان/ابريل لحضور القمة السنوية لمنظمة التعاون الإسلامي، ومع أن الزيارة ستأخذ طابعاً بروتوكوليا بحكم أن مصر هي رئيسة القمة خلال العام 2015 ومن الطبيعي أن تسلم الرئاسة لتركيا للعام 2016 إلا أن مثل هذه الزيارة إن تمت ستكون بمثابة اعتراف سياسي تركي بحكم الرئيس السيسي بعد أن ناصب اردوغان العداء له طوال المرحلة الماضية وأصر على وصف حكمه بالانقلاب العسكري، ومطالباً بعودة الأخوان المسلمين إلى السلطة من بوابة الدفاع عن الشرعية. لعل أولى الإشارات في هذا المجال جاءت من تركيا عندما أعلنت وزارة الخارجية التركية أن أنقرة ستوجه الدعوة إلى مصر لحضور الاجتماع، ويبدو أن القاهرة تلقت الرسالة التركية هذه بإيجابية، فأرسلت هي الأخرى إشارة مماثلة من خلال إطلاق الإعلام المصري ما يشبه حملة في هذا المجال تحت عنوان : هل سيزور الرئيس السيسي تركيا؟ ومطالبة الجمهور إبداء الرأي بالزيارة في محاولة لجس نبضه. وبين الإشارتين وقبلها وبعدها، ثمة حديث عن جهود سعودية كبيرة للدفع بالبلدين إلى إنهاء القطيعة والدخول في مصالحة ستكون لها تداعيات كبيرة على الاصطفافات الجارية في المنطقة خاصة لجهة إنشاء ما يشبه (تحالف سني) في مواجهة إيران، فليس صدفة أن تتزامن زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري ورئيس الاستخبارات المصرية إلى السعودية تزامنا مع الزيارة التي قام بها اردوغان إلى السعودية نهاية العام الماضي في إشارة أكيدة إلى وساطة سعودية في هذا المجال والحديث عن لقاءات تركية مصرية في الفترة المقبلة تمهيدا لزيارة السيسي إلى تركيا. في الواقع، ربما لن يجد الرئيس السيسي حرجاً في الانفتاح على تركيا وزيارتها إذا ما كانت مقاربة الأخيرة من زاوية الكف عن العداء لحكمه ووقف دعم الإخوان المسلمين وتحريضهم بعد أن جعل من تركيا مركزا للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وقيادة الحملات من أنقرة ضد حكم السيسي، فيما يبقى السؤال هنا، كيف سيستقبل اردوغان السيسي أن زار تركيا؟ هل برفع إشارة رابعة العدوية أم بمد الكف نفسه إلى السيسي ؟ سؤال ربما يلخص البراغماتية التركية التي تظهر في الأزمات والبحث عن المصالح، وهي براغماتية تشير إلى مدى تأكل البعد الإيديولوجي الذي لم يجلب لتركيا سوى المزيد من المشكلات مع جوارها العربي والإسلامي والدولي. استحقاقات الداخل في الواقع، القراءة الدقيقة لتحركات الدبلوماسية التركية الأخيرة غير بعيدة عن جملة من الاستحقاقات الداخلية، وهي استحقاقات مرتبطة برؤية أردوغان إلى كيفية ترتيب البيت الداخلي التركي وكيفية تأطير مسار التغيرات والقضايا الجارية في الداخل التركي على شكل استحقاقات وتحديات باتت تهدد هذه الرؤية. ولعل من أهم الاستحقاقات الملحة في هذه المرحلة. 1- قضية النظام الرئاسي: من الواضح أن قضية الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي باتت في مقدمة أولويات الرئيس أردوغان، فالرجل يرى أن مثل هذا النظام هو وحده الكفيل بأن يحقق له أقوى الصلاحيات لتحديد السياسة التركية في الداخل والخارج، لكن مشكلة أردوغان هنا، هو أن يواجه معضلتين لتحقيق هدفه هذا. الأولى: أن حزب العدالة والتنمية الذي أسسه لا يملك الأصوات الكافية في البرلمان (367 مقعداً) لإقرار النظام الرئاسي أو حتى الدعوة من خلال البرلمان (330 مقعداً) إلى استفتاء شعبي لاعتماده، إذا أن حزب العدالة والتنمية له 316 مقعدا فقط، وهذا الرقم لا يتيح له إقرار النظام الرئاسي. الثانية: الرفض المطلق لأحزاب المعارضة للانتقال إلى النظام الرئاسي وتمسكها بالنظام البرلماني رغم الضغوط التي تمارسها حكومة حزب العدالة والتنمية لإقناعها بالانتقال إلى هذا النظام. وأمام هاتين المعضلتين، ثمة دوائر مقربة من أردوغان بدأت تروج لإمكانية إجراء انتخابات مبكرة في الفترة المقبلة بغية حصول حزب العدالة والتنمية على نحو 400 مقعد في البرلمان وذلك بهدف تأمين النصاب القانوني لإقرار النظام الرئاسي من داخله، ولعل الأخطر في هذا الأمر، هو أن هؤلاء يربطون بين إجراء الانتخابات المبكرة وحظر الشعوب الديمقراطي الموالي للكرد على اعتبار أن أصوات هذا الحزب ستذهب لحزب العدالة والتنمية إن تم حظره. ولعل أس الجدل هنا بشأن النظام الرئاسي، هو أن المعارضة التركية وكذلك الأوساط المدنية التركية ترى أن النظام الرئاسي سيكون مدخلاً دستوريا لقيام نظام شمولي استبدادي يتطلع أردوغان إليه على شكل هيئة سلطان عثماني جديد يحكم البلاد بالحديد والنار بقوة الدستور، فيما يقول اردوغان أن هذا النظام هو الأقدر على بلوغ القوة والقيام بدور مؤثر في الخارج والداخل وتعزيز دور السياسة التركية. 2- القضية الكردية: لعل من أهم تحديات الداخل التركي في المرحلة المقبلة، هو كيفية التعاطي مع القضية الكردية بعد أن تخلى أردوغان عن عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني وشروع الجيش التركي في حرب مدمرة ضده، إذ باتت المناطق الكردية في جنوب شرق البلاد ساحات حرب حقيقية بين الجانبين. وارتباطاً بالحرب السابقة الاستهداف السياسي والقضائي والأمني المنظم لحزب الشعوب الديمقراطي الذي برز كحزب يسعى إلى تحقيق حل سياسي للقضية الكردية عبر القيام بدور الوساطة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني من جهة، ومن جهة ثانية طرح نفسه كحزب سياسي قادر على الجمع بين الكرد والعرب والأتراك في إطار ديمقراطية تنتج التغير السياسي الكفيل بالتخلص من البنى الإيديولوجية للجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، تلك البنى التي قامت على أساس قومي تركي مقابل إقصاء التعدد القومي الذي كان مقصودا به القومية الكردية، فضلاً عن محاربة الهوية الإسلامية للبلاد لصالح الارتباط بالغرب باسم العلمانية والمعاصرة. وعليه فإن القضية الكردية وبعد عقود من الصراع الدموي والسياسي بدأت تطرح نفسها كقضية تركية داخلية ملحة، فيما من الواضح أن الحكومة التركية الحالية ليست بصدد إيجاد حل سياسي حقيقي لها بعد انقلاب اردوغان على إعلان دولمه باهجة الذي كان بمثابة أول خريطة طريق للحل السياسي، ولعل الأخطر من هذا الانقلاب هو الضوء الأخضر الذي أعطاه أردوغان للقضاء التركي بإقصاء حزب الشعوب الديمقراطي من المشهد السياسي التركي، وقد بدا هذا الأمر واضحاً من خلال دعوة أردوغان إلى رفع الحصانة النيابية عن رئيس الحزب صلاح الدين ديمرداش ومحاكمته بتهم الإساءة للدولة التركية والعمل على تقسيمها، حيث تزايدت الدعوات التركية إلى حظر حزب الشعوب الديمقراطي، ولعل الهدف التركي هنا يتجاوز الحزب نفسه، فجل الحركة التركية اتجاه المشهد الكردي في الداخل يظهر وكأنه استباق إلى فرض أمر واقع لمنع الكرد من إقامة حكم ذاتي. ولعل تاريخ القضاء التركي حافل بحظر الأحزاب الكردية وكذلك الأحزاب الإسلامية، إذ سبق له أن حظر أحزاب الفضيلة والرفاه وحزب نحو مجتمع ديمقراطي وحزب السلام الكردي، والمفارقة هنا، هو انتقال حكم حزب العدالة والتنمية إلى ممارسة دور الجيش في السابق عندما كان يهيمن على مؤسسات الحكم في البلاد بما في ذلك مؤسسة القضاء. 3- دستور جديد: مع الإقرار بأن هناك ثمة رغبة كبيرة في الداخل التركي بوضع دستور جديد للبلاد ينهي عهد العمل بالدستور الحالي الذي وضعه العسكر عقب انقلاب 12 أيلول / سبتمبر عام 1980 إلا أن هناك ثمة خلافات كبيرة بشأن الدستور الجديد، خلافات تتعلق بالأسس الأساسية للجمهورية التركية ومسألة الهوية وتعريف المواطن والمواطنة والتعليم والقضاء ودوره ... الخ، حيث يظهر الخلاف وكأنه خلاف إيديولوجي بين حزب العدالة والتنمية الذي يريد من خلال الدستور الجديد طي صفحة الجمهورية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك والشروع الدستوري لأسلمة الدولة والمجتمع وبين أحزاب المعارضة التي ترفض مثل هذا المسعى وتحرص على إبقاء الدستور بعيدا عن البعد الإيديولوجي. 4– الاقتصاد: مع أن حكومة حزب العدالة والتنمية تفتخر بأنها أنتجت تجربة اقتصادية مميزة، نجحت في إنقاذ البلاد من أزمة اقتصادية كانت تعيش على وصفات صندوق النقد الدولي، وساهمت في رفع مستوى دخل المواطن وتحقيق نسب نمو عالية، أدت في النهاية إلى دخول تركيا مجموعة الدول العشرين، إلا أنه من الواضح أن الاقتصاد التركي دخل في السنوات الأخيرة مرحلة من التراجع الاقتصادي، لعل من أهم معالمه: زيادة نسب البطالة وتراجع النمو وزيادة الانكماش الاقتصادي والتضخم وتأكل القدرة الشرائية للمواطن وتوقف العديد من المشاريع الكبرى ولاسيما في مجال العمران بسبب فقدان السيولة وتراجع قيمة الليرة التركية أمام الدولار وتراجع نسبة الاستثمارات الخارجية وزيادة نسبة الديون الخارجية والداخلية، مما ينذر كل ذلك بأزمة اقتصادية على الأبواب قد تطيح ما يعتبره حزب العدالة والتنمية أهم منجز له منذ تسلمه الحكم عام 2002 ، ولعل ما يزيد من قتامة المشهد الاقتصادي هو توتر العلاقات التركية مع الخارج، إذ كانت التدخلات التركية في سورية والعراق ومصر تعد من أهم أسباب تراجع التجارة التركية مع العالم العربي، كما أن التوتر التركي – الروسي الأخير يهدد قدرة تركيا على تأمين مصادر الطاقة ولاسيما الغاز في ظل الأرقام التي تشير إلى أن روسيا تؤمن ما نسبته 65% من حاجة تركيا للغاز وإعلان روسيا تجميد مشروع الغاز الجنوبي الذي كان مقرراً أن يصل الغاز الروسي إلى العديد من الدول الأوروبية عبر الأراضي التركية. الخلاصة هنا، هي أن السياسة الخارجية التركية باتت تعيش على وقع المتغيرات الخارجية والاستحقاقات الداخلية، تبدو معها تركيا أمام مرحلة جديدة مليئة بالتحديات والصعاب، وهي في سعيها لتحقيق تطلعاتها تراهن على أجندة سياسية تشكل في العمق الطموحات السلطوية الجامحة لأردوغان، على شكل رهانات سياسية قد لا تتطابق مع الوقائع والمعطيات ومسار الأحداث بعد أن أكدت التجربة السابقة الفهم التركي الخاطئ لقضايا المنطقة وتعقيداتها وتشابك العلاقات الدولية على ساحاتها، ولعل ما يصعب من مهمة السياسة التركية في إجراء مراجعة لتصحيح مواطن الخلل تجاوز الثغرات، هو أن أردوغان هو من أوصل هذه السياسة إلى هذا المستوى من التخبط في وقت تحتاج السياسة التركية إلى مراجعة شاملة دون توفر القوى التي يمكن أن تقود عملية المراجعة هذه، وإصرار اردوغان على سياسته السابقة، ولعل مجمل ما يسبق سيزيد من التحديات في الداخل بعد أن بلغ مستوى الانقسام حد الصدام ولاسيما مع القضية الكردية التي تشهد شقاقا قوميا بات يهدد استقرار البلاد وربما وحدته، فضلاً عن خطر انتقال التنظيمات المتطرفة التي دعمتها تركيا في سورية إلى الداخل التركي، إذ إن تكرار التفجيرات الضخمة كتلك التي شهدتها اسطنبول وديار بكر وسوروج تشكل مؤشراً قوياً إلى هذا الخطر الداهم الذي بات يهدد تركيا على الرغم من أن المعارضة التركية حذرت القيادة التركية منه مراراً خلال الفترة الماضية، إلا أن من الواضح أنه لم يكن هناك من مجيب لطالما اعتاد اردوغان على التعامل مع هذه المعارضة بفوقية واستهزاء. كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)
|
||||||