المنفى والغربة عند بعض شعراء اللجوء الفلسطينيين في لبنان

السنة الخامسة عشر ـ العدد 169 ـ ( صفر ـ ربيع الأول 1437 هـ) كانون الثاني ـ 2016 م)

بقلم: هيثم محمد أبو الغزلان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

عندما يعصرنا الألم، وتقتلنا الغربة، يصبح الحنين إلى الأرض، إلى الوطن، جريمة يُعَبَّر عنها بصمت الإبانة، وعبير الشوق، والأمل باللقاء القريب. عندما تصبح المنايا تتخطّفُ الكلَّ عازفة على أوتار الغربة لحن الموت اليومي في ساحة الحنين، وعند حواف الأضرحة، ويباس الشجر الأخضر، نتقاسم الجروح، ويقتلنا الألم، لترتوي الأرض بشواظ العشق وبطهر الفجيعة!!!

هنا، هناك، نناجي القادمات بنبض الشموخ، وتواشيح الظمأ للعيون الذارفة حُرْقة القلوب لزمن يتَّسعُ القادم... والمستحيل. كيف يعبّر شعراء فلسطينيون من لبنان، عن معاناتهم في اللجوء والغربة والرحيل والتمسك بالعودة إلى أرض فلسطين؟

إن المتتبع لما يجود به الشعراء الفلسطينيون، يجد أن عاطفة نبيلة تسكن هؤلاء الشعراء، الذين يعبرون عن وجع الغربة، وألم المخيمات، وأنين الموجوعين في منافي الغربة بحثاً عن بعض أمن أو حياة!!

هو شعر يعبر عن واقع حياة ممزوجة بالألم، والحسرة، والتفجع على فقدان وطن، وفي الوقت نفسه، هو تعبير عن ألم الفراق، والإصرار على العودة. لكأن لسان حالهم يعبر عما قاله الشاعر العراقي عدنان الصائغ: "السماء التي ظلّلت أرضنا والمنافي التي أرّخت جرحنا سأقول لها كلّما طردتني بلاد وساومني صاحب اتكأت على صمتي المرّ أبكي الذي فاتنا".

تكون الكلمات جميلة عندما تُعبّر عمّا يجيش بصدر الإنسان من مشاعر وأحاسيس، وهو ما عبّر عنه الشاعر صلاح عبد الصبور بقوله: ألا ما أشرف الإنسان حين يُعبّر عن أخيه الإنسان..  يُعبّر عن الأحاسيس والتّطلّعات والآمال والخوف والآلام...

باختصار يُعبّر عن حبّ البقاء والاستمرار في هذه الحياة، فالمسألة هنا: "أن نكون أو لا نكون". ـ هاملت من مسرحية شكسبير ـ.

ولهذا فإن الإنسان عندما يُعبّر عن الإنسان، يُعبّر عن نفسه، وعن ضرورة الاستمرار بهذه الحياة مهما كانت صعبة، واعتَقَد البعض باستحالة العيش فيها، فنحن محكومون بالأمل، ـ بحسب سعد الله ونّوس ـ، ولا يُمكن لما يحدث الآن أن يكون نهاية التاريخ.

وبناء عليه، فإن ذلك هو محاولة بسيطة للتعبير عن خلجات النّفس البشرية تجاه أحداث وقضايا تمسّ صميم حياتنا ووجود أمتنا سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان... يقول الشاعر محمود درويش في قصيدته، حالة حصار:

الشهيد يوضح لي: لم أفتش وراء المدى

عن عذارى الخلود، فإنّي أحب الحياة

على الأرض بين الصنوبر والتين

لكنني ما استطعت إليها سبيلاً، ففتشت عنها بآخر ما أملك:

الدم في جسد اللازورد...

إذن، هي محاولة للتعبير عن التّمسّك بهذه الحياة مهما كانت همجية العدوان، وإعاثته للفساد والدمار.. ليكون الجواب ولا يزال "خذوا حصّتكم من دمنا وانصرفوا".  

ـ محمود درويش ـ.

سفر الحكاية

منذ التشريد ونصب الخيام، بات اللاجئ الفلسطيني سفر حكاية اللجوء من أول التشريد، مروراً بالصمود والعذابات المتواصلة، حتى اليقين بالعودة الأكيدة.. وتحولت خيمة اللجوء إلى خيمة للمقاومة، وشكل المخيم حاضنة حقيقية للحلم الفلسطيني ورمزاً من رموز هذا النضال باعتباره شاهداً على أفظع جريمة ارتكبت في حق هذا الشعب المظلوم.

ومنذ نشأة المخيم مرت على أبنائه مآس كثيرة؛ فقر وجوع وحصار وافتقار إلى أدنى شروط الحياة الكريمة، وعلى الرغم من هذا شكلت المخيمات خزان الدم للثورة الفلسطينية المعاصرة منذ انطلاقتها الأولى، وبسبب ذلك كان المخيم الفلسطيني دائماً هدفاً لأعداء الشعب والقضية الفلسطينية.

وفي شعرها ركزت الشاعرة انتصار الدنان على البعد الإنساني والسياسي للقضية الفلسطينية، فسردت في مجموعتها الشعرية (أهداب العودة)، تفاصيل غربة الفلسطينيين على امتداد سنوات النكبة جامعة المأساة والتراجيديا مُعيدة صوغ الواقع بمفردات الماضي وألم الحاضر. فكان شعرها منساباً كجدول ماء؛ يشُقُّ السّهول والوديان، والسباحة فيه كبحرٍ بلا ضفاف.

تقول الشاعرة:

حنين الذاكرة ينده لعناق الفجر

وأهدابي العربية تصهل للنار

وقمحي بيادره غنّت للمرج

والجمر المتأجج في الجسد المتلكئ

نادى.. آه يا قلبي ـ يا رهف الأغنية

يا عذب المغفرة ـ يا حلوة الحنجرة

آه يا وحشتي

واختصرت الشاعرة بكلماتها الغربة والحنين بين الأمس والأمس، ولكنها أيضاً أكدت من بين ثنايا الكلمات الواضحات بمخاطبتها للقدس والرجال/ الرجال القادمين من خلف خيوط الشمس على موعد التحرير القادم.. تقول:

نغنّي

للشوق الهائج بين حنايا النسوة

بين الأمس والأمس

لعيون القدس نغنّي

للعيون النازفة بين المقلتين

بين الدمع الجارف

بين الأنين والحنين

نغنّي

ولرجال الحرية نغنّي ـ ونغنّي ـ ونغنّي

وكتبت الشاعرة عن الأرض/فلسطين، وأطفال غزة، والمركب التائه كغربة الفلسطيني وتيهه المتواصل إلى اللامدى واللاحدود حين قالت: "..ملّت حقائب السفر/ورسائل اللهفة/ ملّت الغربة والترحال/ وموج البحر العالي/ سئمت أوردتها تمرد الحياة/ وانكسار النشوة/...".

لكنها في غمرة هذا التيه واللوعة التي يعيشها الفلسطيني تتساءل بإحدى قصائدها بمرارة: أنا من؟ لتجيب:

أنا الغربة المنسية/ في أزمنة العودة/ أنا الصورة المحفورة/ بأنامل الوحشة/ أنا الرواية الأسطورة/ والكلمة المخطوطة/ بأحلام اللهفة/ أنا الحرية... وتعود الشاعرة لتؤكد على المعنى ذاته:

لحن الهوى تكسّر على أجنحة الورد

وبرد العمر استوى في أروقة الخوف

والحزن سكن أوردتي وعانق صحراء غربتي

والوحشة هاجت على الموج المتكسّر

وتعود لتصرخ في (صدى الرحلة) المتواصلة بالآلام، المسكونة برهبة الخوف من القادم؛ بين انتظارٍ قاتل، أو نسيانٍ بلا ملامح!! فتكتب:

ملوحة البحر تعلك أطرافي الباردة

وهدير الرعد يدقًّ أوتاد سفينتي

... وأكلتني آلام الغربة.

وتؤكد الشاعرة من جديد على المعنى ذاته، والوجع ذاته في (غرباء نرحل):

غرباء نرحل دون عنوان

.... خاوية قبورنا باردة

... ملّت أجسادهم الانتظار

سفينة العمر ترحل

والجسد يشتهي طعم التراب

تراب الوطن.

زينة الغربة

وعلى الغربة وصقيعها والأوجاع التي تخلفها، يتحدث الشاعر الفلسطيني حمزة البشتاوي، في ديوانه (كما لم أكن في الغياب)، في قصيدته (زينة الغربة للورد والنسيان)، فيقول:

أنا الغريب الحالم بالصباحات التي تبدأ بالبسملة

بالماء المعطر بالصنوبر وتفاحتين

ضممت في صقيع الغربة جسدي، لجسدي

والضوء كان لا يكف عن انتشال الحبق

إلى حيز المنام

والمخيم الطافح بقلق الكبريت

وأنين غياب الحمام

كان يطوق أعناق الورد والصبار والخوذات

بشعار رطب وشال ووجدة

كان الغريب، يحمل كعادته مظلة من أغنيات غربته

تقيه أزيز الشتاء والصيف

وهو الذي يأخذ دائماً في حفلة النار والدخان كزائر أو ضيف

فله أن يحمي حكايته من الضجر والحر والغيم

ويصرخ البشتاوي في قصيدته (أُسمّي البلاد منفى وأُسمّيك وطن):

يا نوح البدايات

ويا................ سفر المنافي

ويا انكسارات السفر

ويسأل:

سفر..... ونسأل

ماذا فعلنا يا بحر

لتضيق بنا السفن

ويضنينا السفر

سفر

وتستمر جلجلة السفر

صهيل الأرجوان

أما الشاعر مروان الخطيب، فيعبر في مجموعته الشعرية "صهيل الأرجوان"، عن الغضب والثورة والروح والوثابة. فكانت بلاد الزيتون محوراً يمتد من ليالي الحزن الغاضبة إلى فرح الانتصار القادم يزينه الشهداء؛ ورداً وصوراً ونهجاً لا يحيد؛ يقول: "... فصرخت ملتاعاً، أقول: /آه أيا برقوقة الحقل الرحيب.../ يا دمعة رقراقة قد بثها قلبٌ خصيبْ/يا نغمة في دفئها قد صاهرت، أصداءَ لحن من لحون العندليب.../قد زينت من حسنها تلك الوجوه الغابرة.../ وتدثرت بسنائها تلك العيون الضامرة.../وتقزمت بصفائها تلك النفوس الفاجرة"...

ويُعبّر الشاعر عن آمال شعبه وأمته، فيختار الصراخ بأعلى الصوت، علَّ البعض يسمع، فيستجيب. وكأنه يريد استحضار الرموز الجهادية لتشعل الأرض تحت أقدام الغزاة؛ فيموت ليل الأمة، وتصعد من جديد إلى فجر الانتصار، فيتساءل:

من يرفع ظلماً عن حيفا               عن عكا، عن بحر الأحلام

عن قدس ما برحت تبكي              آثار الذلة والعدوان

ولا يكتفي الشاعر بدعوة أمته إلى النهوض، بل يبين لها ضرر سكوتها عن حقها، ويحثها إلى النهوض لتأخذ مكانها بين الأمم، وتعيد مجد عزتها، فهي لا تستطيع أن تكون إلا بقوتها وحضورها:

كيف النكبات نفصّلها           إن تاهت يافا عن نجران؟

إن باتت أجزائي ثكلى          من سامراء إلى بيسان؟

قومي خنساء من الأكفان  وأريقي ملحاً في الوجدان.

علَّ الخذلان يغادرنا          فتثور الروح على الأوثان.

ويمضي يدلنا على طريق الشمس التي ستشرق يوماً، ويسكب في أعماقنا الروح المشرقة أملاً بالأحلام الندية، ليؤكد أن الفجر القادم سيكون جميلاً:

فتموز الندى آت،/ فتى الأصداف والأبحر،/ يُقِلُّ الغيم في يده،/ وفي عينيه مبخرة،/ وفي عطفيه أرماح وأشواقٌ،/ وفي الترياق من دمه،/ نشيد هادر أبداً لخيل الصبح لا تقهر.

ولا يكتفي الشاعر بصرخته الثائرة التي تدعو الأمة إلى النهوض، بل يتعدى ذلك إلى محاولته طرح أسباب العجز والفشل والإلحاق والتبعية للآخر المتمثلة بالتجزئة:

"بيكو" يخطط والفئران تتبعه         تمزق الستر ثوب السؤدد القَشبِ.

ونكتوي بسياط العَسْفِ ما برحت     تغيب عنا دنا الأبطال في الكتب.

 ويقرر الشاعر هنا أنه مهما بلغت قوة الأعداء إلا أن قوة الحق ستغلب لأنه:

إن ماتت عكا، مات العرش/ إن ضاعت حيفا، ضاع القدس / إن سقطت يافا، سقط الهمس..

ويكتب الخطيب في قصيدة (مشردون) في مجموعته الشعرية (الصعود إلى بلقيس):

مشردون...

قد قرأوا الأسماء كلها،

........

مشردون لكنهم، فوق اليقين موقنون

بالمستحيل آتيا، في كتف الشهادة الزرقاء،

من عرس الدماء الجائبات،

الماخرات في اليم الحنون.

أما الشاعر باسل عبد العال، ابن مخيم نهر البارد، الذي يعيش الغربة عن وطنه ومخيمه أيضا، فيسعى في قصائده إلى بث لوعته وحزنه على فراق الأحبة. فيقول في قصيدته: "السّفر المفاجئ إلى الليل ...!!":

يَمّمْتُ شَطْر اللّيل

حينَ أضاءَ جُرحي جُرحَهُ

روحي وَحُلْمي كالحقائبِ في يَدي

ويضيف: لا تقذفُوني في ظَلامٍ شَاحبٍ

فأنا أَرى ما لا يشعُّ هُناك في أُفقِ الهوى

جرّبْتُ في زَمني

وَمرّ عليّ مَا مرَّ الزّمانُ 

كَأنّني فوق الصّليبِ صَرخْتُ :

"يَا ربّي أغَثْني"

شَاخَ عُشبي،

هَهُنا وقتي القليلُ..

ويتمسك الشاعر عبد العال برؤيته الممتدة من الغربة لتعانق تراب الأرض، مُعبرا عن مدى التمسك بالأرض، فيقول في قصيدته "عَانقيني بالشمسِ والصَّبار":

.. في أَرضِ الأجْدادِ يُعَانقُ قَلبي الأرضَ

كَجاذبِيّةِ حُبٍّ

بَين الأَرضِ وَتُفّاحة قلبي

لا فَرق هُنا

صُور الأطلالِ وَصوتُ الرُّوحِ

يُدَنْدِنُ للروحِ،

هُنا مَسجِدُنا والعُشْبُ

وَحاكورةُ جَدّي،

لَونُ الحجرِ السّاطعُ يَنطِقُ: ذاكَ مَكاني/ذاكَ زَماني..

أوجاع الماء

ويخاطب الشاعر طه العبد البحر فيناجيه قائلاً في كتابه (تضاريس البحر أوجاع الماء):

يا هذا البحر الخاطئ

قيعانك ذبلت..

وأنا لن أذبل فيك

سأعود إلى المرفأ وحدي

أحمل صمتي

وقليلاً من رائحة السمك الطازج

هناك الوطن ومن أعشقها

فلتغرق وحدك، ولتسكر وحدك من خمرك وحدك

أحمل صمتي، فاحمل أنت غيومك وارحل،

واترك جسداً ملقى عند الضفة

غادر نفسك.. كي أتقيأ نفسي

وأُبرّأ كل السمك المهمل

لا تزعجني حين أموت..

لا تزعجني لمّا أقتل..

لا تزعجني.. الليلة أكتب؛ وغداً أُصلب.. في وجع أجمل..

ويكتب العبد (عن النورس والملح وانطلاق الباخرة)، فيقول:

قادم لا تلمني.. فالبحر أكبر من خطوتي الكبرى

وأصغر من مركبي والجياد العابرة..

قدر التشرد!!

وعن "قدر التشرد" يكتب الشاعر ياسر علي في (خلف أسوار الهوى)

وعرفت وجهك يا فلسطيني بات        شكل التشرد فيه من أبهى السمات

فاحمل رحالك فوق كتفك في الدروب       أنخ ركابك حيثما طاب الممات

ليصل إلى:

تذكرها ولا تنســى     ليعشق قلبك القدسـا

دموع العين إن تاهت     ففي مينائها المرسى

 وفي الختام، إن الكثيرين يحاولون قتل الأحلام، واغتيال الذاكرة لتعشش فيها أوهام الخوف القاتل؛ ليجعلونا نركع ونصلي لباطلهم، لظنّهم أن الكل يمكن أن يُمرغوا أنفسهم بأحذية الطغاة، علّهم يحصلون على الرضى... أو على أي شيء من المتاع الزائل. لكن خاب ظنهم فمواسمنا؛ مواسم القمح والتين والزيتون والقطوف الدانية، تتغلغل بنسغ الجرح، بصمت مدوٍّ كالانفجار...

أما الأعداء فسيرحلون عن أيامنا وشهورنا، عن القدس وحيفا وبحر غزة تطاردهم المنايا؛ بسيوفٍ، بقنابلٍ، وبجرحٍ نازف.. وسيبقى الوطن منغرساً في قلوبنا كشجر التين والزيتون وإشراقة صباح.

اعلى الصفحة