كبار علماء السنة والشيعة ينبذون التطرف المذهبي

السنة الخامسة عشر ـ العدد170 ـ ( ربيع الثاني ـ جمادي اول 1437 هـ) شباط ـ 2016 م)

بقلم: المحامي إبراهيم أسامة العرب

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

مما لا شك فيه بأن الإسلام هو دين المحبة والرحمة، ويقول الرسول(ص): "ليس الشديد بالصُّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، والدين رسالة بينما الطائفية والمذهبية فعصبيّتان، ففيما الأديان تجمّع، الطائفيات والمذهبيات تفرّق.

وكبار علماء المسلمين من المذهبين السني والشيعي تمسكوا بنهج الوسطية والاعتدال، وقام العديد منهم بمحاولة إقامة تقريب بين المذاهب التي تبلورت بتأسيس جمعية التقريب بين المذاهب، كما أصدر الأزهر فتواه الشهيرة بصحة التعبد بالمذهب الإباضي والشيعي الإثني عشري والزيدي. وبالمقابل أقر علماء الشيعة الاثني عشرية بصحة إيمان السني، معتبرين بأن غير المؤمن هو فقط من يجاهر بعداوة النبي محمد وأهل البيت قولاً أو فعلاً. كل ذلك، عملاً بقوله تعالى بالآية 94 من سورة النساء:﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾.

وعلى مدى العصور، كان علماء السنة والشيعة يداً واحدة، تجمعهم وحدة الرسالة، وإيمانهم بنبيهم الواحد وكتابهم الواحد ومسجدهم الحرام الواحد، فمن المعروف بأن الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (وهو ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب)، أسس مدرسة لنشر العلوم الإسلامية من خلال تأسيس مدرسة علمية عرفت باسمه مدرسة الإمام الصادق تخرج منها أكثر من أربعة آلاف عالم. كما أن كل المذاهب الإسلامية أخذت علومها من هذه المدرسة، وكان أولها مدرسة أبي حنيفة الذي كان طالباً في مدرسة الإمام الصادق، وكان يقول دوماً: لولا السَّنتان لهلُك النعمان، أي السنتان اللتان صُحب فيها - لأخذ العلم - من الإمام جعفر الصادق، والمعروف أيضاً بأن باقي المدارس الإسلامية أخذت علومها من مدرسة أبي حنيفة.

أما ثاني تلامذته فهو الإمام مالك بن أنس، الذي نقل اثني عشر حديثاً عنه في مؤلفه الشهير "الموطأ".  ويقول الإمام مالك بن أنس ما كنت أرى جعفراً إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إما مصلّياً وإما صائماً وإما يقرأ القرآن، وما رأيته قط يُحدِّثُ عن رسول الله إلاّ عن الطهارة، ولا يتكلم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبّاد والزهاد الذين يخشون الله، وما رأت عين ولا سمعت أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً".

ويرى أهل السنة والجماعة أن علم الإمام جعفر ومدرسته أساسٌ لكل طوائف المسلمين دون القول بإمامته بتنصيبٍ من الله، وهم يؤكدون بأن جعفر الصادق إمام من أئمة المسلمين، وعالم من علمائهم الكبار، وأقوال أئمة الحديث فيه طافحة في الثناء والمدح، ومن الجدير بالذِكر أن جعفر الصادق يُعتبر واحداً من أكثر الشخصيات تبجيلاً عند أتباع الطريقة النقشبندية، وهي إحدى الطرق الصوفيَّة السنيَّة.

ومن بعض الشهادات التي وردت من علماء أهل السنة بحق الإمام جعفر بن محمد الصادق: كلمة الذهبي في معرض حديثه عن الإمام الصادق: "جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين الهاشمي أبو عبد الله أحد الأئمة الأعلام برّ صادق كبير الشأن، وكان من جلَّة علماء المدينة، وحدَّث عنه جماعة من الأئمة، منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما." وقول النووي: "روى عنه محمّد بن إسحق، ويحيى الأنصاري، ومالك، والسفيانيان، وابن جريح، وشعبة، ويحيى القطّان، وآخرون، واتفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته، قال عمرو بن أبي المقدام: كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنه من سلالة النبيّ." وقول مالك بن أنس إمام المالكية: "وما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً"، ويقول في كلمة أخرى: "ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم، وكان طيب المجالسة، كثير الفوائد"

ويتشابه منهج الإمام جعفر ومنهج علماء أهل السنَّة في أمور أساسيَّة؛ فهو يعتمد بالتدريج على القرآن والسنَّة النبوية والإجماع ثم الاجتهاد. وتعتقد الطائفة الشيعية بإمامة الأثني عشر والتي تُطلق عليهم اسم "المعصومين"، ومنهم جعفر بن محمد الصادق، وتعتقد بهم على حدٍ سواء من حيث المنزلة، غير أنه من المُلاحظ نسبة المذهب الشيعي أحياناً إلى الإمام جعفر الصادق دون غيره، فيُقال "المذهب الجعفري" أو "الطائفة الجعفرية". وإلى جانب الإثني عشريَّة؛ أشاد بعض كبار علماء الشيعة الإسماعيليَّة بفضل جعفر الصادق وغزارة علمه، ومنهم القاضي النعمان؛ قاضي قضاة الدولة الفاطميَّة، الذي أحاط الصادق بالتبجيل في كتاباته.

أما الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أي حفيد الحسين بن علي بن أبي طالب، وعمّ الإمام جعفر الصادق، والذي نشأ على منهجه مذهب  الشيعة الزيدية، فقد شهد بحقه الإمام أبو حنيفة النعمان كبير أئمة المذاهب السُّنِّـيَّة، شهادة لا مثيل لها، فقال: "ما رأيت في زمنه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين".

أما الإمام جعفر الصادق، الذي نشأ على منهجه مذهب الشيعة الاثنا عشرية، والذي هو ابن أخ الإمام زيد ورفيق نشأته ودراسته فقد شهد بحقه فقال: "كان والله أقرأنا لكتاب الله وأفقهنا بدين الله". أما أخوه الأكبر ومعلمه محمد الباقر، فقد قال في حقه: "لقد أوتي زيدٌ علماً لَدُنِيّاً (أي ربانيّاً) فاسألوه فإنه يعلم ما لا نعلم". ومن الجدير ذكره أن الإمام زيد بن علي زين العابدين كان يقرّ بصحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، ويرى بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ومعظم الزيديين المعاصرين يُقرُّون خلافة أبي بكر وعمر ويترضّون عنهما.

فكما سبق وذكرنا، شتّان بين الدين والطائفية والمذهبية، ففيما الدين يجمّع العصبيات المذهبية والطائفية تفرّق، فتتصادم إذ تحاول إحداها إلغاء الأخرى وكل محاولة للإلغاء تبوء بالفشل. والتاريخ أثبت بأن كل أزمة طائفية أو مذهبية عاجلاً أم آجلاً سيكون مصيرها نتيجة حتمية لا مفرّ منها، يختصرها قانون لا غالب ولا مغلوب. ويقول الله تعالى في الآيتين 9 و10 من سورة الحجرات ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(*)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.

كما يقول الرسول(ص): "أَلا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحَالِقَةُ (وقد فسر الرسول كلمة الحَالِقَةُ بقوله: لا أقول تَحلق الشعر، ولكن تَحلق الدين) "رواه أبو داود والترمذي".

وعليه، فإن كل فتوى سنية أو شيعية تكفيرية هي بحكم الأزهر الشريف وعلماء الشيعة مجتمعين باطلة، فالقرآن يمنع تكفير أي مسلم. وحديث الرسول يؤكد بأن عدم عملنا على وأد الفتن بين ذات البين يقضي على الدين كلياً وينهيه من أساسه، فتبقى المذهبية وينتهي الدين. ولذلك، يجب إصلاح شأن طوائف المسلمين المتنازعة، لأن المؤمنين أخوة بحسب ما هو وارد بالآية القرآنية السابقة التي يتعامى عنها البعض.

علماً بأن كافة العلماء مؤسسي المذاهب السنية والشيعية، كانوا يحبون بعضهم بعضاً، ومدرستهم مدرسة واحدة (مدرسة الوحدة الإسلامية بكافة مذاهبها)، ومفهومهم الالتزام بأمره تعالى بعدم تفرقة الدين، والوارد بالآية 159 من سورة الأنعام: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً (أي فرقاً وطوائف متعددة) لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.

ولذلك فإننا ندعو المسلمين من كافة المذاهب في لبنان والدول العربية والإسلامية إلى وعي الثوابت الإيمانية التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية، ونبذ العصبية والتطرف والمذهبية، والسعي قدر الإمكان لتقريب وجهات النظر بين المسؤولين كافة لدرء أي فتنة يسعى إليها كل عدو. ومن المؤكد بأننا إذا تسلحنا بالوحدة العربية والإسلامية المنشودة، وأظهرنا استعداداً لتبني منطق الرسالة السماوية، سوف نستطيع رأب الصدع داخل البيت الواحد ودرء كل مخاطر الفتن التي تحدق بنا من كل صوب وكل جانب. 

اعلى الصفحة