|
|||||||
|
عندما يغيب الشهداء بأجسادهم عنا، فإنهم لا يخسرون؛ بل نحن الذين نُستنزف بحزن قاتل يزيد من بشاعة هذه الحياة ومرارتها. أما هم فإنهم يلتقطون الفرح الموصول بالزمن اللامتناهي.. وتمتد أيامهم في عمر يزيد ويزيد ليعانق الخلود الأبدي في وحدة تصيّرهما معاً: عشقاً وفرحاً طليقاً.. وتقول إحدى الأديبات العربيات: "وحدها أسماء الشهداء غير قابلة للتزوير لأن من حقهم علينا أن نذكرهم بأسمائهم كاملة".. ويقول الشاعر مريد البرغوثي: إذا كان الأحياءُ يشيخونْ / فإنّ الشهداءَ يزدادونَ شَباباً وبين الكلمات الرائعة لأنشودة "زغردي يا أم الشهيد"، والتي جاء فيها: زغردي يا أم الشهيد وزغردي وانطري هالموسم لو انه يطول واشعلي سراجك ع العالي ورددي ظلم الليالي والظالم لازم يزول وبين ما قالته أمّ الشهيد البطل مهند الحلبي الذي فجّر دمه انتفاضة القدس، بعد هدم قوات الاحتلال الإسرائيلي منزلها شمال رام الله: "هُمَّ بِدْهُم يهِدُّوا بيت مهند عشان يقتلوا عزيمتنا وقوتنا وإصرارنا على تحرير بلادنا إن شاء الله بس فشرت عينهم رح نظل نقاوم حتى يزول كل الاحتلال مش بس الـ 48 والـ 64، أنا بتنازلش عن بلدي يافا شبر واحد من فلسطين مش رح نتنازل عنه وإن شاء الله بهدم بيت مهند تنهدم إسرائيل كلّها". كيف عبّر الشعراء الفلسطينيون عن واقع الشهادة والشهداء؟ وعن وطن الخالدين والثائرين الذي ضحّى من أجلة مئات الآلاف من الشهداء؟ شهداء وشعراء لقد شكّلت ثورة 1936 في فلسطين، امتداداً واضحاً لثورة الشهيد الشيخ عز الدين القسام الذي استشهد في مواجهات عنيفة في العام 1935. وكان استشهاده إيذاناً لاستمرار الثورة، وتمهيداً لإعلان الإضراب الشامل، إلى جانب نشوب معارك في عدد كبير من المدن الفلسطينية بين العرب من جانب وبين اليهود والانكليز من جانب آخر. وتناولت الكاتبة رجاء النقاش، في دراسة لها بعنوان: "إضاءات في شعر النكبة: شهداء وشعراء" نتائج المواجهة التي خاضها القسام ورفاقه، أنه "مهما كانت نتائج ثورة 1936 في فلسطين فإنها بالحقيقة كانت ثورة عنيفة وشاملة بل كانت أكبر مما كانت قدرته كل القيادات السياسة في ذلك الحين واستطاعت هذه الثورة أن تخلق جيلاً من الفلسطينيين له نظرة خاصة للقضية الفلسطينية وهي نظرة عنيفة غاضبة استطاعت أن تدرك بعد تجارب عنيفة أن لا حل إلا بالقوة، لذلك فإنها لم تعد تؤمن إلا بالمقاومة في أعنف صورها ضد اليهود والإنكليز معاً، وذلك كحل وحيد للمأساة الذي كان هذا الجيل يراها قادمة تزحف على الأرض الفلسطينية، وتنسج لشعب فلسطين مصيرًا دمويًا لا حدود لتعاسته وشقائه". وشكّل الشهيد القسام حالة فريدة من النهوض والمقاومة والاستشهاد، عبّر عنها الشعراء بشكل عنيف يستحث الشعب للنهوض والثورة والمواجهة. وتصف الكاتبة رجاء النقاش ذلك بقولها: .."لم يكن القسام حالة فريدة بل كان صورة أمينة لحقيقة العواطف الشعبية في التهابها العنيف.. وعندما نحس بشخصية القسام وصورته الواضحة نستطيع أن نفهم الدائرة الوجدانية التي يدور فيها شعر فلسطين في تلك الفترة". وإذا كان الدكتور سليمان جبران يرى أن "الشعر الفلسطيني بمعناه الوطني الدقيق، لم يُكتَب قبل مطلع القرن العشرين، أمّا شعر القرن التاسع عشر، فهو وإن كتبه شعراء من فلسطين، إلاّ أنّه لا يعكس مجتمعاً فلسطينيّاً وانتماء فلسطينيّاً، وإنما هو شعر إسلاميّ في معظمه، لم يٌجدّد في مفاهيم الشعر، أو مضامينه أو أساليبه شيئاً". أما الدكتور نبيه القاسم، فقد عارض الدكتور سليمان جبران، ورأى أنّ النهضة بدأت في فلسطين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، مُتَمثلة ليس في الشعر حصراً، وإنما في المدارس والإرساليات والمطابع والصحف والجمعيات والنوادي والحركات السياسية والمؤلفات العديدة في مختلف المواضيع شعراً ونثراً، حتى ولو كانت عامّة في طروحاتها ولا تعكس هموم المجتمع الفلسطيني الذي لم يتبلور بعد. (الشعر الفلسطيني ما قبل عام 1948، مركز المعلومات الفلسطيني) ويوضّح الدكتور نبيه القاسم "أمّا كون الأدب، شعراً كان أم نثراً، المُعَبِّر عن الهمّ الفلسطيني والعاكس للقضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الصهيوني الاستعماري قد تبلور وتطوّر في القرن العشرين؛ فهذا أوافقه عليه، وكان طبيعياً أن يكون بعد تبلور الوطن الفلسطيني والصراع على هذا الوطن ومستقبله". شعراء الوطن يُعدّد الدكتور سليمان جبران أربعة شعراء يعتبرهم الممثلين الأبرز للشعر الفلسطيني في فترة الانتداب البريطاني، وهم: الشاعر وديع البستاني الذي بحسب جبران "اتصل بالقضية الفلسطينيّة منذ شهر تشرين الثاني 1917. وهو الشهر الذي في ثانيه صدر تصريح بلفور واعداً اليهود بالوطن القومي في فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ كرّس نفسه وقلمَه لمناصرة الشعب الفلسطيني وقضيته"، وأن البستاني "وهب فلسطين الكثير من شعره وفكره ونشاطه السياسي والقضائي، وذلك لأنّه اعتبرها قضيّة عربية قوميّة بل القضية القومية الأولى"، كما أنّه "كان يدعو دائماً إلى التآخي بين المسلمين والمسيحيين في الوطن الواحد والقضيّة الواحدة". الشاعر الثاني هو "إبراهيم طوقان"(1905-1941) الذي أجمع الدارسون على أنّه شاعر فلسطين الأوّل، وقد وصفته أخته الشاعرة فدوى طوقان بأنّه "شاعر الوطن"؛ لأنه "سجّلَ آلامَ فلسطين وآمالَها خلال الانتداب الإنجليزي، كما لم يُسجّله شاعر فلسطيني من قبل". أما الشاعر الثالث؛ فهو عبد الرحيم محمود (1913-1948) الذي يرى فيه ظاهرة نبيلة في تاريخ الشعر الفلسطيني، والشعر العربي الحديث عامّة؛ لأنه كما قال جبرا إبراهيم جبرا: "لم يكتف بالكلام عن الشجاعة ومجابهة الموت، كما يفعل معظم الشعراء، بل كان الشاعر الفارس الأوّل والأكبر في الشعر العربي الحديث. لقد قضى حياته مناضلاً مُسلحاً من أجل فلسطين، وكلما جاشت عواطفه كلاماً لاهباً وشعراً لاظياً، اتّبع القول بالفعل، وحمل بندقيّتَه ودخل سوح القتال، "حيث استشهد في معركة الشجرة، شرقي الناصرة سنة 1948، وكان تأثُّر عبد الرحيم محمود واضحاً بالشعر العربي القديم، حيث ظهرت في قصائده أصداء الشعر القديم في الألفاظ والتراكيب الكلاسيكية الوعرة. كما أنّ تقليديّة عبد الرحيم محمود تبرز في موقفه التقليدي من المرأة، وخاصة في قصيدته "نون النسوة"، وقصيدة "حوشوا البنات من الشوارع" التي كتبها عام 1931، ويُطالب فيها البنات بالتحجّب. وكتب الدكتور محمد توكلنا يصف الشاعر عبد الرحيم محمود: إن الرجل الشريف هو الذي يبتغي أمرين هما منتهى رغباته، وهما أن يرتاد حياض الموت في ساحات القتال، وأن يحقق كل ما يتمناه، وإن كان الدخول في المعارك عند غيره وسيلة لتحقيق غاية ما فهو عنده غاية بحدّ ذاته: ونفْسُ الشّريفِ لها غايتان وُرودُ المَنايا ونَيْلُ المُنى وكان الشاعر عبد الكريم الكرمي "أبو سلمى" (1909-1980) أحد أقطاب شعراء تلك الفترة، ومن البداية هناك نقطة اختلاف مهمة ما بين أبو سلمى وكل من إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود بأن كلا الشاعرين توفيا قبل وقوع نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 بينما أبو سلمى عاش نصف عمره في فلسطين، ونصفه الثاني لاجئاً مُشرداً بعيداً عن البلاد؛ ما ترك أثره على حياته وشعره. كان للغزل حظٌّ وافرٌّ في شعر أبو سلمى خاصة قبل عام 1948، حتى أنّ إبراهيم طوقان سمّاه "رسول الهوى". وتوجد صورة مشتركة لدى هؤلاء الشعراء، كما تورد رجاء النقاش في دراسة لها، أن هؤلاء الشعراء هم مناضلون، وكان شعرهم "أداة من أدوات هذا العمل السياسي الثوري" وكتعبير "عن الوجدان الشعبي المقاتل وتجسيدًا له في تلك الفترة.. ذلك الوجدان الذي لم يكن يرى سوى الثورة المسلحة العنيفة الشاملة طريقا للخلاص". كما أن هؤلاء الشعراء "جعلوا من شعرهم تسجيلًا للمواقف الثورية المختلفة في فلسطين، وجعلوا منه اعتراضًا واحتجاجًا على المواقف المترددة". ويقول الأستاذ كامل السوافيري في كتابه "الشعر العربي الحديث في مأساة فلسطين" صفحة 298: "لا يوجد بين الفلسطينيين الذين تعلموا في مدارس فلسطين بعد ثورة 1936 من لا يحفظ لإبراهيم طوقان قصيدته "الفدائي" و "الشهيد"، ولعبد الرحيم محمود "الشهيد" و"الشعب الباسل". ولأبي سلمى داليته التي ثار بها على الملوك العرب... على طريق الردى وأجاد الشاعر إبراهيم طوقان في قصيدته "الفدائي"، فيقول في مقدمة القصيدة "وعيّنت الحكومة المنتدبة يهودياً بريطانيا الجنسية لوظيفة النائب العام في فلسطين فأمعن في النكاية والكيد للعرب بالقوانين التعسفية الجائرة التي كان "يطبخها" ولما ثقلت على العرب وطئتهم، كمن له أحد الشبان المتحمسين من مدخل باب الحكومة وأطلق النار عليه فجرحه".. وأما القصيدة فيقول إبراهيم فيها وهي من أشهر القصائد بين أبناء فلسطين من جيل 36 وما بعده من الأجيال حتى اليوم: لا تسل عن سلامته/ روحه فوق راحته/ بدلته همومه كفناً من وسادته / يرقب الساعة التي بعدها هول ساعته/ شاغل فكر من يراه بإطراق هامته / بين جنبيه خافق يتلظّى بغايته / من رأى فحمة الدجى أضرمت من شرارته / حملته جهنم طرفاً من رسالته / هو بالباب واقف والردى منه خائف / فاهدأي يا عواصف خجلاً من جراءته / صامت لو تكلما لفظ النار والدما / قل لمن عاب صمته خلق الصمت أبكما / وأخو الحزم لم تزل يده تسبق الفما / لا تلوموه قد رأى منهج الحق مظلما.. أما الشاعر عبد الرحيم محمود فهو أحد تلاميذ إبراهيم طوقان في مدرسة النجاح بنابلس وقد تعلم عبد الرحيم الشعر والوطنية على يد أستاذه وعندما أتم تعليمه بالمدرسة أصبح مدرساً. وكان عبد الرحيم مناضلاً حقيقياً بمواقفه وقصائده معا، وقد اشترك بالمعارك الشعبية المسلحة ضد الانكليز واليهود في ثورة 1936، ثم هرب إلى العراق واشترك في ثورة رشيد علي الكيلاني سنة 1941، وعندما قامت الحرب في فلسطين سنة 1948، اشترك الشاعر فيها محارباً وفارساً واستشهد في إحدى المعارك بقرية الشجرة قريبًا من مدينة الناصرة وسِنُّهُ خمس وثلاثون عاماً. من خصائص شعر عبد الرحيم محمود هذا المناضل والفارس الشهيد أنه شعر مباشر واضح عالي النبرة، خطابي، يدعو إلى الثورة ويحض على عليها ويثير مشاعر الجماهير ويهز قلوبهم ويعبِّر عما في هذا القلب من هموم وطنية وأحزان قومية.. هذا صوت حزنه، ولكن صوت فروسيته ونضاله يتردد في كثير من قصائده الأخرى.. فهو يقول في إحدى قصائده الأخرى مشيرًا إلى استشهاد عز الدين القسام ومخاطبًا أبناء فلسطين: واغتصب حقوقك لا تستجدها/هذى طريقك للحياة فلا تحد/إن الأولى سلبوا الحقوق لئام/قد سارها من قبلك القسام... وله قصيدة أخرى يعرفها الكثير من أبناء فلسطين مثلما يحفظون قصيدة "الفدائي" لإبراهيم وطوقان وتلك القصيدة يرثي بها أحد شهداء فلسطين ويتحدث فيها عن نفسه: ســأحمل روحي على راحتي وألقـي بها في مهاوي الردى فإمــا حياة تســر الصديق وإما ممـــات يغيظ العدى ونفس الشــريف لها غايتان ورود المنــايا ونيل المنـى وما العيش؟ لا عشت إن لم أكن مخوف الجناب حـرام الحمى لعمــرك إني أرى مصرعي ولكن أغـــذّ إليه الخطـى أرى مصرعي دون حقي السليب ودون بلادي هـو المبتغـى يلذ لأذني ســماع الصليـل ويبهج نفسـي مســيل الدما وجســم تجندل فوق الهضاب تناوشـــه جارحات الفـلا فمنه نصيب لأســد السـماء ومنـه نصيب لأســد الثرى كســا دمه الأرض بالأرجوان وأثقل بالعطــر ريح الصبـا لعمرك هــذا ممـات الرجال ومن رام موتاً شــريفاً فــذا بقلبي سـأرمي وجـوه العداة فقلبي حـديد ونـاري لظـى وأحمي حيـاضي بحد الحسام فيعلم قـومي بأنـي الفتـى
درويش بين حالتين شكّل الشاعر الكبير محمود درويش حالة فريدة في الشعر، وتناول الدكتور صلاح فضل ذلك في كتابه "محمود درويش حالة شعرية" بقوله إن درويش "سيظل حالة شعرية متفردة تستحق التأمل ملياً في سياقاتها الإبداعية والنّصّيّة"، لافتًا إلى أن حياة درويش كانت تُمثّل مأزقاً وجودياً محكوماً بتفاصيل حالته الشعرية، وأنه عاش موزعاً بين الأزمنة والأمكنة والقصائد". تطور شعر درويش من كونه شاعراً غنائياً حسياً متأثراً بأستاذه "نزار قباني"، ليطمح بعد ذلك في كتابة القصيدة الملحمية غير أن شروط هذا الشعر لم تعد تتوافر في العصر الحديث لذلك اكتفى درويش بممارسة القصيدة الدرامية المتعددة الأصوات، بحسب الدكتور صلاح فضل. وابتكر محمود درويش ـ بحسب فضل ـ أسلوبه المتميز فداخل كل قصيدة يبث عدداً من الإشارات الرامزة التي يسهل على قرائه ومستمعيه أن يفهموها، وأيضاً استطاع أن يدخل في كل قصيدة "موتيفات" جديدة ولقطات منسوجة بمهارة فائقة تحيل على عالمه الخاص وتحول دون ضياع المعنى. ويضيف فضل أن موقف درويش كان نموذجياً يجمع بين العام والخاص بين الفردي والقومي وكانت جمالية التعبير عنده مبتكرة نسبيًا حيث امتزج به الطابع الدرامي الحيوي في صدق وبراءة كما في قصيدته "بطاقة هوية" التي يقول فيها: (سجل أنا عربي/ ورقم بطاقتي خمسون ألف/ وأطفالي ثمانية/ وتاسعهم سيأتي بعد صيف/ فهل تغضب؟!). والتحول الثاني هو الخروج إلى شكل آخر، ولخصه درويش نفسه بقوله: "إنني أقوم بتنمية طاقتي الإبداعية المستقلة عن أسباب شهرتي وبعدم الوقوع في أسر الخطوة الأولى التي قدمتني للناس والتمرد على أشكالي القديمة بمحاولة التجديد المستمر للذات". ويقول فضل عن التحول الثالث وهو "انبهام الرؤيا وتشذر التعبير" أنه كانت لا معقولية الواقع المعيش في التجربة التاريخية هي مدخل درويش للحداثة التعبيرية وهي وسيلته في الوقت ذاته للانتقال من صناعة الرؤية الحسية والحيوية إلى انبهام الرؤيا الشعرية. ويضيف أن ذلك أدى إلى شعور النقاد بشكل متواتر أن نموذج درويش الشعري أضحى يمثل حالة فائقة في كثافتها وتركيزها المختزن لأهم التحولات الأسلوبية في التجربة العربية المعاصرة فدرويش دخل الميدان وهو ينشد: "أجمل الأشعار ما يحفظه عن ظهر قلب/ كل قارئ.../ فإذا لم يشرب الناس أناشيدك شرب/ قل: أنا وحدي خاطئ". وكتب درويش عن الشهادة والشهداء: الشهيد يحاصرني كلما عشت يوماً جديداً/ ويسألني أين كنت؟؟ / الشهيد يوضح ﻟﻲ: لم أفتش وراء المدى/ عن عذارى الخلود، فإني أحب الحياة / ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ، وبين الصنوبر والتين، ﻟﻜﻨﻨﻲ / ما استطعت إليه سبيلا، / ففتشت عنها بآخر ما أملك: / الدم في جسد اللازورد... ويكتب: ورأيت الشهداء واقفين، كلٌ على نجمته، سعداء بما قدّموا للموتى الأحياء من أمل./ ورأيتَ رأيت رأيت بلاداً يلبسها الشهداء ويرتفعون بها أعلى منها / وحياً وحياً. ويعودون بها خضراءَ وزرقاء / وقاسيةً في تربية سلالتهم: موتوا لأعيش! / فلا يعتذرون ولا ينسون وصاياهم لسلاتهم: أنتم غَدُنا، فاحيَوا كي نحيا فيكم!/ وأَحِبُّوا زهر الرُمّان/ وزهر الليمون... ومن أروع ما سطّر محمود درويش، الأبيات التي يصف فيها حال أم الشهيد.. قلبها.. ألمها.. سؤالها.. تغزلها بابنها.. مخاطبة الأشياء.. خوفها عليه.. أين هو؟ أأكل أم لم يأكل؟ أنام أم لم ينم؟ وفي النهاية دموعها.. حتى الدموع قد لا تملك منها الكثير: يحكون في بلادنا/ يحكون في شجن/عن صاحبي الذي مضى/ وعاد في كفن/ما قال حين زغردت خطاه خلف الباب لأمه: الوداع! ما قال للأحباب... للأصحاب: موعدنا غداً! ولم يضع رسالة... كعادة المسافرين تقول: إني عائدٌ.. وتسكت الظنون ولم يخطّ كلمةً.. تضيء ليل أمه التي.. تخاطب السماء والأشياء، تقول: يا وسادة السرير!.. راح بلا زوّادةٍ، من يطعم الفتى/إن جاع في طريقه؟/من يرحم الغريب؟/قلبي عليه من غوائل الدروب!/قلبي عليك يا فتى.. يا ولداه/قولوا لها، يا ليل! يا نجوم!/يا دروب! يا سحاب!/قولوا لها: لن تحملي الجواب/فالجرح فوق الدمع.. فوق الحزن والعذاب!/لن تحملي.. لن تصبري كثيرا لأنه.. لأنه مات، ولم يزل صغيراً.. يا أمه! لا تقلقي الدموع من جذورها/خلّي ببئر القلب دمعتين!/فقد يموت في غد أبوه... أو أخوه أو صديقه أنا خلي لنا.. للميتين في غد لو دمعتين... دمعتين!. طوقان والحرية الحمراء وُصفت الشاعرة فدوى طوقان بأنها "شاعرة نضال ومقاومة"، وكتب الناقد المصري المعروف غالي شكري في كتابه "أدب المقاومة" عنها: ".. لم تكن قصائدها في فلسطين مجرد تصيّد لمناسبة من المناسبات.. وإنما كانت موضوعاً أساسياً من موضوعات فنّها وملمحاً رئيسياً لا يكتمل وجهها الشعري بدونه. وقد عاشت فدوى فلسطينية على الضفة الغربية من نهر الأردن.. أي أنها كانت أقرب ما تكون من "الأرض" وأبعد ما تكون عنها.. ولذلك اختلف غناؤها عن غناء شعراء الأرض المقيمين فوقها، فبينما تحددت نظرة هؤلاء في نطاق المعارضة للنظام العنصري تحددت نظرة فدوى في نطاق "الرفض الرومانسي للواقع". (موقع ديوان العرب) وصدر للشاعرة 8 دواوين شعرية وهي: "وجدتها، وحدي مع الأيام، أعطنا حباً، أمام الباب المغلق، الليل والفرسان، الوجه الذي ضاع، على قمة الدنيا وحيداً، وقصائد سياسية". وعكست فدوى طوقان في أشعارها مشكلة القلق النفسي والضياع الذي يعاني منه الجيل الصاعد المؤمن بالحرية. ويقول الكاتب شاكر فريد حسن "طبيعي أن تغني طوقان للهروب من الواقع الذي تجلّى في اتجاهها نحو الطبيعة. وتؤكد مدى تأثرها بالرومانسية حين تعانق الطبيعة وتذوب فيها إلى درجة تبلغ حد الصوفية".. أما في شعرها حول الوطن، فتقول في قصيدة "بعد الكارثة" تسائل وتخاطب وطنها الفلسطيني، الذي غذاها من صدره الحب والحنان.. فتقول في هذه النفحة العاطرة كعطر برتقال يافا: يا وطني، مالك يحني على/روحك معنى الموت، معنى العدم/أمضك الجرح الذي خانه/مأساته في المأزق المحتدم/جرحك، ما أعمق أغواره. ودعت طوقان إلى حرية الإنسان الفلسطيني، وهو عين ما تدعو له المقاومة، فتقول: سأظل أحفر اسمها حتى أراه/يمتد في وطني ويكبر/ويظل يكبر/حتى يغطي كل شبر في ثراه/حتى أرى الحرية الحمراء تفتح كل باب/والليل يهرب والضياء يدك أعمدة الضباب. وهي تنتظر طلوع القمر بعد ظلام الاحتلال والاضطهاد.. والقمر رمز للبعث والولادة والحرية والانطلاق.. فتقول: وأنا في قبضة هذا الليل / والوطن هنا الغربة والنفي / وأنا في زحمة هذا الويل / يا قمري كيف وصلت إلى؟! أو كقولها في "منتهى الحوراني" التي استشهدت برصاص الاحتلال وهي تقوم بواجبها الوطني والإنساني: وما قتلوا منتهى وما صلبوها / ولكنما صعدت منتهى / تعلق أفراحها في السماء الكبيرة. وتناولت الشاعرة فدوى طوقان، شهداء الانتفاضة الفلسطينية بقصيدة، جاء فيها: رسموا الطريق إلى الحياة / رصفوه بالمرجان، بالمهج الفتيّة بالعقيقْ / رفعوا القلوب على الأكفّ حجارةً، جمراً، حريقْ / رجموا بها وحش الطريقْ: هذا أوان الشدّ فاشتدي!.. وتربط شهادة هؤلاء المقاومين والأبطال ودماءهم بين الأرض والسماء، فتقول: أنظرْ إليهم في البعيد / يتصاعدون إلى الأعالي، في عيون الكون هم يتصاعدونْ / وعلى جبال من رعاف دمائهم / هم يصعدون ويصعدون ويصعدونْ.. ختاماً، إن الشهداء يزلزلون فينا الأشياء.. ويعبرون بنا الزمن الحاضر بنشيد الدم إلى جلال الصمت المدوّي. غاضبون من جراحات السنين التي يحملها كل فلسطيني، وينحتون بأظافرهم جمر خوف الأعداء، يعبرون باطمئنان إلى عرين كبريائهم، يسخرون منهم بابتسامتهم للشهادة.. وبموتهم. سيبقى الشهداء ويرحل الأعداء، يتغلغلون في نسغ جروحنا، يحيون الأرض اليباب، يروون حقولنا العطشى، ويأتون مطراً وسيولاً، ونَزْف جراح. سيرحل الأعداء عن أيامنا وشهورنا، عن القدس وحيفا وبحر غزة تطاردهم المنايا؛ بسيوفٍ، بقنابلٍ، وبجرحٍ نازف.. وسيبقى الشهداء منغرسين في قلوبنا كشجر التين والزيتون، تشرق أرواحهم أملاً أن النصرَ حليفنا وأنهم سيرحلون.. سيرحلون. |
||||||