|
|||||||
|
تبدو تركيا وكأنها دخلت في صراع مفتوح مع تحالف دولي وإقليمي يتألف من روسيا وإيران والعراق وسورية ولبنان (حزب الله) وأرمينيا، فتركيا التي عملت في عهد حزب العدالة والتنمية على الحد من خيارها الأطلسي لصالح مشروع إقليمي تركي يرتكز على الانفتاح على العالمين العربي والإسلامي بحثاً عن هوية سياسية وحضارية تعرف بالعثمانية الجديدة... تركيا هذه إذن.. ترى أن مشروعها والذي أطلق عليه رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو صفر المشكلات وصل إلى حال من الصدام السياسي والأمني مع دول الجوار الجغرافي بعد أن ركبت تركيا موجة ما يسمى بثورات الربيع العربي، واتبعت سياسة تقوم على الإيديولوجية والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ولعل الأخطر في هذا الصدام، هو انه يأخذ التوتر الجاري طابع الصراعات التاريخية والطائفية، فتبدو تركيا (العثمانية السنية) في مواجهة (إيران الشيعية) على ساحتي سورية والعراق ولبنان، وتركيا الإسلامية في مواجهة روسيا (القيصرية الأرثوذكسية) وتركيا الجمهورية الحاملة لمشروع مصطفى كمال أتاتورك في مواجهة مع أنظمة إيديولوجية قومية عربية. وعلى وقع هذه الصدامات لم تعد نظرية صفر المشكلات ممكنة التطبيق فحسب بل تحولت إلى كل المشكلات مع دول الجوار الجغرافي، خاصة بعد أن تحولت الحدود مع هذه الدول إلى مناطق اشتباك ساخنة على وقع حرب التحالف الدولي المعلنة ضد تنظيم داعش. دلالات ومخاطر الأزمة مع العراق تركيا التي لها علاقات أكثر من جيدة مع إقليم كردستان العراق، ولها قواعد عسكرية على أراضيه وتدرب قوات البيشمركة الكردية وتقدم لها المشورة العسكرية والأمنية، ربما لم تكن تحسب أن إرسال قوات عسكرية إلى ناحية بعيشقة التابعة إدارياً لمحافظة الموصل العراقية بحجة تدريب مجموعات عراقية ستفجر أزمة كبيرة مع بغداد على اعتبار أن الأخيرة في حرب مع داعش واستنجدت مراراً بالدول الإقليمية والمجتمع الدولي لتقديم المساعدة العسكرية لها في حربها هذه. وعليه ربما استهانت تركيا في البداية بردود الفعل العراقية الحادة تجاه التدخل العسكري التركي والتي وصلت إلى حد التهديد العسكري، وربما اعتقدت أن هناك ثمة دولاً إقليمية تحرض بغداد للتصعيد ضدها قبل أن تكتشف هي بنفسها خطورة خطوتها والتي تؤسس وتشرع الباب أمام التدخلات العسكرية في أراضي الدول وانتهاك سيادتها بحجة المساعدة في محاربة داعش، وهي حجة ضعيفة لا تبدو حتى تركيا مقتنعة بها، فأولاً من يقوم بتدريب مجموعات عراقية مسلحة ويقدم لها المشورة العسكرية لا يرسل الدبابات والمدرعات ومئات الجنود. وثانياً مَنْ يحارب داعش لا يرسل مثل هذا العدد القليل من القوات والأسلحة فقط، ولعل الأولى بها أن تحارب داعش على حدودها مع سورية بعد أن تحولت المناطق التركية الحدودية مع سورية إلى ممر لانتقال المسلحين إلى داخل سورية والعراق. وثالثاً: فإن شرعية التدخل العسكري لا تتوقف على طلب المجموعات المحلية في الموصل، وأقصد هنا الحشد الوطني وطلب المحافظ السابق لموصل اثيل النجيفي كما أدعت أنقرة، وإنما الشرعية تكون من خلال العواصم. والسؤال هنا، لماذا تجاهلت أنقرة الحكومة العراقية عندما أرسلت هذه القوات ولم تخبرها مسبقاً بذلك أو تنسق معها؟ وماذا ستفعل تركيا لو أقدمت دولة جارة لها على إرسال مثل هذه القوات إلى الأراضي التركية بحجج ومزاعم مختلفة؟ دون شك، الموقف التركي ضعيف لجهة المبررات القانونية والأخلاقية والسياسية، كما أن ردود الفعل العراقية التي تراوحت بين الموقف السياسي الحازم الرافض للتدخل العسكري التركي، والتحرك الدبلوماسي المتعدد المستويات، والتلويح بالتصعيد الأمني والعسكري ما لم تسحب تركيا قواتها العسكرية المتوغلة، كل ذلك كشف عن جملة من الأهداف والمخاطر، لعل أهمها: 1- وجود طموحات تركية دفينة تجاه الموصل التي تحتل مكانة خاصة في السياسة التركية تجاه العراق، نظراً لاعتقاد تركيا بأن بريطانيا نجحت في سلخ الموصل عنها بموجب اتفاقية عام 1926 لصالح الدولة العراقية الوليدة، وقد ظلت الموصل مدرجة على الخرائط التركية حتى وقت قريب، بل إن الموازنة التركية كانت تخصص بندا سنويا للموصل قبل أن يقوم البرلمان التركي في عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال بإلغاء هذا البند. 2- إن تركيا تعتقد أن معركة تحرير الموصل من تنظيم داعش ستؤسس لمرحلة جديدة في المنطقة ولاسيما لجهة تحديد أدوار الدول الإقليمية ونفوذها وأحجامها، وعليه فإن خطوتها المتمثلة بإرسال قوات عسكرية مسبقاً إلى بعشقية تدخل في إطار الاستعداد للقيام بدور مؤثر على الأرض إذا ما أتيحت لها الظروف ذلك، لتقوم بدور الدولة الإقليمية المؤثرة في تحديد المصائر والسياسات في شمال العراق والمنطقة. 3- دون شك، في صلب الأهداف التركية أيضاً ضرب حزب العمال الكردستاني الذي تصاعد دوره على وقع الحرب ضد داعش في سنجار وشمال شرق سورية، وتحوله إلى قوة ميدانية كبيرة على الأرض، واحتمال انتقال نفوذه بقوة إلى الداخل التركي، وعليه تستميت تركيا في توجيه الضربات العسكرية إلى معاقل الحزب في جبال قنديل وكذلك في الداخل التركي في محاولة للحد من صعوده وتأثيره على مجريات القضية الكردية في الداخل التركي حيث المواجهات المستمرة بين الجانبين في أكثر من منطقة في المناطق الكردية في جنوب شرق تركيا. 4- إن الخطوة العسكرية التركية جاءت على وقع التوتر الروسي – التركي بعد إسقاط تركيا لمقاتلة روسية فوق الأراضي السورية، وقد ساهم هذا الأمر في تسليط الضوء على التحركات التركية الخطرة ودورها في جر المنطقة إلى المزيد من التوتر والصدام، بما يتطلب كل ذلك ضرورة الحد من الجموع التركي وتطلعات أنقرة التي تصطدم بسياسات دول الجوار. تركيا واستثمار ورقة التركمان تحولت قضية استثمار القضايا العرقية والطائفية في منطقة الشرق الأوسط ولاسيما المشرق العربي إلى ورقة من قبل الدول الإقليمية الكبرى التي تتطلع إلى الهيمنة والنفوذ والدور الإقليمي، فتركيا وتحت مبررات حماية أتراك قبرص غزت شمال جزيرة قبرص عام 1974 واستوطنت هناك قرابة ثلاثين ألف جندي وأعلنت عن جمهورية قبرص التركية التي لم يعترف بها أحد سوى أنقرة على الرغم من مرور كل هذا الوقت، وعندما انهار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي سرعان ما بادرت تركيا إلى مد جسور التواصل السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي مع جمهوريات آسيا الوسطى (تركمانستان – أوزبكستان- كازاخستان – قرغيرستان – أذربيجان)، محاولة استثمار هذه الجسور في بناء عالم تركي تتزعمه تركيا بوصفها تمثل الأب الروحي لجميع الأتراك في العالم قبل أن تكتشف صعوبة هذه المهمة لأسباب كثيرة، أهمها ضعف الإمكانات السياسية للدولة التركية وعلاقة تركيا بالغرب بعد أن انضمت مبكرا إلى الحلف الأطلسي عام 1952 واتخذت من الغرب خيارا سياسيا استراتيجيا في تحديد بوصلتها السياسية على الرغم من التغييرات الداخلية التي حصلت مع قدوم حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. لعل المراقب لسياسة تركيا تجاه الأزمة السورية، ومن قبل العراق في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي عام 2003 ، لا بد أن يقف عند جملة مفارقات تتعلق بقضية استثمار الورقة التركمانية ومحاولة استغلال هذه الورقة في وجه قضيتها الكردية الداخلية وصراعها الدموي مع حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري أي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي بات يسيطر على مناطق واسعة شمال سوريا وشرقها، فعندما كانت علاقات تركيا جيدة بكل من بغداد ودمشق لم تكن تركيا تتحدث عن التركمان بوصفهم فئة مظلومة في هاتين الدولتين، ولم تكن تطرح نفسها أباً روحياً لهذه الأقلية التي عانت مثلها مثل باقي أعراق وفئات الشعبين العراقي والسوري من الحروب والأوضاع المأساوية في البلدين. عندما غزت أمريكا العراق وتوقع البعض إعلان الكرد دولة مستقلة في شماله، سرعان ما أعلنت تركيا أن تركمان العراق خط أحمر، وأنها لن تسمح للكرد بدخول مدينة كركوك وكثيراً ما هددت بقلب الحدود على أهلها إذا تعرض التركمان لظلم من قبل الكرد، وقتها أيضاً كانت تركيا تقول إنها لن تسمح للكرد ببناء كيان خاص بهم وكثيراً ما هددت باجتياح الإقليم إذا ما أقدموا على هذه الخطوة. اليوم لم نعد نسمع من الحكومة التركية بأي اهتمام أو حتى تصريحات بخصوص تركمان العراق، وهي على علاقة جيدة بكرد العراق، حيث تشتري تركيا النفط والغاز من إقليم كردستان، وآلاف شركاتها تعمل في الإقليم ويستقبل رئيس الإقليم مسعود البرزاني بالسجاد الأحمر وتحت راية العلم الكردي فيما علاقاتها تشهد توترا غير مسبوق مع الحكومة العراقية، بل ومع معظم دول الجوار الجغرافي. هذه المفارقة أو الانقلاب دفع بأوساط حزبية وسياسية تركمانية عراقية إلى اتهام الحكومة التركية أكثر من مرة بخيانة التركمان والتخلي عن مطالبهم القومية بعد أن أسست لهم في عام 1995 الجبهة التركمانية العراقية لتكون رافعة سياسية لتحقيق مطالبهم القومية بدعم مباشر من أنقرة وأجهزة استخبارتها التي أعطت الجنسية التركية لعشرات آلاف من تركمان العراق. اليوم أيضاً، وبعد نحو خمس سنوات من انطلاق شرارة الأحداث في سورية، وتحول ثورة المطالب السلمية إلى حرب مسلحة دمرت البلاد والعباد، بدأت تركيا تتحدث بقوة عن تركمان سورية وحقوقهم بل وتعلن استعدادها الدفاع عنهم في مناطقهم شمال محافظة اللاذقية، وقبل إسقاط الطائرة الروسية حذرت تركيا مرارا روسيا من تواصل قصف طائراتها لمناطق التركمان ولاسيما جبل التركمان التي تطلق تركيا عليه (باير بوجاق)، وفي الداخل التركي ظهرت حملات تعبئة تدعو إلى التطوع للدفاع عن الأخوة التركمان في سورية حيث نظم حزب الوحدة الكبير العديد من الفعاليات لهذه الغاية، ولعل الأخطر من هذه التعبئة ظهور دعوات من قبل أطراف تركية قومية متطرفة تدعو إلى مراجعة وضع مناطق تركمان سورية على اعتبار أن الاتفاقيات التي وقعت عام 1921 مع فرنسا (الدولة المنتدبة على سوريا وقتها) ألحقت هذه المناطق بسورية وأنها تعد جزءاً من تركيا، ولعل صعود هذا الخطاب إلى واجهة السياسة التركية تجاه الأزمة السورية يكشف عن جملة من العوامل التي تتحكم بالسياسة التركية الخارجية تجاه منطقة المشرق العربي، وهي: 1- وجود طموحات تركية تاريخية كامنة تجاه سوريا والعراق، وقد ظهر هذا الأمر إلى سطح الأحداث مع الحروب الجارية في البلدين وتفكك الجغرافية السياسية لهما، بما يوحي وجود إمكانية لتغير الخرائط الجغرافية في المنطقة، ولعل تعزيز تركيا وجودها العسكري في بعشيقة بالموصل شمال العراق ورفضها سحب هذه القوات على الرغم من مطالبة الحكومة العراقية مراراً بذلك يكشف عن هذا الطموح المطمور تحت عقود من الزمن حيث لم تنسَ تركيا أن الموصل سلخت منها بضغط بريطاني وربما تفكر اليوم بأن تحريرها من داعش سيؤمن لها وجوداً دائماً هناك ويعزز من نفوذها الإقليمي في مواجهة إيران على العراق والمنطقة، لذا تسعى بقوة إلى المشاركة في تحرير الموصل من خلال الاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية. 2- إن الخطاب التركي المستجد تجاه تركمان سورية والحديث عن مظلوميتهم بهذا الشكل القومي وتأسيس المجلس التركماني السوري عام 2013 ومن ثم تأسيس كتائب تركمانية عسكرية تحت اسم كتائب السلطان مراد وغيره، يكشف هشاشة مضمون الخطاب التركي تجاه باقي مكونات الشعب السوري ولاسيما في ظل وقوف تركيا ضد الطموحات القومية الكردية في سورية ومحاولاتها المستمرة لضرب وحدات حماية الشعب الكردية عبر دعم وتأليب الفصائل السورية المسلحة ضدها ومحاولة إقصاء المكون الكردي من المشهد السياسي السوري المستقبلي. ولعل المفارقة هنا، أن هذا الاهتمام التركي المثير بتركمان سورية لم يكن موجوداً من قبل، فتركيا لم تتحدث مرة واحدة عنهم طوال المرحلة الماضية ولاسيما عندما كانت العلاقات بين رجب طيب أردوغان والرئيس بشار الأسد في سنوات العسل حيث كان أردوغان يخاطب الأسد بالأخ، وكانت الزيارات المتبادلة بين الجانبين لا تتوقف، وكان الأسد يثق بشكل كبير بأردوغان إلى درجة أنه رفض أي وساطة غير تركية في مفاوضات عملية السلام مع إسرائيل عندما انبرت تركيا للتوسط بين الجانبين وتحولت أنقرة إلى غرفة عمليات لهذه الغاية. وفي مفارقات الخطاب التركي الداعي إلى الحرية وحقوق الأقليات في سورية، أنه مقابل تبني تركيا راية الدفاع عن تركمان سورية إلى حد تأمين التغطية العسكرية لعمليات الكتائب التركمانية المسلحة ولاسيما كتائب السلطان مراد ودعمها بالأسلحة والمشورة العسكرية، فإنها تشن حرباً لا هوادة فيها ضد كرد سورية، وتهددهم بالويل إذا واصلوا استكمال السيطرة على مناطقهم أو أقاموا لأنفسهم إقليما على غرار إقليم كردستان العراق قبل أن تبني تركيا تحالفاً مع الإقليم الكردي، كما تعمل في المحافل الإقليمية والدولية لإقصاء المكون الكردي من المشهد السوري. دون شك، إظهار تركيا وكأنها معنية فقط بشؤون تركمان سورية يكشف... أولاً: عن خطاب لا يتناسب والحديث التركي عن الحرية والحقوق لكل فئات الشعب السوري ضد النظام، إذ أن حضور البعد القومي (مع أن تركمان سوريا ليسوا بأتراك) على هذا النحو يضعف من مصداقية الخطاب التركي ويكشف عن استخدام الإيديولوجية القومية والعرقية في الصراعات الإقليمية الجارية، كما هو شأن من يستخدم الطائفية لتحقيق أهداف إقليمية في المنطقة. ثانياً: إن مثل هذا الخطاب يشكل حرجا للتركمان أنفسهم بصفتهم مواطنين سوريين ينبغي أن يحصلوا على حقوقهم في الإطار السوري العام لا في إطار المشاريع التركية الإقليمية والنزعة العرقية التركية، فضلاً عن أن مثل هذه السياسة تضعهم أمام واقع صعب أقله أنهم أصبحوا ضحية للصدام الروسي – التركي حيث بات القصف الروسي لمناطقهم في شمال محافظة اللاذقية على أشده. وعليه ربما مجمل ما سبق يكشف عن فهم تركي خاطئ في كيفية بناء السياسة الخارجية، تارة باستخدام البعد الإيديولوجي الذي يقوم على دعم حركات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين في سورية ومصر وليبيا) والترويج للنموذج التركي، وأخرى بإظهار نفسها الأم الحنون المدافعة عن التركمان وحقوقهم، فيما المطلوب أن تكون هذه السياسة تقوم على مرتكزات سياسية واقتصادية وقانونية تتفق والعلاقات بين الدول وتنسجم والقانون الدولي، كي تحقق أهدافها ولا تعمق من الشروخ والانقسامات في كل الاتجاهات، ولعل استخدام تركيا عامل التركمان أو الشعوب التي لها أصول تركية، من الإيغور في شمال الصين إلى أتراك قبرص مروراً بتركمان سوريا والعراق كورقة لتحقيق طموحات إقليمية وسياسية لن يزيد سوى من مستوى الصدام بين تركيا وجوارها الجغرافي وبما يحقق الفشل الأكيد لسياستها الخارجية، نظرا لأن مثل هذه السياسة لن تستحضر سوى عوامل الصدام بين الدول والشعوب. إسقاط مقاتلة أم صدام سياسات؟ النظرة العميقة لحادثة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية سوخوي 24 داخل الأراضي السورية، لا بد أن تضعك أمام أسباب تتجاوز اختلاف الروايتين التركية والروسية بشأن خرق المقاتلة الروسية للأجواء التركية من عدمه، فالثابت أن هناك خلافاً استراتيجياً في سياسة البلدين إزاء الأزمة السورية، وقد تحول هذا الخلاف إلى صدام متدحرج منذ التدخل العسكري الروسي في سورية ورفض تركيا لذلك. أنقرة التي قطعت علاقاتها مع النظام السوري قبل نحو أربع سنوات بنت إستراتيجيتها المستقبلية تجاه منطقة الشرق الأوسط على أساس إسقاط هذا النظام، وعليه عملت بكل الوسائل السياسة والعسكرية والأمنية لتحقيق هذا الهدف، في حين جاء التدخل العسكري الروسي لإنقاذ النظام عبر وضع الجميع أمام واقع جديد، يتيح تسوية تعيد إنتاج النظام والدولة السورية وفقا للظروف الجديدة، وهو ما يعني في العمق ضرب الإستراتيجية التركية عبر تجريدها من أدواتها وأوراقها، وعليه، يمكن القول إن حادثة إسقاط الطائرة الروسية لم تكن سوى تعبيرٍ عن اشتباك الإستراتيجيتين الروسية والتركية في الشمال السوري على وقع التطورات الميدانية الجارية هناك. لقد أحست تركيا بأن القصف الروسي الذي طال مختلف الفصائل المسلحة المطالبة بإسقاط النظام، وتحرك الجيش السوري بمساعدة حلفائه بعد استعادة مطار كويرس شمال حلب، أحست بأن ثمة احتمالاً لتحرك الجيش السوري في منطقة جغرافية تمتد من كسب حتى شمال غرب حلب مروراً بجبل التركمان الذي تعده تركيا جزءاً من أمنها القومي، وأن حصول مثل هذا السيناريو، يعني فرض واقع جديد من شأنه إمكانية قطع الإمدادات عن القوى والفصائل المطالبة بإسقاط النظام والتي دعمتها تركيا طوال الفترة الماضية، فضلاً عن أن الحشد العسكري الروسي وإقامة قواعد عسكرية ونشر منظومات صاروخية متطورة ولاسيما منظومة صواريخ أس 400 في شمال غرب سورية، يعني عملياً ضرب السعي التركي القديم – الجديد لإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري بحجة تأمين الحماية للاجئين السوريين مع أن الهدف عسكري تماماً، ومن شأن كل هذا وضع حد لنهاية الخطوط الحمر التركية ولاسيما إمكانية تقدم القوات الكردية باتجاه جرابلس مروراً بمارع ووصولاً إلى عفرين، بما يعني اكتمال القوس الكردي على الحدود الجنوبية لتركيا، وهو ما تعده تركيا خطراً مستقبلياً لأمنها الداخلي في ظل العلاقة العضوية بين الحركات الكردية على جانبي الحدود ولاسيما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية وحزب العمال الكردستاني في تركيا حيث الإدارة المشتركة للحزبين من جبال قنديل في إقليم كردستان العراق. في جميع الأحوال، نقلت حادثة إسقاط المقاتلة الروسية قواعد الاشتباك التركي – الروسي في سورية إلى مرحلة جديدة تطال مختلف أوجه العلاقة بين البلدين، فالاقتصاد الذي هو عامل أساسي في هذه العلاقة، بدا هو العامل الموجع للطرفين في الذهاب إلى التصعيد أكثر واحتمالات المواجهة، لكن من الواضح أن دور هذا العامل بات مرتبطا بطبيعة الرد الروسي الذي أخذ شكل التدحرج في فرض العقوبات على تركيا، فروسيا وعلى لسان فلاديمير بوتين عدت الحادثة طعنة في الظهر من قبل دولة داعمة للمجموعات الإرهابية، وميدانيا ذهبت إلى تصعيد استهداف الفصائل السورية المرتبطة بتركيا ولاسيما تركمان سورية التي باتت تركيا ترفع راية الدفاع عنهم، واللافت هنا، هو التلويح الروسي بالورقة الكردية وتحديداً حزب العمال الكردستاني من خلال الدعوات الكثيفة لهذا الأمر في الصحافة الروسية في الفترة التي أعقبت إسقاط مقاتلتها، إذ تمت مناقشة هذا الأمر للمرة الأولى في مجلس الدوما الروسي. في المقابل، عملت تركيا على مستويين: الأول: محاولة استيعاب الغضب الروسي من خلال التأكيد على علاقة الجوار التاريخية والمصالح الاقتصادية الضخمة المشتركة بين البلدين مع التلويح الدائم بامتلاك تركيا لأوراق القوة في مواجهة روسيا. والثاني: تفعيل الأوراق الخارجية والداخلية في المعركة، خارجياً في محاولة جلب الأطلسي إلى موقع المعركة من خلال بندي الرابع والخامس من ميثاق الحلف على اعتبار أن البندين ينصان على مواد مشتركة للدفاع عن الدول الأعضاء في الحلف، وعلى الأرض في تعزيز الحشد العسكري على الحدود مع سورية استعداداً لسيناريوهات التصعيد المحتملة، وقد ترافق كل ذلك مع تعبئة داخلية تمثلت في رفع راية الدفاع عن تركمان سورية واستخدام ورقة مضيقي البوسفور والدردنيل في وجه السفن الروسية مع أن القانون الدولي الذي لا يسمح لتركيا باستخدام هذه الورقة إلا في حالة الحرب كما نصت اتفاقية مونترو عام 1936. من الواضح، إن قواعد الاشتباك الروسي – التركي بعد إسقاط الطائرة الروسية المقاتلة باتت بالنار، فروسيا التي ألقت بثقلها العسكري في هذه المعركة قد تذهب إلى تصعيد متدحرج ضد تركيا ومن خلال فرض سياسة الأمر الواقع لإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، فيما تركيا الباحثة عن إسقاط النظام السوري تبدو في مواجهة صعبة، في ظل قناعتها، بأن جل سياسة حليفها (أي الحلف الأطلسي) يقوم على استيعاب مسار التصعيد الروسي لا أكثر، وهي في سبيل تغير الموازين تسعى إلى إقامة تحالف مع الدول العربية الخليجية ولاسيما السعودية وقطر، ومحاولة التنسيق مع الدولتين لتعويم الائتلاف السوري كما اتضح ذلك في مؤتمر رياض للمعارضة السورية، إذ أن معظم الفصائل التي شاركت في هذا المؤتمر كانت محسوبة على الائتلاف والجماعات الإسلامية المسلحة المرتبطة بالسعودية وتركيا فيما استبعدت فصائل أساسية موجودة على الأرض ولاسيما حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، وقد قيل إن تركيا كانت ضغطت على السعودية لاستبعاد هذا المكون الهام من المؤتمر. في المحصلة، فإن سياسة تركيا هذه، تبدو وكأنها باتت مولدة للأزمات في المنطقة، ومفجرة للصدامات مع دول الجوار الجغرافي، وهو ما يشي عكس السياسة التركية المرتجاة في التطلع إلى الانفتاح على دول الجوار الجغرافي، ولعل علة السياسة التركية هنا، هي أنها تقوم على عاملين صدامين: الأول: الحضور القوي للبعد الغربي الأطلسي في السياسة الخارجية التركية تجاه المنطقة، ومثل هذا البعد ليس بجديد في سياسة تركيا، إذ أن هذه السياسة باتت محركا لسياسات أنقرة منذ الانضمام التركي المبكر للحلف الأطلسي عام 1952 ومحاولة القيام بدور الشرطي الغربي في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق ومنذ ثم الدول الإقليمية في المنطقة. الثاني: إن الطموحات التركية الإقليمية المستمدة من الأحلام التاريخية التي تمزج بين العثمانية الجديدة والمصالح الاقتصادية والسياسية، تضعها في صدام مع دول الجوار الجغرافي، نظراً لأن مثل هذه التطلعات تكون عادة على حساب هذه الدول وتطلعاتها ومصالحها، بما يعني زيادة عوامل الانقسام والتوتر، وبالتالي انفتاح المنطقة على احتمالات الصدام، ولعل ما يجري بين روسيا وتركيا يفتح جروح التاريخ وصدام الاستراتيجيات وتضارب السياسات إلى حد المواجهة المتعددة المستويات، ليبقى السؤال: هل ستواصل تركيا سياساتها هذه دافعة بالمنطقة إلى أبواب الانفجار أم أن ما جرى قد يشكل بمثابة دق جرس الإنذار لمراجعة سياسة تضع مستقبل المنطقة ومصالح دول المنطقة بعين الاعتبار؟ كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*) |
||||||