الحاجة الفلسطينية لامتلاك إستراتيجية وطنية قوية

السنة الرابعة عشر ـ العدد 167 ـ (محرم ـ صفر 1437 هـ) تشرين ثاني ـ 2015 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

وأخيراً جاءت اللحظة التي أماطت اللثام عن التعجب والغموض وطول الانتظار حيث أكد الشباب الفلسطيني أنه قد أمهل الحراك السياسي والدبلوماسي طويلاً حتى لا يتهم انه يريد إفشال تلك الجهود التي طال انتظار نتائجها لأكثر من عشرين عاماً، ولان هذا الانتظار هيمن عليه التراجع والانهيار وتوغل الاحتلال بتحقيق أهدافه بالمصادرة والتهويد والبطش والاغتيال وبما يؤكد استهداف كل ما يدلل ويشير إلى فلسطينية فلسطين أرضاً وشعباً.

وبعد أن طال انتظار تحقيق التوقعات بانطلاق انتفاضه فلسطينية ثالثه وتفجر الأوضاع, وبعد أن كثر السؤال الموجه للجماهير الفلسطينية: لماذا لا تدقون جدران الخزان؟؟.

عندما أدرك جيل الشباب الفلسطيني, جيل اليأس والإحباط, الجيل الذي نشأ وعاصر مرحلة وواقع التهدئة والتعايش والتنسيق الأمني والحواجز والحصار والجدار, أدرك انه لم يعد في عنقود الأمل سوى حبات قليله وأن مصيره ومستقبله أصبح مرهوناً لإفرازات تلك المرحلة, حينها التقط اللحظة المناسبة لحظة القدس والأقصى في خطر ولم ينتظر أن تطول مرحلة الشجب والاحتجاج والاستنكار لحين استكمال تهويد ما بقي من القدس والسيطرة على المسجد الأقصى واحتلاله، حيث انطلق الشباب الفلسطيني متمرداً غاضباً غير مكترث أو منتظر لموقف أو لرأي من هنا أو هناك.

لذلك عقد الشباب الفلسطيني العزم على التمرد ودق جدران الخزان ووضع نصب عينيه إنقاذ مستقبله وضمان مصير شعبه وأراد أن يسقط مراهنات الاحتلال على أن جيل الشباب الفلسطيني قد تم تدجينه بأوسلو ومفاوضاتها وإفرازاتها. 

ملامح مرحلة جديدة

منذ بداية أحداث الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأخيرة في كل أنحاء فلسطين المحتلة تباينت الآراء ووجهات النظر في مسميات مختلفة لهذه الهبة الشعبية تارة وأسبابها تارة أخرى, وفى هذه العجالة نحاول وضع بعض من ملامح ومسببات هذه الهبة, ومن الحكمة أن نضع الأمور في نصابها المنطقي والعقلاني والتاريخي لكي نستطيع الوقوف على تلك الملامح والأسباب, وفى هذا المجال يهمنا التأكيد على أن الكيان الصهيوني الغاصب الذي يعشق التطرف هو المسبب الرئيسي لكل المعاناة والمأساة التاريخية التي يعيشها الشعب الفلسطيني, فمزيد من الاستيطان في الأراضي الفلسطينية التي هي أراضي الدولة الفلسطينية العتيدة المحتلة باعتراف هيئة الأمم المتحدة وباعتراف أكثر من 183 دولة بهذه الدولة الواقعة تحت الاحتلال, فما يحدث في القدس من تهويد للمقدسات ومن تخريب لمقابر وآثار إسلامية وعربية إلى تدنيس الأقصى بزيارات متكررة ومتعمدة للمتطرفين الإسرائيليين في باحات المسجد الأقصى والعمل على تقسيم الحرم زمانياً ومكانياً كما حصل في الحرم الإبراهيمي بالخليل, ناهيك عن هدم منازل الفلسطينيين داخل المدينة المقدسة تحت ذرائع عدم التراخيص اللازمة من حكومة لا تعطى تراخيص على الرغم من أن حجم الضرائب المخيفة التي يفرضونها على السكان العرب في المدينة. أما موقف هذه العصابة التي تحكم الكيان الصهيوني الغاصب فهي غير مستعدة لتقديم أي تنازل للفلسطينيين على الرغم من كل ما تم تقديمه والتنازل عنه, مدركة ومستفيدة من تلك الأحداث الإقليمية والدولية وانشغال العرب والمسلمين في أوضاعهم الداخلية مستفردين بالفلسطينيين وحدهم, فنسبة البطالة الفلسطينية والخريجين من الشباب الفلسطيني والقتل على الحواجز لا يعطى أي أمل في الحياة, أما داخل فلسطين المحتلة فالعنصرية جزء من ثقافة المجتمع الإسرائيلي, على الرغم من أن ظروفهم أفضل من أشقائهم في الضفة وغزة إلا أنهم يعيشوا بظروف عنصرية لا تطاق, وما يجرى للقدس, وما يحدث يومياً مع الأسرى في السجون الإسرائيلية, ومن حروب متكررة على غزة, كل ذلك يجعل من الاحتلال الطرف الرئيسي المسؤول الأول عن حالة الإحباط التي يعيشها الشارع الفلسطيني.

ها هو الشعب الفلسطيني المنتفض في الأراضي المحتلة يخطّ ملامح مرحلة جديدة، بعد أن عاش فصول ملهاة كبيرة على مدار عقدين من الزمان بعد اتفاق أوسلو 1993، ذاق خلالها الأمرين، حيث تضاعفت عمليات الاستيطان ونهب الأرض، واستمر اعتقال آلاف الفلسطينيين داخل المعتقلات الإسرائيلية، وسقط آلاف الشهداء والجرحى في أكثر من جريمة نفذها الاحتلال، وحوصر قطاع غزة وتحولت حياة السكان فيه إلى جحيم لا يطاق، وتم بناء جدار للفصل العنصري حوّل الضفة الغربية إلى معازل شاهدة على أسوأ نظام للفصل العنصري في العصر الحديث، ترافق مع إقامة مئات الحواجز العسكري على طرقات الضفة الغربية بما فيها القدس، تتعمد بشكل يومي إذلال الفلسطينيين، وتعطيل حركتهم وتجارتهم بين المحافظات المختلفة، وتعرضت قرى فلسطينية كثيرة لغزاوت المستوطنين، تقتلع من أرضها الأشجار المثمرة وتحرق الأطفال وتهدد الآمنين في بيوتهم، آخرها ارتكاب جريمة إحراق عائلة دوابشة بعد أن حرقوا الطفل محمد أبو خضير، المحفزّ الكبير لصحوة الفلسطينيين من وهم صناعة السلام مع حكومة احتلال يمينية متطرفة يقودها غلاة المستوطنين.

راهنت إسرائيل وبعض الأطراف الدولية على تدجين الشعب الفلسطيني، وفرض شروط الاستسلام عليه تدريجياً من خلال فرض وقائع على الأرض أولاً، كالاستيطان وبناء الجدار وتهويد القدس وطرد سكانها الفلسطينيين، ومن خلال اتفاقات أمنية تجعل من السلطة الفلسطينية حارساً على أمن الاحتلال ومستوطنيه الذين مارسوا الإرهاب المنظم بشكل علني ثانياً، يترافق ذلك مع عجز السلطة الفلسطينية وأجهزة أمنها عن توفير الحماية لأبناء الشعب الفلسطيني، عجز وضعها في دائرة الحرج مع أبناء الشعب الفلسطيني، وأعاد طرح التساؤلات حول موضوع التنسيق الأمني ومجمل الوظائف التي تؤديها السلطة في ظل الصلف الإسرائيلي الذي وصل إلى مستويات لم يشهد لها الشعب الفلسطيني مثيل من قبل.

خلال عقدين من الزمن جرى تآكل خطير في المشروع الوطني الفلسطيني، ولم يعد محرماً الحديث عن إعادة توطين اللاجئين مثلاً، وتحوّل هدف حل الدولتين إلى أمر بعيد المنال في ظل تفشي الاستيطان وبناء جدار الفصل العنصري، وأصبحت فكرة تحوّل السلطة بوظائفها وشكلها الحاليين إلى نواة دولة أيضاً أمراً صعب التحقق، بعد أن فقدت السلطة الفلسطينية العديد من أوراق قوتها، بفعل الانقسام الداخلي وغياب الحاضنة الشعبية لها، نتيجة لعجزها عن تقديم حلول لمعظم الأزمات التي عصفت بالمجتمع الفلسطيني.

عهد جديد ورسائل عديدة

خرج المارد الفلسطيني في كافة ميادين الأرض المحتلة، متسلحاً بتجربة انتفاضتين وما سبقهما من نماذج كفاحية خاضها الشعب، معلناً انتفاضته ضد كل أشكال الجرائم الإسرائيلية، ونهوضاً ضد كل ملامح العجز وقلة الحيلة التي لصقت بأداء القيادة الرسمية، ليخطّ بالكفاح الوطني عهد جديد ورسائل كثيرة من لم يفهمها ستدوسه التجربة أو أقدام الجماهير:

1- الرسالة الأولى: أن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يتعايش مع الاحتلال والاستيطان، وان وجودهما في الأراضي المحتلة يعني استمرار المواجهة والتصدي والدفاع عن النفس بكل الوسائل المتاحة والتي تضمن ديمومة الانتفاضة وحيويتها، وأن هدف الحرية والاستقلال محفور في وجدان الشعب الفلسطيني، جيلاً بعد جيل، لا يمكن لكل وسائل التضليل أن تمحوه من الذاكرة الفلسطينية، ومهما اشتدت حدة البطش والجرائم الإسرائيلية، فهي لن تقوى على إرادة شعب قرر صناعة حريته.

2- الرسالة الثانية: أن مشروع سلطة مشروطة بوظائف محددة تحت الاحتلال، أمر كشفت التجربة عن مدى ظلمه وهشاشته، وهو أمر مرفوض وطنياً ومؤهل للانهيار بفعل التجربة، وبفعل غطرسة الاحتلال وعصابات مستوطنيه، وقد حان الوقت الذي يعلن فيه عن إنهاء مختلف التعهدات التي فرضت على الشعب الفلسطيني بموجب اتفاق أوسلو الانتقالي، وأن حاجة الفلسطينيين أكثر لبناء جبهة وطنية تعيد صياغة أهداف الشعب الفلسطيني، وتلتحم مع نضاله الوطني التحرري، وتنطلق للعالم برسالته العادلة والواضحة، وتجند لها كل أشكال الدعم والإسناد العربي والدولي بما يشكل حصانة للفلسطينيين من بطش الاحتلال وجرائمه.

3- الرسالة الثالثة: أن الانقسام الذي عجزت القوى السياسية عن إنهائه، سينتهي موضوعياً سواء رغبت الفصائل أم لم ترغب، بفعل كفاح الشعب الفلسطيني واستمرار انتفاضته، ولن يكون بمقدور أيّ تنظيم سياسي الوقوف ضد  رغبة الجماهير التي خرجت إلى الميادين لتواجه الاحتلال ولم تسقط من وعيها هدف إنهاء الانقسام.

4- الرسالة الرابعة: أن تجربة المفاوضات السياسية لإنهاء الاحتلال بدون فعل ميداني متزامن معها وبدون تفعيل كل عوامل قوّة الشعب الفلسطيني قد انتهت إلى غير رجعة، ويجب أن تدفن هذه التجربة المريرة التي كلّفت الشعب الفلسطيني كثيراً، ووفرت غطاءاً لكل ما مارسه الاحتلال من جرائم.

5- الرسالة الخامسة: أن الحجارة والمولوتوف والمتاريس ومختلف الإبداعات النضالية الفردية والجماعية التي يستخدمها الشباب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، هي شكل ناجح ومجرب ويمكنه أن يحقق نتائج أكثر وخسائر أقل ومدى أطول، عوضاً عن عسكرة الانتفاضة، هذا الشكل النضالي الشعبي يتقبله المجتمع الدولي ويساعد في تطوير وتعزيز حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، ويسقط  رواية الإرهاب التي حاولت إسرائيل وصمها على نضال الشعب الفلسطيني.

لن يقبل الشعب الفلسطيني أن يعاد إنتاج تجربة جديدة فاشلة، بأدوات فاسدة، ونظام سياسي ساعد على نشر الإحباط واليأس، فالانتفاضة أسقطت الرهان على موت الشعب، والجماهير الفلسطينية التي خرجت إلى الميادين تقدم أغلى ما لديها من تضحيات، ستكون قادرة على تنظيم نفسها، وفرز قيادتها، واحتضان من يشاركها المعركة، ووضعت جميع القوى السياسية والاجتماعية  أمام محك عملي لا يمكن تجاهله أو التذاكي على وعي الناس ونضجها وقدرتها على معرفة الغث من السمين.

بين الانتفاضة والمقاومة

في انتفاضة الحجارة ديسمبر 1987 اندلعت المواجهات عفوياً بدءا بمخيم جباليا بعد دهس أربعة عمال من قطاع غزة داخل إسرائيل ولعفويتها بداية آثر الكثير من المحللين وقيادات العمل الوطني إطلاق صفة هبة جماهيرية عليها كونها لم تنظم بعد, ولعدم تدخل الفصائل الوطنية في اندلاعها بشكل مباشر, ولكن بعد أن تم تنظيمها, ومشاركة الفصائل الفلسطينية ضمن قيادة موحدة لقيادة الانتفاضة أمكن مواصلتها بزخم وعنفوان وباسم انتفاضة الحجارة الذي أصبح يردد عالمياً، واستمرت حتى قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية. لقد نالت تلك الانتفاضة الشعبية السلمية تعاطفاً دولياً واسعاً مؤيداً للنضال الوطني الفلسطيني, وأمكنها أن تحقق اعترافاً دولياً بمنظمة التحرير الفلسطينية.

في حين في إسرائيل تضرر العنصر الأخلاقي للجيش الإسرائيلي لنهجه في قمع المظاهرات بوحشية, وتعامله القاسي مع نساء, وأطفال، وفتية, وكبار في السن يقاومون من أجل التحرر.

ومع قدوم السلطة إلى أرض فلسطين بعد اتفاق أوسلو بدءاً بالمرحلة الانتقالية لخمس سنوات تنتهي في العام 1998 كانت عمليا مرحلة بناء للمؤسسات الوطنية, بينما إسرائيل وقتها مرت بتغيرات بنيوية في النظام خصوصاً بعد قتل رابين, هذا التغير أدى إلى وجود نظام في إسرائيل يمنح شرعية للعمل العسكري واستخدام القوة لحل المشاكل السياسية خصوصا وان تلك الفترة شهدت وصول نسبه المتدينين الموجودة فعليا في الجيش الإسرائيلي إلى 15% ونسبتهم في دورات الضباط والوحدات الخاصة وصلت من 30 إلى 40% لذلك قادت انتفاضة الأقصى في سبتمبر عام 2000 مع حجم الشهداء الكبير الذي ارتقى في الأيام الاولى لها إلى عسكرتها وكان حجم الدمار غير مسبوق باستخدام إسرائيل كامل ترسانتها العسكرية في قمع الانتفاضة بما فيها طائرات الــ(أف16) والأباتشي الخاصتان بالحروب التقليدية ما دفع الفلسطينيين للعمليات الاستشهادية رداً على حجم القتل المتزايد.

أما اليوم فها هو بنيامين نتنياهو رئيس حكومة العدو يستغل البعد الديني الرمزي في الصدامات التي أشعلها في القدس بالسماح لمستوطنيه وجنوده ووزراء حكومته بالهجوم على الأقصى, والسعي إلى تقسيمه مكانياً وزمانياً كما حدث في الحرم الإبراهيمي, وكما لجأ لذلك سابقاً في أحداث النفق في العام 1996 عندما فتح مدخل نفق الحائط الغربي بالبلدة القديمة في القدس وأشعل حينها مواجهات مع الشرطة الفلسطينية التي دافعت عن أبنائها أمام آلة القتل الإسرائيلية والتي استشهد على أثرها العشرات من قوات الشرطة الفلسطينية وقتل قرابة 16 جندياً إسرائيلياً. في الاشتباكات المسلحة التي دفع بها نتنياهو بين الطرفين.

لقد أدت أحداث الانتفاضة منذ بداية أكتوبر 2015 ولمدة أسبوعين لاستشهاد 32 فلسطينياً وجرح 1500 مواطن منهم 33 صحفيا واعتقال 800 مواطن في حين قتل في الجانب الإسرائيلي خمسة وأصيب نحو 35 بجروح، وازدادت بالمقابل حالات الطعن الفردية بالأسلحة البيضاء حيث استشهد من منفذين عمليات الطعن 11، واعتقل آخرون بعد إصابتهم بجروح، وقد توسعت المواجهات لتشمل كل أراضي الضفة المحتلة، وقطاع غزة، والفلسطينيون داخل الخط الأخضر.

لقد شعر الفلسطينيون بالانتصار خصوصاً وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي صرح بعدم تمكنه من السيطرة على الأحداث، وقام بالمقابل بجلب سريات وصلت إلى 13 سرية من حرس الحدود إلى مناطق الضفة المحتلة خاصة في القدس.

لقد كان الإحساس بالانتصار مسألة عاطفية داخلية يحسها أي ثوري بغريزته أولاً، وبالضرورة المطلوبة لتعزيز صموده ثانياً، وبغريزة حفظ الذات ثالثاً فهو يقدم النضال بصورته الملائمة لقضية شعبه، ومع الانتصار النظري الذي أحسه شعر أيضاً بحريته الشخصية التي توفرت في العمل الجماعي داخل الميدان حيث يمكنه التعبير عن نفسه، وتطوير كفاءته، وبالتالي أسقط كل النظريات التي تتحدث عن (كي الوعي الفلسطيني) الذي أراده الإسرائيليون بحيث يفهم الفلسطينيون الحدود الجغرافية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي وضعتهم فيها إسرائيل.

لكن الفلسطينيين الذين تحدوا إسرائيل في جدار الفصل العنصري، وفي المقاومة الشعبية، والمقاطعة، وفي ثلاث حروب شنت على قطاع غزة تمكنوا بالمقابل من (كي الوعي الإسرائيلي) لأن كل نماذج الفلسطيني في مقاومته عكست باستمرار (قوة الضحية) حسبما سماها الراحل (ادوارد سعيد) بوصفها قوة مدعومة بالحق أمام جلاد مدجج بالسلاح يهاب الضحية الماثلة أمامه لأنها تجرده من قيمة الإنسانية وتكسبه ضعفاً بعدما تعريه أمام نفسه وبدت أمام تلك القوة الشوارع خالية منهم وباتوا عاجزين عن الحركة اليومية الاعتيادية.

واليوم والأحداث تتلاحق نجد تعبير (انتفاضة ثالثة) يتزايد بصفتها توسيعاً للمواجهة مع الاحتلال بشكل يفوق المقاومة الشعبية التي تطورت من سنوات في الضفة الغربية وكان لها دوراً أكبر في التصدي للجدار ومصادرة الأراضي من خلال المسيرات الأسبوعية في بلعين ونعلين أو في إقامة قرى باب الشمس، وعين حجلة، والكرامة، والمناطير، وأحفاد يونس وغيرها من القرى التي تواجه قضم الأرض أو في فضح التوسع الاستيطاني ومواصلة الجهود الشعبية والدولية لمقاطعة المستوطنات ومنتجاتها والمؤسسات الإسرائيلية التي لها فروع في المستوطنات في حين أن قطاع غزة، ولانسحاب إسرائيل منه أمكنه تقديم الرد العسكري على الفعل الشعبي رغم أنه كان حاضراً في مناسبات عديدة وبالتالي لم يتمكن أكبر فصيلين من الالتقاء على أسلوب واحد بعينه على الرغم من أن الاثنين يؤمنان بالعمل المسلح والشعبي ولكن من يتقدم على الآخر؟ أو متى؟ هو باب الخلاف واليوم أصبح لزاماً توحيد الجهود لتطبيق ما تم الاتفاق عليه فيما يخص الشكل المناسب للمقاومة بشكل واضح وغير قابل للتأويل.

وعلى مستوى الآراء الأخرى فهناك من يقلل من جدوى المقاومة الشعبية نظراً لحجم الرد الإسرائيلي المبالغ فيه على التحركات المسالمة، وآخرون يرفعون من شأنها بصفتها منظومة متكاملة تستقطب في النهاية المجتمع الدولي.

ما هو المطلوب

وتبقى في النهاية الأسئلة المهمة، وهي كيف نحافظ على الخيط الرفيع بين توسيع المقاومة الشعبية إلى انتفاضة ثالثة وبين الخروج عن السيطرة والدخول في حالة من الفوضى؟ وكيف بالإمكان المحافظة على الدم الفلسطيني من الإراقة المجانية؟ ويمكننا بالتالي سرد النقاط التالية علها تكون إجابة على تساؤلاتنا وخارطة فلسطينية للعمل الوطني:

1- حصر المواجهات في نقاط التماس مع الاحتلال الإسرائيلي والطرق إلى المستوطنات.

2- تشكيل قيادة فصائلية موحدة توجه العمل وتحافظ على زخمه.

3- تجسيد الوحدة الوطنية واقعاً ملموساً فالمصالحة جزء من الأهداف التي وضعها الشبان لأنفسهم، وهو ما يُعطي مؤشراً واضحاً لإمكانية التواصل في العمل على الأرض ولتوسيع الانتفاضة ورفدها بخبرة نضالية سبقتها.

4- دعم المواطن وتعزيز صموده على الأرض من خلال المشاريع التطويرية لتشمل كل المناطق حتى المنطقة "c" ولا ضير لو كانت بإشراف منظمات غير حكومية.

5- الإبداع الإنساني في وسائل المقاومة الشعبية، ومواصلة اجتراح وسائل جديدة تراعي الدعم الدولي والتأييد من الوفود الدولية المشاركة.

6- أن لا نغرق كثيراً في المسمى المناسب لتلك الحركة الشعبية فإن أردناها مقاومة شعبية فهي تشمل أيضاً العمل المسلح، وإن أردناها سلمية فهي تشير للصدامات الجارية بشكلها الحالي، وإن توسعت وشملت كل المناطق وأردنا تسميتها انتفاضة ثالثة لإسقاط الدلالة اللفظية للكلمة بسحرها الذي حدث خصوصاً في الانتفاضة الأولى لا ضير فالأساس في ذلك ليس البحث عن المسمى بقدر الاتفاق على الوسائل الناجحة في إدماء العدو وتكبيده خسائر كبيرة دون تعريض أنفسنا للخطر المباشر، أو إلقاء أنفسنا إلى التهلكة.

7- أن يُشكل قطاع غزة رافعة سياسية للمقاومة في الضفة الغربية وهذا يتطلب أن تكون وتيرتها في القطاع أبطأ، ولا تستجلب حرباً جديدة على غزة، وهنا يجب الحذر من إطلاق الصورايخ على إسرائيل، في حين يتم تعزيز المقاومة في الضفة كونها سترسم التحدي السياسي القادم، ومسار أي تسوية قادمة، بالإضافة للجم المستوطنين.

وأخطر ما يمكن أن تلحقه موجة الغضب الشعبي هذه أن تنتهي دون تحقيق أهداف تسجل تقدماً للقضية الفلسطينية، فتكون بمثابة حراكٍ عارٍ لا يحقق إلا استنزافاً للشعب وتراجعاً في قضيته.

وتشهد الذات الوطنية انهياراً عندما يغدو الأفراد أصحاب القضية عاجزين عن تحقيق خطوات عملية تخدم قضيتهم. فالتضحية المستمرة بدون مقابل لربما تخلق وعياً استسلاميا وبهذا تتغير القناعات ويبدأ الحس الوطني بالاختفاء تدريجياً. ومع تكرار الحالة ذاتها تصل الذات الوطنية إلى حالة من الانتكاس. "فهل أصبح لزاماً على كل جيل فلسطيني أن يجرب انتكاسته على طريقته؟". إذا ما طال اضطهاد الشعب، وسلبت حقوقه فإن مساره الطبيعي على خط المقاومة والكفاح، وهذا يكون حال الطامحين للحرية والاستقلال وبعث العدالة على أرض سُلبت من أصحابها قسراً. لكن الخطر يبقى قائما إذا ما تم تفريغ الغضب الشعبي الناتج في غير مساراته الطبيعية على شكل هبات عفوية لربما تعود عليهم بالضرر. وهذا بأضعف التقديرات يجب أن لا ينطبق على الحراك القائم.

لن يجني الفلسطينيون أي فائدة إذا ما كان حراكهم هذا بصيغة التعبير عن الغضب فقط، بل يمكن أن يشكل ضرراً على القضية، خصوصاً إذا طالت فترة استنزاف الشعب والقوى الشبابية تحديداً. لان ما يترتب على حالة "الفوضى" من نتائج تكون دائما في صالح الأقوى على الصعيد الداخلي والخارجي. فإن تكرار خروج الطاقات المحركة واستنزافها نتيجة لهذه الحراكات يجعل من القضية ذات سقف متدن من جهة، ويفتح الطريق أمام الاحتلال كي ينفذ استراتيجياته القصيرة وطويلة المدى من جهة أخرى. وهنا يفترض أن يترتب على هذا الحراك نتائج تنهض بالواقع الفلسطيني وترفع من سقف المطالب الوطنية. إذ تحتم الضرورة على الفلسطينيين امتلاك إستراتيجية قوية تساهم في إخراج الحالة الفلسطينية هذه من دائرة العبث والمطالب المزيفة وتسخير هذا الحراك لإنجازها. إن أهم ما يمكن أن تتضمنه هذه الإستراتيجية يتمثل في التالي:

 أولاً: التخلص من مشروع التسوية وإنهاء الحالة الأمنية القائمة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى تسييد نهج المقاومة والكفاح بكل أشكاله كنطاق مركزي لعملية التحرر؟

ثانياً: فرض واقع فلسطيني قوي عسكريا وسياسيا يكون مقتدراً على طريق انتزاع حق تقرير المصير وفق قرارات الشرعية الدولية بما فيها تحرير الأراضي الفلسطينية المعترف بها من قبل المجتمع الدولي، وإجبار الاحتلال على تقديم تنازلات كبيرة لصالح القضية الفلسطينية.

ثالثاً: إعادة تنظيم المجتمع وترتيبه على أساس قيم تحررية غير مسممة أو مشوهة بالإضافة إلى الخروج بنخبة سياسية واجتماعية جديدة من إفرازات المقاومة والفعل التحرري.

وبالعودة إلى الحراك، فإن هناك عدة عوامل تساعد على استمراريته وتطويره:

أولاً: وجود ضمير جمعي يساهم في خلق حواضن اجتماعية مؤسسة على قيم التحرر ومبنية على الثوابت الأساسية التي تجمع كل فئات الشعب.

ثانياً: إشراك كافة الجهات الفلسطينية المعنية ضمن برامج عملية وواقعية ذات مضامين ووعي جمعي.

ثالثاً: تركيز وسائل الإعلام وتوجيه الخطاب السياسي على جوهر القضية وتخطي حالة الردح الداخلي ولغة الاتهام المتبادل، وبما ينهي "إلى حد ما" الفئوية المقيتة التي تسود أجواء الشارع الفلسطيني.

رابعاً: تعزيز الأنشطة الكفاحية المختلفة مثل الطعن وتنظيمها والثناء عليها إعلاميا بهدف إحداث خلل في المنظومة الأمنية في القدس والداخل بشكل أساسي.

خامساً: إشراك كافة القطاعات الشعبية والأطر المنظمة بما فيها المجتمع المدني في الأرياف والمدن والمخيمات، بالإضافة الى تشكيل لجان شعبية مقاومة على خطوط التماس مع المستوطنين.

سادساً: البناء التراكمي والتدرج في العمل الشعبي وصولا إلى استخدام الأساليب الأكثر فتكا في إيذاء العدو. بحيث أن يتحول هذا المعطى الكفاحي إلى مطلب شعبي ولا يشكل أي خطر أمني على المجموعات أو العناصر ذات الرؤى العسكري، فلربما الإسراع في امتشاق السلاح الناري يشكل مدخلاً لانقضاض الأجهزة الأمنية عليها أو أن يكون بمثابة كمين لاستدراج الخلايا النائمة.

سابعاً: تسخير كافة وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية لخدمة الأهداف الوطنية لهذا الحراك.

اعلى الصفحة