|
|||||||
|
لا يمكن وضع مسارعة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للتوجه إلى موسكو، عشية قيام الطائرات الحربية الروسية بدك مواقع الإرهاب والإرهابيين في سوريا، إلا في سياق فهم وتقدير واقعيين مبنيين على حقيقة قصور اليد أمام الروس الذين لم يخفوا إصرارهم على دحر واستئصال قوى الإرهاب والتطرف والتكفير التي باتت تهدد كافة دول المنطقة والعالم، وبالأخص دول الاتحاد الروسي الذي أعلن تنظيم "داعش" إنها تتصدر أجندته الإرهابية. وما يعزز هذا الاستخلاص، هو أن إسرائيل كانت أول من وصف المشاركة الجوية الروسية في الحرب على الإرهاب في سوريا بالعامل الذي من شأنه أن يغيّر موازين القوى في الشرق الأوسط، وحذرت من تداعياته السلبية على "الأمن الإسرائيلي" نتيجة فقدان أداة الضغط الرئيسية على أعدائها الذين أدركوا، وبسرعة قياسية، أن الكيان العبري فقد سلاح تهديدهم باستهداف سوريا، كما فقد القدرة، وإن كان بشكل نسبي، على تأمين متطلبات دعم وإسناد مجموعات الإرهاب التكفيرية التي أعدّت لتوفير متطلباته الأمنية، ناهيك عن الخشية من انتقال مزيد من الأسلحة النوعية إلى "حزب الله" في لبنان، وفق ما تردد المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية. بضاعة مزوّرة وفاسدة ما حمله بنيامين نتنياهو في زيارته الآنفة الذكر لموسكو، والتي اعتبرها بعض المعلقين الإسرائيليين بمثابة "لدغة" لواشنطن التي سبق وأن خذلت تل أبيب في الاتفاق النووي مع إيران، كان، في جُلّه، بضاعة مزوّرة وفاسدة لا يمكن تسويقها لدى سيد الكرملين الذي أحدثت سياساته الحازمة والجريئة تغييرات بنيوية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، كان أحد أهم تجلياتها إنهاء التفرد الأمريكي بمصير وشؤون الجوار الإقليمي ومنطقة الشرق الأوسط. ولعلنا لا نغالي إذا اعتبرنا أن ما عاد به رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي بذل كل ما في وسعه للتحايل على الروس، وإقناعهم بجدّية مخاوف تل أبيب إزاء تطورات المشهد السوري: "شنّ عمليات ضد إسرائيل انطلاقاً من سوريا، ونقل أسلحة كاسرة للتوازن إلى "حزب الله"، أو انزلاقها إلى منظمات إرهابية"! وضرورة تنسيق النشاطات الجوية مع الروس فوق السماء السورية، بهدف منع الاحتكاك بين الجيشين، لم يخفف، ولو بمقدار بوصة، من وطأة القلق الإسرائيلي من مفاعيل وتداعيات الدخول الروسي المباشر على خط الأزمة السورية، وعلى المعادلات القائمة في المنطقة. ويبدو، وفق كل المعطيات الإسرائيلية، أن ما يخيف ويرعب نتنياهو الذي فنّد القيصر الروسي كل مزاعمه المتعلقة بفتح جبهة جديدة في الجولان، في المدى القصير، وإمكانية تسريب الأسلحة الروسية لـ"حزب الله" الذي تعتبره موسكو حليفاً أصيلاً، لا بل ما يخيف جميع الإسرائيليين الذين تبيّنوا حقيقة ترهّل وعجز حلفائهم الأمريكيين وطعنهم الحلفاء في السر والعلن، يتجاوز العناوين والحيثيات المتناقضة المعلنة، ولا يقف عند مسألة السلاح "الكاسر للتوازن" وإمكانية وصول جزء منه إلى المقاومة اللبنانية، أو الاحتكاك العسكري الافتراضي مع الروس، وهو بالمناسبة، طرح وقح ومراوغ ومتناقض لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال، كونه يعطي لإسرائيل حق التدخل في سوريا، ويفترض التنسيق بين من سيواجه ويقاتل الإرهاب، وبين من يدعمه ويتدخل عسكرياً لمساعدته، وهو ما تعمل على ترويجه ثكنات الإعلام المعادية. ما يخيف نتنياهو والإسرائيليين يتصل بالتطورات السورية نفسها ومصيرها والتحول فيها باتجاه تثبيت وتعزيز موقع أعداء إسرائيل، ويتمحور، وكما أوضح مستشار الأمن القومي لرئيس الوزراء الإسرائيلي يوسي كوهين، حول الخشية من أن "تنتج روسيا في المنطقة واقعاً جديداً لم يكن قائماً في الشرق الأوسط منذ عشرات السنوات". أي بكلام آخر، لن تتوقف الخسارة الإستراتيجية الإسرائيلية عند تبخّر الأحلام باستكمال عملية تدمير سوريا التي تشكل واسطة العقد في محور المقاومة، وتلاشي الآمال بإسقاط المنطقة برمتها في مستنقع التفتيت والتقسيم، وإنما تتعدى ذلك إلى فقدان الدعم الدولي اللامحدود الذي تمتعت به للدولة العبرية طوال العقود الماضية، وعودتها إلى مربع الثكنة الوظيفية التي تتحول بالتدريج إلى عبء على الجميع، لاسيما وأن الإسرائيليين هم أكثر من يدرك بعمق مغزى وتداعيات الاندفاعة الروسية و"خريطة طريق" الرئيس بوتين الذي لم يتردد في إعادة تربية الرئيسين الأمريكي والفرنسي، وتذكيرهما بأنهما ليسا مواطنين سوريين حتى يكون لهما رأي في اختيار قادة سوريا، قبل أن يؤكد من نيويورك أن التنسيق المفترض مع إسرائيل الذي لا حاجة لوجود هيئة خاصة به، هو لمحاربة الإرهاب، وليس لانتهاك السيادة السورية. أما بخصوص الترجمة العملية المباشرة لهذه المتغيرات التراكمية التي ستنتج واقعا جديدا من شأنه إعادة إنتاج هواجس الوجود لدى الإسرائيليين، فالمرجح أن تتجسد، وفق تقديرات تل أبيب، برفع مستوى التنسيق والتعاون المباشر والميداني، بين الروس والإيرانيين والجيش السوري و"حزب الله"، في القادم من الأيام، ما يعني أنه، وفي مقابل ضعف إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي يضع الدولة العبرية حاليا، وكما يقول المحللون الإسرائيليون، أمام وضع "إشكالي"، ثمة إمكانات عسكرية وتقنية هائلة قد تتوافر لجبهة أعدائها, ناهيك عن أن الاندفاعة الروسية في موجهة الإرهاب في سوريا، والتي تبدي واشنطن، أقلّه علناً، "تفهماً" لها، ستشكل قفزة واسعة باتجاه بناء تحالف مع دول عربية عديدة كمصر والجزائر والعراق، إضافة إلى سوريا وإيران و"حزب الله"، وهو حلف أقوى من الحلف الأمريكي الذي بدأ في الانهيار بعد "اتفاق فيينا" النووي، ما يفرض على إسرائيل التعايش مع الواقع الجديد، ومحاولة الحدّ من تداعياته السلبية على المستويات كافة. تنسيق أمني فعلي.. أم افتراضي؟! ولأن هذا الإقرار الإسرائيلي بمستوى التهديدات التي فجرتها المشاركة العسكرية الروسية في سوريا، والاعتراف الضمني بحجم وقدرات الدولة العبرية الفعلي، لا يعنيان الاستسلام لهذا الواقع وعدم التحرك وفعل المستطاع للحد من التداعيات المحتملة، فقد تم بذل جهد مضن من قبل المؤسسة الإسرائيلية لإيجاد "آلية تنسيق أمنية" مع الروس الذين يحرصون، في الوقت الراهن، على تحييد ما أمكن من الدول لتسهيل عملية القضاء على الإرهاب في سوريا، لم تجد تعبيراً لها في تصريحات ومواقف المسؤولين في روسيا ولا في إعلامهم، وإنما اقتصر تضخيمها وتزوير ماهيتها وترويجها على الإسرائيليين وماكينات الإعلام المعادية. أما حقيقة الأمر فهي أن موسكو تماشت مع الطلب الإسرائيلي، الذي قدمه نتنياهو، وأرسلت نائب رئيس أركان الجيش الروسي إلى تل أبيب، للتباحث في هواجس دولة العدو، وما رشح من هذه المباحثات فقط، وبحسب مصدر عسكري إسرائيلي رفيع (موقع "واللا")، هو أن اللقاء خصّص للتعارف بين الجانبين، مع عرض "للشؤون الإدارية". وحسب المصدر، فإن "من السابق لأوانه تحديد كيف سيبدو التنسيق وكيف سيتم، وهو مرتبط بشكل أساسي بجاهزية الجانبين". ومع ذلك، ما زال القادة الإسرائيليون يصرّون، علناً أو عبر التسريب لوسائل الإعلام، على أن ثمة تعاوناً وتنسيقاً تمت بلورتهما مع الجانب الروسي، بعد تمكّن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ورئيس أركانه غادي ايزنكوت، وبقية الحاشية التي اصطحباها إلى موسكو مؤخراً، من إقناع الروس بـ"عدالة" المطالب الإسرائيلية، والاتفاق معهم على تشكيل لجنة للبحث في إنشاء آلية تنسيق لـ"منع خطر الاصطدام والاحتكاك بين الجيشين في الأراضي السورية"! وللإيحاء بأن الطريق ممهدة للتفاهم مع موسكو حول عدم المس بـ"الخطوط الحمر" الإسرائيلية: نقل أسلحة "كاسرة للتوازن" من إيران وسورية إلى "حزب الله"، أو شنّ عمليات ضد إسرائيل انطلاقاً من سوريا، أكدت مصادر أمنية، وفق موقع "واللا" العبري، أن سلاح الجو الإسرائيلي بدأ، بالفعل، إنشاء جهاز تقني يعني بتنسيق النشاطات الجوية مع الروس فوق السماء السورية، ومنع الاحتكاك بين الجيشين. آلية التنسيق الافتراضية التي تشيع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية البدء ببلورتها مع الجانب الروسي للحفاظ على حرية عمل آلة الحرب العسكرية في سوريا، تتمحور حول محاولة انتزاع موافقة، أو على الأقل تفهّم روسيا، صراحة أو مواربة، على ما يسمّى DECONFLICTION، أي إنشاء آليات تنسيق مسبق تقلِّص مخاطر الاحتكاك بين طائرات إسرائيلية وأخرى من سلاح الجو الروسي. ويمكن تفعيلها عبر استخدام خطوط هواتف مباشرة "ساخنة" أو "حمراء" تربط بين قيادتي الطرفين، أو على الأقل الاتفاق على أن طائرات سلاح الجو لهذا الطرف ترسل إشارات تعريف لطائرات سلاح جو الطرف الثاني وبالعكس، وهو ما يضمر السعي للتوصل إلى آلية لتقسيم الأجواء السورية إلى مناطق نفوذ ونشاط بين الطرفين: عدم تدخل الروس في المناطق القريبة من الجولان المحتل، أو في العمليات التي ترى تل أبيب من الصواب القيام بها، وتعهد إسرائيل، في المقابل، بعدم الاقتراب من مناطق الشمال السوري! حسابات ومخاوف.. وملفات عالقة! المفارقة، في هذا السياق المغلف بالضبابية والتضليل والتناقض، لا تتعلق بالكذب الإسرائيلي الفاضح ومحاولة خداع الذات والآخرين، وتسويق مشهد وهمي افتراضي للمستقبل تحتفظ فيه إسرائيل بمكانتها المعتادة ككيان لا تنطبق عليه معايير الشرعية الدولية، ويشكل استثناءً في انتهاك سيادة الدول، وبالأخص في سوريا التي أكّد الرئيس بوتين أن جيشها الوطني الشرعي هو الوحيد الذي يواجه الإرهاب، وأن السبيل الوحيد لحلّ أزمتها هو دعم الرئيس بشار الأسد، بل تتصل كذلك بتناقض هذه المزاعم الإسرائيلية مع الاستعدادات التي يجريها جيش العدو الإسرائيلي، تحسباً لاحتمال تسلل مقاتلات روسية إلى القسم المحتل من هضبة الجولان. ووفق بعض التقارير العبرية، فإنه، وعلى الرغم من الزيارة التي قام بها نائب رئيس هيئة الأركان العامة الروسية، الجنرال نيكولاي بوغدنوفسكي يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي إلى تل أبيب، ولقائه مع اللواء يائير جولان، نائب هيئة الأركان العامة الإسرائيلية، غير أن احتمال دخول المقاتلات الروسية إلى الجولان المحتمل ما زال قائماً، ويؤرق المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي سبق وأن أعربت عن مخاوفها من إمكانية تقييد حرية عمل سلاح الجو في سماء سوريا، ما يعني فقدانها القدرة على تنفيذ خططها الخاصة باستهداف ما تسميه "تنظيمات موالية لإيران" تسعى لفتح جبهة من الجولان، أو قوافل السلاح التي تنقل من سوريا إلى "حزب الله "في لبنان، كما تقول. وسط كل ذلك، ثمة ملفات ما زالت عالقة تناقشها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بمعزل عن الجانب الروسي، من بينها عدم معرفة ما يقبع خلف العمليات الروسية في سوريا والمنطقة، على الأصعدة العسكرية والأمنية والسياسية، وهي قضية تتحفظ موسكو على الكشف عنها، وتعلن فقط، بشكل شبه يومي، المهام التي نفذتها ضد أهداف سورية، تاركة المجال مفتوحا أمام تقديرات وتحليلات الخبراء والمراقبين حيال التكتيكات التي تتبعها والإستراتيجية العليا التي حددتها بشكل مسبق، فضلاً عن ذلك، ولأن تل أبيب تخشى من تتسلل مقاتلات روسية إلى هضبة الجولان المحتلة، وهو احتمال واقعي للغاية، بصرف النظر عن الحديث عن أي تنسيق بين الجانبين، فإن الدوائر العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية تتبَع مسارات المقاتلات والقاذفات الروسية في سوريا، وطبيعة الاستخدام الروسي للصواريخ البالستية العابرة للقارات، والتي أطلقت قبل أسابيع من بحر قزوين، كما تبحث تلك الدوائر سبل منع المقاتلات الروسية من التسلل إلى المجال الجوي الذي تسيطر عليه إسرائيل، وبخاصة في حال شاركت تلك المقاتلات في عمليات ضد الإرهابيين في مناطق الجنوب السوري، أي على مقربة من الحدود السورية مع إسرائيل أو الأردن. ويقيس الخبراء الصهاينة على واقعة دخول مقاتلات روسية إلى المجال الجوي التركي، وهي الواقعة التي تكررت يومي الثالث والرابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. وتعتقد تل أبيب أن تطورا مماثلا على جبهة الجولان يمكن أن يحدث، خصوصاً وأن الجنرال بوغدنوفسكي أبلغ نظيره الإسرائيلي أن بلاده "تعتزم تنفيذ هجمات جوية ضد الإرهابيين في جنوب سوريا على مقربة من حدود إسرائيل"، ناهيك عن الخشية من تكرار إطلاق القوات الروسية لصواريخ بالستية من سفن حربية في بحر قزوين، ضد أهداف للإرهابيين في القنيطرة على غرار ما حدث في مناطق حماة، وهو ما يمكن تلمسه من تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لوسائل إعلام، من أنه "أصبح لإسرائيل حدوداً مشتركة مع روسيا بعد تدخلها العسكري المباشر في سوريا"، وأن هذا الواقع يدفع تل أبيب "لتجنب إصدار مواقف ضد موسكو". غير أن كل هذه المخاوف لم تمنع الإسرائيليين الذين تلقّى كبيرهم (نتنياهو) تحذيراً روسياً، بوقف أي تدخل في الجبهة الجنوبية السورية، لقاء ضمانات بعدم تحويلها إلى مصدر تهديد للأمن الإسرائيلي، أقله في الوقت الراهن، من محاولة أعادة خلط الأوراق، والتلويح بورقة "الحزام الآمن" في المناطق المحاذية للجولان المحتل، من خلال تسخين الأجواء واستهداف مدفعية الاحتلال مواقع للجيش السوري في القنيطرة، بحجة سقوط صاروخ أطلق من سوريا على الجولان من دون أن يتسبب في إصابات أو أضرار، ودفع إرهابيي "جبهة النصرة" وفصائل مسلحة أخرى، إلى إطلاق معركة جديدة في ريف القنيطرة (وبشّر الصابرين) لإنجاز ما يمكن إنجازه قبل الاصطدام بجدران الحقائق الجديدة التي كشفت، وبشكل لا يقبل اللبس، أن القرار باستئصال الإرهاب في مناطق الجنوب السوري، وكغيرها من مناطق البلاد، حازم ونهائي، وأنه طالما تعطي إسرائيل لنفسها حرية العمل الجوي في سماء سورية، أو تساند الإرهابيين في العدوان على الجيش السوري، فثمة خطر للانزلاق إلى صدام مع الروس الذين باتوا يتشددون في موقفهم من إسرائيل ليس فقط في الموضوع الفلسطيني بل حتى في مسألة السلاح النووي الإسرائيلي، وضرورة تحويل المشرق العربي إلى منطقة خالية من أسلحة التدمير الشامل. ماذا عن الأمريكيين.. الخاسرين؟! في المقلب الآخر، وبموازاة محاولات الهروب الإسرائيلية من حقائق التغييرات الدولية النوعية الصاخبة التي تبلور ملامح النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب، والتغطية على واقع تآكل الدور الإسرائيلي ومحدودية قوته العسكرية التي ستقف وجها لوجه، عاجلا أو آجلا، أمام جبهة سياسية وعسكرية وأمنية واسعة، بقيادة روسيا، على مستوى الإقليم والعالم، كشف السجال والكباش الروسي- الأمريكي الحاد الذي انفجر على خلفية رفع موسكو منسوب الدعم العسكري لسوري، ودخول السلاح الجوي الروسي بقوة على خط منازلة الإرهاب واستئصاله، عمق الهوّة ما بين مقاربتي موسكو وواشنطن لمسألة الإرهاب، ولاسيما في سوريا التي يقول المسؤولون الروس، وعلى مختلف مستوياتهم، أن أمنها من أمن بلادهم، وأن انتصارها على الإرهابيين المستجلبين من كافة أنحاء المعمورة هو انتصار لروسيا وأوروبا، وللولايات المتحدة أيضاً، كما افتتح (السجال) أيضاً، مرحلة جديدة من الصراع بين الجانبين اللذين يصرّ أحدهما (روسيا) على ضرورة الالتزام بمبادئ وقرارات الشرعية الدولية، ورفض التدخل الأمريكي، أو سواه، في شأن أي دولة ذات سيادة، فيما يواصل الآخر (أمريكا) استخدام الإرهاب والإرهابيين ضد سوريا والعراق، ويبذل كل ما في وسعه للإبقاء على المناخ الذي يسمح باستمرار الفوضى في أراضي البلدين حتى تحقيق أهدافه الجيو/سياسية التي تكسر الحلف الممتد من موسكو إلى جنوب لبنان، وتتيح بلورة كيانات مذهبية وإثنية يمكنها التمدد شرقاً وشمالاً نحو إيران والاتحاد الروسي وجواره، وإعادة فرض السيطرة وتعزيز النفوذ في العالم العربي بعد تجزئته وتقسيم دوله. بطبيعة الحال، يعلم الأمريكيون الذين يخسرون العديد من أوراقهم الميدانية والسياسية والدبلوماسية أمام الروس وحلفائهم في محور المقاومة ومجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي، أن تعزيز الدعم الروسي للدولة السورية من شأنه مراكمة رزمة إضافية من إنجازات موسكو التي باتت تمسك بخيوط العملية السياسية والدبلوماسية المتعلقة بسوريا، وتقوم بمساعٍ مكثَفة لعقد "جنيف3"، وتنتظر أن تُبّلَغ من الأمريكيين والسعوديين أسماء شخصيات المعارضة التي تريد المشاركة في المؤتمر. ولعل الأبرز في هذه الإنجازات هو التالي: تسريع هزيمة الإرهاب والإرهابيين في سوريا، وإقناع كل من لم يقتنع بعد بأن الجيش العربي السوري هو القوة العسكرية الأساسية والأكثر فعالية في مواجهة الإرهاب؛ توجيه رسالة شديدة الوضوح إلى جميع الدول التي عانت خيبة أمل من الولايات المتحدة في المنطقة العربية، وفي مقدمها مصر، بأن موسكو لا تتخلى عن حلفائها وأصدقائها؛ إنذار إسرائيل بالتوقف عن التدخل في الشؤون السورية، ووضعها أمام مأزق ارتسام منطقة مقاومة قبالة الجولان المحتل، وإجبار تركيا أردوغان على التخلي عن أحلام المنطقة الآمنة، أو العازلة، والتوجه نحو معالجة الانتفاضة الكردية المتصاعدة، ناهيك عن عزل نظام آل سعود ووضعه بين حدَي: قبول التسوية في سوريا (واليمن) أو الهرولة نحو المزيد من التخبط والتآكل والانهيار. ولأن الأمريكيين الذين يريدون "حرباً" طويلة ضد "داعش" تمكّنهم من التلطّي خلف دخانها الكثيف، وإطلاق موجات إرهابية متتالية في سوريا من شأنها استنزاف القوة السورية، وتصوير الجيش السوري كقوة غير قادرة على مكافحة الإرهابيين، والضغط باتجاه إنجاز صفقة يبقى فيها النظام السياسي، دون الرئيس بشار الأسد، ويغدو عضواً في التحالف الأمريكي ضد "الإرهاب"، لا يريدون، ولا يستطيعون تقبّل حقيقة أن روسيا- بوتين التي تتمدد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، تعبر اليوم عتبة تصحيح نظام القطبية التي فقدتها البشرية في نهاية القرن العشرين، انطلاقاً من البوابة السورية، فقد اتسمت ردود فعلهم على الدعم الروسي القديم- الجديد لسوريا، بالحدّة والغضب، والتهديد بعرقلة أي حل سياسي في سوريا، إذا استمرت موسكو بدعم الرئيس الأسد، وأصرّت على القتال في سوريا بمعزل عن واشنطن، والتهديد كذلك بمواجهة ما يسمى "قوات التحالف" الذي تقوده واشنطن للقوات الروسية الافتراضية، ناهيك عن الإيعاز للمجموعات الإرهابية بالتصعيد الميداني على الأرض في كافة أنحاء الجغرافيا السورية، فيما اكتفى الروس، الذين يحققون إنجازات باهرة على الأرض، بالقول إن الانتقادات الأمريكية "ليست جديدة على الإطلاق، وسبق أن سمعناها"، وأعادوا التأكيد على دعم الجيش السوري، وعلى أن "لا بديل" من النظام السوري في الحرب على "داعش". ويبدو أن هذه المواقف الأمريكية، وفق ما يرى متابعون للتطورات الميدانية والدبلوماسية، قابلة للتغيّر والتبدّل على وقع الحقائق التي ترتسم يومياً، والتي ستحتم على واشنطن أخذ التنسيق مع موسكو على محمل الجد، بما في ذلك منع الرياض من تسليم المجموعات الإرهابية في سوريا صواريخ ستينغر أرض جو، التي سبق وأن حصلت على بعضها، وذلك لمنع أي صدام مع الطائرات الروسية. من شأنه مفاقمة الأوضاع وجرّ واشنطن والغرب لمواجهة روسيا وبالذات في الوقت الذي لا أحد يرغب من دول العالم بالدخول في حرب مع روسيا، حسب ما أكد المحلل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في لندن جوليان بارنس داسي. ووفق هؤلاء المتابعين، فإن واشنطن التي لا تملك ما يكفي من الأوراق لوقف المساهمة العسكرية الروسية في سورية، والمنسقة على أعلى المستويات بين سورية وروسيا وإيران، باتت مستعدة، فيما يبدو وعلى الرغم كل المكابرة والتبجح، للانحناء أمام العاصفة الروسية في سوريا بعد أن بدأت نتائج الضربات الروسية تظهر وباتت الكلمة للميدان، وإدارة الظهر، بالتالي، للتابعين الأتراك والسعوديين وأدواتهم من الجماعات التكفيرية التي عليها مواجهة مصيرها المحتوم. كاتب فلسطيني(*) |
||||||