|
|||||||
|
الممارسة العمليَّة للمنتمين إلى أيّ عنوانٍ لا ترسُم صورَةً عن أصحابها فحسب، وإنّما ترسم صورةً عن الإطار الّذي ينتمون إليه، بكلّ ما يختزنه من مفاهيم وقيم ورموز. فعندما نذكر الغربَ على سبيل المثال، فإنَّ الصّورة التي تختزنها الشعوب الفقيرة، هي أنَّ الغرب غنيٌّ ومتحضّر ويمتلك النظام والقوّة والتقدّم التقني والعلمي، وأنّ دينه هو المسيحيّة وما إلى ذلك، وعندما نذكر الشرق مثلاً، ينساق إلى ذهن الكثيرين التخلّف العلمي والتقني والأنظمة القمعيّة والتعصّب الديني وغير ذلك. وعندما نذكر أيَّ دينٍ، فإنَّ الممارسات التي يقوم بها المتديّنون به، تنعكس على صورة الدين نفسه في أذهان الآخرين المتأثّرين بتلك الممارسات؛ وهذا ما يبدو واضحاً وجليّاً في ارتباط اليهوديّة بالحركة الصهيونيّة واحتلال فلسطين، بحيث أصبحت اليهوديّة – التي هي دينٌ سماويٌّ – مرتبطة بالقتل والتّدمير والاستكبار، وبكلّ الفظائع التي تصيب الفلسطينيّين والعالم العربي والإسلامي.. وكذلك عندما نتحدَّث عن المسيحيّة التي التصقت بالحروب الصليبيّة، أو عندما تلتصق بالمشروع الغربي الاستعماري، فإنّ سلبيّات ذلك الارتباط تنسحب على المسيحيّة كدينٍ وهويّة، ليس إلّا لأنَّ مسيحيّين انخرطوا عمليًّا في هذا السلوك الاستعماري، بمعزلٍ عن كون المسيحيّة – كدينٍ - قد لا ترضى بذلك. هذا اللّون من ألوان التّعميم ليس بدعاً من منهج البشر في التّعامل مع الأمور؛ ولاسيَّما أنّ المشاعر والأحاسيس تمثّل أبواباً واسعةً لإضافة معانٍ وتثبيتها لم تكن أصلاً جزءاً من المفهوم الّذي نتناوله؛ فالذّهن دائمًا ينزع نحو التَّعميم، ويتجاوز محدوديَّة التّجربة إلى فضاء المفهوم الواسع، فبدلاً من أن يكون بعض الغرب على ما أشرنا إليه، يصبح الغرب كلّه كذلك، وتضيع عندئذٍ أيّ صورةٍ مخالفةٍ لتلك الصّورة المشار إليها، وإذا كان الشّرق على صورة أخرى، فليس كلّه كذلك، لكنَّ التعميم ينمّط الصورة ويسحبها على كلّ منتمٍ إلى عنوانها، وكذلك بالنّسبة إلى اليهوديّة أو المسيحية، مع أنَّ في الغرب يهوداً غير صهاينة، وإن كانوا قلّة، والمسيحيّة كدينٍ لا تنسجم مع الحركة الاستعماريّة حسبما تعلن أدبيّات المنتمين إليها وخطابهم. وانطلاقاً من ذلك، لا ينبغي علينا كمسلمين أن نُفاجَأ بنظرة الآخرين السلبيَّة إلى الإسلام؛ بل وليس علينا أن نُصدَم عندما نلمح صورة النبيّ الأكرم(ص) على شاكلة الرسوم الكاريكاتوريّة المسيئة، ولا حتّى تلك التي تعكسها بعض الكتابات، كالتي ألّفها سلمان رشدي؛ لأنَّ الإسلام هو ما يقدِّمه المسلمون، سواء ما يقدِّمونه هم بشكلٍ مباشر، خطاباً أو سلوكاً، أو ما يقدِّمه الإعلام عنهم ممّا يريد أن يختزل المسلمين به لأكثر من غايةٍ وهدفٍ ليس هنا مجال بحثها؛ وعندما نريد لتلك الصّورة أن تتغيّر، فينبغي سلوك الطريق نفسه الذي أنتج الصّورة السابقة وثبّتها، لتحلَّ الصّورة الجديدة من خلال المسار نفسه والطريقة ذاتها. التطرّف العنفيّ وصورة الإسلام استناداً إلى ما تقدَّم، فإنّ التحدّي الخطير الذي يدخل ضمن ما نحاول الإشارة إليه في هذه المقالة، هو الحركات العنفيّة الإجراميّة التي تنتمي إلى المجال الإسلامي، وتنسب نفسها إلى الإسلام، وتتوسَّل لشرعيّة أفعالها بآياتٍ من الكتاب، أو بأحاديث من السنّة، أو بأفعالٍ قام بها السّلف من المجتمع الذي يُفترَض أن يكون الممثّل الأقرب إلى الإسلام، بحسب نظرة هذه الحركات، أو حتّى الوجدان العامّ للمسلمين الّذين ينظرون إلى الحقبة الأولى على أنّها الأكثر صفاءً وتجسيداً للإسلام ككتلةٍ واحدة، من دون العمل على دراسة كلّ مفرداتها التي تتنوّع كما يتنوّع أفراد أيّ مجتمعٍ في قابليّاتهم وتجسيداتهم للمبدأ الذي ينتمون إليه بمستويات مختلفة.. المشهد الذي تعرض فيه "داعش" سيناريوهات إعدام فائقة الجودة من حيث الصورة والتقنية والإخراج والمؤثّرات، لا يعكس صورة جماعةٍ عنفيّة فحسب، وإنّما يراد له أن يعكس صورة المسلم عموماً، تبعاً للآليّة التي يعمل بها الذهن وتتحرّك بها الشعوب، انطلاقاً من الرّبط بين السلوك والصّفة الإسلاميّة، وبين آياتٍ مجتزأة من القرآن، أو أحاديث غير ثابتة سنداً أو مناقش فيها دلالةً من السنّة. وإذا كان النبيّ(ص) هو المسلم الأوَّل، كما أشار إلى ذلك تعالى: ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾(1)، فإنَّ هذه الممارسات ستعكس حكمًا صورةً للنبيّ(ص) ولو بنسبة ما. نقول "بنسبة ما"؛ لأنَّ هذه النسبة تزيد وتنقص تبعًا للذهنيّة المسبقة التي يختزنها كلّ شعبٍ عن النبيّ(ص)؛ ومن البديهيّ حينئذٍ أن تصبح هذه النّسبة عاليةً لدى شعوبٍ لا يعنيها النبيُّ(ص) ولا الإسلام كثيرًا، فضلًا عن تلك التي تختزن صورةً سلبيّةً عن النبيّ(ص) والإسلام والمسلمين. وربّما من المهمّ أن نلتفت إلى نقطةٍ حسّاسة، وهي أنَّ هذه النّسبة قد تزيد حتّى عند مسلمين يعيشون في قلب المجتمع الإسلاميّ، وذلك مع وجود حالةٍ من الجهل لدى هؤلاء عن إسلامهم، وتعرُّضهم – في شكلٍ مباشر أو غير مباشر- لتأثيرٍ ثقافيٍّ معادٍ للإسلام، ولو على طريقة ضخّ الإشكاليَّات والأسئلة في ذهن النَّاس من دون أجوبة، وعندما تأتي حركةٌ عنفيَّة تسند أفعالها الوحشيَّة إلى نصوصٍ مجتزأة من سياقاتها، أو إلى فهمٍ مغلقٍ للنَّصّ الديني، فإنَّ مثل ذلك قد يشكّل صدمة عنيفة للمسلمين غير المحصّنين بقاعدة فكريّة صلبة، تستطيع أن تفرّق - لا فكريّاً فحسب، وإنّما نفسيّاً أيضاً – بين الإسلام وفهمه، وبين الفكر المطلق والنّسبي في فهمه، فضلًا عن التّفرقة بين النظريّة وتجلّياتها في تطبيقات الناس، في سلوك هذا الفرد أو هذه الجماعة... إنَّ الالتفات إلى هذه النقطة من شأنه أن يمنحنا بعضاً من الوضوح في النظرة إلى تأثيرات هذه المشكلة في واقعنا الداخلي؛ لأنّنا غالباً ما قد نهرب إلى إلقاء اللائمة على الخارج ومؤامراته، من دون أن نلتفت إلى أنَّ ثمة عناصر داخليَّة هي التي أفسحت في المجال أمام الخارج ليحقِّق مؤامراته وينفِّذ خططه!. الحدث وتفعيل الفكرة ولعلَّنا نفتح قوسين هنا لنقول: إنَّ الخطاب الإعلامي والسياسي الّذي حاول جاهداً أن يؤكِّد صورةً سلبيّةً للإسلام أو المسلمين، يمكن أن يكون محدود التّأثير في ذهنيّة النّاس، أو في دائرة الشكّ من قبلهم على الأقلّ، طالما يستغرق الناس في مفردات حياتهم اليومية، فالإنسان الغربي – مثلاً – المستغرق في عمله من الصّباح إلى المساء، لا يهمّه كثيراً أن يحلِّل ويناقش أفكاراً مجرَّدة عن المسلمين مثلاً؛ لأنَّ الأفكار مهما كانت سلبيّةً، ستستحوذ على اهتمام فئةٍ من النّاس، أو على مساحةٍ جزئيَّة من حياة النّاس؛ لأنّها ليست من الأولويّات لديهم؛ بل قد يكون الدّينُ – أيّ دين – خارج دائرة الاهتمام.. باختصار: إنَّ الإسلام لا يمثّل أولويّةً حيويّةً لهؤلاء طالما لا يفرض نفسه على واقع حياتهم. ولكن عندما تهاجمُ جماعةٍ من المسلمين نمط الحياة الغربيَّة، وتهزّ أمن المجتمع في الغرب، ومصالح الدَّولة ومؤسَّساتها، فإنَّ من شأن هذا السّلوك أن يستدعي إلى الذِّهن العامّ كلّ تلك الأفكار المجرَّدة التي لم تكن ذات أهمّيّة سابقًا، وربّما بقيت في دائرة التَّشكيك لدى ذلك المجتمع، لتصبح بين ليلةٍ وضحاها صورةً ثابتة، وأحكاماً راسخةً عن كلِّ المسلمين؛ لأنَّ الخوف عاملٌ مساعدٌ على تعميم الصّورة على العنوان الإسلاميّ؛ إذ ليس من شأن الشّعوب عادةً الغوص في التَّحليل وتلمّس ما وراء الأحداث، والوقوف عند ميزان العدالة المقتضي لعدم تعميم الصّورة على العناوين، وقصرها على الأفراد الّذين قاموا بالفعل الإجرامي والسيِّئ مبرزين صورتهم في ذلك. ولعلّنا نفهم هنا جيّداً سرعة انتقال مجتمعات في أوروبّا والولايات المتحدة الأمريكيّة نحو خطابٍ إقصائيّ للمسلمين، أقلّه أنّه يلقى آذانًا تتقبَّله على الرّغم من تجذّر قيم حرّية الدين والتّعبير وقبول الآخر وغيرها في المجتمعات الغربيَّة. من هنا، للشكّ أن يذهب بعيداً في ذهنيّة المؤامرة وراء نشوء هذه الحركات الإسلامية المتطرّفة والعنفيّة، وإفساح المجال أمام تمويلها وحركتها عبر الحدود؛ ليجعلها – أي المؤامرة - تبدو قريبةً إلى الواقع، وخصوصاً عندما تتشابك خيوط الصراعات الدوليّة والإقليمية، ويرى الإنسان بوضوح حجم الدّعم الذي تتلقّاه هذه الجماعات من دولٍ كبرى وغنيّة، وقد تكون جزءاً من أحلاف دوليّة لها مطامع في ثروات العالم الإسلامي، ومصالح في استمرار واقعه المتأخّر على أكثر من صعيد... فإنّ أيّ سيناريو لا يكتمل من دون إيجاد حقلٍ دلاليّ يستند إلى أفعال مؤثّرة، كالّتي نشاهدها لدى تلك الحركات الإجرامية المنغلقة، ويتحرّك بسرعةٍ فائقة القياس، بحيث لا يدع مجالاً لأيّ حالة تروٍّ أو عقلانيّة لتضبط ردود الفعل على أرض الواقع، تماماً كالذي يفقد توازنه بضربةٍ معيّنة، فإنّ تسييره إلى أيّ جانبٍ سيكون حينئذٍ أمراً فائق السهولة!. لا نريد هنا الاستغراق في ذهنيّة المؤامرة على عالمنا العربي والإسلامي، وإن كان من السذاجة أن ننفي ذلك؛ لكنَّنا أشرنا إلى أنّ واقعنا واقعٌ مغرٍ للمؤامرات، بسبب تراكم الكثير من نقاط الضعف، والتي انعكست حتّى على الصورة التي نبرزها للنبيّ الأكرم (ص)، والتي يفترض أن تعكس صورة المسلم الأوَّل والكامل. ولعلّنا نشير هنا إلى عدَّة عوامل ساهمت في إيجاد بيئة مؤاتية لمعطياتٍ قد تساهم في رسم صورة سلبيّة للنبيِّ(ص)، لا نسوقها كنهائيّاتٍ مبرمة، وإنّما لتحفيز التفكّر حولها، وقياس مدى تأثيرها في تلك الصّورة والذّهنيّة التي تتقبَّلها: العامل الأوَّل: الصِّراع السياسي إنَّ تاريخنا الإسلاميّ مليء بالصِّراع على السّلطة، ولاسيَّما أنَّ الخلافة الإسلاميَّة ابتعدت عن قيم الإسلام، لتتحوَّل في بضع عشراتٍ من السِّنين إلى ملكٍ عضود، يتمّ توارثه على أساس العصبيَّة القبليَّة، دونما اعتبارٍ لقيم السياسة وأخلاقيَّاتها والأهداف الكبرى للاجتماع الإسلاميّ... كلّ ذلك من شأنه أن يلقي بظلاله على مسألة الشَّرعيَّة التي يحتاجها الحاكم الّذي ينسب نفسه إلى الإسلام من دون أن يملك معاييره، وهو – بطبيعة الحال – لا يتمكَّن من البروز للنّاس علنًا في موقفٍ مضادّ للإسلام، ولذلك فإنَّ الحلَّ الأنسب هو النّفاذ إلى النّاس من خلال الإسلام نفسه، فيتمّ ابتداع قيمٍ جديدة، واختراع أحداثٍ ومواقف تنسب إلى النبيّ(ص) أو إلى المجتمع الإسلامي الأوَّل من أهل البيت أو الصحابة، بحيث يكون إفشاؤها بين النّاس كفيلًا بإعطاء الشرعيَّة لأيّ سلوكٍ تمارسه السلطة لمصالحها الخاصَّة، ولكن تحت عناوين إسلاميّة يضادُّ مخالفُها الله في عرشه!. عندما أبرزت داعش لنا مشهد الطيّار الأردني وهو يُعدَم حرقًا مسجونًا في قفصٍ حديديّ، ليثور الجدل مباشرةً عن أنَّ الجيل الأوّل من الصّحابة أو من أهل البيت، قد قاموا بالإعدام حرقًا، فقد أحرق أبو بكر الفجاءة، وأحرق عليٌّ قوماً قاموا بتأليهه!. والّذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا: إنَّنا عندما لا نتقبَّل هذا المشهد والسلوك من داعش، فهذا يضعنا أمام مشكلةٍ في تديّننا! ألا يقال لنا حينئذٍ إنَّ داعش تطبّق الإسلام، وأنتم تريدون أن تفرضوا على الإسلام القيم التي أتت بها ثقافات وشعوبٌ أخرى! لتصبح عندئذٍ الموازنة بين داعش الممثّل الحقيقيّ للإسلام(!) وبين كلِّ المناوئين لها، مدعومًا هذا التّمثيل بكلّ أجهزة الإعلام والمخابرات وأبواق السلطة والجهلة من رجال الدّين وخطباء المنابر وأصحاب الأقلام؟!.. ثمّ يقال لنا إنَّ محمّداً الذي تقولون عنه إنّه (رحمة للعالمين)(2)، لا يؤمن بحرّية الرأي، ويناقض نفي الإكراه في الدّين(3) الّذي جاء في القرآن، ولذلك يقتل المرتدّ الّذي يقتنع بدينٍ آخر، أو بخيارٍ آخر، وعلى هذا كلّ نظريّات فقهاء المسلمين، من كلّ المذاهب الإسلاميّة!. ونحن لا نريد الخوض في تحقيق صحّة هذه الرّواية أو نقاش ذلك الحكم، ولكنَّنا نقول إنّ علينا أن ندرس تلك الروايات في سياقات تاريخيّة، ربّما كانت تحتاج فيها السلطة السياسيّة التي تنسب نفسها إلى الإسلام، إلى أن تخترع أحداثاً أو تغيّر في بعض تفاصيلها، لتجعل الشرعيّة للسّلطة أن تقتل المرتدّين، وليس أسهلَ حينئذٍ من إثبات الصّفة ليثبت الحكم، ويسكت النّاس عن أمرٍ يمثّل شرع الله وحكمه في عباده! هذا إذا لم ينخرطوا هم في تنفيذه!. نورد هذا الأمر كسياقٍ محتملٍ للتّأثير في حركة الأفكار والروايات، وهو أمرٌ اختبرناه في العلاقة بين السياسة والفكر، ممّا يحتاج إلى أن يتوفَّر عليه الباحثون في التاريخ والاجتماع وما إلى ذلك، ومن الطبيعي أنَّ هذا يفرض علينا إعادة النّظر في قراءة الأحكام في سياقاتها التاريخيّة، لا بمعنى أن نجعل تلك الأحكام مقصورةً على حقبةٍ زمنيّة معيّنة؛ فإنَّ "حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة"(4)، بل إنّ قراءة الأحداث في سياقاتها تلك قد تلفتنا إلى معطيات موضوعيَّة تجعلنا أقدر على فهم النصّ، أو تحديد سعة دلالاته، أو حتّى قياس مدى صحَّة صدوره، بما لا تمنحنا إيّاه القراءة المجرّدة للنّصوص. العامل الثّاني: التّنافس المذهبي لقد راكمنا كمسلمين أربعة عشر قرنًا من التّنافس المذهبي، حيث لا يمكننا غضّ النّظر عن عمليَّة إثبات الذّات المذهبيَّة أمام الآخر في كلّ ذلك السياق التاريخي، بما أثّر – في شكلٍ وآخر - في الفكر الإسلاميّ لدى أتباع هذا المذهب أو ذاك، وما يعنينا هنا هو انعكاس ذلك على صورة النبيّ (ص). لو أخذنا – على سبيل المثال – النّماذج الآتية: 1- جاء في تفسير القمّي(5): "وأمَّا قوله عزّ وجلّ: ﴿إنّ الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرّاً لكم بل هو خير لكم﴾، فإنّ العامّة – والمقصود بهم أهل السنّة - روت أنّها نزلت في عائشة وما رُميت به في غزوة بنى المصطلق من خزاعة، وأمَّا الخاصّة – أي الشيعة - فإنّهم رووا أنّها نزلت في ماريّة القبطيّة وما رمتها به عائشة"، وروى في ذلك رواية عن الإمام محمّد الباقر(ع) أنّه قال: "لمّا هلك إبراهيم بن رسول الله(ص)، حزن عليه حزناً شديداً، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلا ابُن جُريح! فبعث رسول الله(ص) عليّاً وأمره بقتله، فذهب عليٌّ ومعه السّيف، وكان جُريح القبطيّ في حائطٍ، فضرب على باب البستان، فأقبل جُريح له ليفتح الباب، فلمَّا رأى عليّاً عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان، فوثب عليٌّ على الحائط ونزل إلى البستان واتّبعه، وولّى جريح مدبراً، فلمَّا خشي أن يُرهقه، صعد في نخلة وصعد عليٌّ في أثره، فلمّا دنا منه، رمى بنفسه من فوق النّخلة فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرّجال ولا له ما للنّساء، فانصرف عليٌّ إلى النبيّ(ص)، فقال له: يا رسول الله، إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمّى في الوبر أم أثبت، قال: لا بل تثبت، قال: والّذي بعثك بالحقّ، ما له ما للرّجال وما له ما للنّساء، فقال: الحمد لله الّذي صرف عنّا السوء أهل البيت"(6). ولستُ أدري كيف يُمكن لعاقلٍ أن يقبل رواية كهذه، يأمُر فيها النبيُّ(ص) عليّاً بأن يقتلَ شخصاً على التّهمة؛ والحال أنَّ الرواية تشي – بحسب نهايتها – أنَّ دافع عائشة لاتّهام ماريّة هو الغيرة التي تحصل بين الضّرائر عادةً. وبغضّ النظر عن صحّة ذلك، فكيف للنبيِّ(ص) أن يسارع إلى إصدار حكم القتل في مسألة شخصيّةٍ، وهو الّذي قال: "إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان"(7)... لسنا هنا في مقام الحديث عن قضيّة الإفك، فقد كتب فيها العلماء، ومنهم علماء الشّيعة الإماميّة، الكثير(8)، وإنّما أردتُ الإشارة إلى شاهدٍ على إمكانيّة دخول العامل المذهبي على خطِّ تقبّل الروايات من دون الوقوف على مضامينها بدقّة، بما قد يسيء إلى رسول الله(ص). 2- ما روي عن عبد الله بن أبي سعيد المزني عن حفصة ابنة عمر بن الخطاب قالت: كان رسول الله(ص) ذات يوم قد وضع ثوباً بين فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن، فأذن له وهو على هيئته، ثمّ عمر بمثل هذه القصّة، ثمّ عليّ، ثمّ ناسٌ من أصحابه، والنبيُّ(ص) على هيئته، ثمّ جاء عثمان فاستأذن فأذن له، فأخذ ثوبه فتجلَّله، فتحدّثوا ثمّ خرجوا. قلت – والكلام لحفصة حسب الرواية - يا رسول الله، جاء أبو بكر وعمر وعليٌّ وسائر أصحابك وأنت على هيئتك، فلمّا جاء عثمان تجلَّلت بثوبك، فقال ألا أستحيي ممّن تستحيي منه الملائكة؟!(9). كيف يُمكن أن يمرَّ الذّوق السليم على مثل هذه الرّواية من دون أن يشكّ فيها؟! وهل يكون إثبات منقبةٍ للصحابيّ عبر الإساءة إلى حياء رسول الله؟!. لا نريد الخوض حقيقةً في تحليل الرّواية، بقدر ما أردنا الإشارة إلى أنَّ العامل المذهبي قد يكون وراء اختراع مثل هذه الروايات وتقبّلها بحسب الذهنيّة العامَّة. 3- في الرواية عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنّه قال: "لما توفى عبد الله بن أبي، دعا رسول الله(ص) للصّلاة عليه، فقام إليه، فلمَّا وقف عليه يريد الصّلاة، تحوّلْتُ حتى قُمتُ في صدره، فقلت: يا رسول الله! أعَلى عدوّ الله عبد الله بن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا - يعدّد أيامه – ورسولُ الله(ص) يتبسَّم، حتّى إذا أكثرتُ عليه قال: أخِّرْ عنّي يا عمر! إني خُيّرتُ فاخترتُ، وقد قيل: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾. لو أعلم أنّي إن زدتُ على السَّبعين غُفر له لزدتُ. ثمّ صلَّى عليه ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه. قال عمر: فعجبٌ لي وجراءتي على رسول الله(ص)، والله ورسوله أعلم! فوَ الله ما كان إلا يسيراً، حتى نزلت هاتان الآيتان: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾، فما صلّى رسول الله(ص) بعده على منافقٍ، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عزّ وجلّ"(10). وهذا نموذج من الروايات التي لا يمكن أن تمرَّ دون نقاشِ متنها، ومن الممكن أن يتقبّلها الواقع المشبع بالتّنافس المذهبيّ، والذي يهيّئ الأرضيّة لسرعة قبول كلّ ما من شأنه أن يمثّل منقبةً لرموز المذهب، من دون أن يلتفت ذلك الذّهن إلى لوازم القبول بالنّسبة إلى الشخصيّة المقدَّسة الأولى، وهي شخصيّة النبيّ(ص). إنَّ الرّواية الآنفة لا تتناول مسألةً فقهيّةً فرعيّةً كانت مجهولةً قبل نزول الآية، وإنّما تمسّ حكمة النبيّ(ص) وموقعه في كونه المعلّم للنَّاس ما يرد في القرآن؛ فإذا به – حسب الرّواية – يستشهد بآية الاستغفار على التّخيير، مع أنَّ لسانها ليس كذلك، وإنّما هي في مقام نفي المغفرة من الله، والتّعبير ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ يفيد معنى أنَّ الاستغفار في حقّ هؤلاء كعدمه؛ لأنّهم لا يملكون قابليَّة الحصول على المغفرة. إنّنا إذ نطرح هذه النّماذج، فلكي نشير إلى ضرورة التوقّف مليّاً عند تراثنا الحديثيّ، ونقد متن الحديث الّذي قد يكون طرحُه في بعض الأحيان ألزمُ من تأويله بتأويلات لا تصمد أمام النقد ولا يقبلها الذوق السليم ومنطق الأمور. وهناك عوامل أخرى عديدة، منها الصّراع بين أتباع الديانات، والتي دخل من خلالها ما اصطلح عليه بالإسرائيليّات، والتي جاء كثيرٌ منها مشوِّهًا لصورة النبيِّ (ص) والقرآن الكريم. وربّما يكون من ذلك ما سردته قصّة المبعث، من عدم معرفة النبيِّ(ص) بأنّه رسول الله إلا عندما جاء إلى خديجة، ومن ثمّ أرسلته إلى عمِّها ورقة بن نوفل الّذي أكّد له ذلك! والرواة يروون ذلك كما يروون القصص الشعبيّ دونما تدقيقٍ وتمحيصٍ في الدّلالات على طبيعة الموقف، وضرورة وعي النبيّ لدوره النبويّ من الله، لا من خلال البشر!(11). انطلاقاً من كلِّ ما تقدَّم، فإنّنا نرى من الوفاء لرسول الله (ص)، ولاسيّما في هذا العصر الذي انتشر فيه العلم، واتّسعت فيه وسائل الاتّصال والتّواصل بين أرجاء العالم، وكثرت فيه الشّبهات والتحدّيات الفكريّة، وبات انطواء كلّ جماعةٍ على شيءٍ من بضاعة علمٍ مزجاةٍ أمراً أقرب إلى الانتحار منه إلى المحافظة على الهويّة... نرى أنّ من الوفاء أن تضطلع الأمّة بالعمل على عدّة مسارات للتأكّد من الصورة الأقرب تمثيلاً إلى صورة رسول الله (ص): المسار الأوّل: الرجوع إلى المصدر المعصوم، وهو القرآن الكريم، الذي عكس تأريخ المسيرة الإسلاميّة في كلّ حياة النبوّة، ومن خلال ذلك، عكس صورةً للنبيِّ(ص)، في شكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر؛ وإنّنا نرى هنا أنَّ هذه الصورة التي أكَّدها القرآن الكريم، لا بدَّ من أن تشكّل القاعدة التي تضبط كلّ ما يرد من السّيرة والتّاريخ المرويّ؛ لأنَّ التّاريخ المرويّ إذا ناقض القرآن وخالفه، كان ذلك طعنةً للنبيّ(ص) بين قومه، ولاسيَّما أمام أعدائه الّذين كانوا يتربّصون به الدّوائر، ويتحيّنون الفرصة للإمساك بأيّ زللٍ لا ينسجم مع ساحة النبوّة، وطبيعة الرّسالة. إنَّ السيرة النبويّة من خلال القرآن الكريم هي المدماك الأساس في كتابة تاريخ الرّسول، وبيان ملامحه الشخصيّة والمنهجيّة والحركيّة، ومن دونها، ستكون المرويّات والمنقولات التاريخيّة بلا ضابط معياريّ، وقد تدخلنا في دهاليز مظلمة صنعتها أيدي العابثين من أعداء النبيّ(ص) ورسالته. المسار الثاني: الحراك العلمي النقدي الذي لا يختصّ بمجالٍ دون آخر، بل لا بدّ من أن يشكّل حركةً نهضويّةً تختبر كلّ أدوات التفكير والبحث العلميّين، استنادًا إلى الخبرات المتراكمة على مدى القرون السابقة إلى عصرنا الحاضر، بكلّ إسهاماته الإنسانيّة أيضًا في مجالات العلوم كافّة. المسار الثّالث: وعي أهمّية محاصرة التيّارات العنفيّة، عبر تجفيف منابع حياتها، سواء منها الفكريّة أو الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة، وهذا – بطبيعة الحال – جزءٌ من مسار نهوض الأمّة؛ لأنّ هذه التيّارات استطاعت أن تنسف جهود العلماء والمصلحين، وأن تضرب إنجازات الأمّة في تاريخها وحاضرها، وما تزال تدفع الأمّة نحو المزيد من الخسارة على كلّ المستويات. إنّ المسألة هنا ليست مسألةً هامشيّةً في حسابات الإسلام، ولا قضيّةً مذهبيّةً في صراع الهويّات، ولا قضيّةً سياسيّةً تدخل في تجاذبات الدول والجهات السياسيّة. إنّ المسألة هنا هي مسألة ترتبط بمعوّقات حقيقيّة للنهوض الحضاري؛ أن نكون أمّةً أو لا نكون! فإنّ الأمّة التي تنتج عناصر تفجيرها من الداخل، لن تكون قادرةً على السّير قدمًا في ركب الفاعليّة الحضاريّة. وأخيراً، قيمة الذّكريات الإسلاميّة، ومنها ذكرى المولد النبويّ الشّريف، أنّها محطّات تذكيريّة بمسؤوليّاتنا تجاه صاحب الذكرى وما يمثّل، بما ينعكس إعادة تصويبٍ لمسارنا في حركة مسؤوليّاتنا عن الإسلام، فكراً ومنهج حياة، في حاضرنا وللأجيال الآتية من بعدنا؛ والله من وراء القصد. هوامش 1- سورة الأنعام: 163. 2- سورة الأنبياء: 107. 3- ذلك قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، سورة البقرة: 256. 4- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص58، ح19. 5- وهو من المصادر التفسيريّة المتداولة في المجال الإسلامي الشيعي، وهناك جدلٌ حول صحّة سندها. 6- الشيخ الحويزي، تفسير نور الثقلين، ج3، ص582. 7- الكليني، الكافي، ج7، ص414، ح1. 8- راجع على سبيل المثال: كتاب تنزيه زوجات الأنبياء عن الفاحشة، حسين أحمد الخشن، المركز الإسلامي الثقافي، بيروت، لبنان. 9- مسند أحمد، ج6، ص 288. 10- مسند أحمد، ج1، ص 16؛ سنن الترمذي، ج4، ص342. 11- راجع: قضايانا على ضوء الإسلام، محمد حسين فضل الله، دار الملاك، بيروت، لبنان، ص193. |
||||||