|
|||||||
|
قبل قرون شخّص ابن خلدون ظاهرة "القبلية السياسية" كعصبية عمياء، قائلاً: "إنّ الأوطانَ الكثيرة العصائب قلّ أنْ تستحكم فيها الدولة". وها نحن اليوم معشر العرب ما نزال نعاين على الأرض نماذج "مستحدثة" من تلك القبلية القطيعية الطاغية على المجتمع والفرد العربي حاكماً ومحكوماً، ولو ارتدى بزة الحضارة المدنية الحديثة، فعقله بقي مسافراً هناك ليرتاح تحت الظلال الوارفة لما يعتقد به من ذاكرة عتيقة ساكنة تضج بقيم المجد التليد والسؤدد والمفاخرة التاريخية الباكرة. إذاً، فلا دولة حديثة (في البنية والمضمون) للعرب تشكلت في تاريخهم الحديث المليء بالهزائم والانقسامات، وإنما هي مجرد دويلات متنازعة، تعكس صورتهم التاريخية المستقطبة، استبدلوا فيها خيمتهم بقصور ألف ليلة وليلة.. هي دويلات تشبه كل شيء إلا التكوين الدولتي الحديث والمعاصر القائم على مبدأ الديمقراطية السياسية، كآلية تصالحية وسلمية للحكم السياسي بين الناس، والتي تتغذى هي بدورها على قيم الحق والحرية والعدالة وحكم القانون.. ومن المعروف لنا جميعاً أن التشكيلات المؤسسية والترتيبات الهيكلية السياسية لبنية الدولة الديمقراطية التي تشكلت في الغرب الحديث، ارتكزت على فكرتي العلمانية والليبرالية (الديمقراطية بالمعنى السياسي العملي)، مع أنه –من حيث المبدأ- لا تَلازمَ مبدئياً وذاتياً بين القيمتين (العلمانية والديمقراطية)، بمعنى ن العلمنة ليست شرطاً لازماً للديمقراطية، شرطها هو المدنية والتسامحية والتشاركية، ولهذا فمن الممكن ولو بعد حين، وإلى وقت تتظهّر فيه وقائع مستقبلية مثمرة ومنتجة على صعيد الأفكار والأشخاص، أن يؤدي ذلك الترتيب في المجتمع الإسلامي إلى شكل من أشكال الحكم المؤسسي المدني الحديث غير المتناقض مع القيم التاريخية وغير القاطع معها، أي بما يساير فكر الناس الإسلامي، ويَخْرج من صميم إيمانهم، ليكون نظاماً سياسياً ينبع من فكرهم ومفاهيمهم، وتصوراتهم عن الكون والحياة والوجود، وفي نفس الوقت يتبنى المعاصرة منهجاً وسلوكاً ومؤسسات. وحتى اليوم، ومع أنه لا بوادر نامية ولا آمال مشرقة على هذا الصعيد البنائي الحيوي، في ظل هذا التدهور السياسي والاجتماعي والانحطاط القيمي الذي يتسع مداه في مشارقنا العربية ومغاربها، إلا أنني أعتقد أنه إذا كان هناك ثمة مشروع جاد ومسؤول للولوج في مشروع الحرية والديمقراطية - بعناوينها الشوروية (التعددية) الإسلامية - فلا بد من بذل الجهد العالي في التفكير في كيفية استنبات الديمقراطية في أرضنا بكل ما يعنيه مفهوم الاستنبات من شروط قابلة وتهيئة البذور والتربة صالحة، وتوفير أعمال الري وتأمين المناخ الملائم.. أي أن ذلك يحتاج إلى اعتماد طريق الحوار العقلاني في بلادنا غير المستقرة، سياسياً واجتماعياً، وحَلِّ الخلافات بروح التفاهم والتعاون والجدال المنتج "بالتي هي أحسن" حول مختلف القضايا والإشكاليات المتصلة بآليات تنفيذ وتطبيق التعددية في مجالنا السياسي والاجتماعي العربي والإسلامي، ودراسة الشروط والخصائص التاريخية الخاصة بتطبيق نظام السياسة التشاركية في بلداننا، وإيمان جميع الأطراف والقوى بضرورتها، وقبولهم لنتائجها. لكننا يجب أن نضع في حسباننا مسألة هامة جداً وهي: أن كيان الدولة العربية الحديثة الرسمي القائم - من حيث وجودها كدولة نخبوية تشكلت عسكرياً أو تاريخياً - ما يزال عاجزاً عن احتمال آثار التعددية والديمقراطية، والقبول الضمني الحقيقي بنتائجها السياسية، وما يزال غير قادر على إبداع الحلول العملية، خصوصاً، وأن الحلول التي تفرض من "فوق" نخبوياً، تكون مؤقتة وقسرية وغير منتجة، ولهذا يجب أن تصنع من "تحت".. لكي تكون دائمة وعادلة وشاملة.. فالتعدديات العصائبية المترسبة لم تنصهر بعد في بوتقة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث. وهذا النوع القديم من التعددية سرعان ما يعطي التعددية الديمقراطية، ويحل محلها بشكل يتجاوزها إلى ما يشبه الفوضى أو الحرب الأهلية كما يحدث اليوم في عدد من البلدان العربية التي ضربتها رياح الفوضى الهلاّكة واللا خلاّقة العاتية بأربعة أرباعها، من ليبيا إلى اليمن وسورياً مروراً بالعراق طبعاً.. والمفيد الذي يمكن قوله هنا هو أن التكوينات التاريخية والروابط التقليدية التي تحولت إلى عصائب مجتمعية حادة، استحكمت وتحكمت ولم تعالج في كل الزمن العربي الرسمي والعمومي، بالعكس كان الرسميون العرب في كل مفاصل التاريخ، يجيّرون العصبيات والانتماءات التقليدية لصالح نزعة بقائهم في جنان السلطة، ونعيم القصور والبذخ والنعيم السلطاني الشره.. ولهذا لم تتشكل الدولة كما شخّصها ابن خلدون قبل قرون، بالقول: "إن الأوطان الكثيرة العصائب قل أن تستحكم فيها الدولة"، بحسب ما ذكرناه من قبل. لكن هذه العصائب صعبٌ على أتباعها وممثليها والقابضين عليها، مجرد التفكير بتركها، كونها باتت روحاً ثقافية لهم، وتقاليد تاريخية عريقة تعيش بينهم في حياتهم الخاصة يومياً، وربما ليس مطلوباً كسرها وقمعها وطمسها بالحديد والنار (مع عدم القدرة على ذلك أصلاً، باعتباره موضوع غير قابل)، بل المطلوب هو احتواؤها من خلال فسح المجال لها لتعبر – في ظلال الدولة المدنية - عن ذاتها في ساحة الحياة، بكل حرية ووعي وعقلانية، بالحوار الواعي المستنير البعيد عن أدنى حالات الخوف أو التخويف من الآخر. لذلك إننا نريد بناء نظام سياسي تعددي يعطي المجتمع المدني السلطة والقوة الأكبر في ممارسة جميع أوجه ونشاطات وفعاليات العمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بحيث تكون الدولة خادمة له، لا أن يكون المجتمع خادماً لها ولساستها وحكامها. وأول خطوة نحو هذا النظام المستقبلي الذي يهدف إلى خلق إطار سياسي واجتماعي يساعد المرء على تحقيق نفسه ككائن إنساني، تكمن في اتباع طريق الحسم في تغيير النظام القائم، وليس التصارع مع الانتماءات التاريخية التي يمكن استثمار تنوعها إيجاباً كما قلنا.. أي لا بد من تغيير القاعدة التي يقوم عليها الحكم، وآلية السلطة في البلدان العربية عموماً، وهي قاعدة عصائبية استبدادية. حيث لا يمكن – والحال هذه – أن يكون هناك أمل بالمستقبل (من خلال نشوء سياسة حكيمة تأخذ في الاعتبار المصالح والمنافع العامة للسكان جميعاً وللبلاد عموماً) إلا عندما يكون مصير الحكومات التي تخط هذه السياسة، وتصوغها ، وتحدد الاختبارات، وتوزع الموارد مرتبطاً مباشرة ومنوطاً في العمق بإرادة السكان ورضاهم ورغبتهم وعقيدتهم الفكرية والسلوكية.. في هذه الحالة فقط تنشأ - أو يمكن أن تنشأ - سياسة وطنية، ويزيد موقع ومكان المصلحة الوطنية العامة في حجر الدولة، ويحدث التفاعل الإيجابي المطلوب بين الحكومة والشعب، على حساب المالح الجزئية والفئوية. والسؤال الجوهري الذي يمكن أن يطرح هنا هو: كيف يمكن أن ينطلق هذا التغيير، وما هي معالمه الأساسية؟! وما هي القوى التي يمكن أن تقوم به؟!. إن الأمر خاضع - في تصوري – لمدى قدرتنا جميعاً، كتيارات ونخب واعية، على بناء هذه القوى الضاغطة والدافعة للتغيير عقائدياً، وسياسياً، ومعنوياً، وأخلاقياً.. طبعاً وقبل ذلك علينا أن نطرح وننضج مفهوماً للدولة "الإسلامية"، ونظرية الحكم الإسلامي، بما يميز بين دائرة الديني ودائرة السياسي (الشورى) ضمن الدولة، واستنباط صيغ جديدة للتفاعل بين الدائرتين. والتمييز هنا لا يعني الفصل المطلق بين الديني والسياسي، بل أن تكون الدولة الإسلامية ذات طبيعة مزدوجة، فهي دولة دينية شرعاً وعقيدة ونظرية بسلطة مدنية (دينية - مدنية) حكماً وإدارة وممارسة وتنفيذاً، وهي دولة تستمد شرعيتها من الله وتستفيد منها في إطار الواقع الاجتماعي للإنسان، وتستمد سلطتها من الأمة والشعب، لا على أساس أن يكون الإسلام -كقاعدة للفكر والعاطفة والحياة- موضع تصويت وأخذٍ وردٍ بين الناس وداخل الديمقراطية، بحيث أنه إذا صوتوا لصالح الإسلام على أساس ديمقراطي فإن الديمقراطية تقول بأن الإسلام شرعي وحق لأن الناس صوتوا له، أما إذا انقلبت المسألة وأصبح الناس يصوتون لغير الإسلام فلا يكون الإسلام شرعياً، ولكن أن تكون صيغة الشورى - التي تتغذى عناصرها من عمق الإسلامي – القاعدة الأساسية في الدائرة السياسية للمجتمع. إن النظم السياسية القبلية العربية المغلقة الفاقدة لشرعيتها ومصداقيتها، ليس لها أي مستقبل تاريخي قادم، فهي تتآكل من داخلها، ولن يكون بمقدورها أن تقاوم وتجابه قوة التغيير القادم لفترة طويلة، والذي ينطلق من خلال حركة الضغوط المجتمعة الهادفة إلى المشاركة في العملية السياسية والاجتماعية والتنموية، وتحسين شروط أداء الحكومات والأنظمة الوطنية القائمة، وكذلك من خلال حركة المنافسة الاقتصادية العالمية. وطالما أن الوضع العام الحالي معقد إلى الدرجة الخطيرة التي ذكرناها سابقاً، والأمة لا تزال على ما هي عليه -منذ فترة طويلة- من انقسام وتفكك وتفسّخ سياسي وجمود اجتماعي واقتصادي.. الخ، فإننا نسأل: إلى أين تسير هذه الأمة؟! وكيف يمكن أن نمتلك جرأة الموقف وإرادة التحدي والوعي والمثابرة لنتغلب على أزمات حاضرنا من أجل أن نساهم مع الآخرين في بناء المستقبل وتأسيس دولته الديمقراطية الحرة التي ننشدها جميعاً كبشر دفعنا أثماناً باهظة، وما نزال ندفع من حياتنا ومواردنا نتيجة سوء استخدام معايير السلطة، الحكم الشمولي، وطغيان عقلية التفرد والاستئثار؟!. وما نقصده هنا من الحديث حول قيام الدولة العربية على مفردة وقيمة ومبدأ "الديمقراطية"، ليس أمراً صعباً ومعقداً، من الناحية الفكرية والنظرية، بل ما هو صعب تنفيذه على الأرض بالنوايا الطيبة والإرادات القوية.. إن الديمقراطية كمصطلح فكري "يوناني المنشأ" تعني حكم الشعب نفسه وبنفسه ولنفسه. وهذا التعريف الكلاسيكي تطور وتنامت ديناميته مع تطور وازدهار حركة المجتمعات البشرية، لكن الأسس والمبادئ القاعدية التي أقام عليها هذا المصطلح بنيانه الفكري والعملي، كالحرية والعدالة، والمساواة، بقيتْ ثابتة غير متطورة كونها تتصل بثبات التكوين الفطري والنفسي عند الإنسان. والواقع أن لكلمة الشعب الواردة في تعريف الديمقراطية عند اليونانيين مفهومين أو معنيين أساسيين: الأول: اجتماعي يشمل جميع الأفراد الذين ينتمون لدولة ما، أي النساء والأطفال والرجال والشيوخ والمساجين والمجانين، ومن إليهم ممن فقدوا الأهلية السياسية. الثاني: سياسي لا يمتد إلى كل هؤلاء، بل يقتصر على من لهم حق مباشرة الحقوق السياسية، وإذا كنا نقول: إن الشعب في الديمقراطية هو صاحب السلطة الفعلية ومصدر السيادة، فإن ذلك ينصرف إلى الشعب بمدلوله السياسي فقط، أي من لهم حق الانتخاب وهم هيئة الناخبين. لكن تلك المفاهيم تطورت (كما أشرنا) حتى أصبحت غاية الديمقراطية، حالياً، خَلقْ إطار "سياسي- اجتماعي" يساعد المرء على تحقيق ذاته، والتعاون مع الآخرين لإيجاد الشروط والموارد الروحية والمادية لتحقيق الأنا. وإنني أرى أن شروط النظام التعددي (كأساس للمجتمع المدني الإسلامي) متوافرة بكثرة في داخلنا، وفي نسيجنا الاجتماعي والسياسي والتاريخي العربي الإسلامي على الرغم من وجود مواقع لا تبشر بالخير، وهي كثيرة في هذا المجال.. فالتسليم بإمكانية وجود المعارضة مبدئياً، والاستعداد لإعطائها قدراً من الشرعية المقننة، ووَضْع آلية عملية لتداول السلطة التشريعية والتنفيذية سلمياً وقانونياً، ومراعاة رأي الأغلبية في البلاد، والاحتكام غليها في الحالات الضرورية والمصيرية.. كلها شروط سياسية ودستورية وقانونية لها جذور في بيئتنا السياسية والاجتماعية، وهي تمثل الحد الأدنى لاستنبات بذرة التعددية عربياً وإسلامياً.. وهي شرائط "سهلة - ممتنعة" نتمنى أن نتوافر عليها حالياً بالحوار، والانفتاح، وتعميق حس الوعي في ذهنية المجتمع بقياداته وقواعده. صحيح أن سياسة الاستبداد -المناقضة لأبسط قواعد المدنية الحديثة- ما تزال قائمة ويسري دمها ومفعولها حتى الآن، وصحيح أَنَّ تخريب الفضاء الحياتي قد تم عربياً وإسلامياً باسم الحرية، ومناهضة الحرية باسم الدفاع عن الدين ومصلحة البلد، وهي كلها علاقات سيئة تدل على المرض التاريخي المزمن لمجتمعنا الإسلامي الذي أفضى إلى أنْ نعيش مع فكرة الحرية والتعددية بمزاج سيئ لا ينسجم مع المعنى الحقيقي لمفهوم الحرية والتعددية، لكن علينا أن نسعى بقوة لخلق أجواء مناسبة نستطيع من خلالها أن نتحمل بعضنا البعض، وأن نجتهد في تراثنا وفكرنا الإسلامي كي نصل إلى تحديد معالم وأسس واضحة ترضي الجميع للتحرك الفعال على المسار التعددي، والحرية الإنسانية. وفي وَضْع كهذا ربما ستغدو عملية التحول، نحو التعددية والحرية، أسرع وأضمن، وتصير المسيرة أكثر اطمئناناً، وأمناً، واستقراراً، ووعياً. ولا شك بأن هذا العمل الحضاري صعب وطويل ومكلف، وهو منوط بالإرادات التاريخية، ولا بد لنجاحه من توفر قيم وفضائل نفسية قيمية كبرى، فالتضحية والإخلاص في العمل والإنتاج، والانكباب الدائم والمستمر على نهل العلم والمعرفة العلمية وربط العلم بالعمل المثمر والمؤثر، من أجل الإسراع في ملاحقة أهدافنا وإنجاز طموحاتنا العربية في عصرنا الراهن، كلها مطلوبة بقوة اليوم، في عصر السرعة والقوة والفضاء والإنترنت، وثورة الاتصالات الحديثة، والتدفق المعلوماتي الهائل.. وهنا نعود مرة أخرى للتأكيد على أنه لا سبيل أمامنا للحاق بركب حضارة العالم المتقدم (علمياً وتكنولوجياً) إلا بانتهاج طريق العلم والتضحية والبذل والعطاء، وإعلاء قيم التفكير، والعقلانية، والحوار، والاعتراف بالآخر في كل مجالات مجتمعاتنا العربية والإسلامية. لأننا بالعلم الهادف فقط نبني إنسان المستقبل، ونواجه مشاكل وتحديات الزمن الحاضر والمستقبل. ولذلك إذا أرادت أمتنا فتح مسارات واسعة باتجاه امتلاك زمام المبادرة الحضارية في المستقبل وبالتالي المساهمة الخلاقة والمبدعة في بناء وصنع الحضارة الإنسانية، فعلى قياداتها السياسية، ونخبها المفكرة الواعية أن تعيد الاعتبار المفقود إلى موقع ودور العلم والوعي والمسؤولية والالتزام في حياتنا الشاملة كلها. وتقوم بإيجاد حلول وعلاجات سريعة وفورية للأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتلاحقة التي يعاني منها الإنسان في مجتمعاتنا من خلال تنمية الثروة والإمكانات والخيرات المادية، المتوافرة بكثرة عندنا، بالإدارات العلمية الكفوؤة والمعطاءة. وأن تجعل من العلم والبحث العلمي المبدع الركيزة الأساسية لحركة الدولة والأمة، على أساس فهم نوع الثروة وطرق تصريفها والاستفادة منها في طريق العلم والإنتاج وتطور المجتمع. والواضح أن واقعنا الحالي لا يتحرك في هذا الاتجاه، بل على العكس من ذلك إنَّ الكثير من القوم عندنا يحاربون العلم والعلماء والثقافة والمثقفين، ويعملون على تعميم الجهل العلمي والثقافي والفكري بين الناس. أي أنهم ينشرون الأمية الثقافية والحياتية والجهل السياسي والاجتماعي بين صفوف طاقات وكوادر المجتمع الشابة، وبخاصة بين أوساط النخب المتعلمة(الجامعية). وهذا ما نلاحظه من خلال طبيعة الاهتمامات الذاتية لشبابنا المتعلم الراهن. إنه وسط ثقافياً وحضارياً وحياتياً، وليس لديه وعي اجتماعي أو سياسي ميداني يُمكنه من البحث عن خلفيات حركة الواقع السياسي والفكري وأساليب حركة الإعلام الدولي. إن مستقبل الأمة لا ينمو في تربة التخلف، والجهل، والكبت، ومصادرة الحريات العامة، وإتباع مختلف أساليب القمع والإرهاب ضد الأفراد والأمة، وإساءة استخدام السلطة، وسوء توزيع الثروة، وهدر أموال الدولة، وتبذير الأموال العامة على طريق الغرائز والشهوات البهيمية. والمستقبل المستنير للأمة لن يأتي في ظل هذا العنف وهذا الهوس المهيمن بنظرية المؤامرة وغياب عقلية النقد الذاتي وإعادة تقييم التجربة.. وفي ظل هذا التسييس المستمر للإسلام وتدويره وعرضه، وكأنه إسلام أحكام الشريعة المعادي لحرية العقيدة والرأي والمرأة... وفي ظل هذه النظرة غير النقدية للماضي كما هو ودون تمييز نقدي بين الصفحات المشرقة والصفحات السوداء.. إن مستقبل الأمة (أية أمة) يكبر وينمو ويتصلب ويشتدّ عوده في ظل الأمن والاستقرار وحصول الناس على حقوقها المادية والمعنوية، هذه هي أهم شروط بقاء الأمم وتطور المجتمعات قبل أي شيء آخر.. أي بناء الإنسان من الداخل على تلك القيم الإنسانية، واعتباره هو الأساس في حركة الدولة والأمة، وتربيته على تحمّل المسؤولية والالتزام الواعي بقضايا مجتمعه. كذلك نبني المستقبل كلما انطلقنا، بكل نشاط وفاعلية، من أجل إزالة النتوءات والعقبات والصعوبات والمشكلات المزمنة من طريق المستقبل، لتبقى له أصالته وقواعده الثابتة الحقيقية الصامدة أمام تحديات ومغريات الواقع.. ومن أبرزها مشكلة العنف المستشري في مجتمعاتنا، وهو عنف كانت له تاريخنا العربي طرق ومسالك متعددة ومتنوعة، ولكن أبرزها تلك التي كانت تأتي من مصادر أو منابع سياسية ودينية ومجتمعية.. واليوم نرى أن الكل بات يبحث ويتحدث عن العنف وعن التعصب وعن هذه البيئة الحاضنة للتطرف، وعن فكر وسلوك المتطرف، والكم الهائل للمتعصبين.. ولكن هل سأل أحد منهم (خصوصاً النخبويون القاعدون في العلالي) عن ماهية الأسباب والدوافع الذاتية المحركة التي أدت إلى نمو التطرف والعنف في بيئتنا ومناخاتنا الثقافية والسياسية والتاريخية العربية والإسلامية؟! وعمن قام (وكيف قام) بتعليم تلك الأجيال (المشكو منها اليوم) وتنشئتها، على مدى عقود طويلة على قيم ومبادئ تؤدي لتعميق نزعات التعصب والتطرف في النفوس والسلوكيات؟ وما هي الأفكار والمعارف التي قدمت لها ولقنت بها تلك الأجيال؟ ومن يتحمّل مسؤولية هذه التربية السلوكية الاستقطابية الحادة؟!، وكيف ولماذا نشأت وانتشرت عندنا تلك الحواضن الاجتماعية على هذه الطريقة التي يخافون اليوم من زيادة اتساعها وامتدادها، ويشكون منها، ويخشون منها إلى حد الذعر من آثارها، ويحذّرون من خطورتها؟!.. من هنا وحتى لا نستغرق في النتائج وننسى أو نتناسى الأسباب، نؤكد بأنّ حجر الزاوية في الموضوع كله هو أن معالجة التطرف والإرهاب (وبالتالي إيجاد حل عملي وواقعي جذري ونهائي لمشكلة التيارات التكفيرية الإرهابية التي باتت ذريعة تنتهجها نظم وحكومات رسمية لاستمرار الاستبداد وإلغاء الحريات وتكبيل إرادات الناس ومنعها من تحقيق طموحاتها) لن تكون ذات قيمة ومعنى وجدوى، ولا تنجح ولن تنجح إلا بمعالجة أسباب التطرف الحقيقية القابعة في بنية وتربة وثقافة المجتمعات العربية والإسلامية.. أي أن النجاح مرهون لتشخيص علمي لدوافعه وعلله "الابتدائية" الأولى، وليس فقط معالجة نتائجه ومآلاته النهائية المعروفة للجميع والتي باتت خطوطاً وعناوين عريضة تتكرس أمام أعيننا يومياً على الشاشات وفي المنتديات والمجالس والمؤتمرات وغيرها.. فبذور التعصب والتطرف الفكري والعقائدي والتشدد بالرأي والقناعات والانتماءات الضيقة، لا تنمو ولا تنشأ ولا تقوم وتتقوى إلا في أرضية وتربة انعدام جو الحرية والتسامح وطغيان حالة الكبت والردع وكم الأفواه والقمع.. ولا تتضخم إلا في تربة الفساد والظلم والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وشعور الناس بأن حقوقهم مهدورة وكراماتهم مهانة.. مثل المريض الذي يعاني من مرض مزمن، فيتم تشخيصه بصورة خاطئة، فيعطى مضادات التهاب بسيطة بدلاً من أن يعطى علاجات نوعية فعالة واستطبابات أخرى قوية ربما تكون شبه دائمة.. لهذا كفانا شكوى وتذمر من الواقع، ولنتحمل ولو مرة واحدة المسؤولية.. فالخلل والمرض والعلة ليست دوماً في الواقع دائماً، بل يمكن أن تكون (وهي غالباً كذلك) في طبيعة الأفكار المتحجرة المتكلسة العفنة، والعقول القبلية القاصرة الفاشلة العاجزة لأصحابها من ذوي النضالات الدونكيشوتية الوهمية، ممن يؤمنون بأن العلة في الواقع والتطبيق دوماً، وليس في أفكارهم الفائتة ومعارفهم الجامدة.. ولذلك فهم يسعون -وهنا أصل الداء، ومكمن العلة الجوهرية- إلى تجيير وكسر الواقع، ومطابقة وقائعه مع مقولاتهم المتكلسة البائدة من دون وجود أدنى استثمار وتوظيف للمنهج العقلي العلمي في وعيها وإدراكها وتحليلها والوصول إلى نتائج ميدانية بشأنها.. الأمر الذي سيؤدي -كما أدى سابقاً وحالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره، وتقاليعه النضالية بحيث يظهر عملياً في الواقع وهو يعمل ضد مبادئه وقناعاته وأهدافه التي يزعم الدفاع عنها وحراستها، والتي كلفته -وكلفت المجتمع- أثماناً باهظة من حاضره ومستقبل أجياله. لذلك يجب أن نعمل، في الأمة ومع الأمة، على أن نبني حاضراً قوياً وصلباً ومنتجاً في كل مواقعه الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية. نضاعف فيه من جهودنا ونفهم حركتنا وواجباتنا وأدوارنا وموقعنا في هذا العالم المعولم الكبير.. ننفتح فيه على الآخرين، لنكون جزءاً حيوياً مشاركاً بفاعلية في سعي العالم الحضاري، من أجل بناء دولة وطنية قوية ومتماسكة ذات قدرات تنظيمية ومؤسسية وثقافة عالية، لعلنا نصل ونهتدي إلى مرحلة الانبعاث الحضاري المستقبلي التي قد نمتلك فيها بعض معالم وآفاق السير على دروب المستقبل بثقة ووعي وأمل حقيقي. إننا - ومن خلال إيماننا العميق بضرورة إحداث تغيير جذري وشامل في مجتمعاتنا- نؤكد على أنه يجب علينا أن نؤسس لنوعية التغيير القادم ونساهم، بفاعلية، في بناء صورته وتأسيس ملامحه في طبيعة تفكيرنا القائم، وطريقة اتخاذنا لقراراتنا المصيرية، والأساليب التي نتبعها والمناهج التي نلتزمها في تنظيم حياتنا.. وهذا أمر بالغ الأهمية وهو مقدمة ضرورية جداً لبناء المجتمع المنشود وصناعة الحياة التي نطمح إليها.. ومن خلال ذلك يمكن أن يحدث عندنا نهضة حضارية واسعة ونشيطة، تبدأ من ثقتنا بذاتنا ونقدها والتأمل في اشتغالاتها القيمية والسلوكية، ومراجعتنا لكثير من حساباتنا الفكرية والعملية بحيث يؤهلنا (هذا النهوض) لنكون كأمة رائدة معادلة مستقلة تفرض وجودها في مواجهة (مقابل) المعادلات التي فرضتها الدول الكبرى، والحكومات الدائرة في فلكها، علينا. ولا شك في أنّ السبيل إلى ذلك هو تغيير ما بالنفس كأساس لتغيير ما في الواقع.. ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. باحث وكاتب سوري(*) |
||||||