|
|||||||
|
جاء تدخل روسيا العسكري في سوريا وانخراطها في العمليات الحربية ضد المنظمات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة تعبيراً عن إستراتيجية موسكو تجاه الأزمة السورية كقضية موت أو حياة، ولعل وصف الكنيسة الروسية هذا التدخل بالحرب المقدسة يكشف عن أهمية هذه الحرب لموسكو وسياستها تجاه سوريا والشرق الأوسط عموماً، حيث تعتبر أنها المستهدفة الأولى من صعود الحركات الإسلامية المتطرفة في المنطقة لأسباب وحساسيات تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية، حيث تجربتها المريرة في الشيشان مع هذه التنظيمات الإرهابية. في الواقع، ثمة أسباب كثيرة تشكل خلفيات للتدخل الروسي العسكري في سوريا، لعل في مقدمة هذه الأسباب النجاحات التي حققتها الجماعات السورية المسلحة وسيطرتها على مناطق واسعة من الشمال السوري خلال الأشهر الأخيرة بدعم من المحور التركي - السعودي ومحاولة هذه الجماعات التقدم نحو مدينة حلب الإستراتيجية بعد سيطرتها على محافظة إدلب، ما جعلت من موسكو تعتقد بإمكانية انهيار النظام خاصة وأنها لم تكن مرتاحة للاتفاق الأمريكي – التركي الأخير بشأن استخدام قاعدة انجيرليك التركية، وربما كانت تعتقد في العمق أن مثل هذا الاتفاق قد يمهد لتكرار سيناريو ليبيا مع سوريا وإن بطريقة مختلفة، خصوصاً وأن روسيا تشعر بأنها خدعت من قبل واشنطن والحلف الأطلسي في ليبيا. وتأسيساً على ما سبق، فإن موسكو ترى أن خسارتها لسوريا تعني خروجها من منطقة الشرق الأوسط بالكامل، وأن بقاء النظام في سوريا يعني ضمان المصالح الروسية على شكل ضمان السيطرة على الممر الأساسي للشرق الأوسط وأوراسيا وآسيا الوسطى، بما تعني هذه السيطرة حماية الداخل الروسي من التيارات الإسلامية المتطرفة التي باتت تهدد الأمن الإقليمي والعالمي، فضلاً عن تحصين المنطقة من الإستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى تفتيت المنطقة على أسس عرقية وإثنية وطائفية وعرقية. لكن الثابت أيضاً أن التدخل العسكري الروسي لم يكن بعيداً عن مقاربة جديدة للسياسة الروسية تجاه واشنطن بخصوص الأزمة السورية، وهي مقاربة تتراوح بين وجود تفاهم ضمني غير معلن بين الجانبين تقوم على التمهيد لتسوية سياسية بعد أن اتضح لساكن البيت الأبيض صعوبة إسقاط النظام ومخاطر القيام بعمل عسكري ضده، ولعل ما عزز من قناعة روسيا بالتدخل العسكري وجود إدراك روسي بأن إستراتيجية باراك أوباما تجاه هذه الأزمة باتت ضعيفة ومنهكة ومنكفئة على الداخل وان الوقت حان لتسجيل ضربة روسية في المرمى الأمريكي من البوابة السورية بعد الاشتباك الذي حصل بين الجانبين في أوكرانيا ومحاولة الغرب اختراق العمق الروسي من الخاصرة الأوكرانية. واللافت في التدخل العسكري الروسي هو أن عمليات الاستهداف العسكرية طالت إضافة إلى داعش باقي المنظمات الإرهابية ولاسيما جبهة النصرة وجيش الفتح وأحرار الشام وجيش الإسلام وغيرها من المجموعات التي نشأت برعاية تركية وتغاضت واشنطن عن استهدافها في حربها المعلنة ضد داعش على الرغم من أن البعض منها ولاسيما جبهة النصرة مصنفة في قائمة الإرهاب الأمريكية، ولعل هذا الأمر يشير إلى أن قرار التدخل الروسي ينبع من إستراتيجية مدروسة وحاسمة في التعامل مع هذه التنظيمات الإرهابية بوصفها جميعاً نتاجاً للفكر القاعدي الإرهابي. في الواقع، من المؤكد أن موسكو ترى في النظام السوري حليفاً استراتيجياً لها لا يمكن التفريط به خصوصاً وأن العلاقات السورية الروسية قديمة وحيوية للجانبين وهي تعود للعهد السوفييتي حيث كانت سوريا في الحلف السوفييتي فيما كانت تركيا تلعب دور الشرطي الأطلسي ضد الاتحاد السوفييتي السابق، وعليه فان التدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية جاء ليعيد هذا الاصطفاف الأمني والسياسي على مستوى العلاقات الدولية، كما انه نقل هذه الأزمة إلى مرحلة جديدة خصوصاً لجهة التعاطي الإقليمي والدولي معها، ولعل نتائج هذا التدخل تتوقف على جملة من العوامل، منها كيفية تعاطي القوى الإقليمية المطالبة بإسقاط النظام السوري مع هذا التدخل وتداعياته، والأهم الموقف الأمريكي، على نحو، كيف ستقابل واشنطن الخطوة الروسية مع الزمن؟ هل ستتعاون معها عسكرياً تحت عنوان مكافحة الإرهاب كخطوة لا بد منها للانطلاق نحو تسوية سياسية في الفترة المقبلة، أم بمحاولة إتباع إستراتيجية تؤدي إلى إغراق روسيا في المستنفع سوريا على أمل تكرار تجربة أفغانستان معها من جديد؟. في الواقع، إذا كان من المستبعد حصول مواجهة أمريكية روسية مباشرة على الساحة السورية لأسباب تتجاوز أبعاد هذه الأزمة إلى حسابات إستراتيجية للبلدين والمخاطرة الكبيرة لمثل هذا الصدام على العالم، فانه ينبغي التفكير بتسوية سياسية تقوم على مرحلة انتقالية على الرغم من الصعوبات الكثيرة التي تعترض التوصل إلى مثل هذه التسوية، ولعل ما يرجح هذا الخيار هو الإستراتيجية الأمريكية نفسها والتي تقوم على تصور تسوية ممكنة على أساس مرحلة انتقالية، وعليه يمكن القول إن الاختلاف الأمريكي – الروسي على الأزمة السورية يأخذ شكل الاختلاف على تفاصيل التسوية ومضمون المرحلة الانتقالية، فيما الطرفان يقفان في الموقع المضاد للحل العسكري. تركيا والتدخل الروسي في سوريا دون شك، تشعر تركيا بمرارة شديدة من التدخل العسكري الروسي في سوريا، فهي باتت تحس بأنها في مواجهة مباشرة مع روسيا وإيران في سوريا من جهة، ومن جهة ثانية تشعر بأنها أصبحت واقعة تحت فكي كماشة روسيا من الشمال والجنوب بعد أن باتت الطائرات الروسية تجوب شمال سوريا أي على الحدود الجنوبية التركية بل وتخترق الأراضي التركية فيما تبدو أنقرة عاجزة عن التصرف ومكبلة اليدين وغير قادرة على القيام برد عملي وتكتفي بالتصريحات الإعلامية، ولعل ما يزيد من شعور تركيا بالمرارة هو إحساسها بالطعن من قبل حلفائها الغربيين ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الأطلسي إزاء الأزمة السورية خاصة وان اقتراحها بإقامة منطقة أمنية عازلة لم يلقى التجاوب من قبل الغرب، فجل التعاطي الأمريكي مع هذا الاقتراح كان على شكل مراوغة سياسية فاقمت من تعقيدات الموقف التركي وشجع فلاديمير بوتين على الانتقال من إستراتيجية مد النظام السوري بالمعونات العسكرية إلى المشاركة المباشرة في العمليات الحربية، لتنتقل بذلك الأزمة السورية إلى مرحلة جديدة على صعيد التوازنات والحسابات وعوامل القوة والحسم وتغير المعادلات على الأرض، كما أن رهان تركيا على جلب الأطلسي للتدخل العسكري في سوريا بدا مع الأيام نوع من الوهم السياسي أو الرهان الخاطئ، إذ أن جلّ سياسة الأطلسي بهذا الخصوص بدا على شكل تصريحات هدفها إرضاء تركيا إعلامياً لا أكثر. نظرة تركيا للتدخل الروسي ترى تركيا على لسان رئيسها رجب طيب أردوغان ورئيس حكومته أحمد داود أوغلو أن التدخل العسكري الروسي في سوريا نقل العلاقات التركية – الروسية إلى مرحلة حساسة بات فيها الاقتصاد الذي كان ركيزة لهذه العلاقة جزءاً من البعد السياسي- الأمني للمعركة الجارية خصوصاً بعد أن أوقف بوتين خط ما يسمى الدفق الجنوبي للغاز والذي كان يمر عبر تركيا إلى أوروبا ويوفر لها مداخيل مالية كبيرة، وعليه فإن إشارة أردوغان أكثر من مرة إلى أن خسارة اقتصادية ستلحق بروسيا جراء تدخلها في سوريا لا تبدو في مكانها الصحيح خاصة وان تركيا تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي (65% من الاستخدام التركي للغاز و10% من النفط هو من روسيا) ويكفي هنا أن تغلق روسيا محطة دفق الغاز إلى تركيا حتى تصيب الأخيرة بالشلل التام، ولعل من الأهمية هنا الإشارة إلى أن التدخل الروسي في سوريا جاء بعد أيام قليلة من زيارة قام بها رجب طيب أردوغان إلى موسكو وتصريحاته من هناك حول إمكانية القبول بالرئيس بشار الأسد لفترة الانتقالية قبل أن ينقلب بوتين ظهر المجن على الجميع ويعلن أردوغان أن تصريحاته فهمت بطريقة خاطئة وأنه لا يمكن القبول بالأسد عقب زيارة قام بها أمير قطر إلى تركيا، وهذا ما يكشف ويؤكد التناقض الاستراتيجي في سياسة البلدين تجاه الأزمة السورية، فروسيا لا تقبل الإطاحة بالنظام السوري خاصة وانها ترى ان البديل سيكون التنظيمات الإرهابية المتطرفة والتي تشكل خطرا على الجميع فيما تركيا حزب العدالة والتنمية بنت إستراتيجيتها في الداخل وتجاه العالم العربي والمنطقة على أساس إسقاط السوري والإتيان بالقوى الإسلامية وتحديداً الإخوان المسلمين إلى السلطة لتكون الحكومة الجديدة حليفة أو واقعة تحت هيمنتها، وعليه فإن التدخل الروسي نقل العلاقات التركية - الروسية إلى مرحلة من الاشتباك السياسي والدبلوماسي والأمني عبر الحدود على شكل صدام غير المباشر في الشمال السوري بعد أن افتقد الحرص الدبلوماسي والسياسي لدوره في المعركة الجارية. وحقيقة، فإن أنقرة تعتقد أن التدخل الروسي يحمل معه جملة من الأهداف والمخاطر تجاه تركيا، ولعل من أهم هذه الأهداف: 1- إنقاذ النظام السوري من الانهيار خصوصاً بعد النجاحات التي حققتها المجموعات السورية المسلحة في الشمال السوري خلال الأشهر الأخيرة وسيطرة هذه المجموعات على محافظة إدلب ومناطق في ريف محافظتي حلب واللاذقية، وسيطرة داعش على مناطق واسعة في الشمال والشرق والوسط، وبالتالي التدخل الروسي جاء لقلب موازين القوة وفرض معادلة جديدة في الداخل، معادلة هدفها القبول الإقليمي والدولي بالنظام السوري في إطار تسوية سياسة محتملة، والهدف الروسي من ذلك يتجاوز المعادلة الداخلية السورية إلى التمسك بموقع استراتيجي حيوي يشكل قضية حياة أو موت للإستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، فروسيا كدولة عظمى لا تجد نفسها خارج هذه الجغرافية الحيوية للأمن العالمي. 2- حسم قضية معركة حلب التي راهنت عليها تركيا بأنها ستكون منعطفاً لجهة إسقاط النظام، ولعل الأهداف التي تقصفها الطائرات الروسية والتي طالت مختلف المجموعات السورية المسلحة والحديث عن معركة برية واسعة في الشمال للجيش السوري بمشاركة إيران وحزب الله وتغطية جوية روسية تؤكد أن الهدف الأساسي في المرحلة المقبلة هو تحقيق انتصار ميداني كبير يتم استثماره سياسياً في إنتاج تسوية سياسية وفق الرؤية الروسية الإيرانية السورية، وإذا ما حصل مثل هذا الأمر فإنه سيشكل ضربة كبيرة لتركيا وحلفائها من المجموعات المسلحة في الشمال السوري، بل إنه سيؤدي إلى تقويض الدور التركي في الأزمة السورية، هذا الدور الذي اتسم بالتصعيد العسكري من خلال المجموعات المسلحة بعد أن تحولت تركيا إلى ممر ومأوى لها فضلاً عن تقديم السلاح لها وتمرير المسلحين القادمين من الخارج إلى الأراضي السورية عبر الأراضي التركية، على شكل استباحة كاملة للشمال السوري. 3- ربطاً بمعركة الشمال السوري، فإن تركيا تشعر بأن أحد أهم أهداف التدخل العسكري الروسي هو منع إقامة منطقة أمنية عازلة طالبت بها مراراً، ولعل نوعية بعض الأسلحة والمعدات تشير إلى هذا الأمر، فنشر نظام الدفاع الصاروخي(sa 22) كما تشير التقارير هدفه يتجاوز محاربة داعش أو استهداف الفصائل المسلحة أو حتى حماية المنشآت الروسية التي أقيمت في سوريا ولاسيما القاعدة الجوية في اللاذقية، وإنما له أهداف إستراتيجية أكبر، أهداف لها علاقة بمنع إقامة منطقة أمنية عازلة وربما باحتمال تطور المواجهة العسكرية لاحقا إذا ما اتخذت الدول المعارضة للتدخل الروسي موقفا عمليا من هذا التدخل، أو حاولت تركيا الرد على التدخل الروسي بنوع من المواجهة العسكرية ولو عبر المجموعات المسلحة ولاسيما في ظل الحديث عن احتمال تزويد التحالف السعودي – التركي هذه المجموعات بالصواريخ المضادة للطائرات، وهو ما يعني الاستهداف المباشر للطائرات الروسية. بموازاة هذه الأهداف، ترى تركيا أن ثمة مخاطر حقيقية ستترتب على أمنها الداخلي من التدخل الروسي، ولعل في مقدمة هذه المخاطر أن هذا التدخل قد يشكل بمثابة ضوء أخضر لتقدم وحدات حماية الشعب الكردية باتجاه جرابلس ومارع وصولاً إلى عفرين على شكل اكتمال للإقليم الكردي في شمال سوريا وشرقها، وهو ما يعني انتقال إستراتيجية حزب العمال الكردستاني إلى مرحلة جديدة في ظل تصاعد وتيرة المواجهة بين الجانبين التركي والكردي عشية الانتخابات البرلمانية التركية المبكرة والتي هي انتخابات مصيرية وحاسمة لحزب العدالة والتنمية . إستراتيجية تركيا لسان حال أردوغان وأوغلو يقول إن بلاده لن تقبل بفرض سياسة أمر الواقع الروسية كما صرح المسؤولين الأتراك بذلك أكثر من مرة، وعليه تحدث أردوغان أكثر من مرة أن بلاده ستقوم بعدة خطوات وعلى مستويات عدة اسماها بدبلوماسية الهاتف في إشارة إلى أنه سيتواصل مع حلفائه بهذا الخصوص، وفي خطواته أردوغان إصراره على طرح موضوع إقامة منطقة أمنية كما طرح ذلك خلال جولته الأوروبية الأخيرة على الرغم من أن الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة أعلنت مراراً عدم وجود نية حقيقية لإقامة مثل هذه المنطقة، وكذلك التشاور مع الدول الغربية والإقليمية ولاسيما السعودية وقطر بهذا الخصوص ومحاولة إيجاد معادل إقليمي ودولي يوازي أبعاد التدخل العسكري الروسي، لكن إلى جانب هذه الجهود، من الواضح، أن ثمة مسارين تعمل تركيا عليهما لمواجهة تداعيات التدخل الروسي. الأول: زيادة وتيرة دعم الفصائل السورية المسلحة في الشمال السوري لمنع حصول تطورات ميدانية كبيرة لصالح النظام وحلفائه، ويبدو أن الأمر الجوهري هنا يتعلق بنوعية هذا الدعم، وتحديداً تقديم أسلحة مضادة للطائرات والتي طالبت بها المجموعات المسلحة مراراً، إذ أن تقديم مثل هذه الأسلحة يعني تصعيب المهمة الروسية في تحقيق أهدافها، وربما محاولة التأسيس لإغراق روسيا في حرب طويلة تذكر البعض بالسيناريو الأفغاني، ولعل القرار بتقديم مثل هذا الدعم النوعي لا يتوقف على تركيا فحسب بل على حلفائها الإقليميين والدوليين ولاسيما السعودية وقطر والولايات المتحدة، وقد كان هذا الأمر واضحا في المحادثات التي جرت بين وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ونظيره التركي فريدون سينير أوغلو في اسطنبول منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول عندما أعلن الوزيران زيادة الدعم العسكري للمجموعات المسلحة، في إشارة إلى دعم هذه المجموعات بصواريخ تاو وسط حديث عن إمكانية دعمها بمضادات الطيران، إلا أنه ينبغي النظر إلى أن مثل هذا القرار لا يمكن أن يكون دون موافقة الولايات المتحدة، ففي النهاية القرار التركي السعودي بهذا الخصوص مرتبط بوجود موافقة أمريكية، فيما واشنطن تحرص على التنسيق مع روسيا عسكرياً كي لا تتحول العمليات العسكرية في الأجواء السورية إلى صدام وتفجر للمواجهة العسكرية بين الجانبين. الثاني: إستراتيجية بناء القواعد العسكرية المتقابلة، فمقابل بناء روسيا قاعدة عسكرية ضخمة في جنوب اللاذقية إلى جانب القاعدة العسكرية الموجودة في ميناء طرطوس على الساحل السوري وافقت تركيا على فتح قاعدة ديار بكر أمام الطائرات الأمريكية بعد فترة من السماح للطائرات الأمريكية باستخدام قاعدة انجرليك تحت عنوان انخراط تركيا في الحرب الجارية ضد داعش، كما أن التأكيد الأمريكي على إعادة نشر صواريخ باتريوت في تركيا بعد سحبها وتحديثها يشكل مؤشراً قوياً على احتمال اندلاع سباق من نوع جديد في المنطقة عنوانه إقامة المزيد من القواعد العسكرية المتقابلة بين روسيا والغرب على الأراضي السورية والتركية، بما يعني احتمال المواجهة العسكرية يبقى قائما، ولعل ذلك يتوقف على مسار العمليات العسكرية الروسية في الفترة المقبلة وأهدافها، هل نحو هل ستؤسس هذه العمليات لتسوية سياسية كما يقول الروس أو الانفتاح على خيارات أخرى، تتراوح بين احتمال المواجهة الأمنية والاشتباك المخطط على الأرض ولو عبر المجموعات السورية المسلحة على أساس إتباع خيار إستراتيجية إغراق روسيا في الوحل السوري كما جرى في أفغانستان على الرغم من اختلاف الظروف كليا بين سوريا وأفغانستان، ولكن ينبغي عدم استبعاد مثل هذا السيناريو طالما أن أحد أهم أسس الإستراتيجية الأمريكية تجاه الأزمة السورية والمنطقة يقوم على استنزاف الدول الإقليمية الكبرى على أساس إضعاف هذه الدول لصالح إسرائيل ودورها المستقبلي في المنطقة. تركيا واستحقاقات التدخل الروسي في الواقع، من الواضح، أن التدخل العسكري الروسي في سوريا صعّب من الموقف التركي للغاية ووضعه في مأزق، إذ من شأنه ليس فقط زيادة الأعباء والتحديات الأمنية على الحدود وإنما وضع إستراتيجية تركيا لإسقاط النظام أمام امتحان حقيقي، ولعل ما يزيد من صعوبة الموقف هو عدم ثقة تركيا بجدية الإدارة الأمريكية والحلف الأطلسي تجاه الأزمة السورية. لعل أولى الاستحقاقات هنا، هي كيف ستحضر تركيا نفسها للهدف الروسي المتمثل بإنقاذ النظام السوري؟ من الثابت أن تركيا أعلنت أنها لا تقبل بهذا النظام كجزء من الحل، ولكن ماذا لو تقدمت سياسة الأمر الواقع الروسية على الأرض واتضحت لتركيا أن الإدارة الأمريكية المنكفئة على نفسها تقبل بذلك خصوصاً وأنها أعلنت أنها تقبل بالنظام كجزء من الحل في المرحلة الانتقالية؟ سؤال يضع تركيا بين حدي السكين، فالقبول بالنظام كجزء من الحل يعني خسارة حكومة حزب العدالة والتنمية كامل المصداقية في الداخل والخارج وبما يعني نهاية مأساوية لسياسة أردوغان ليس تجاه الأزمة السورية فحسب بل اتجاه معظم قضايا المنطقة بعد أن انتهجت تركيا بعداً إيديولوجياً في سياستها الخارجية قامت على دعم مجموعات الإسلام السياسي ولاسيما حركات الإخوان المسلمين في العالم العربي، كما أن الذهاب إلى المواجهة الأمنية والعسكرية لرفض سياسة الأمر الواقع الروسية دون وجود قرار أمريكي يضع تركيا أمام مخاطر كثيرة ولاسيما في ظل تفجر الحرب مع حزب العمال الكردستاني وجغرافيتها المجاورة لدول مناوئة لها من سوريا إلى روسيا مروراً بإيران والعراق وأرمينيا وحتى اليونان، بمعنى أخر فان تركيا ستكون الخاسر الأكبر من مثل هذه المواجهة، إذ أنها ستكون بمثابة انتحار سياسي لدولة إقليمية كبرى. التحدي الثاني هنا، ماذا لو أصبحت القوات الكردية التابعة لوحدات حماية الشعب جزءاً من العملية العسكرية الروسية كما أبدت هذه القوات استعدادها والحديث عن موافقة موسكو بل والقبول بإقامة مكتب تمثيل للإدارة الذاتية في روسيا؟ وفضلاً عن الدعم الروسي المستجد فإن هذه القوات تتلقى الدعم الأمريكي من واشنطن منذ معركة كوباني – عين العرب والتي تعرض فيها تنظيم داعش لهزيمة قاسية شكلت بداية التراجع العسكري له على الأرض السورية في الشمال والشرق. دون شك، ترى تركيا أن من شأن تعاظم خطر صعود الكردي الذي يتطلع إلى ربط المناطق الكردية من أقصى الشمال إلى أقصى الشرق أنها المتضرر الأكبر من هذا الصعود خصوصاً وأنها تعتقد في العمق أن من يقف وراء هذا المشروع هو عدوها اللدود حزب العمال الكردستاني الذي يتطلع إلى إقامة إقليم كردي في تركيا يحكمه الحزب حيث بات يطالب رسميا بإقامة حكم ذاتي في المناطق الكردية بجنوب شرق تركيا، وفي الواقع، فإن ثمة من لا يستبعد مثل هذا الأمر لطالما خرجت الأزمة السورية عن إطارها السوري إلى صراع إقليمي ودولي قد ينتج خرائط سياسية وجغرافية جديدة، وقد تجد تركيا هنا أن سياستها تجاه الأزمة السورية لم تعد تتعلق بالنظام السوري وإنما بسياسة حياة أو موت. وعند هذه النقطة، ثمة من يرى أن المتضرر الأساسي من التدخل الروسي في سوريا هو تركيا خصوصاً إذا انعكست تداعيات هذه الأزمة على الداخل وتفاعلت مع سياسة أردوغان الإقصائية التي باتت في صدام مع الجميع في الداخل التركي، وهو ما يرشح مسار الأحداث إلى تفجير الواضع الداخلي التركي حيث ازدياد وتيرة التفجيرات الإرهابية حتى في قلب المدن التركية من جهة، وتصاعد حدة المواجهات بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني من جهة ثانية، لتبدو تركيا مرشحة للمزيد من الانقسام القومي والتفجير الأمني والانهيار الاقتصادي، وعند هذه النقطة ثمة من يرى ان الموقف التركي قد لا ينتظر موقف الإدارة الأمريكية إلى ما لا نهاية ، فتركيا لا تتحمل خسارة كبيرة في الداخل حتى لو أقتضى الأمر تقديم أسلحة نوعية للفصائل السورية المسلحة لمواجهة الصواريخ والطائرات الروسية، وهو ما قد يشكل فخاً أو مدخلاً لتركيا للتورط المباشر في الأزمة السورية. دون شك، وصول السياسة التركية إلى هذه النقطة الحرجة على شكل مأزق مفتوح على الخيارات الخطرة، هو نتيجة سوء التقديرات الخاطئة للسياسة الخارجية التركية تجاه التطورات الدراماتيكية التي تحصل في العالم العربي عقب ما سمي (بثورات الربيع العربي)، فتركيا راهنت على هذه التطورات على أنها ستغير الأنظمة القائمة لمصلحة قوى سياسية تدعمها أنقرة وبشكل أدق حزب العدالة والتنمية، انطلاقاً من إيديولوجيته القائمة على الجمع بين الإسلام السياسي والعثمانية الجديدة بدلاً من السعي إلى إقامة علاقات قائمة على المصالح المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ودعم الإصلاحات والديمقراطية من خلال العمل السياسي، كل ذلك قبل أن يكتشف حزب العدالة والتنمية انه حزب وليس دولة، وأنه بفرض إيديولوجيته على السياسة الخارجية للدولة التركية وضع تركيا في أزمة سياسية ودبلوماسية مع معظم دول المنطقة، ومن ثم يكتشف أن سياسة الرهانات الخاطئة قد تجلب مخاطر جمة لتركيا خاصة وأنها تعاني من مشكلات الديمقراطية والحرية نفسها كما هو الحال في الدول العربية. كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)
|
||||||