الدولة العربية الحديثة
 بين ماضي الأمة وتطلعات المستقبل

السنة الرابعة عشر ـ العدد 167 ـ (محرم ـ صفر 1437 هـ) تشرين ثاني ـ 2015 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تجري اليوم نقاشات وتحليلات كثيرة حول الدين الإسلامي ودوره في الحياة المجتمعية العملية للفرد والأمة ككل، أو ضرورة انكفائه عن الساحة، وعودته إلى ممارسة دور رمزي معنوي فردي خلاصي فحسب..

ويبدو أن الشيء الذي دفع باتجاه تلك النقاشات هو تلك السمة التي وسموه بها وهي سمة التطرف والتعصب، ورفض الحياة الحديثة، بكل ما فيها من قيم الانفتاح والتواصل والتشارك، خصوصاً بعد تزايد معدلات الإرهاب الديني في بلداننا، والإجرام المهول لكثير من تنظيمات التطرف الإسلامي في خضم ما تعانيه مجتمعاتنا العربية والإسلامية اليوم من تداعيات هيمنة تلك التيارات المتطرفة على المشهد العام للساحة نتيجةً لاستمرار الأزمات السياسية العربية التقليدية المعروفة التي مررنا بها على آماد زمنية طويلة ولم يتم حسمها إطلاقاً، تم فيها تعقيم وشل الحياة السياسية العامة، وإعاقة الحياة الفردية، ورفض المشاركة السياسية، ومنع السياسة من التداول العمومي، وتكريس النخبوية والوصاية السياسية.

وقد كشفت الأحداث الأخيرة التي ما تزال تتصاعد في غير بلد عربي، عن أزمة وطنية كبرى، تتمثل في هذا الفشل الذريع للدولة الوطنية العربية في بناء مجتمعاتها على قيم الحداثة والمواطنة والحكم الصالح، حيث ما تزال تنخرها الاستقطابات الطائفية والمذهبية الحادة، والانتماءات التقليدية الرثة (غير المعقلنة)، والتفشي الفظيع فيها للسلفية بأبشع تمظهراتها، وتجذر عقلية التعصب الأعمى لدى الجميع، لأن المناخ بات سيئاً وموبوءاً للغاية، ولهذا بات مطلوباً اليوم من كل علماء ونخب ومثقفي كل مذهب وتيار وفصيل فكري وديني أن يعيشوا حالة طوارئ عملية وفكرية، وأن يتلمّسوا رؤوسهم ويتحسّسوا مواقعهم، ويتعقلنوا في أفكارهم وسلوكهم، ويبدؤوا بنفض غبار الجمود الفكري عنهم عبر مواجهة جدية حاسمة مع سلبياتهم، واعتقاداتهم وموروثاتهم العتيقة التي تخرج منها رياح التطرف والتعصب الأعمى المدمرة للفرد والمجتمع..

ولعل الطرح الذي يجب التركيز عليه هنا، ضمن مسؤوليات العلماء والمثقفين هو دور الدين في الحياة الحديثة، والرد على التساؤل الجوهري: هل يقف الإسلام كرسالة إنسانية على طرفي نقيض من مفهوم الدولة الحديثة ماهوياً وبنيوياً؟ وهل صحيح القول بوجود ترابط وعلاقة عملية ما، بين معيارين ومجالين، دنيوي وأخروي.. دنْيوي حياتي، هو عبارة عن منظومة الدولة بهياكلها ومؤسساتها وقوانينها الحديثة، ومجال آخر سماوي (أخروي) سماوي هو الدين الإسلامي كمعرفة وفكر تاريخي؟ هل ثمة فصل بين الاثنين؟ وهل من تناقض بين الدين كمنظومة قيم أخلاقية ومعارف كلامية وفلسفية، وبين مفهوم الدولة كظاهرة صنعية بشرية تتحرك فقط في النسبي وكقضية مصلحية نفعية محضة؟!!..

من خلال مراجعتنا الفكرية لقيم الإسلام ومفاهيمه، وتطبيقاته التاريخية، والأطر والأدوار الحضارية التي مارسها أتباعه، والدول السياسية التي انبثقت عنه، على اختلاف تعابيرها وتجلياتها، لم نعثر في العمق المعرفي على ما يفيد بوجود أي تعارض عملي بين الإسلام كدين وبين مفهوم الدولة الحديثة التطبيقي بالإطار العام.. حتى وإن اعتبر بعض المثقفين والنخب الفكرية والسياسية أنّ الإسلام وعموم الأديان والطوائف والعشائر والقبائل – بفكرها وأعرافها وأنماطها السلوكية - تقف على تضاد (وطرفي نقيض) مع صيغة الدولة الحديثة باعتبارها مؤسسة متكاملة الأبعاد والجوانب.

وتبعاً لتصورهم هذا، فإن هذه الانتماءات ما قبل الوطنية والقومية (والتي ترتد بحسب زعمهم إلى منطقة القاع الحضاري الماضوي الجامد للأمة) تشكل –بمجملها- حواجز ومعيقات عملية تحول دون الانتقال إلى المجتمع المدني وحكم دولة القانون والمؤسسات التي تشكل غاية الاجتماع المدني الإنساني، حيث ستصر تلك الانتماءات على التمظهر – الإرادي أو القسري - في داخل ثنايا مؤسسات هذا المجتمع، بما يمكّنها من الظهور والحضور المتواصل في مختلف جوانبه وامتداداته.. وبالتالي ستؤول إليها في النهاية دفة السيطرة على الدولة الناظمة لحركية المجتمع بمختلف مواقعه ومؤسساته وهيئاته.

طبعاً، الأمر الذي نستغربه كثيراً في طبيعة هذا الطرح - وغيره من الطروحات المتماهية فيه أو المتوازية معه- هو إصراره الشديد على الخلط وعدم التمييز بين الدين كحالة حضارية، وتجربة إنسانية لها مكوناتها الروحية - بالغة الرقي والتكامل - في الفكر والإحساس والممارسة، وبين الطائفية (والقبلية و…) كحالة عشائرية ليست من الدين في شيء. فالدين دعوة روحية لكمال النفس والروح، وهداية للحق والقيم الروحية الخاصة بتهذيب النفس للترقي على طريق التكامل الممكن للفرد، وله مضمون ثقافي وروحي واجتماعي يتصل بالحياة وبالتحديات والمخاطر المتنوعة التي تواجه الإنسان فيها.. في قضايا الوعي والمسؤولية، والحرية والحق والباطل، والظلم والعدل، وما إلى ذلك. ويوجد لهذا المضمون خطاب عملي يريد من خلاله أتباع هذا الدين -وهذا من حقهم بالطبيعة والفطرة- تحشيد الناس حول فكرته الحضارية في سياق عملية الإصلاح والتغيير. تماماً مثل أي فكر أو تيار آخر يريد أن يدعو إلى مبادئه وطروحاته، ويخاطب الجمهور عارضاً عليه أفكاره ومفاهيمه التي ينبغي ألا تتناقض لدى الجميع (من أتباع الحركات العلمانية أو الدينية) – في العمق الفكري والعملي- مع صيغة الدولة الحديثة (القائمة على العلمنة والحرية والمسؤولية وتداول السلطة والدعوة السلمية الحضارية) باعتبارها (أي الدولة) أهم ظاهرة اكتشفها أو توصل إليها الإنسان في سياق سيرورته التطورية ووعيه لوجوده الذاتي والموضوعي.

وهنا نلاحظ أنّ كلّ خطاب تغييري (أو إصلاحي) لابد أن ينطلق في الحياة من خلال وجود قواعد ومرتكزات ثقافية حياتية إنسانية، الأمر الذي يلزمه - بحكم ضرورة امتداده إلى الساحة الحياتية العامة - بأن يأخذ ببعض الأساليب والأجواء السياسية والاجتماعية، عندما تتصل قضية السياسة بقضية المصير الإنساني. أما الحديث عن ماضوية وجمود الانتماء والخطاب الديني عند بعض المثقفين فإنه يشبه تماماً الحديث عن ماضوية وجمود الخطاب السياسي والاجتماعي المعبّر عن مضمون ثقافي معين خاص بهذا الطرف أو ذاك (يساري ماركسي، أو يميني ليبرالي، أم أم..الخ..).. ألا يمكننا الحديث مثلاً عن جمود وماضوية الخطاب الفكري عند الحركات والتيارات التي تتبع المنهج والأيديولوجيا المادية الديالكتيكية التي مضى عليها أكثر من مائة عام؟.. خصوصاً وأن تطبيقاتها على الأرض ألحقت دماراً هائلاً بالإنسان والواقع، وكلفت البشرية كثيراً من الدماء والدموع؟!!.. ثم إن الماضي - أساساً - هو تجربة أناس عاشوا قبلنا، فانطلقوا من خلال ظروفهم الموضوعية الثقافية والسياسية وأوضاعهم الخاصة والعامة ليكسبوا فكراً وعلماً وتاريخاً، وليقدموا نماذج حية واقعية أو مثالية.. أي ليكون لهم حضور ودور معين بين باقي الأمم والحضارات..

ولذلك فإن الماضي كزمن فائت لن يعود، هو زمنهم هم، وتجربتهم هم، وهو شأنهم هم وليس شأننا، إلاّ بمقدار ما يحتاجه الحاضر من الماضي، باعتبار أن الماضي قد يختزن في داخله بعض القضايا المهمة والأفكار الحقيقية التي تتصل بالحياة، وبأساس وجود الإنسان فيها. لأنها من خصوصيات الحياة، وليستْ من خصوصيات الزمن في عناصره الذاتية الضيقة والمحدودة. فالحياة تحتاج إلى أن تعطى بعض الأفكار في جميع مراحلها. ولذلك فإننا لا نستطيع أن نعتبر فكر المفكرين وثقافة المثقفين الذين قدموا لها تلك الأفكار فكراً وثقافةً ماضية، لأنه توجد أفكار من الماضي يمكن أن تكون صالحة للحياة في مدى الزمن كله، بحيث يكون الماضي مجرد حينٍ أو ظرف لها. فقيم ومبادئ العدل والحرية والعلم والتطور والتنمية، قيم ثابتة، ولكن مفاعيلها متغيرة.. وهي تكاد تكون هوية ثابتة في أي مجتمع حديث ومتطور.

ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أنّ هناك معارف وأفكاراً وثقافات تنطلق من خصوصيات زمانية ومكانية. أي أنها تخص الذين سبقونا في فكرهم وحياتهم وتجاربهم وخبراتهم بما يجعل إعادة إنتاجها أمراً مستحيلاً. ولكن تتم إعادة درسها وتحليله وتفكيكها من باب التذكرة وأخذ الدروس والعبر التي يمكن أن تقدمها لإغناء تجارب الحاضر. أي أن نجعل من الماضي ساحة للدرس والاعتبار على المستويين السلبي والإيجابي، وهو مجرد إطار للفكرة وللحركة في الواقع.

وهذا الوعي الفعال بمكتسبات الماضي ومواقعه وتجارب ناسه، يجب أن لا يقودنا إلى تقديس أفكاره، بما يحتويه من عناصر القداسة التي لا تتصل بزمن معين، ولكنها تتصل - كما ذكرنا - بالحياة. فأفكار القيم العليا والمبادئ الإنسانية الكلية، كالــ"الحرية" و"العدالة" و"التقدم" التي هي قيم ثابتة ومقدسة، وتسعى إليها الإنسانية في كل طور ودور.

من هذا المنطلق نحن نؤكد على أن تلك الانتماءات التي تعتبر - على حد زعم تلك النخب - "ماضوية" و"ما قبل وطنية أو قومية"، يمكن أن تكون سبباً وجيهاً للتوحد والتنوع الإيجابي المثمر، بما يغني المشروع الاجتماعي والثقافي لمجتمعاتنا العربية الإسلامية الغنية بالتنوعات الفكرية والاتنيات والقوميات والأديان والمذاهب المتعددة، مثل الحديقة الغناء الممتلئة بكل أنواع الزهور والرياحين والورود. وبما يزوده بالكثير من عوامل استمراره. ويوجد في داخل تاريخنا الحضاري العربي ما يعزّز بالوقائع هذا الاعتقاد.

وهذا الأمر لا يقتصر-في اعتقادي- على عالمنا العربي، إذ أنّ الأمم جميعاً مكونة من أقوام وشعوب وقبائل ذات منظومات قيم وثقافات ومذاهب دينية وانتماءات قبلية متباينة جداً، ومع ذلك فقد استطاعت تلك الأمم بناء مراكز إشعاع حضارية إنسانية، على ما هي عليه من طوائف وقبائل ومذاهب، تماماً كما تمكن العرب من ذلك في العصر الوسيط.

ولذلك فقد آن الأوان كي تتخلص تلك النخب الثقافية – التي ليس لها جذور حقيقية في داخل تربة وكيان الأمة الثقافي والاجتماعي- من هاجسها وعقدتها النفسية التي تستمر من خلالها في تخويف المجتمع والناس عموماً من (الخطر الشديد؟!) الكامن وراء تلك الانتماءات المتهمة دائماً في نظرها. وكذلك عليها أن تدرك معنا حقيقة أساسية، وهي أن التعدد (أي التعددية الفكرية والثقافية والدينية) أمر طبيعي في داخل التركيب والتكوين الاجتماعي، ويمكن أن يكون حالة إثراء وغنى روحي وثقافي للمجتمع، ومصدر قوة للواقع العربي المعاصر بدلاً من أن يكون عامل تفرقة وانقسام كما هي غاية أصحاب العقول الحارة من ذوي النزعات الاستئصالية التوتاليتارية.

وهذا الغنى التعددي والموزاييك الحضاري لا يمكن أن ينتج الانقسام وينذر بكارثة التفكك إلا إذا تمّ توظيفه سياسياً من قبل بعض الأطراف من هنا وهناك، وخصوصاً طرف النظم والسلطات الحاكمة التي نشأت أصلاً على قاعدة تمكين العصبيات المحلية - على مستوى الطائفة والقبيلة والعشيرة - من كيان سياسي تتوسع وتمتد به حدود سيطرتها وتحكمها إلى كامل المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أفضى ذلك إلى تشكيل أنظمة سياسية تأخذ "بالديكور" و"الموزاييك" السياسي الحديث مع إبقائها ومحافظتها - ضمنياً، وفي العمق - على مصالح المشايخ والزعماء والعشائر والقبائل.

ويبدو لنا أن حلّ هذه الإشكالية لا يكمن في القسر والضغط وتطبيق الحالة الاندماجية والتجانسية الواحدة - إذا صح التعبير- باعتبارها تفتقر للأساس الموضوعي في المقدمة والنتيجة. بل في البدء الفوري بإجراءات تحويل السلطة إلى ملكية عامة من حق المواطنين جميعاً، وإعادة السياسة إلى موقعها الحقيقي في المجتمع كما قلنا، وبحيث تكون (هذه السلطة) قابلة للتداول السلمي فيما بين أبنائه، ومن دون وجود عراقيل أو خطوط حمراء قد تتستر وراء شعارات المحافظة، والانغلاق، و..الخ، بما يؤدي إلى تفكيك حالة التعبئة النفسية والاحتقان العصبوي في داخل المجتمع الأهلي، من خلال فسح المجال لها لتعبر عن ذاتها بالحوار الواعي والعقلاني البعيد عن أدنى حالات الخوف أو التخويف من الآخر. باعتبار أن السبب الجوهري الذي أدى إلى نشوء العصبيات - وتوظيفها سياسياً - يتحدد من خلال قيام نظام السلطة الحاكمة في اجتماعنا السياسي العربي والإسلامي (منذ التاريخ الباكر) بالهيمنة والتسلط، واستخدامه لأدوات القمع والفرض المختلفة، واستبعاده للجماعات الاجتماعية الأخرى. الأمر الذي يولّد لدى هذه الجماعات - المقصيّة والمحرومة من حق المشاركة في صنع السياسة وتداول السلطة – شعور بالقهر والظلم في توزيع السلطة، والاستفادة منها، مما يدفعها للانكفاء، والانعزال، والتفكير بالعمل تحت الأرض، أو على الأقل التقوقع على همومها، وعصائبها الذاتية، وهواجسها المرضية، بما يضمن لها الدفاع – بالحد الأدنى – عن وجودها.

ولا شك بأن إفلاس الفكر السياسي العربي المعاصر - تحديداً فكر النخب السياسية وكثير من المواقع الثقافية المرتكز أساساً على ثقافة سياسية مضى زمنها، وأصبحت عبئاً ثقيلاً على الواقع، ولم تعد قابلة للصرف في عوالم راهنة مفتوحة ومتشابكة وتشاركية وتبادلية - هو السبب الكامن وراء إعادة إنتاج وصياغة أمثال تلك الأزمات والكوارث التي لا تزال تستنزف الجسد العربي. ولذلك لا بد من البدء الفوري بإنتاج ثقافة سياسية جديدة تبنى على معايير وأسس واقعية وإنسانية، تضمن للفرد حرياته الفكرية والسياسية كاملة، وتضع الشروط المعنوية والنفسية والسياسية التي تحمي هذا الفرد المستقل، وتقوم عليها فكرة المواطنة والحكم الصالح. وما لم تبدأ الدولة العربية السير على هذا الطريق الواضح والصريح فإن أزمتها – التي تمثلت في إرادتها القسرية الهادفة لبناء مواطن مستقل ومتحرر من ضغط المجتمعات المتخلفة والعصبيات الجزئية المتحكمة – ستستمر وتتوالد ذاتياً بمظاهر وألوان جديدة متنوعة تقف على رأسها أزمة التطرف والعنف الرمزي والمادي التي ستزداد من جانب بعض الحركات الدينية أو من جانب بعض الحركات العلمانية، لأن العنف يستولد العنف، والظلم ينبئ بفيض من الكوارث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

أما الأزمة الطائفية التي تعيشها مجتمعاتنا منذ عقود، والحرب المشتعلة اليوم نتيجة انفجارها فأسبابها بالأساس وفي العمق النفسي والفكري، غير دينية، ولا يفسرها التنوع الطائفي، ولا جهل العامة ولا تخلّف كثير من الجماعات ورجالات الدين.. بالعكس تماماً، إنها النتيجة الطبيعية لبؤس السياسة المستحدثة، وفقرها الفكري، وهي سياسة تم فرضها من فوق منذ نشوء الدولة الوطنية، قامت بتطبيقها قسرياً نخب اجتماعية تفتقر إلى "ثقافة الدولة" كما سلف القول، ولا ترى في الوطنية إلا عصبية إضافية تضاف إلى العصبيات الأخرى، وتتناقض سيطرتها مع أي التزام بمبدأ الحرية وحكم القانون، سياسة صاغها وخطط لها وطبقها رجال محدودو الأفق وغالباً جاهلون بحاجات الدول والشعوب، بصرف النظر عن منشئهم، مدنياً كان أم دينياً.. وليس لتلك الحروب أي فرصة في أن تستمر من دون إرادة الفاعلين السياسيين.

ويبدو أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكاً لمخاطر حقيقية وحتمية، بقدر ما يعبّر عن الكسل والبؤس اللذين اتسم بهما الفكر القومي، والوطني المحلي، الذي اتجه في سعيه إلى إقامة دولة وطنية حديثة، وإضفاء المشروعية السياسية عليها، إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج، بدل بناء مفهوم المواطنة، والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط تحقيقها، وهي الحرية والمساواة القانونية وحكم القانون الذي لا تقوم من دونه أي مواطنة، ولا رابطة سياسة، أي وطنية.

وقد أفضى ذلك كله (وعلى رأسه عدم بناء دول وطنية تقوم على العدالة والمساواة) مع وجود أرضية تاريخية خصبة بطبيعة الحال، إلى انتعاش جو الإرهاب، وتفشي التوحش والهمجية في التعامل حتى مع الموافقين.. فما بالك بالعلاقة مع المخالفين..

لقد كان من الممكن للقوى الحاكمة في بلداننا (وحيث توفرت ظروف مثالية لديها) أن تبذل مزيداً من الجهود لإعادة ضخ الدماء الجديدة في شرايين الانتماءات التقليدية القبلية والعشائرية لبث الحياة الجديدة فيها، وبنائها مجدداً على قيم الحداثة والانتماء الوطني الحقيقي. وإعلاء قيم الأمة وليس قيم العشيرة.. والأمة هنا يختلف معناها السياسي عن معناها الديني، إذ إن الأمة، بتعريف "بندكت أندرسون" الشهير، هي الجماعة السياسية المتخيلة، "حيث يشمل التخيّل أنها محددة وسيدة أصلاً"، وهي متخيلة وليست خيالية، بل هي جماعة واقعية، لكن أفرادها لا يعرفون بعضهم مباشرة، ويحتاجون إلى تخيّل أنفسهم داخل هذه الجماعة، عبر أدواتٍ، مثل اللغة المطبوعة والثقافة والتاريخ المشترك، ولهذه الجماعة أهداف سياسية، وحدود تقف عندها، وسيادة على رقعة جغرافية محددة، والسيادة مفهوم حديث، كما هو مفهوم الأمة هذا، ولم يكن موجوداً في عصر الإمبراطوريات، حين كان الإمبراطور (أو الخليفة في الحالة الإسلامية) يحكم مناطق شاسعة، فيها شعوب مختلفة، لا يجمعها سوى نفوذ الإمبراطور عليها.

الجماعات الدينية والمذهبية متخيلة أيضاً، لكنها ليست محدودة بحدود معينة. لذلك، الأمة الدينية ليست أمة بالمعنى السياسي الحديث، حيث لا حدود لوجود أتباع الأديان المختلفة، فالمسلمون مثلاً موجودون في كل أنحاء العالم، وليس هناك سيادة لهم على أرضٍ محددة، كما أن مفهوم الأمة الوارد في القرآن الكريم حمل معاني مختلفة، بحسب السياق، مثلما يشرح ناصيف نصار في كتابه (مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ) ، وفي كل هذه المعاني، لا يوجد معنى يشابه المعنى السياسي الحديث للأمة، الساعية إلى تقرير مصيرها، وإيجاد كيانٍ سياسي يعبر عنها.. وهناك أزمة معروفة داخل الوطن العربي، تمثلت في عدم تعبير الكيانات الوطنية القائمة عن أمم ذات هوية متماسكة، وعدم مطابقة حدود الدولة القُطرية حدود الأمة العربية.

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة