قراءة في الثورة الحسينية

السنة الرابعة عشر ـ العدد 167 ـ (محرم ـ صفر 1437 هـ) تشرين ثاني ـ 2015 م)

بقلم: المحامي الشيخ مصطفى ملص

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

قيل الكثير من الكلام في الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد النبي(ص)، هو أول مصلح في الإسلام حمل السلاح من أجل إعادة الأمور إلى نصابها بعدما أدى النهج الأموي في الحكم إلى الانحراف بالأمة عن السبيل الذي وضعها عليه النبي الأكرم(ص)، وجرى احترامه في عهد الخليفتين الأول والثاني.

ثم كانت بداية الخلل السلوكي في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان حيث عمدت بطانته إلى مخالفة تعاليم الدين والاشتغال بالألاعيب السياسية وضرب مبدأ الشفافية في التعاطي مع مسائل الحكم، وكل ذلك كان يتم من وراء ظهر الخليفة الطاعن في السن.

وقد أسّس مقتل الخليفة الثالث لبداية مسيرة الاضطراب والقلاقل وشق الصف، مما جعل فترة حكم الخليفة الرابع علي بن أبي طالب فترة حروب وفتن وانشقاقات وفتح الباب على مصراعيه أمام حركات التمرد، بل فتح الباب أمام المكائد والمخططات الرامية إلى الاستيلاء على الحكم ومنازعة الخليفة في شرعيته بحجج واهية ومصطنعة وانتهت تلك المرحلة بمقتل أمير المؤمنين على يد فئة ضالة ضمن مؤامرة لم تكتمل فصولها وكانت نتيجة تلك المؤامرة تمكين بني أمية من الاستفراد بالساحة باستعمال المكائد السياسية أولاً ثم بالسيف والبطش واستعمال أساليب الترغيب والترهيب وقد تمكن معاوية بن أبي سفيان من بسط سيطرته على بلاد المسلمين مستعيناً ببعض الأسماء المعروفة مثل عمرو بن العاص الذي وقف في صفه أو ببعض من أثر الحياد وأعتبر أن السلامة في الابتعاد عن كلا المتنازعين، فكان في موقف هؤلاء دعماً غير مباشر لفئة على فئة أخرى.

ثم كان انتقال الحكم من معاوية إلى يزيد بطريقة فيها الكثير من المكر والخديعة والقهر وأجبر الناس على مبايعته بطرقٍ لم يعهدها المسلمون من قبل ما دفع بالعديد من الشخصيات ذات الوزن الاجتماعي والسياسي إلى رفض مبايعته ومن هؤلاء الإمام الحسين الذي أخذ على يزيد بن معاوية مخالفته للسلوك الإسلامي ليس على صعيد السياسة فقط بل على صعيد السلوك الشخصي حيث كان مجاهراً بالفسق والفجور ومعاقرة الخمرة وكان لا يقيم حدود الله في علاقاته النسائية.

وساد الفساد والظلم في مختلف أصقاع الدولة الإسلامية، وتولى أمور الناس حكام وولاة تميزوا بالقسوة والشدة وظلم العامة والخاصة ما دفع الناس إلى إعلان تذمرهم ورغبتهم في الثورة والتمرد على هذا الواقع، وجاءت الرسائل من الأمصار إلى الإمام الحسين بن علي باعتباره الشخصية الأهم في معارضة السلطة السياسية تدعوه ليقود ثورة التغيير وإعادة الأمر إلى ما كان عليه أيام الخلافة الراشدة وبالفعل جرى تبادل الرسائل وأخذ العهود والمواثيق وحصل رسل الإمام الحسين على عهود المبايعة والدعم ممن أعلنوا رغبتهم في المشاركة في ثورة الحسين على الواقع الظالم.

وبغض النظر عن بعض النصائح المتشائمة التي قدمت للحسين ومحاولات ثنيه عن الخروج من الحجاز إلى العراق لتنفيذ خطته، إلا أنه قرر المضي في ما عزم عليه وخرج مع أهله وجماعته قاصداً القوم الذين عاهدوه على النصرة بالنفوس والأموال.

واستطاع أتباع يزيد من الولاة والقادة أن يغيروا الواقع بل أن يقلبوه رأساً على عقب وأن يشتتوا أو يغيروا في قناعات الذين راسلوا الحسين وكان اعتماده عليهم في ثورته، مما أوصله في نهاية الأمر إلى أن يواجه أعداءه بنفسه وأسرته وبعض الخلّص من أتباعه في معركة غير متكافئة انتهت بمصرعه والكثيرين ممن كانوا معه، ثم جرى سبي نسائه وبعض أولاده حيث نقلوا إلى الشام في مشهد مأساوي قلّ نظيره بين البشر.

ننتقل من هذا السرد للوقائع لنناقش في شخصية الحسين وصوابية موقفه في ظل المعطيات المحيطة به.

تختلف شخصية الإمام الحسين عن معاصريه في أنه كان سليل ببث النبوة وحامل العلم الموروث عن أبيه وجده، جده مدينة العلم ووالده بابها، وأنه الشاهد على عصره الذي يتوقف عليه بيان الحق من الباطل والهداية من الغواية، وقد سعى القوم إلى أخذ شهادته عبر الحصول على بيعته بالإغراء أو بالإكراه، وكانت هذه البيعة لو حصلت بمثابة براءة الذمة لما أقدم عليه بنو أمية خلال فترة حكم معاوية بن أبي سفيان ومن بعده ولده يزيد، وبهذه البراءة المطلوبة يحصلون على شرعية لم تكن قد ثبتت لهم، بل أكثر من ذلك كان يمكن أن يعتبر صمت الحسين وسكوته عن أفعالهم بمثابة إقرار بما يريدون من شرعية، وإقرار أيضاً بصوابية ما أقدموا عليه من أعمال تتنافى وقيم الدين.

لذلك وأمام هذه المسؤولية التاريخية العظيمة لم تكن الخيارات واسعة ولا متعددة أمام الحسين، وارث علم النبوة وسليلها، كان لا بدّ من حركة معينة يعرف فيها القاصي والداني حقيقة الموقف الشرعي من الواقع الذي فرض على المجتمع المؤمن بالإكراه عموماً، مع بعض حالات شراء الذمم أو ما يسمى بالإغراء بمنافع السلطة ومناصبها. وتجسدت هذه الحركة أولاً في الموقف الرافض لمبايعة يزيد أساساً ثم في الاستعداد لمواجهته بالأسلوب الذي قهر الناس به وهو السيف وذلك عبر حركة المراسلات التي جرت بينه وبين أهل الكوفة وسواهم ممن عبّروا له عن رفضهم لممارسات السلطة الأموية الغاشمة وعن استعدادهم لمواجهتها تحت قيادته نظراً لما يمثله الإمام الحسين في شخصه من مكانة في الإسلام.

ولم يقصر الإمام في الإستيثاق لنفسه من القوم وأرسل إليهم كوادر حركته ليعملوا على توطئة الظروف لإطلاق عملية المواجهة واستنقاذ الإسلام من براثن مغتصبيه.

وقد كان شعار الحسين في المواجهة واضحاً جلياً إذ عبر عنه بقوله: "لم أخرج أشراً ولا بطراً ولكني خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي".

ولم تكن السلطة الغاشمة غافلة عما يزمع الحسين القيام به فقد كان لها عيونها التي ترصد حركة الناس في العراق، وتراقب سير الإمام الحسين من الحجاز باتجاه أنصاره، لقد كانت حذرة ومتأهبة ومستعدة للقيام بكل شيء من أجل إفشال خطة الإصلاح التي وضعها الحسين. فعملت كما تعمل أجهزة الاستخبارات اليوم على القيام بكل ما هو متاح لها فلاحقت القادة الذين أرسلهم الحسين ليهيئوا الظروف من أجل إطلاق حركة المواجهة، وعملت على الإيقاع بهم وتصفيتهم واحداً بعد آخر، ثم عمدت إلى انصارهم فنكلت بهم أشد تنكيل، وعملت على تصفية رموزهم.

والحقيقة أن نتائج المواجهة لم تكن خافية على ذي لب فبعد الإرهاصات الأولية أدرك الحسين أنه ليس متروكاً وأن بني أمية يسعون لتصفيته في موسم الحج في ذلك العام وقد عبر عن ذلك في حواره مع الفرزدق الشاعر عندما التقى به بعيد خروجه من مكة فسأله عن سبب استعجاله الخروج قبل موسم الحج فقال له: "لو أخرج لأخذت أي لقتلت، فاستعجل الخروج حتى لا يقتل في الحرم فتنتهك حرمة الحرم بقتله فيه."

ثم سأل الحسين الفرزدق القادم من العراق عن موقف الناس هناك فقال له عبارته المشهورة: "قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية وما النصر إلا من عند الله". وقد وافقه الإمام على تحليله للواقع في العراق.

أضف إلى ذلك أن كل الناصحين المخلصين طلبوا من الحسين أن لا يخرج إلى العراق ولكنه أبى وقال لابن عباس: "يا بن عم أني والله لأعلم أنك ناصح مشفق ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير".

وقال في موقف آخر: "لأن اقتل في مكان كذا أو كذا أحبّ إليّ من أن تستحل حرمتها بي – يعني الحرم."

إذن لم يكن الحسين مغروراً ولا مغشوشاً بنتيجة المعركة ولكنه كان يريد أن يضع حداً لهذا الزيف الذي لحق بالدين ولو أدى ذلك إلى مصرعه.

ومع ذلك حينما أحكم جيش يزيد الطوق على الحسين وقف معه، لم يترك الأخذ بالأسباب المشروعة للنجاة ففاوض على تركه يعود من حيث أتى أو أن يخرج إلى بلدٍ آخر بعيد عن العراق، ولكنه لم يسمح له بذلك، وإنّما خيّر بين أمرين لا ثالث لهما وهما إما أن يبايع يزيداً على الخلافة وإما القتل، وكانت عبارته المشهورة، تخيرنا بين السلة والذلة وهيهات من الذلة، والذلة هي البيعة ليزيد والسلة والموت، لقد أعلنها مدوية ليكن الموت هو الثمن الذي ندفعه من أجل صيانة وحماية الإسلام. وهكذا كان.

وقد كانت جريمة بني أمية على هذا القدر من الفحش والطغيان لتكون لعنة أبدية لكل ظالم ومغتصب ومعتد على حرمات الله، كما كانت تضحية الإمام الحسين عليه السلام على هذا القدر من الرفعة والسمو لتبقى رمزاً أبدياً لتحدي الظالمين وليخلد في سجلات التاريخ أن القيم والمبادئ والأخلاق أسمى من النفوس العزيزة، وأغلى من الأرواح والدماء التي ينبغي أن تبذل رخيصة في سبيل إحقاق الحق والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. 

اعلى الصفحة