واقع عربي مأزوم.. هل إلى سبيل من خروج؟!
أسئلة وأفكار في زمن التيه والعبث العربي

السنة الخامسة عشر ـ العدد 169 ـ ( صفر ـ ربيع الأول 1437 هـ) كانون الثاني ـ 2016 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

أسئلة في الذات والموضوع: في البدء كان السؤال والاستفسار.. كانتْ الكلمة، وكان الحوار.. هي كلمة المحبة، وهو حوار العقل.. ونحن في عالمنا العربي ما فتئنا نبتعد في سلوكنا وأعمالنا، وعبر كل هذا التاريخ المضرج بالنزاعات والحروب، عن معنى قيمة "المحبة"، كجوهر ديني إسلامي، وعن عمق فضيلة للحوار كدعوة قرآنية –قبل أي شيء آخر- للتعارف والتفاعل الخصب والخلاق بين البشر والحضارات، أساسها الاعتراف بالمخالف واعتباره شريكاً في الخلق والإنسانية.

لكننا، تناسينا دعوة المحبة والحوار (المتأصلة نظرياً عندنا) حتى بين أنفسنا ومجتمعاتنا كعرب ومسلمين، وبات التنابذ سيد الموقف، وأضحت الخصومات والاستقطابات الحادة هي القاعدة في علاقاتنا ببعضنا البعض، حكاماً ومحكومين، رؤوساء ومرؤوسين.. فكان ما كان من قصة التدخلات استمرارية الصراعات المكلفة في تاريخ هذه الأمة التي حولها الاستبداد والإرهاب إلى ساحة مستباحة بالطول والعرض..

وهنا نسأل: هل نحن (كعرب ومسلمين) نعيش في هذا الواقع (الذي ساهمنا بصنعه بنسبة كبيرة) بشر نستحق الحياة السعيدة الرغيدة مثل باقي خلق الله؟ أم أننا خلقنا فقط لنكون وقوداً لصراعات الآخرين وميادينَ لحروبهم ومكاسر لمصالحهم؟.. وإلى متى سنبقى هكذا منفعلين، نعيش حالة الصراع والتدافع، فنقتل أو نجرح أو نؤسر أو.. أو.. أو.. الخ؟.. هل هو مقدر علينا فعلاً أن نبقى في قلب واقع التوتر الدائم ذاتياً وموضوعياً؟ أم أنه حصيلة ونتيجة لما فعلناه وما قدمته أيدينا؟!!.. ثم: ما قيمة الحياة المغموسة بالذل والعار والاستباحة ونزعات الهيمنة والسيطرة؟!!..

أسئلة ربما باتت بلا معنى، في عالم "مرتكس" و"منكوص"، نخرته المصالح الفئوية الضيقة والسوداوية نخراً، مصالح قيم السوق والاستهلاك و"العقلانية" الأداتية الفاقدة للروح والإنسانية، من أعلاه إلى أسفله..!!؟؟..

عالم نزلت إليه ثلاث ديانات سماوية، وعدد من الكتب المقدسة، وعشرات بل ومئات الديانات الأرضية، وأرسل إليه حوالي 124 ألف نبي، وعدد كبير لا يحصى من الأئمة والأوصياء والمقدسين والصالحين والعلماء و.. و.. و.. الخ، وكلهم دعوا ويدعون إلى ضرورة اعتماد لغة المحبة والتواصل، وبث ثقافة التسامح والإخاء عملياً وليس نظرياً بين الناس وفي كل المجتمعات، وأن تكون الإنسانية قيمة القيم، ولكن مع ذلك كله، ازداد عالمنا وواقعنا هنا بالذات، بؤساً وتوحشاً وشقاءً، وتصاعد نزوعاً نحو التفرد والتسلط والظلم والفوضى والحروب، بقدر ابتعاده عن قيم الحق والعدل والمساواة، وتكريم الإنسانية، وهي القيم الجوهرية التي جاءت بها ومن أجلها كل تلك الأديان، السماوية منها والأرضية....!!!

فماذا نحن فاعلون؟ وهل يكفي أن نحمل الآخر مسؤولية ما جرى وحدث، فنرتاح ونستكين، ونهدأ ونلين؟!! وهل قولنا بأن بناء دول مدنية حضارية هو الوصفة السحرية للحل؟!!.. مع صعوبات تطبيقها في هذا المناخ الاستثنائي والصراع الطاحن للهويات القاتلة..!!

طبعاً، لا شك، بأن مطلب الدولة المدنية والعادلة ليس تجديفاً لا بدعة، بل هو ببساطة خلاصة تجارب الأمم، ونتيجة لما وصلت إليه الشعوب الحية والمتقدمة على وجه عام، بأن شرعية أية سلطة تحكم وتدير أية دولة لا بد أن تأتي من الناس، من إرادات البشر، من وعيهم، ومشاركتهم، طواعيةً لا قسراً، وليس من أي معيار آخر، تأتي تلك الشرعية من خيارات الشعوب، ومصالحها في العيش الكريم الآمن والمستقر، وليس من أية شعارات أخرى خصوصاً تلك التي لاكتها ألسن النخب المستبدة طيلة عقود، وكلفتنا حروباً وصراعات وخسائر في الموارد والثروات كان من الممكن أن تجعل واقعنا ربما أفضل من واقع دول متقدمة اليوم.

وربما لو التفت صنّاع القرار في منطقتنا إلى الواقع المعقد والجهنمي الذي نقبع فيه جميعاً في هذه المنطقة "الهلامية" "الرجراجة"، بدلاً من السقوط في لغة السماء ولغات الأدلجة (وحيثيات المصالح المتناقضة) لوفّروا علينا وعليهم كثيراً من تلك الأثمان الباهظة التي ذكرناها؟!! وخصوصاً منه ثمن الإرهاب الذي بات لعبة خوف وتخويف في عالمنا العربي والإسلامي.. يدّعون محاربته من جهة، لتفاجئ بقوته وامتداده من جهة أخرى، وكأن حربهم عليه دعم له!!.

كيف نهزم أو كيف يهزم هذا الإرهاب؟

نعم، ومن دون أدنى شك، هذا الإرهاب ما كان لينشأ ويمتد في بيئتنا لولا "خصوبتها"، أي لولا وجود تاريخ وتجارب وثقافة وسلوكية الطغيان والقسر والاستفراد على امتداد زمننا العربي منذ البواكير الأولى.. إنه الاستبداد (الفردي والمجتمعي) الذي لو كانَ رجلاً، وأراد أن ينتسب، لقال (بحسب الكواكبي)، "أنا الشّر، وأبي الظّلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذّل، وابني الفقر، وابنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة".. وكأنه يوصف حالتنا الراهنة في أيامنا هذه التي لم تتغير منذ زمنه إلا بأساليب الاستبداد فقط، بينما المضامين ثابتة.. حيث وصلنا اليوم إلى هذا العجز عن بناء دول مدنية سيادية حرة، وفشلنا في تطوير قدراتنا العلمية والتقنية بما يمنحنا فرصة للحضور وإثبات الذات الفاعلة خاصة على الصعيد الاقتصادي، ولم نبلور وعياً وإدراكاً عاماً حول الإسلام المنفتح والأصيل يمكن أن يغذي المجتمع بقيم جامعة كالهوية والتكافل والتضامن، وبنفس الوقت يقوم بتحييد قوى العنف التي تشد بالعرب إلى الوراء.. ما جعلنا ذاتاً قابلة لحضور وتأثير الآخر الاستعماري الحديث فيها، وحولنا إلى "مكسر عصا" وساحة صراع ومكاسرة إرادات لنفوذ دول إقليمية وقوى دولية كبرى..

لهذا وحتى تهزم الإرهاب – الذي بات مستعصياً على الحلول!! - يجب أن تهزم فكره وقناعته ومنبته السيئ وحاضنته الاجتماعية.. فالقنبلة تقتل حملة السلاح الإرهابي (فرداً أو عشرة أو مائة أو ألفاً أو أكثر).. ولكن من سيهزم الأفكار القابعة في العقول الحارة المدججة بفتاوى وتفسيرات وشروحات وتأويلات تاريخية عتيقة؟!!.. ومن سيهزم أركان ورموز الوعظ والإفتاء المسجدي العتيق؟!!!.. باعتقادي أن من سيهزمهم -إلى جانب القوة العسكرية- ما يلي:

- التنمية الاقتصادية البشرية الشاملة المتوازنة، واقتصاديات التنمية المتوازنة في ظل الدولة العادلة.

- تطبيق القانون والنظام على الكبير والصغير، الحاكم والمحكوم دون استثناء لأحد.

- منع المظالم ومكافحة الفساد بطريقة حقيقية لا شكلية مزيفة.

- تعزيز مناخ الحريات وإعطاء الناس حقوقها.

- منع الاستثمار السياسي في الدين، وتجييره لأجندات (ومشاريع) السياسة، وبرامج السياسيين.

طبعاً لا ينبغي أيضاً غض النظر أو إغفال البصر والبصيرة عن ظروف وأسباب أخرى، حيث أن عامل الفقر والظلم والحرمان السياسي والاجتماعي، والتقوقع في أحزمة البؤس والفقر المنتشرة بالمدن وضواحيها (وعشوائياتها)، يمكن اعتباره واحداً من أهم أحد الدوافع والأسباب التي أسهمت بقوة في توليد وإنتاج التطرف والعنف و"ثقافة العدمية".. فقلة ذات اليد، نتيجة البطالة والفساد وانسداد آفاق الإصلاح أو التغيير، وما رافقه من هيمنة وتكدس حالة من القهر واليأس وربما العدمية كما قلنا، مع تشويش في الوعي وإحساس بالرفض تجاه كل شيء، كلها ضغوطات تجعل ذلك الشاب يمنّي نفسه بما وعد في الآخرة بعد أن رأى أنه قد ضيع دنياه.. أو تم تضييعها له من قبل آخرين أيضاً شاركوه هذا التضييع، حيث لا بد من الإشارة هنا أيضاً إلى أنه وعلى مدى عقود طويلة لم تقم كثيراً من الحكومات العربية بوظيفتها الأساسية في تربية الأجيال على الحق والفضيلة والحقوق وقيم المساواة، أي بما عليها من واجب رعاية أجيال الشباب، وتفعيل مشاركتهم الحقيقية في العمل والإنتاج ومختلف مواقع التنمية والقرار، كما لم يتم الاستثمار في بناء الوعي الحداثي المدني المتحضر، فبقي وعي شبابنا وإلى حد كبير وعياً هشاً ومتدنياً ومفرغاً إلا من الأفكار والأيديولوجيات الخلاصية، ما جعلهم أرضية خصبة لتقبل أية أفكار متطرفة هدامة، إضافة إلى الاستقطاب والتجنيد، فضلاً عن ضخ الأموال والإغراءات المادية التي تستقطب بها هذه التنظيمات هؤلاء الشباب، مما يجعلهم يرون في الالتحاق خلاصاً دنيوياً وأخروياً معاً.. وقد دلت التجارب أن المدمجين اجتماعياً (والفاعلين اقتصادياً والمنتجين واقعياً) هم من أقل الناس التحاقاً بالتطرف والتزاماً بفكره وثقافته.. إنه الاقتصاد، "اقتصاد الرفاه"، بدلاً من اقتصاد النخبة.

وعلى هذا الطريق (طريق الحل) علينا التخلص نهائياً من التماثل والتماهي، وأنني على حق فأنا مؤمن، وغيري على باطل فهو كافر.. بمعنى علينا أن نؤمن بحقنا بالاختلاف، وتعدد الآراء، والقبول ببعضنا المختلفين مثلما نقبل ببعضنا المتماثلين... فليس كل من اختلف معنا برأيه عدواً أو خصماً، وليس كل من توافق معنا بالرأي صديقاً صدوقاً... الحياة واسعة ومتنوعة جداً، تقبل كل التناقضات والاختلافات في كل شيء، ومجالات تنوعها واختلافاتها لا حصر لها.. وقد كان الله تعالى قادراً على جعلنا كتلة واحدة صماء، أو وحدة وموحدين، ولكنه شاء أن يخلقنا متنوعين مختلفين... فالحياة لا تعاش برأي واحد، ولا تستقيم على الفكر الواحد واللون الواحد والشخص الواحد والحزب الواحد، جماليتها وديمومتها تكمن هنا في تنوعها العبقري الفذ. وهذا عكس ما يرمي إليه الإرهاب والإرهابيون... فالإرهاب – كفكر إقصائي واحدي - إجرام، وإلغاء للآخر، وتكريس للفوضى والدمار.. وهو عمل حرمته كل الشرائع الأرضية والسماوية برغم اللافتات الدينية والشعارات الوضعية التي يندرج عمله تحتها.

من هنا، وحتى لا نستطرد كثيراً، تستدعي مكافحة الإرهاب أن نفهم أسبابه، ونعي حقيقة وجوده وتغلغله في مجتمعاتنا، وذلك كمقدمة أولى مطلوبة، حتى نستطيع أن نقضي على جذوره وامتداداته في عمق بلداننا ومجتمعاتنا.

ولا ينجح الإرهاب في أي بلد، ولا يتغلغل فيه من دون وجود قواعد فكرية ومرتكزات تاريخية ومحاضن اجتماعية، وتطبيقات عمل سياسية واقتصادية نخبوية عقيمة.. وهذا كله قائم ومتوفر للأسف عندنا في بلاد العروبة والإسلام.

وفي قناعتي أنه لا يولد أحد من بطن أمه بقناعات متطرفة ورؤى إرهابية.. ولا يوجد عقل سوي يدعو للإرهاب والقتل والدمار، ويمارس أعمال الذبح والتقتيل المروع المشين.. بل هو اكتساب خارجي، ينطلق كنتيجة ومحصلة وثمرة لرؤى تطبيقية سياسية واجتماعية واقتصادية.. هو ثمرة لانسدادات سياسية ومآزق وصراعات اجتماعية واقتصادية لم يتم حلها وحسمها.. وليست هذه الانسدادات إلا نتيجة خيارات سياسية وإستراتيجية خاطئة.

احرم ابنك، واقمعه، واحبسه في القمقم يصبح عدوك.. ويتحالف مع ألد أعدائك ضدك.. من هنا، التربية والإصلاح السياسي الحقيقي هو أول خطوة صحيحة وعقلانية على طريق الحل الطويل.

أما الإرهاب الجاري في أوروبا فهو عابر ومحدود.. يستفيد من ثغرات أمنية ليقوم بمهمته خدمة لاستثمارات وأجندات، فيقتل البعض، ويتم تكبير الأمر إعلامياً، لزوم الاستثمار السياسي..

أما نحن هنا، فنكبر الموضوع، ونتلهى في تضخيم أخبار الآخرين، دون البحث عن جذور أمراضنا، وهذا من أسباب استمرار أزماتنا ومآسينا حيث "التسلي" بمعالجة نتائج "الأمراض" دون التعمق في التشخيص وتحديد مكمن الداء الحقيقي، وبالتالي الانطلاق لعلاجه جذرياً.

وفي هذا ولا شك، مصالح كبرى لقوى إقليمية ودولية (تدرك حقائق الأمور والأوضاع بل وتغذي تداعياتها السلبية) مستفيدة من بقاء الوضع على ما هو عليه، طالما لم تسدد الفواتير المطلوبة بعد..!!!.

إذاً، الإرهاب لا يُهزم عسكرياً فقط (مع أهمية البعد العسكري)، إلا إذا فقد الحاضنة الاجتماعية التي تقف معه، وانقلبت عليه المجتمعات المحلية (التي توفر له ملاذات آمنة في العمق الاجتماعي)، وهذه المجتمعات لن تفعل ذلك، ولن تتحرك على طريق فك علاقتها معه، لأسباب تتعلق بوجودها ومصيرها ودورها وضمانات لمستقبلها.. في ظل استقطابات طائفية حادة تعيشها المنطقة، وتجري تغذيتها بقوة.. وفي ظل صراعات ومصالح متناحرة لدول وقوى كبرى.

الوعي وتحدي الاستجابة

وفي ظل ما نشاهده، ونتابعه، ونخضع له من رؤى ومؤثرات غير طبيعية وغير متوازنة في مختلف وسائل الضخ الإعلامي الدعائي وغير الدعائي، كيف يمكن لنا وللناس، تحقيق فاعلية الاستجابة، والتمكن من آليات الإدراك والوعي المنتج؟!!:

في الواقع، وسواء من خلال ردود أفعال، ليس الناس العاديين البسطاء فقط، بل ردود أفعال المثقفين والمتعلمين حتى مستويات علمية عالية، ألاحظ دوماً أن ردود أفعالهم على أي حدث سياسي أو عسكري أو أمني أو غيره، كحادثة إسقاط الطائرة الروسية أو غيرها منذ أسابيع في سماء سوريا، هي بمعظمها استجابات وردود انفعالية رغبوية، لا قانون واقعياً يضبطها ولا آلية عاقلة تحكمها، فتسيطر على تلك الردود حالات متراكبة ومعقدة من الهيجان العاطفي، والغرائزية العمياء، والانتقائية الغبية..

ويبدو السبب في ذلك هو التربية والتاريخ، فنحن شرقيون، نسخن بسرعة، ونهدأ بسرعة.. وعندما نسخن نعمل أو نشغل فقط الجانب الشعوري، ونتعاطى بانفعالياتنا، ونحرك جبهاتنا العاطفية بلا ضوابط أو قيود عقلانية عادية أو رصينة.. بينما هم في تلك الدول التي نتعارك باسمها، يحكمها دهاقنة ودهاة السياسة والفكر، ولا يتخذ فيها أي قرار طائش أو غير عقلاني، بل يجب أن يكون أي قرار مبنياً على حسابات دقيقة وتخطيط استراتيجي بعيداً عن التكتيكات الهوجاء و"الخنفشاريات" "الدونكيشوتية" المألوفة عندنا كثيراً..

وهذا ما نلاحظه في سلوكيات وأفعال كثير من سياسيينا وإعلامنا، حيث التناقضات (والخلط والتخبيص يعني "خلط عباس بدبّاس"، و"شعبان برمضان" كما يقولون) التي نسمعها خاصة ممن نشاهدهم على بعض فضائياتنا المحلية والعربية والإقليمية، والذين يتم تعريفهم كمحللين استراتيجيين، أو باحثين استراتيجيين، أو خبراء في مجال عسكري أو غير عسكري... تلك التناقضات سرعان ما تبرز في أحاديثهم وتحليلاتهم وفي نفس المقابلة أو الحديث أو اللقاء، وهي تتميز بالسمات السلبية التالية:

1- أحكام عامة، مليئة حتى الثمالة بحمولات "أيديولوجية" مسبقة عن الحدث أو الواقعة المراد البحث فيها وتحليلها.. والأيديولوجيات عموماً، عندما تهيمن على العقول، وتستحكم بأي شخص، تلغي كيانه، وتقنّعه بأقنعة جديدة، وتُعْمي بصيرته، وتقتل حاسة النقد لديه، وتحجب الحقائق وواضحات الأمور عنه بالكامل.. حتى لو كانت (تلك الحقائق) كالشمس في كبد السماء.. فالحقائق لا يراها من تغطى عقله بغشاوة التضليل، ولا يراها من فقد البصيرة مع بقاء البصر.

2- غالباً هي تحليلات "رغبوية" إنشائية حالمة تعيش في عوالم افتراضية ذاتية غير موجودة ومنفصلة عن محيطها، وبعيدة عن روح الحس النقدي ورؤية الذات في مرآة الآخر.. حيث تحضر الرغبة قبل التحليل، بمعنى أنا أرغب بأن تكون وجهة الحدث الذي أحلله في اتجاه الشمال، فأتحدث أنها في هذه الجهة، مع أنها قد تكون في جهة الجنوب واقعياً..هي الرغبة إذاً.

3- هي تحليلات مسبقة الصنع.. أي أنه عندما يحلل "المتأدلج" أي حدث أو أية واقعة، تطغى عليه فوراً (مع قلة الاطلاع وضعف التأهيل وضحالة التجربة والخبرة، وغيرها) أفكاره وقناعاته المسبقة (الساذجة والبسيطة والحاضرة دوماً كمقولات ثابتة في وعيه ولا وعيه!!) عن أي حدث والقائمة فقط على ثنائية "الأنا والآخر" و"الخير والشر".. فالتحليل مسبق ومقولب، وهو جاهز ومعلّب ومخزن في الذاكرة القريبة، سرعان ما يتم استحضاره بسرعة  من مخزونه العاطفي الجيّاش.

وغالباً ما تكون الحقيقة هي الضحية الأولى على مذبح أمثال هؤلاء.. مذبح الكذب والوهم والتضليل.. وغالباً ما تكون انتهاء وسقوط "المصالح" هي الضحية الثانية بين الدول والمجتمعات.. هذا يجري فقط عندنا، أما عند الآخر فالمصالح المتبادلة تحدد وقد تمنع اندلاع الصراعات والحروب.. وهذا ما جرى مؤخراً في حادثة إسقاط طائرة السوخوي الروسية في سوريا.. فروسيا امتنعت عن الرد العسكري، هي فقط لجأت إلى بضعة إجراءات "بسيطة" لحفظ ماء الوجه، فأقرت جملة قرارات تشكل حيزاً ما لضغوطات اقتصادية غير مكلفة للاقتصاد التركي الضخم.. ولاحقاً ومع التهدئة، والتوضيحات والتعويضات، ستعود الأمور أكثر لمجاريها.. فهؤلاء في النهاية، عقول سياسية في دول قوية (غير ضعيفة)، وهم أصدقاء يفهمون على بعضهم البعض.

وفي قناعتي أن السبب الأعمق لعدم الرد الموسع (والذي سيؤذي الاثنين معاً)، هو الناحية الاقتصادية وبدرجة أقل، الناحية السياسية، فالمصالح أقوى من العداوات في عالم اليوم، هذا ما لم يقرأه ويفهمه ويعيه كثير من سياسيينا ومحللينا الاستراتيجيين الكبار!!، هؤلاء ما يزالون يقرؤون في دفاتر قديمة، لم تعد صالحة لعالم اليوم والغد، هم ينهلون من نبع لم يتجدد، مر عليه زمن طويل وهو في حالة ركود.

أما عالم اليوم فهو عالم الاقتصاد، والمصالح، والسعي للثروات والمصالح المادية والجيو/إستراتيجية، أصلاً روسيا – كدولة ضخمة وكبرى- ما حركها اليوم سوى هذا كما عبر كبار قادتها.

وبما أنه توجد بين الروس والأتراك مصالح كبرى، غازية ونووية وغيرها (يبلغ مجموعها المادي أكثر من 44 مليار دولار، وهناك اتفاقات لرفعها إلى 100 مليار دولار)، فلن تؤثر الحادثة كثيراً جداً على عمق العلاقات بينهما، خاصةً بعد فتح الأقنية والخطوط السياسية والحوارية باتجاهات التهدئة، هي ولاشك حادثة كان من الممكن ألا تقع، ومعه حق الرئيس الروسي "بوتين" أنه اعتبرها طعنة في الظهر، لأنها جاءت ممن كان يفترض أن يكون صديقاً شخصياً له، ولكن سيتم بلعها، إلى حين، مع عدم تكرارها مستقبلاً، وربما سيأتي الرد في أمكنة أخرى.

لكن العبرة والمشكلة و"العترة" على تلك الدول التي انغلقت على ذاتها، ولم تقم باستثمارات اقتصادية وشراكات اقتصادية كبرى مع دول أخرى كبرى لمنع تدخل الآخرين أو اشتعال أزمات واهتزازات فيها... المصالح بين الدول تمنع إلى حد كبير حدوث صراعات، واندلاع المواجهات العسكرية والتدخلات العنفية (محدودة كانت أم موسعة) التي تؤثر سلباً على تلك المصالح.. فالسياسي عندها يحسب ألف حساب وحساب للشركات والاستثمارات والعلاقات الاقتصادية المتبادلة قبل أن يتدخل عسكرياً هنا أو هناك.. يحسبها من زاوية الضرر على بلده ومواطنيه الذين أوكلوا إليه -بالعقد الاجتماعي- مسؤولية السهر على راحتهم والعمل على حمايتهم، وتأمين عيشهم الكريم، ومنع الاعتداء عليهم، وتأمينه ظروفاً مثلى لإنتاجياتهم وتطورهم وازدهارهم...

إذاً: عندما يتخاصم طرفان، أول ما يُفكَّر فيه هو مدى التأثير السلبي للخصام، على داخل ومواقع كل منهما.. كلٌ يعرف قدراته وحجمه، ويشغّل عندها حساباته!!؟..

وللأسف الدول الضعيفة لا أحد يقيم لها وزناً، بينما الدول القوية، الكل يحترمها (قناعة أو اضطراراً..!!)، ويفكر ألف مرة قبل أن يحرك فيها أي ساكن..!!!..

حول الدين والجامع، ومسؤولية المثقف والعالم

هناك اتهام يطال كثير من المثقفين العاملين على مقولة النقد الثقافي والتاريخي، ونحن منهم، وهو أننا كمثقفين نقف في مواجهة تراث الأمة، ونسعى لهدم أركان الدين، وأننا ضد الجوامع، وضد القيم الدينية عموماً...

طبعاً، نؤكد بأنّ هذا اتهام معيب ولا طائل منه، ونحن لا نستغرب صدوره في أجوائنا المضطربة والمشحونة هذه... وإذا فهم البعض من خلال دعواتنا المتكررة إلى ضرورة وأهمية تطوير آليات الدعوة والعمل الديني وتجديد الفكر الديني ذاته تلبية للحاجات المعاصرة الهائلة المتنوعة، أنها دعوة لإلغاء الدين ذاته، فهذا شأنه ومشكلته التي تتمحور حول أنه لم يفهم الفرق بين الفكرة وتطبيقها، ولم يميز عملياً بين الدين وبين متدينيه، بين الدين وبين المشتغلين فيه، بين النص الديني وبين شارحه ومفسره.. بين النص وبين الفقه.. بكل تأكيد نحن – من موقعنا كمثقفين مشتغلين على قضايا النقد والتجديد الديني- سنبقى ندعو ونكرر الدعوة إلى "عقلنة" التفكير الديني، وتطوير الخطاب الثقافي التاريخي الإسلامي بما يتناسب والتطورات والمستجدات والتحولات الزمكانية (الزمان والمكان)، وهذا أمر – في نظري- مقدور عليه عقلاً وعلماً وتفكيراً موضوعياً (وهناك تجارب منتجة في كثير من مواقع ومواطن الفكر الإسلامي الغني والأصيل) طالما أن العقل موجود، والمقدمات والبديهيات العقلية قائمة ولاشك لدى الكثيرين، والمصلحة الإنسانية هي الأولى بالإتباع دائماً وأبداً..

أما بخصوص مسألة الجوامع، نعم أعود وأكرر بخصوص الجوامع ومسؤولية تكاثرها واستفحالها واستخدامها واستغلالها، مسؤولية الكثير من القائمين عليها، عن هيمنة التعصب والعنف على واقع وحياة المسلمين حالياً، ولجوئهم إلى الخيارات الأقصوية التمامية المطلقة.. أقول: هؤلاء الذين يشيدون ويبنون تلك الجوامع، تسيطر عليهم جماعات وتيارات تكفّر أكثر من ثلاثة أرباع البشرية، وهي تحظى برضى وتأييد ودعم كثير من المسلمين للأسف خصوصاً في ظل أجواء الاستقطابات الدينية الطائفية الحادة القائمة في منطقتنا العربية (وهي مفتعلة افتعالاً طبعاً بين جناحي الإسلام: السنة والشيعة).. فكيف يمكن والحال هذه، أن نزعم بأنه لا مشكلة في تلك الجوامع؟!، وكيف يمكن أن نغض النظر عن أمثال هؤلاء ممن يمارسون دعوتهم وتبشيرهم في جوامع ومدارس دينية ملحقة بها، يقولون ويتحدثون وينشرون فيها أفكار وسير وأدبيات وخطابات نهائية تدعي بأنهم يمتلكون الحقيقة الإلهية المطلقة من دون بقية المسلمين أو بقية البشر؟!.

نعم أنا أدعو علناً وبكل شفافية ووضوح، إلى التفكير الجدي بتنظيم آلية العمل الديني في مجتمعاتنا العربية الإسلامية بصورة متينة وراسخة (خصوصاً في مجتمعنا السوري)، وأؤيد أية قرارات تؤدي إلى سد منافذ التطرف الديني القادمة من أي جامع هنا أو هناك.. حتى لو أفضت إلى إغلاق كثير من تلك الجوامع والمدارس الدينية الأصولية المتزمتة التي ولّدت وخرجت طلائع أصولية سلفية غاية في التطرف والعنف والدموية.. ولمن نسي أو تناسى: من بين المسلمين خرج كل من القاعدة، والنصرة، وجيوش الإسلام، وجيش محمد، وفتح الإسلام، وطلائع الإسلام، والطليعة المقاتلة، والزرقاوي والنصراوي والبغدادي والشامي والحلبي، واليماني، والفوسي، والحقاني، والرحماني، والظواهري وابن لادن و... و... و... وغيرهم.

نعم لا بد من الإشارة كي لا نقرأ نصف الحقيقة وننسى نصفها الأخر، أو نرى نصف الكأس الملآن، ونغض النظر عن النص الآخر الفارغ، لابد من الإشارة إلى أن كثيراً من مظاهر التطرف والتعصب التي تكشفت عنها أحداثنا الماسأوية في منطقتنا العربية، وظهرت واشتعلت نيرانها في أكثر من عشرة دول عربية، مع عودة كثير من الناس إلى ملاذاتها الآمنة وتكويناتها التقليدية ما قبل وطنية، أقول: إن كثيراً من مشاهد ومظاهر التطرف والعنف تفجّرت بسبب وجود عوامل داخلية مؤهبة من الظلم والفشل السياسي والعطالة والبطالة، وتعرض الناس هناك إلى ضغوط وجودية ومصيرية لم يتحملوها..

بمعنى أن الظروف الخارجية قد تدفع المرء في كثير من الأحيان –نتيجة شعوره بالظلم والتمييز- إلى اللجوء لأساليب ومناهج عمل متطرفة وعنيفة قد تكون خياره الأخير نتيجة حبسه له في القمقم، وسد منافذ التغيير عليه من كل الجوانب.. ولكن بالإطار العام تربتنا الفكرية والتاريخية ومجالنا الحضاري الثقافي بمجمله كان –على الدوام- مناخاً ملائماً وداعما لنمو بذور العنف، ولهيمنة العنف والتطرف والتعصب الديني.. واستمراره وتغذيته وإطالته..

وكلما امتد أيُّ صراع، وطال أمده، تتكاثرُ أيادي المتلاعبين العابثين، وتختلطُ أوراقُه ومعطياته، وتتشابكُ مفاعيلُه ومقدماته، وتتعقّدُ مواقعُه، وتتكشّفُ التناقضاتُ الجوانية لعناصره، وتتظهّرُ اختلافاتهم على هيئة خلافاتٍ حادةٍ متراكبة ومتداخلة (صعبة الانحلال)، وتكبر الأنا الفردية، وتتغلب لغة المصالح على لغة الشعارات والأهداف العليا.. ليصبح الثانوي والفرعي، هو الأولي والرئيسي، فينساق الفاعلون واللاعبون نحو احترابات داخلية دموية قاتلة ومميتة، لا عمل لهم ولا غاية لهم من خلالها سوى السّعي (بلا وازع من أخلاق أو ضمير) لتكريس وجودهم (الفرعي والهامشي) على حساب الوجود الأكبر الذي هو، الإنسان - الوطن.

والواضح من قوس الأزمات العربي الراهن – الذي كان وما زال محط عبث وتلاعب إقليمي ودولي- أنّ كثيراً من مجتمعاتنا العربية ما تزال هشة وضعيفة للغاية، بل وازدادت هشاشتها وهزالتها، وذلك لسببين ذاتي ثقافي تاريخي يتعلق بغياب الوعي الفعال بهويتها العربية التضامنية الحقيقية لدى كثير من نخبها وسياسييها ومثقفيها، وسبب آخر موضوعي يتعلق بما تعرضت له على مديات زمنية طويلة من استبداد واستفراد واستبعاد وإقصاء منظم، وما جرى لها وعليها من تعقيم سياسي بالقوة والقمع والردع والخوف الوجودي، شل كل بذور العقلانية والإنتاجية فيها.. ولهذا عندما تعرضت تلك المجتمعات لهزات كبرى سياسية وأمنية سرعان ما بدأت تتحطم وتتفكك وتتشظّى لمكوناتها و"ملاذاتها" الآمنة الأولى، وتستجيب سلباً من فورها، لقوى اختراق مجالها الاستراتيجي.. حيث لم تعد تمتلك قدرات وقوى ذاتية للمدافعة والممانعة والثبات..  وهكذا، بعد كل ما حدث، نسأل: ما هو الحل؟

في الواقع، ليس المهم فقط هو البحث عن حلول، فالحل ليس وظيفة (إدارية) لي ولك كشخص بمفرده، بل علينا أن نعمل -كل في موقعه- على بناء وتطوير خيارات للفعل والحضور قدر المستطاع.. فلننطلق لتقرير ماهية الفعل المطلوب السير عليه، ولنتبع أنفسنا.. بقدر ما نتوقع من الآخرين أن يفعلوا أيضاً من خيارات وفعل.

وفي النهاية الناس في مجتمعاتنا بسيطة وغير معقدة، وهي لا تريد أشياء صعبة أو غير مقدور عليها، الناس تريد عيشاً بسيطا آمناً وسعيداً، تريد وضعاً تحترم فيه ويتم تقديرها، يكون مستنداً على بناء قانوني عملي صحيح ومتوازن يعاملها كذوات عاقلة وحرة في خياراتها والتزاماتها في حياتها ومسؤولياتها.. ألا يستأهل هؤلاء الناس؟ وهل فات الأوان؟!!..

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة