|
|||||
|
الانقطاع الكامل ما هذا الذي يتساقطُ منا كلَّ يومٍ، ونحنُ في غفلةٍ رَمَتْنا في سباتِ المتغافلينَ عما تُفْرِزُهُ الأيامُ التي تستنزفُ عمرَنا، ونحنُ نجري خلفَ أحلامٍ هلاميةٍ، لم نجدْ أمتَعَ من الكسل، وألذَّ من النومِ الذي أبعدَنا عن ذواتنا الطيبة، وحرمنا من تلك الحرارةِ التي تدفعُنا إلى الارتقاءِ بمشاعرنا وأحاسيسنا النبيلة، فانكفأنا على ذواتنا المتهالكةِ، وقد أغوانا عشقُ مادياتِ الحياةِ دون الرجوعِ إلى الأعماقِ نتلَّمَسُ من خلالِها الحدودَ الفاصلةَ بين الخير والشر، بين الحلالِ والحرام، فآثرنا الهروبَ إلى مساربِ الذاتِ خارجَ سُبُلِ الحياةِ التي نعيشُها ونحن نَنْشُدُ الحقيقةَ، ونطمَحُ لكمالِ الصورةِ، والتئامِ المشهدِ الحياتيِّ الذي يشتعلُ بحارقِ الوهمِ، وهو يُسْفِرُ عن مُفْرَزَاتِهِ، ويُعلن انكساراتِهِ، فلا نملكُ من القوةِ سوى أن نُلقيَ عليه بُرْدَةَ الليل، ونمضي إلى كوابيسِ المتوجسين من مرارةٍ تخاطبُ الوجدان، وتحاور العقل. هذه الحرارةُ الدافقةُ لا أدري لماذا يخافُ منها المتشائمون ويغلقونَ عيونَهُم عن رؤيتها، ويُصِمُّونَ آذانَهم عنها، حتى لا يسمعوا صوتَ الحقِّ، ونداءَ الضميرِ، وهُتافَ القلبِ، أنْ يُقبِلوا على الحياةِ بقلوبٍ يَعْمُرُها الحبُّ والإيمانُ بقيمِ الحقِّ ويعملوا على لملمةِ ما تساقَطَ منهم. إنّ الأملَ الذي يغمُرُ قلوبَنا قادرٌ دائماً على تنقيةِ النفسِ مما عَلُقَ بها من أدرانِ الحياةِ وشرورِها، لتنهضَ مثلَ فراشةٍ وُلِدَتْ للتوِ، تملأُ فضاءاتِ الأزمنةِ والأمكنةِ، وهي تُفْصِحُ عن دندناتِ الحبِّ الذي يُفتِّتُ الصخرَ، ويُحقِّقُ المستحيل. هذا الذي يتساقطُ منا ونحن غافلونَ عنه، ينسلُّ هنا وهناك على مقاماتِ الصورِ التي تنكمِشُ وتتقلَّصُ في الأجواءِ الباردةِ، فيتوقَّفُ النبضُ، ويبدأُ النزيفُ، حيث تتراءى صورُ النهايةِ متهاديةً في هَوْدَجِها الأزليِّ، لتَكْشِفَ أنَّ الذي لا يتوقفُ عن السقوطِ لم يكن دماً أو عظماً، إنما لحماً نيئاً يتهافَتُ عليه صغارُ النفوسِ ليُزيّنوا به موائِدَهُم المتخمةَ بأجسادِ الأحياءِ، في غيابٍ مطلقٍ لكلِّ ما هو عُرْفٌ إنساني، أو قيمٌ روحانيةٌ آثرتِ السقوطَ من أعماقِنا لترميَنَا على حوافِّ المرايا المهشَّمةِ تعكُسُ انكساراتِ العمرِ الخالي من أي بوحٍ رقيق، أو حبٍّ إنسانيٍّ من الممكنِ أن يدفَعَنا إلى التواصلِ مع الحياةِ التي من المفروضِ أن يتَّحِدَ الفردُ فيها مع الجماعةِ ليتحوَّلوا إلى كلِّ واحدٍ متحدٍ وملتَحِمٍ لا يقبَلُ الانفصال. وهؤلاءِ الذين استمرأوا التهامَ اللحمِ النيئ، واندفعوا في دروبِ الشرِّ لا يردعُهُم أصلٌ طيِّبُ، ولا ينهاهُم وازعٌ أخلاقيٌّ عن ممارسةِ هوايةِ القتلِ العَمْدِ لأرواحِ الآخرين، بعد أن عاشوا على أطرافِ زهوِ حلمٍ لا يُبْرِقُ إلاّ في جوفِ كهوفِ الذاتِ الآيلةِ إلى السقوط، فورَ اصطدامِها بأولِ خيطِ نورٍ من أنوارِ شمسِ الحقيقة، فإنهم لن يجدوا أمامَهُم في النهايةِ سوى أن يرفعوا أياديَهم تأسيساً على حلمٍ جميلٍ نسفوهُ بحقدِهِم، يمتصُّ من أعماقِهم نشيجاً متواتراً يبتلِعُ الأحلامَ وزهوَ الكلالةِ لتتَّسِعَ الغُصَّةُ في ضوضاءِ الحروفِ التي تنمَّحي خاشعةً لوميضِ بياضِ الورق، يستنفرُ شمعَ الوقتِ من أجل تحويلِ السرابِ في البيداءِ القاحلةِ إلى حقيقةٍ تستوطنُ بساتينَ الروحِ، تنمو على حدِّ المطرِ الغامرِ، يغسلُ نوازِلَ الخرابِ العقليِّ وصواعِقَهُ، وهو يخاتِلُ الروحَ المبلَّلَةَ برونَقِ الطين، يُشعِلًُ الحرائقَ، وما من نجاةٍ غيرُ مركَبِ الحُلُمِ اللازوردي الذي كلما اقتربنا منه ابتعدَ عنا، لأننا خَسِرْنا قِيَمَنا التي سَقَطَتْ من جواّنيتنا في غفلةٍ منا، ولا شيءَ عندئذٍ غيرُ الحقيقةِ تتحدانا بوقْعِها وواقِعِها، لتتَّسِعَ الأحداقُ مشتعلةً بدفءِ الروحِ، وصفاءِ النفسِ، ونقاءِ الضمير. فماذا لو جاءَ الحُلُمُ متأخراً، مُنفلتاً من أطرافِ الرغباتِ الحبيسةِ، كأننا نتحوَّلُ به من غُصْنٍ أخضرٍ إلى عودٍ يابسٍ لا يَصْلُحُ لغيرِ صناعةِ الفحمِ الأسودِ، ينغرسُ في تربةِ أيامِنا تلويحةَ هروبٍ إلى دروبٍ لا يتَّسِعُ لكلِّ ما تساقَطَ منا، حيثُ من المستحيلِ أن تحاوِرَ الجالسين في بيوتٍ مظلمةٍ باردةٍ وأنتَ الذي ألهبتِ الشمسُ جَبْهَتَكَ.. علينا أنْ نُشرِعَ نوافذنا على الحياة.. علينا أن نلملمَ هذا المتهالكَ فينا لنبتدعَ سُبُلَ النجاة.. فلنفتش عن مكمن الضوء في خبايا المحيطين بنا.. ولنعمل على أن نُشرعَ نوافذَهم على الحياة.. أن نجعل غروبات الحسد وغيابات النميمة والحقد دفينةَ الأسرار.. ولنُعْلِن في الآخر هذا الذي هو موءودٌ بداخلهم من إشراقٍ.. علينا أن نمسكَ بيدِ الآخرين.. أن نُرشدهم إلى موئل النور.. ومعدن العَظَمة.. أن نُطلقَ كلَّ حسينٍ في دواخلهم.. وننفي كل يزيد.. فكلُّ السُّبلِ إلى الشر اليومَ في هذا العصرِ المقيتِ متاحة.. ومبهرجة.. ومضاءة.. ولكن.!! نحو هلاكِ إنسانيتنا مرساها ومنتهاها!.. ليس من سبيل لنا سوى الانقطاع الكامل إلى الله.. وتكون القلوب مفعمةً بالمناجاةِ النورانيِّة الشعبانية من أمير البلاغة علي ابن أبي طالب(ع) هي المفازةُ باتجاه القدوس الأعلى.. باتجاه الرضوان.. "إلهي هَبْ لي كمالَ الانقطاعِ إليكَ، وأَنِرْ أبصارَ قلوبِنا بضياءِ نظرِها إليكَ، حتى تخرُقَ أبصارُ القلوبِ حُجُبَ النورِ فتصلَ إلى معدِنِ العَظَمَة وتصيرَ أرواحُنا معلقةً بعزِّ قُدْسِك".. لكن.. وعلى الرغم من ذلك.. في النهايةِ أقول إنني لم أجدْ سبيلاً إلى نوافذِ الحياةِ المشرقةِ سوى هذا الصمتِ الذي باتَ جزءاً من حياتي.. بُعيد سقوطِ القيمِ بقليلْ.
|
||||