|
|||||||
|
"هذا رعب.. باريس تتعرض لسلسلة هجمات إرهابية غير مسبوقة" بهذه الكلمات لخص الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الصدمة الإرهابية أو بالأحرى "العمل الحربي"، الذي عاشته باريس إثر تعرضها لاعتداءات غير مسبوقة ليل الجمعة ـ السبت، جرى التخطيط لها في الخارج، وتم تنفيذها بتواطؤ من قبل عناصر محلية. فعند الساعة العاشرة مساء الجمعة، توجهت سبع مجموعات مسلحة، في وقت واحد نحو أهدافها في باريس، نحو مطعم ومسرح في الدائرة العاشرة والدائرة الحادية عشرة، وبعض الجادات في قلب المدينة، ونحو ملعب "ستاد دو فرانس"، في ضاحية سان دوني القريبة. وأطلقت المجموعة الأولى النار على رواد مطعم كمبودي في شارع "اليبير" في الدائرة العاشرة، وهو شارع سياحي معروف يفضي إلى ساحة الباستيل، وتوجهت مجموعة ثانية من ثلاثة مسلحين، نحو مسرح "الباتاكلان"، وتسللت من الأبواب الخلفية وبدأت بإطلاق النار على رواد يتابعون عزف فرقة روك أمريكية. وأودت هذه الهجمات الإرهابية بحياة 140 شخصاً في آخر حصيلة رسمية فيما جرح نحو 300 آخرين جراءها، بينما أفادت الأجهزة الأمنية الفرنسية عن مقتل 8 إرهابيين من الذين شاركوا في هذه الاعتداءات. لقد تخطت هذه الوحشية الإرهابية في باريس مرحلة تاريخية، وهي من دون شك تأتي كردّ فعل مدروس ومخطط له بعناية على التدخل الفرنسي في الحرب ضد "تنظيم الدولة الإسلامية " - "داعش" في سوريا، لكن من دون إغفال أن الخطر الإرهابي أصبح متجذراً على الأرض الفرنسية. وكانت العاصمة الفرنسية، ـ بل كل فرنسا ـ عاشت تحت وقع الصدمة، جراء الهجوم الإرهابي الذي وقع يوم الأربعاء 7 يناير 2015 على مقر الصحيفة الأسبوعية المتخصصة في الرسوم الكاريكاتيرية "شارلي إيبدو"، الذي أودى بحياة 12 شخصاً، منهم 4 رسامي كاريكاتير، إضافة إلى 11جريحاً. وأظهرت الأحداث الدامية التي شهدتها فرنسا، مع بداية عام 2015 ولغاية الآن، قصور قدرات وكالات التجسس ومكافحة الإرهاب التي تملك، في كثير من الأحيان، معلومات عن الجناة مسبقاً، لكنها تعجز عن تجميع كل الخيوط إلى أن تسيل الدماء..وقال بروس ريدل، وهو من كبار المحللين السابقين بوكالة المخابرات المركزية"السي أي إيه"، "المشكلة بالنسبة للمخابرات وأجهزة الأمن الفرنسية أن المواطنين الفرنسيين الذين ذهبوا إلى سوريا أو العراق أو غيرها للمشاركة في الجهاد ثم عادوا أكثر من أن يمكن متابعتهم جميعاً على مدار 24 ساعة يوميا". وأضاف ريدل، "إذا لم يخالفوا أي قوانين، فلا يمكن لأجهزة المخابرات في العالم الديمقراطي أن تلقي القبض عليهم أو تراقبك بصفة دائمة لمجرد أنك جهادي متعصب". متابعاً، "المخابرات لن تتنبأ متى يتحول متعصب من شخص متشدد الفكر إلى إرهابي يؤمن بالعنف في أغلب الأحوال". ما عقد الأمر هو سفر آلاف الأجانب للمشاركة في القتال في صفوف الجماعات الإسلامية المتشددة في سوريا، مثل تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، و"جبهة النصرة"، وبدأ كثير منهم يعودون الآن إلى أوطانهم بما اكتسبوه من خبرات قتالية. وعادة ما تظهر التحقيقات في أعقاب هجمات المتشددين أو محاولتهم شن هجمات أن وكالات التجسس كان لديها معلومات مسبقة كان من الممكن أن تشير إلى أن هؤلاء المشبوهين يمثلون خطراً وشيكاً، لو أنه تم ربط خيوط المعلومات على النحو السليم. فرنسا أعلنت حالة الطوارئ، وأنزلت قوات الجيش إلى الشوارع، وفعلت دول أوروبية الشيء نفسه، ولكن هذه الحلول الأمنية والعسكرية وحدها لن تحصن العواصم الغربية من هجمات مماثلة، ولا بد من وضع إستراتيجية متكاملة لمعالجة الأسباب التي أدت إلى ظهور "داعش" أولاً، واكتسابها هذه القدرات الضخمة التي تملكها في التجنيد والتنفيذ، ثانياً. معظم الدول الغربية، إن لم يكن كلها، لا تريد الاعتراف بهذه الأسباب، منفردة أو مجتمعة، ودورها في توفير الحاضنات لهذه الظاهرة الإرهابية الخطيرة التي "بزت" كل ما قبلها، وأولها التدخلات العسكرية الغربية، وتفتيت الدول، ومحاولة إعادة رسم حدود وخريطة منطقة "الشرق الأوسط" من جديد، وفق مصالحها ومخططاتها، وبما يكرس "إسرائيل" دولة عظمى في المنطقة. هناك ستة مصطلحات، أو كلمات رئيسية لا بد من التوقف، وتحليل أسبابها، إذا أردنا فهم هذه الظاهرة وأسباب نشوئها، واكتسابها كل هذه القوة واسعة الانتشار: الأولى: الإهانة.. فالشعوب العربية والإسلامية تتعرض للإهانات المتواصلة من قبل حكوماتها الفاسدة، ومن قبل القوى الاستعمارية الغربية والشرقية بتدخلاتها العسكرية في شؤونها. الثانية: الإحباط.. فلدينا أكثر من مئة مليون شاب عاطل عن العمل، وأكثر من 40 مليون أمي، والإحباط هو القاسم المشترك لمعظم هؤلاء، حيث لا حاضر ولا مستقبل لهم. الثالثة: غياب الحكم الرشيد.. الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية لا تملك أي مشاريع تنمية، أو قدرات إدارية متقدمة. الرابعة: التدخلات العسكرية.. فهذه التدخلات التي بدأت في العراق، وامتدت إلى ليبيا وسورية واليمن والصومال، غيرت أنظمة بالقوة في معظمها، ولكنها خلقت دولاً فاشلة، ولم تقدم بدائل ناجحة للأنظمة التي أطاحت بها. الخامسة: التهميش.. ففي ظل إذكاء نار التقسيمات الطائفية والعرقية التي باتت العنوان الرئيسي، ومحور الحروب الأهلية في المنطقة، باتت عمليات التهميش والإقصاء الطائفي والعنصري القاسم المشترك في معظم الدول، ومصدراً من مصادر التمرد، واللجوء إلى العنف والإرهاب. السادسة: وسائط التواصل الاجتماعي.. فالجماعات الإرهابية مثلها مثل المواطنين، لم تعد بحاجة إلى وسائل الإعلام التقليدية لنشر أيديولوجيتها وأفكارها، ويكفي الإشارة إلى أن "الدولة الإسلامية" تملك أكثر من خمسين ألف حساب على "التويتر" حالياً، ويطلق أنصارها مئة ألف تغريدة يومياً. الدول الغربية التي تتدخل عسكرياً في المنطقة تعرف كيف تدمر، ولكنها لا تعرف (أو لا تريد) كيف تبني المجتمعات والدول التي تدمرها، وهنا تكمن علة العلل، وتعتمد دائماً على "خبراء" تحركهم الثارات والنزعات الانتقامية في وضع سياساتها الخارجية في المنطقة العربية، الأمر الذي ينعكس سلباً وإرهاباً عليها، وعلى أبناء المنطقة. في ظل أجواء هذه الهجمات الإرهابية على باريس، يختلف المحللون الغربيون في توصيفهم لمضمون الموجة الحالية من الإرهاب الجديد، ولاسيما بشأن العلاقة الارتباطية بين الإرهاب و الإسلام. فعلى الرغم من أن الإرهاب موجود في العديد من الدول، ويصيب بدرجة أو بأخرى العديد من الحضارات والثقافات، فإن بعض المفكرين الغربيين، يركزون على أن الإرهاب لا يمثل شكلاً من أشكال الصراع الدولي، بقدر ما يمكن النظر إليه باعتباره حروب المسلمين، سواء فيما بينهم أو بينهم وبين غير المسلمين، وهي حروب قد تتطور إلى صدام كبير للحضارات بين الإسلام والغرب، أو بين الإسلام وبقية العالم. ولا تعود إلى طبيعة المعتقدات الإسلامية، وإنما تعود إلى السياسات والأوضاع العامة في العديد من الدول الإسلامية، مثل حالة الانبعاث الإسلامي، وتعرض الشعوب العربية والإسلامية للإهانات المتواصلة من قبل حكوماتها، ومن قبل القوى الاستعمارية الغربية،والشعور بالظلم والامتعاض والحسد تجاه الغرب،و الانقسامات الإثنية والطائفية والمذهبية في العالم العربي والإسلامي وارتفاع معدلات الولادة في معظم الدول الإسلامية،و عجز المجتمعات العربية- الإسلامية عن تحقيق إصلاحات داخلية جذرية. ما هي الأسباب الحقيقية وراء استهداف "داعش" باريس؟ يتساءل الكثيرين عن الأسباب التي تجعل من فرنسا هدفا لتنظيم "داعش"، وهل فقط لأنها تشارك في التحالف الدولي الذي يحارب داعش أم أن هناك أسباب آخري؟.. ففي فترة صغيرة كانت باريس مسرحاً لعمليات داعش فبعد هجوم "شارلي إبيدو" جاءت هجمات باريس فما هي الأسباب الحقيقية وراء إصرار"داعش" على استهداف فرنسا دون غيرها من الدول المشاركة في التحالف الدولي. فبحسب قراءات متفرّقة لعدد من الخبراء الفرنسيين والعرب فإن الصورة "المهتزّة" التي تبعث بها الدبلوماسية الفرنسية، وتراجع صلابة السياسة الأمنية لباريس، إضافة إلى قسم مهمّش من الأقلية المهاجرة على أراضيها، هذه الثلاثية تجعل من فرنسا الهدف المفضل لـ"داعش". السياسة الخارجية المنحازة للتدخل العسكري الفرنسي يقول الخبير الشؤون الأمنية الدولية والضابط التونسي السابق، يسري الدالي، إنّ الصورة التي تمرّرها الدبلوماسية الفرنسية، خلال السنوات الأخيرة، منحت انطباعا بتوجّهها خارجيا نحو التدخّل العسكري، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة عبر حضورها العسكري في شكل بعثات في كلّ من مالي أو إفريقيا الوسطى على سبيل المثال، أو بصفة مقنّعة أو غير مباشرة في مستعمراتها السابقة، غير أنّ النتيجة تظلّ واحدة في الحالتين، والانطباع ذاته يطغى على مواقف سلبية لسكان تلك المناطق إزاء التدخل العسكري الفرنسي. ويؤكد الدالي أن اهتزاز تجلّى بشكل واضح في عهد الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، والذي تمتدّ إليه أصابع الاتّهام بشأن مسؤوليته في الفوضى التي تغرق فيها ليبيا إلى اليوم، حيثيات تبرّر الاستياء الكامن في بعض النفوس حيال باريس، وهو ما تعمل المجموعات المتشدّدة على توظيفه واستثماره عند تحضير و تنفيذ عملياتها، وتجنيد منفذين لها. أطلقت الاعتداءات الإرهابية الأخيرة التي تعرضت لها باريس أطلقت صفارة الإنذار في فرنسا، فيما يعتبرها البعض أنها تأتي كردّ على إعلان الحرب ضدّ المتشدّدين من قبل القادة الفرنسيين، لكن بحسب رئيس وزراء فرنسا الأسبق، دومينيك دوفيلبان، فإن "خوض الحرب ضد الإرهاب"، لن يحلّ، بعكس التوقعات، وحده المعضلة. وكان دو فيلبان رفض أن تدخل فرنسا خوض حرب جديدة في العراق، وأضاف، في ذات الصدد، قائلاً: "نحن نغذّي مشاعر الحقد والدمار، ونمضي (بذلك) على خطى الأمريكان الذين يبحثون – كما هو الحال دائماً- عن عدوّ لهم عبر الكرة الأرضية، والمنخرطين ضمن مسار الخلاص الشامل". وأشار دو فيلبان، السبت 14 تشرين الثاني 2015،"إن (ذلك) ليس دورنا نحن الفرنسيون، وليس من مهامنا. نحن صنّاع سلام، وباحثون عن الحوار، نحن وسطاء"، وهو موقف لا يختلف في عمقه عن قراءة الأستاذ المختص في الجيو/سياسية بـمعهد العلاقات الدولية في باريس، الفرنسي ميشيل غالي، والذي رأى أن "السياسة الخارجية لـ(الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند) حيال كلّ من سوريا والعراق توصف بالتدخّل العسكري، بل إن جزءاً من المسلمين يعتبرونها حرباً ضدهم". وحمل الرئيس السوري بشار الأسد، خلال لقائه وفداً فرنسياً برئاسة عضو الجمعية الوطنية النائب تييري ماريانيان يوم السبت 15 تشرين الثاني 2015، السياسات الفرنسية "الخاطئة" مسؤولية تمدد الإرهاب، في تعليق على الاعتداءات التي حدثت في باريس، وتبناها تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" - "داعش" وأودت بحياة نحو 129 قتيلاً، وحوالي 300 جريحاً. قال الرئيس الأسد، إن "السياسات الخاطئة التي انتهجتها الدول الغربية ولاسيما الفرنسية إزاء ما يحصل في منطقتنا وتجاهلها لدعم بعض حلفائها للإرهابيين هي التي ساهمت في تمدد الإرهاب". واعتبر الرئيس الأسد، أن "الإرهاب هو ساحة واحدة في العالم وأن التنظيمات الإرهابية لا تعترف بحدود"، مؤكداً أن "الاعتداءات الإرهابية التي استهدفت العاصمة الفرنسية باريس لا يمكن فصلها عما وقع في العاصمة اللبنانية بيروت أخيراً، وما يحدث في سوريا منذ خمس سنوات وفي مناطق أخرى". وشدد الأسد على "أهمية اعتماد سياسات جديدة والقيام بإجراءات فاعلة لوقف دعم الإرهابيين لوجستياً وسياسياً وصولاً للقضاء على الإرهاب". وجواباً على سؤال حول الرسالة التي لديه للرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند قال الرئيس الأسد: "اعمل لمصلحة شعبك فالسؤال الأول الذي يطرحه كل مواطن فرنسي اليوم هو.. هل عادت السياسات الفرنسية خلال الأعوام الخمسة الماضية بأي خير على الشعب الفرنسي.. الجواب فعلياً هو لا.. إذاً ما أطلبه منه هو أن يعمل لمصلحة الشعب الفرنسي وإذا أراد أن يفعل ذلك فعليه تغيير سياساته". وعن الظرف الذي ينبغي أن يتوافر كي تتعاون الحكومة السورية مع الحكومة الفرنسية أو أجهزة الاستخبارات السورية مع نظيرتها الفرنسية قال "لا يمكن التحدث عن تعاون استخباراتي قبل أن يكون هناك تعاون سياسي.. لا يمكن أن تتحدث عن تعاون استخباراتي لمحاربة الإرهاب بينما تصب سياسات الحكومة الفرنسية في إطار دعم الإرهاب.. هذا ما قصدته بالجدية". الانقسام الاجتماعي والتهميش حاضنان للعنف والإرهاب يرى الخبراء أن التدخل العسكري الفرنسي المفرط فيه ليس وحده السبب، حيث تأتي هذه الهجمات في وقت تشهد فيه البلاد حالة من "الانقسام الاجتماعي"، فوفقاً ليسري الدالي، والذي عادة ما يكون على حساب الأقلية المسلمة المتواجدة في البلاد، والتي يعيش جزء من أفرادها "مهمشين" في الأحياء الفقيرة أو "الغيتوهات"، مضيفاً إنه "حينما نشاهد تسجيلات الفيديو التابعة لداعش، فإنها غالباً ما تتضمّن تهديدات موجهة لفرنسا، ودعوة إلى انتفاضة السكان المسلمين المقيمين في هذا البلد، والذين تتجاوز أعدادهم الـ(6 ملايين) نسمة"، وفقاً لأحدث التقديرات. حيث يعتقدون بأن الكثير من المسلمين المهمّشين يشكّلون احتياطياً جهادياً محتملاً لن يتأخر في الانضمام إلى معسكرهم، وهكذا، فإنهم يحاولون، عبر تكثيف هجماتهم، تشجيع هؤلاء المسلمين، من خلال فرض أنفسهم كفاعل قادر على توجيه ضربة مثيرة للإعجاب. ويضيف الخبير التونسي، أنها بمثابة عملية "إغواء" تلقى تأثيرها وطريقها نحو الهدف، خصوصاً في ظل الاختلال الذي ينخر النظام الأمني الفرنسي، وهذا ما يفسّره دخول كميات من السلاح إلى الأراضي الفرنسية دون أن تتمكن الأجهزة المختصة من احتجازها، وحدوث 7 هجمات متزامنة، وأن يكون معظم الإرهابيين لهم ملفات معروفة لدى السلطات الفرنسية. وتشهد فرنسا أعمال عنف واسعة النطاق منذ العام. إذ تعرف فرنسا العنف المديني منذ سنوات، والأرقام خير معبر عن حالها للأسف الشديد: فمنذ أول كانون الثاني 2005، تم إحصاء ما يقارب 70000 أعمال عنف مدينية في فرنسا. ومنذ عشرة أشهر من عام 2005، تم إحصاء أكثر من 28000 سيارة محروقة و 442 مواجهة بين شبان مهمشين. وإذا كانت أعمال العنف مستمرة في فرنسا، إلا أن الأوساط الحكومية فوجئت هذه المرة بحجمها في الضواحي الباريسية، خصوصاً ضاحية سان سانت دينيس، والسبب في ذلك يعود إلى أن الشبان الفرنسيين المتحدرين من أصول مهاجرة يعيشون في غيتوات، ويعانون من إهمال شامل، وعدم اكتراث بهم بسبب ضعف المشاركة في الانتخابات، وترّسب مدرسي، ونسبة بطالة تصل إلى ضعف المستوى الوطني، وهامشية، وانغلاق، وأزمات هوية وثقافة. الشباب الغاضب الذي خرج إلى الشوارع الباريسية فعل ذلك عن إحساس بالظلم وعن ضجر لأنه كان ضحية تلاعبات سياسية استمرت سنوات طويلة. وتتراوح أعمار هؤلاء الشباب بين الخامسة عشرة والثلاثين من العمر، كلهم من مواليد فرنسا ويحملون الجنسية الفرنسية بموجب ذلك. ومع ذلك يعيشون وضعاً مختلفاً وغير سوي في آن واحد.. أكثر من 66% من هؤلاء الشباب يعيشون بلا وظائف مستقرة، ويعيشون ثقافة مختلفة بحكم عائلاتهم المنحدرة من دول مغاربية مسلمة أو افريقية مختلفة. يعيشون ثقافة مزدوجة بين ثقافة الأهل والوطن الأم والثقافة الفرنسية بكل ما فيها من تباين بين الشخصية والمجتمع. إضافة إلى كل هذا يتواجد الشباب في أحياء منغلقة على الآخرين، حيث لا توجد فيها إلا مشاكل سرعان ما صارت مشاكل عنف و مخدرات و انقسامات خطيرة على الصعيد الفردي والاجتماعي ككل. هؤلاء عجزوا في أن يكونوا مغاربة تماماً أو أفارقة تماماً أو أن يكونوا فرنسيين حقيقة. باتوا يعيشون وضعاً مأساوياً يبحثون من خلاله عن هويتهم، وعن الطريقة التي عبرها يوصلون همومهم ومشاكلهم إلى الجهة الثانية من الجسر (أي إلى السلطة)، ولهذا حين تنفجر الأوضاع فجأة، يتم تسليط الأضواء على المشكلة، ولكن لا يتم حلها، بل تسويقها إعلامياً ليستغلها البعض قائلين: "أنظروا إلى بربرية العرب والأفارقة الذين لا يستطيعون العيش في دولة ديمقراطية!". لقد ظن عرب الضواحي أن المدرسة الفرنسية يمكن أن تحمل لأولادهم مصيراً أفضل فكانت صدمة الجيل الثاني كبيرة عندما اكتشف أن ثقافة المساواة التي راهنوا عليها طلاباً لا قيمة لها في سوق العمل وأن العنصرية المكبوتة أو النافرة تحول دون اندماج فعلي في السكن وفي المجتمع وفي المؤسسات الرسمية وأن ابن المهاجر يجب أن يظل حيث هو في مدن البؤس "الرمادية" بحسب وصف شهير للرئيس الراحل فرانسوا ميتران. فنشأ الجيل العربي الثالث على حطام أحلام الجيلين الأول والثاني وسط أزمة اقتصادية طاحنة وفي ظل نمو متزايد للتيار العنصري الذي كان يكسب أصواتاً أكثر في كل مرة يحمل فيها على المهاجرين ويعينهم مصدراً لخريف العظمة الفرنسية المتراجعة وسبباً للبطالة التي ضربت أيضاً الفئات الدنيا في السلم الاجتماعي الفرنسي. فرنسا ليست البلد الغربي الوحيد الذي يواجه الغيتوهات العرقية المنتشرة في ضواحي المدن الكبرى. لقد اعترفت فرنسا منذ وقت طويل بوجود هذا المشكل، حين لخصه الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران بقوله: "ماذا يمكن أن يتمنى شخص شاب ولد في حي من دون روح، ويعيش في بناية كريهة، محاطة ببنايات أخرى قذرة، وبجدران رمادية في مدن رمادية، ومع كل هذا، محاط بمجتمع يفضل صرف الأنظار ولا يتدخل إلا عندما يجب أن يغضب، وأن يمنع؟" إن فرنسا التي تتباهى على الدوام وتتفاخر أنها بلد احترام حقوق الإنسان، وأنها تمثل الجمهورية العلمانية القائمة على مبدأ المساواة والإخاء والحرية، وملاذ النموذج الاجتماعي السخي، تظهر في أعين الجميع عجزها عن توفير شروط حياة إنسانية كريمة لشبان فرنسيين - أسْهَمَ آباؤهم المهاجرون من المغرب العربي وإفريقيا السوداء في بناء الاقتصاد الفرنسي ما بعد الحرب العالمية الثانية وطيلة "ثلاثين سنة من الازدهار" - حيث لم يكن لهم من أفاق سوى البطالة، والانكفاء على القبيلة والطائفة والدين، والعنصرية. إن مسالة الضواحي هي رمزية: فهي تشكل نقطة الالتقاء لمشاكل متعددة تركتها الحكومات الفرنسية المتناوبة على الحكم تتراكم، وتتشابك مع بعضها البعض، حتى أدت إلى انفجار الوضع على ما هو عليه الآن. والشيء نفسه للمجالات الأخرى، حيث أن فرنسا عندما تنظر إلى انتفاضة ضواحيها، تتأمل ملياً في مرآة إخفاقاتها، على الأقل جزئياً: تنظيم المدن، الاندماج الاجتماعي، التربية والتعليم، والتوظيف.. وإلى ما تقدّم من هنات، يضاف الموقع الجغرافي لفرنسا، والذي يجعل الدخول إليها سهلاً، على عكس المملكة المتحدة على سبيل المثال، بما أنها الأقرب إلى منطقة شمال إفريقيا، والأكثر يسراً من الناحية الجغرافية، وهذا ما يجعلها مستهدفة خلافاً لبريطانيا المعزولة جغرافياً نوعاً ما من خلال البحار التي تحيط بها، وهو ما يجعلها بمنأى نسبياً عن مثل هذه الأمور. وبالنسبة لرئيس وزراء فرنسا السابق دو فيلبان، فإنّ "فرنسا معرّضة لهبوب الرياح من كل الجهات.. من المغرب (العربي) والشرق الأوسط، وهذا ما يجعلها في موقع ضعف، ويجعل بالتالي مقاربتها الأمنية عاجزة عن حل المعضلة لوحدها". ويضيف دو فيلبان قائلاً: "كنت أود القول بأننا جاهزون، وبأننا لا نخشى شيئاً، لكن هذا غير صحيح، لأننا نحن الفرنسيون، مجتمع ديمقراطي لم ينخرط في المسار الأمني (كما هو الحال) بالنسبة للمجتمع الأمريكي، حيث الجاليات الأجنبية الأمريكية تحت رقابة مشددة ولذلك، فإن المخاطر المترتبة عنها أقل من تلك التي تواجهنا.. إنه الطريق نفسه الذي سلكه المجتمع الإسرائيلي، إنه نهج السياسة الأمنية الصارمة فقط، وهذا ليس ما عليه الوضع بالنسبة لفرنسا". سيناريوهات كارثية تهدد العالم بعد تزايد العمليات الإرهابية في جميع أنحاء العالم بالأيام الأخيرة، والتي راح ضحيتها المئات، ففي الأسابيع الأخيرة تحطمت الطائرة الروسية في سيناء المصرية، وتعرضت إسطنبول لهجمات وحشية، تلتها تفجيرات في بيروت ثم باريس، ولكن هل ينتظر العالم ما هو أسوأ من ذلك؟!. تعتبر الأسلحة النووية الطليقة في باكستان، والصواريخ ذات المراحل الثلاث في كوريا الشمالية، التي يمكنها أن تصيب الولايات المتحدة والأسلحة الإشعاعية في السوق الروسية السوداء، وإمكانية أن يستخدمها تنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الجهادية، ذلك إلى جانب احتمال استخدام الحرب البيولوجية، هي أبرز أسوأ السيناريوهات التي قد يتعرض لها العالم. مع الحديث عن الخطر الذي لا بد أن يذكر فما زال أبرز صانعي القنابل في تنظيم القاعدة وهو إبراهيم حسن العسيري، الذي ابتكر زراعة الشحنة المتفجرة، فقد زرع أول قنبلة معروفة من نوعها في شقيقه الذي نسف نفسه أمام الأمير السعودي محمد بن نايف، وفي السنة نفسها كان للعسيري دور في مؤامرة أول مفجر في الملابس الداخلية. بحلول 2010 كان قد انتقل إلى فكرة جديدة وهي إخفاء متفجرات بلاستيكية في محبرات الطابعات ثم وضعها على متن طائرات شحن، وبعد عامين كان يتعاون مع أطباء لتصميم أساليب جراحية جديدة لزراعة القنابل في الأجساد، وستتيح الفوضى للعسيري وتلاميذه مجالاً أكبر لممارسة أعمالهم، مما يجعله سيناريو خطير يواجه العالم. تجاهل تفجيرات بيروت يثير استياء النشطاء أثار الاهتمام العالمي بهجمات باريس، وتجاهله لتفجيرات بيروت الانتحارية على الرغم من أن الهجومين لم تفصل بينهما سوى ساعات، استياء العديد من النشطاء والصحفيين، بسبب الطريقة التي تم التعامل بها مع الاعتداءات التي وقعت في الضاحية الجنوبية بالعاصمة اللبنانية بيروت، والأخرى التي شهدتها مواقع عدة بالعاصمة الفرنسية باريس. فبينما انتفضت العواصم العالمية ومتابعو الشبكات الاجتماعية وعبروا عن غضبهم عقب هجمات باريس التي خلفت 129 قتيلاً، لم تكن ردود الأفعال مماثلة في حدتها إزاء هجمات بيروت التي خلفت 45 شهيداً. وقالت الصحفية في جريدة "ديلي لايف" الأسترالية، روبي حمد، إنه في كل مرة ترى فيها أحدهم وقد غير صورة بروفايله إلى العلم الفرنسي، تشعر بـ"ضربة موجعة". وتضيف حمد، وهي من أبوين من سوريا ولبنان، أنها حزنت على ضحايا باريس، لكنها محبطة بسبب تغاضي الكثيرين على الفايسبوك ووسائل الإعلام عما حدث في بيروت. وكتبت الصحفية الأسترالية، "الطريقة التي اتحد بها العالم في وسم "صلوا من أجل باريس"، بينما تجاهل لبنان، على الرغم من أن الفاجعتين وقعتا خلال 24 ساعة، هي إشارةٌ واضحة لضآلة قيمة حياة غير البيض. وفي المقابل، أرجع آخرون سبب هذا التمييز في المساندة إلى الصراع الدائر في المناطق المحيطة بلبنان، بالإضافة إلى نُدرة وقوع حوادث مماثلة في باريس. ومن جهتها، قالت الصحفية اللبنانية، دجى داوود، "في لبنان، لدينا تجربة في الحروب وعواقبها أكثر من الفرنسيين، المسألة إنسانية بالدرجة الأولى، فالإرهاب الذي يقتل الشعب اللبناني، السوري والعراقي هو نفسه الذي يقتل الشعب الفرنسي". وكان تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" تبنى كلا الهجومين، وكلاهما أوقع عشرات القتلى والجرحى، كما وقع كلاهما في أماكن مدنية، حيث المواطنين العاديين يعيشون حياتهم اليومية. وبينما تعد هجمات باريس الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية، تأتي هجمات بيروت الأكثر دموية في العاصمة منذ الحرب الأهلية اللبنانية. |
||||||