|
|||||
|
المسيري والعظمة في كتاب العلمانية تحت المجهر:
يظل موضوع العلمانية واحداً من أكثر الموضوعات المثيرة للجدل في الفكر العربي المعاصر. وربما لم ينقطع النقاش حولها -ولا يتوقع له أن ينقطع- منذ وطئت أقدام الاستعمار الغربي أرض العرب, وبدأت تتشكل معالم "صدمة الحداثة والغرب" في الوجدان والفكر العربيين. وهذا الكتاب ليس سوى استمرار لذلك الجدل, غير أنه يلجه بأسلوب فريد من نوعه وفي غاية الإمتاع, عن طريق إدارة النقاش بين اثنين من المفكرين العرب واحد مدافع عن العلمانية والآخر ناقد لها. فهنا يقدم كل من المفكرين نصاً حول الموضوع ينقده الآخر لننتهي بكتاب هو أشبه بمناظرة هي في الواقع واحدة ضمن سلسلة مناظرات شائقة حول القضايا الملحة في الفكر العربي تشرف عليها دار النشر تحت عنوان "حوارات لقرن جديد". وبالتأكيد فإن تلازم العلمانية مع الغرب والاستعمار وإدراكها في المخيلة العربية بعامة كمكون منسوب إلى سياق حضاري وتاريخي ليس "خارجياً" فحسب بل ومعاد, قد نقل التفكير والنقاش حول العلمانية -بتعدد تعريفاتها ومركباتها المفهومية- إلى حيز السجال الإيديولوجي المسيس. وبهذا فهي لم يُنْظَر إليها من زاوية محايدة بحتة, بل ظلت متهمة منذ بروز أول تمظهراتها العربية بأنها وليدة الغرب ومستنبت مستورد مفروض على المجتمعات العربية من قبل الغرب, ومن قبل النخب الحاكمة المتحالفة مع الغرب. ومن هنا فقدت العلمانية مصداقية كانت في أشد الحاجة إليها كي تشرع وجودها على ساحة النقاش الموضوعي على الأقل في الفكر العربي الذي قد ينقض أو يستصوب الفكرة استنادا إلى رؤية فكرية وعقلانية وليس سياسية تاريخية منتمية إلى مجتمعات طحنها تغلب القوى الغربية المبشرة بالنموذج العلماني. وفي هذا الإطار فإن ما يراه عزيز العظمة في مداخلته في هذا الكتاب حول العلمانية ونقاشاتها في العالم العربي يغدو صحيحاً, فهذه النقاشات لم تتعد السجال الإيديولوجي ولم تمنح فرصة النظر المتروي الهادئ غير المشحون بالرؤى المسبقة. لكن ما لا يتم الموافقة مع العظمة عليه هو محاولته أنسنة المشروع العلماني ونسبته إلى البشرية بعامة وكسر حصرية التأثر بالمنشأ الغربي للمفهوم والنموذج، إذ لا يمكن القول بأن المكونات التأسيسية للنموذج العلماني قد جاءت من حضارات وسياقات ومفاهيم اجتماعية متنوعة المصدر وأن الغرب واحد من هذه المصادر على الرغم من أنه المصدر الأهم بكل تأكيد. كما لا يمكن تصور انتشار النموذج العلماني في عالم اليوم كما هو عليه لو لم يكن الغرب بالقوة التي نراها. ومن هنا جاء إصرار عبد الوهاب المسيري على اشتراطه ضرورة الوصول إلى تعريف عميق وتاريخي من أجل الخوض في النقاش حول العلمانية. وهو يعني بذلك مشروطية النظر إلى العلمانية بكونها "متتالية تاريخية" تطورت بشكل حصري في السياق الغربي وعكست الأزمات والحلول والصراعات والمساومات السياسية والفكرية والنظرة الفلسفية المتكونة وتوترات علاقة السلطة الدينية بالزمنية وهكذا، وأن هذه المتتالية تأسست بالتدرج وشملت فكر الأنوار منذ بداية اندثار العصور الوسطى ثم عصور الثورة الفرنسية والأميركية والثورة الصناعية والحداثة، شاملا ذلك حركات الاستعمار والإمبريالية ووصولاً إلى العولمة. لا يفصل المسيري هذه الحركات والتحولات الكبرى بعضها عن بعض سواء في طريقة تطورها أو في علاقاتها التداخلية أو في اعتماداتها المتبادلة على التقدم الذي ينجزه أي منها وتستفيد منه الأطراف الباقية. لكن عدم فك الارتباط -على ما فيه من وجاهة فكرية وشمولية في النظرة- ينزلق إلى التعميم في بعض النواحي. وتتبدى النظرة التحليلية وكأنها تزج بالعناصر الخاضعة للتحليل في إطار تلك النظرة, لإثبات الصوابية. ومن أبرز ملامح "القسر" هو معادلة تلك الظواهر والتغيرات بعضها ببعض, إذ قد ينتهي القارئ غير المتخصص بعد قراءة نص المسيري إلى نتيجة مضللة وهي أن العلمانية, والحداثة, والاستعمار, والعلمانية, والعولمة, وما بعد الحداثة, ليست سوى مسميات لشيء واحد هو نمط التطور والسيطرة الغربية في العالم سياسياً وفكرياً وعلمياً. في المقابل يرى العظمة أن الخطاب العربي المعاصر حول العلمانية "قد تناولها تناولاً سطحياً على وجه العموم على صورة إيديولوجية مبتسرة يغلب فيها السجال على النظر المتروي وعلى الاعتبار التاريخي, إذ إنه اعتبرها على شاكلة لائحة من المثالب والمكاسب والمحاسن تبعاً لاستساغتها أو عدم استساغتها..". وعن العلمانية نفسها فإن العظمة يراها عملية بالغة التعقيد وغير متعذر تعريفها لفظاً، وهي تعكس صيرورة تاريخية أكثر منها رؤية للعالم كما يعرفها المسيري. وإذ يتفق العظمة مع المسيري على أن منشأ العلمانية ومهدها كان في أوروبا فإنه يراها متجاوزة لمنشئها الأوروبي ومؤدية إلى تحولات "بالغة السعة والعمق في جل أرجاء المعمورة", وبأنها - كما الحداثة - صارت شأناً من شؤون حياتنا التي لا مفر منها في سياق ترتيب علاقة الدين بالمجال العام. ومن هنا فإن العظمة ينكر على الخطاب العربي ربطه الوثيق للعلمانية بالاستعمار، ويرى أن تلك المرحلة انتهت وأن العلمانية هي نتاج تحولات عالمية قربت العالم بعضه من بعض من ناحية التاريخ والمسارات العامة في الاجتماع والتقدم. وهكذا فإنه في الوقت الذي يرى فيه المسيري العلمانية "رؤية للعالم" "ما فتئت تتجه نحو درجات أشمل من التكامل والانغلاق, وشأناً لا يرد إلى نصابه من التاريخ الفعلي, فإن العظمة يرى أن مسيرة التاريخ هي "سلسلة متراكبة وليست بالضرورة متكاملة من العمليات الاجتماعية والسياسية والثقافية والمعرفية وخلاف ذلك من ميزات أي مركب تاريخي. وينقد العظمة نظرة المسيري للعلمانية كمفهوم غير محايد وكأن هذا المفهوم نظرة ومنظور ومعيار بدلاً من كونه سلسلة عمليات موضوعية في التاريخ, كما يعي موضعيا هنا وهناك, دون أن يكون لهذا الوعي أثر يذكر على تركيب خطابه (ص 270). يتبادل المسيري والعظمة الاتهامات نفسها, فالمسيري يتهم خطاب العظمة بالاختزال وتبني "الثنائيات الصلبة" مثل تضاد "الصيرورة التاريخية" و"الشعارات السياسية" و"حركة المجتمع والفكر" ضد "الخيار الإيديولوجي" و"العقلانية" ضد "الإيمان الديني". وينتقده أيضاً بسبب ما يراه عدم ولوج إلى الأبعاد المركبة لظاهرة العلمانية والانحياز إلى تحليل أحادي, إلى جانب الوقوع في أسر "إيديولوجيا" العلمانية, على الرغم من أن العظمة نفسه ينتقد المضمون الإيديولوجي في خطاب المسيري. وينتقد العظمة ما يراه عدم انفكاك في خطاب المسيري من "الهوى التاريخي" للأمة العربية ولا يتحدث عن الدولة القومية (الدولة الأمة) إلا بنفور واضح. وهو يعتقد أن ذلك مرده مرة أخرى إلى التحوصل حول الذات. كما ينتقد ما يفهمه في خطاب المسيري من تصور لمسارات التاريخ والحضارات وكأنها مسارات منفصلة وليست متداخلة. وفي سياق آخر ينتقد التناقض الذي يصنعه المسيري بين رؤيتين للعالم, واحدة مادية خاصة بالغرب, والأخرى مادية مناقبية خاصة بالجماعة التاريخية التي يعد هذا الخطاب نفسه لسان حالها". يبقى القول إن الكتاب يقدم قراءة ومناظرة هامة لأحد الموضوعات الحساسة في ساحة الفكر العربي, هذا وإن غلب على بعض أجزائه السجال الإيديولوجي على حساب التحليل الهادئ خصوصاً في النقد المتبادل بين المفكِّرَيْن. والواقع أن نقد العظمة وكذا مداخلته قد ارتفعت فيها نبرة السجال والتسفيه وأحياناً التعميم الذي انتقده هو نفسه في الخطاب العربي حول العلمانية.
|
||||