تركيا أمام الأزمة السورية والأكراد

السنة الرابعة عشر ـ العدد 165 ـ (ذو القعدة - ذو الحجة 1436 هـ) أيلول ـ 2015 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بعد أن كان المبدأ الذي يتحكم في السياسة الخارجية التركية يقوم على "تصفير المشكلات" مع دول الجوار، وهو مبدأ كانت نتائجه الإيجابية واضحة بجلاء لكل متابع، عند النظر إلى وضع تركيا قبل خمس سنوات..

لكن مع بداية ما بات يعرف في الخطاب السياسي بـ"الربيع العربي" الذي أودى إلى تنامي العنف تحت ستار الدين في العديد من البلدان العربية (الإرهاب التكفيري الذي يعكس الهجمة غير المسبوقة للعنف، برأسماله الرمزي والمادي، وبممثليه من "حماة المقدس" من السلفية والإخوانية والتيارات التكفيرية و(جهاديي) الموت وقطع الرؤوس وبعض الإسلام التقليدي والرسمي)، تحولت تركيا إلى قاعدة استراتيجية و جبهة عدوان متقدمة على سورية، حتى إن الجميع بات يتحدث عن انبعاث "الإمبراطورية العثمانية" الجديدة المستندة هذه المرة إلى تنظيم "الإخوان المسلمين"، الذي وصل إلى السلطة في ثلاث بلدان عربية مع بداية سنة 2012، وشرع في ممارسة العنف ضد سورية مستقوياً بالدعم الإقليمي التركي و الخليجي.

ولم تكتف تركيا بذلك، بل عملت على تقديم كل الدعم اللوجستي والعسكري والمالي إلى الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيمات مثل "القاعدة" و"داعش"، وهي تنظيمات قائمة في عقيدتها على التكفير ورفض الآخر، أي آخر، ومرتبطة بالمخطط الأمريكي- الصهيوني الذي يستهدف تفكيك كل الدول الوطنية العربية في منطقة الشرق الأوسط، وتقسيمها على أساس طائفي ومذهبي وعرقي. غير أن الصمود السوري المستند إلى قوة محور المقاومة و التحالف الاستراتيجي مع  إيران وروسيا، المناهض لسياسة الهيمنة الأمريكية والصهيونية على الشرق الأوسط، أسهم إسهاماً كبيراً في تكسير وتحطيم موجات العنف والعدوان المتتالية التي شهدتها سورية خلال السنوات الأربع الماضية، ولا تزال.

لكن الذي يدعم الإرهاب، أو يستخدمه لخدمة مخططاته الإقليمية التوسعية، لا بد من أن يكتوي بناره، وهذا ما حصل مع تركيا، حين تعرضت إلى الحادثة الإرهابية في منطقة سوروتش، لتنطلق بسياسة هجومية لطالما حاولت اعتمادها منذ بدء الحرب على سورية، بعد أن منعتها المحاذير الدولية والإقليمية، وأعاقت قوة الخصم تقدّمها نحو تحقيق حلم اقتطاع منطقة من سورية، لإقامة شريط حدودي بين البلدين، يشبه إلى حد بعيد الشريط الذي أقامته "إسرائيل" بعيد اجتياحها للبنان, فقد أسرت تركيا نفسها في شهوة "إسقاط" الدولة السورية، بل مارست سياسات دينية/ مذهبية متعصبة، جعلتها تقرأ المشهد بصورة خاطئة, فعناد تركيا "لإسقاط" الدولة السورية، كان سبباً لكتابة وصفات علاج خاطئة، أدت إلى دعمها غير المحدود للتنظيمات الإرهابية، من دون حساب أن هذا الموقف العدواني يتناقض مع المصالح الوطنية التركية.

ما حقيقة "التحالف" التركي – الأمريكي ضد "داعش"؟

شكلت الحادثة الإرهابية التي قام بها تنظيم "داعش" الإرهابي داخل الأراضي التركية، نقطة تحول في السياسة التركية، التي وجّه إليها العديد من  الاتهامات خلال المرحلة الماضية بدعم تنظيم "داعش" وغضّ الطرف عن انتقال الإرهابيين القادمين من أوروبا ومن شمال إفريقيا، والمرور عبر الأراضي التركية للانخراط في صفوفه, وتجدر الإشارة هنا إلى أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي استطاعت تحرير رهائنها الذين اختطفهم "داعش" عند سيطرته على الموصل. وفي نهاية شهر تموز الماضي دعت تركيا إلى عقد اجتماع طارئ لسفراء الحلف الأطلسي بالعاصمة البلجيكية بروكسل لتأكيد دعم "ناتو" المعلن  للموقف التركي في تحركاته المعلنة ضد تنظيم "داعش" في سورية، وهو موقف متوقع ويعكس خيارات الحلف الأطلسي المعروفة وفق ميثاق "ناتو" الذي يرى أن أي اعتداء على دولة عضو فيه  بمنزلة الاعتداء على كل الدول الأعضاء وهو الميثاق ذاته الذي اعتمده الحلف الأطلسي للتدخل من قبل في أفغانستان والعراق وحتى في ليبيا يدفع للتساؤل إن كان الأمر يمكن أن يتكرر هذه المرة في سورية لتكون  بذلك أنقرة القاطرة التي ستسمح  للحلف الأطلسي بالتدخل في الجوار السوري بعد أن طالت ضربات تنظيم "داعش" هذه المرة  العمق التركي وعمقت الانتقادات المحلية والخارجية للنظام التركي باعتماد سياسة دعم تنظيم "داعش" وتجاهل مخاطره ما ساهم في تقوية شوكته وامتداد مخاطره في المنطقة من العراق إلى سورية وصولاً إلى  تركيا.

غير أن المحللين يرون أن تحالف تركيا مع الولايات المتحدة ضد "داعش"، وإتاحة قاعدة إنجرليك الجوية لها للمرة الأولى منذ العام 2013، فيما بدا للوهلة الأولى، جاء كمقايضة أنقرة الاشتراك بضرب "داعش"، بالحد الأدنى ومن دون حماس كبير أو تكثيف الغارات على مواقع التنظيم, فيما يقوم الرئيس التركي رجب أردوغان بضرب الأكراد و"حزب العمال الكردستاني" في العراق، بحماس منقطع النظير, فبعد تردد طال عدة أشهر بدأت تركيا باستهداف "مواقع لتنظيم "داعش" داخل الأراضي السورية، ولكنها اغتنمت هذه الفرصة لتطول غاراتها الجوية مواقع "حزب العمال الكردستاني".

وبعد أكثر من عام على توسّع تنظيم "داعش" الإرهابي واستيلائه على مناطق واسعة في العراق وسورية، أُنجز الاتفاق شبه النهائي بين تركيا والولايات المتحدة، والذي قضى بفتح الأتراك قاعدة إنجرليك أمام الطائرات الأمريكية، في مقابل إنشاء ما يسمى "منطقة عازلة" داخل سورية، ولم تستجب تركيا في المرحلة السابقة للطلبات الأمريكية، على الرغم من تشكيل الولايات المتحدة "تحالفاً دولياً" لضرب "داعش"، وإعرابها أكثر من مرة عن حاجتها إلى قواعد عسكرية في تركيا. ويقضي الاتفاق، أيضا بفتح جميع القواعد التي تتبع للقيادة الجوية الثانية في الجيش التركي، المتمركزة في ديار بكر للحالات الطارئة، والتي يتبعها إضافة إلى إنجرليك، كل من قاعدة ديار بكر ومالاطيا وباتمان، جنوب البلاد وتمنح قاعدة إنجرليك الكثير من الميزات لطيران "التحالف" ولا تبعد عن مدينة الرقة السورية، أكبر وأهم المدن التي سطا عليها "داعش"، أكثر من 400 كيلومتر، وبذلك لن تضطر طائرات التحالف للإقلاع من القواعد العسكرية في الخليج، وقطع ما بين 1200 و2000 كيلومتر للوصول إلى مواقع التنظيم في شمال سورية والعراق وبالتالي سيكون من الممكن استخدام ضعفي إلى ثلاثة أضعاف عدد الطائرات التي يستخدمها "التحالف" الآن، بفضل قاعدة انجرليك، كما سيخفف الإقلاع من إنجرليك حاجة طائرات التحالف إلى التزود بالوقود في الجو عبر طائرات التزويد الضخمة، ما سيخفف تكاليف الغارات وسيرفع من فعاليتها، وتتمكن حينها الطائرات من التحليق فوق أهدافها فترة أطول, وتقع القاعدة في منطقة غنجرليك، التي تبعد عن مدينة أضنة، خامس أكبر المدن التركية، 8 كيلومترات، كما تبعد 56 كيلومترا عن ساحل البحر المتوسط، وبقيت منذ إنشائها عام 1951 محلّ مساومات حادة بين أنقرة وواشنطن، وكان مجلس الأمن القومي الأمريكي، قد اقترح بناء القاعدة، بعد إعادة تقييمه للإستراتيجية الأمريكية الدفاعية في الحرب الباردة، إثر نجاح الاتحاد السوفييتي السابق، في تفجير قنبلته النووية الأولى في عام 1949. وبناءً عليه تمّ التواصل مع أنقرة لبناء القاعدة في أضنة، التي لا تبعد عن موسكو أكثر من 1500 كيلومتر، في مقابل منح تركيا بعض المعاهدات الدفاعية والمساعدات العسكرية.

اغتنمت تركيا ذريعة استهداف "مواقع لتنظيم "داعش" لتطول غاراتها الجوية مواقع "حزب العمال الكردستاني"، وصنفت أنقرة الحملتين العسكريتين ضد "داعش" من جهة والأكراد من جهة أخرى في إطار واحد هو "الحرب على الإرهاب" حسب توصيفها المزعوم مع أن الطرفين المستهدفين يتواجهان أصلا في معارك شرسة . وما يؤكد هذا التحليل، هو قول دايفيد رومانو أستاذ سياسات الشرق الأوسط في جامعة ميزوري: إن الحملة العسكرية التركية تركز أساساً على حزب العمال الكردستاني وليس على "داعش" مشيراً إلى أن تركيا, وبعدما سمحت للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية لشن غاراتها ضد "داعش"، تأمل في أن تبادلها بالمثل عبر الابتعاد عن حزب الاتحاد الديمقراطي, وحسب المصدر نفسه فإن من شأن هذه "الحرب على الإرهاب" أن تخفف من حدة الصعوبات السياسية الداخلية في تركيا بعد الانتخابات، وبالتالي فإن احتمال إعادة إجراء الانتخابات يبدو وارداً جداً، وكتب المعلق جنكيز جندار في صحيفة "راديكال" الالكترونية: إن أردوغان أراد "تشويه" صورة حزب الشعوب الديمقراطي عبر ربطه بحزب العمال الكردستاني على أمل إحراز نتائج ايجابية في الانتخابات المقبلة المحتملة وأضاف: إن حملة القضاء على تنظيم "داعش" مجرد ضغط في الانتخابات التركية. ومن جانبه أكد مارك بيانيري، الباحث في مركز كارنيغي أوروبا، أن"الحكومة التركية وازنت بين حزب العمال الكردستاني و"داعش"، ومع أنهما كيانان متباينان إلى حد كبير، فإن هذا الأمر يخدم مصالح "العدالة والتنمية" في الانتخابات المقبلة".

الاستهدافات التركية من مزاعم "الحرب على الإرهاب"

يأتي ما يسمى "الانقلاب التركي على تنظيم داعش" في السياقات التالية، المتصلة بتداعيات الأزمة في سورية على الأمن القومي التركي، والأزمات الداخلية التي تعاني منها تركيا، والتطورات الأخيرة على الصعيد الإقليمي، ولاسيما فيما يتعلق بالاتفاق النووي بين إيران والغرب، وبداية اقتناع أطراف إقليمية عربية بهزيمتها في الحرب على سورية.

1- عودة المسألة الكردية  في تركيا مجدداً إلى دائرة الجدل الساخن بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية ، بعد الاختراق الانتخابي الذي حققه أكراد تركيا، الممثلون سياسياً بـ"حزب الشعوب الديمقراطي"، الذي أكسبته الانتخابات البرلمانية الماضية، حين خاض رئيسه صلاح الدين ديمرطاش، جرأة مثيرة للدهشة، ظهرت في اندفاعة سياسية عبّر عنها قراره خوض الانتخابات التشريعية يوم 7حزيران  2015 ضمن قائمة حزبية، حصراً، أي من دون أي مرشحين مستقلين، وتجاوزهم عتبة  الـ 10%، التي من دون الحصول عليها، كان يمكن للحزب الكردي أن يبقى خارج التمثيل البرلماني بالكامل. وحصول "حزب الشعوب الديمقراطي" الكردي على 12.84% من الأصوات، جعله الرقم الصعب في المعادلات الداخلية و الإقليمية لتركيا.ويمارس الرئيس التركي سياسة الهروب إلى الأمام بسبب الأزمة السياسية الداخلية التي تعاني منها تركيا، وذلك من خلال العودة إلى قتال الأكراد، تمهيداً لعزل "حزب الشعوب الديمقراطي الكردي" في الداخل، وتأليب الرأي العام ضده، وهو ما ظهر في خطاب أردوغان الذي دعا إلى رفع الحصانة عن بعض البرلمانيين الأتراك، بحجة "دعمهم للإرهاب"، في إشارة غير مباشرة إلى بعض برلمانيي"حزب الشعوب الديمقراطي", ويتهم ديمرطاش زعيم "حزب الشعوب الديمقراطي" الرئيس التركي بالعمل على "زعزعة الوضع" في البلاد على أمل إجراء انتخابات مبكرة وحصول حزب "العدالة والتنمية" على أكثرية مطلقة, ولا يبدو إجراء هذه الانتخابات مستبعداً، فقد شكك أردوغان بفرص نجاح المحادثات الجارية حالياً بين "العدالة والتنمية" و"الاشتراكيين الديمقراطيين" لتشكيل ائتلاف حكومي. ويهدف أردوغان من هذه "الحملة على الإرهاب"، إلى رفع أسهم حزبه، "العدالة والتنمية" والدعوة إلى انتخابات مبكّرة، يستطيع من خلالها النفاذ من النظام الانتخابي التركي للعودة إلى السلطة بشكل منفرد، وعدم الحاجة إلى عقد ائتلاف حكومي.

2- التعمية على التراجع الاقتصادي الذي تشهده تركيا نتيجة سياسات حزب "العدالة والتنمية" في السنوات الأخيرة، والذي أعطى مؤشرات سلبية، منها ما ورد في تقرير البنك الدولي عن تراجع قيمة الناتج المحلي التركي عام 2014 بنسبة 2.9 %عن نهاية عام 2013، وتراجع معدّل النمو إلى 2.9% خلال عام 2014، وارتفاع مستوى البطالة إلى 11.2% خلال الربع الأول من عام 2,15، وارتفاع نسبة التضخم إلى 8.09% خلال شهر أيار 2015، يضاف إلى ذلك تراجع قيمة الليرة التركية إلى 2.73 نسبة للدولار الأمريكي في تموز 2015.

3- محاولة تركيا إقامة ما يسمى "منطقة عازلة أو آمنة" في الشمال السوري التي ستعطي أردوغان أرجحية تفاوضية لتحقيق المكاسب في أي حل سياسي يمكن أن يتّجه إليه العالم لحل الأزمة في سورية. ولم يتحدث الأتراك عن حظر طيران وإنما عن منطقة آمنة، والآن هم يسمونها منطقة محمية من المخاطر. وهذه المنطقة تحظى اليوم بموافقة العديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وتهدف إلى حماية المدنيين السوريين ومنع تنظيم "داعش" الإرهابي والتكفيري من السيطرة على المناطق المحاذية للحدود التركية، وتمكين اللاجئين السوريين من العودة لديارهم. فتركيا تخشى انتقال الإرهاب من الداخل السوري لأراضيها، وتسعى إلى تخفيف عبء اللاجئين عنها، وضبط الحدود وقطع الطريق على احتمال تمكين حزب العمال الكردستاني من بناء قاعدة مستقلة له في جنوب تركيا على الأرض السورية تشعل من جديد النزاع الكردي على أراضيها، في ظل قطع قيادة جبل قنديل التابعة لحزب العمال الكردستاني الحوار مع الدولة التركية.

4- انتقال مركز الريادة في منطقة الشرق الأوسط من تركيا إلى إيران بعد توقيع الاتفاق النووي الأخير، واعتراف الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة الأمريكية بإيران  كقوة إقليمية في الشرق الأوسط، وبالتالي الاعتراف بنظامها السياسي الاستقلالي السيادي وبحقها بالتقنية النووية التي يحتكرها أصلاً أقوياء العالم.

إضافة إلى ما تقدم شعرت تركيا بأن المنطقة باتت تتهيأ لتشكيل البيئة الملائمة لإنتاج حلول سياسية تتناسب مع موازين القوى المتشكلة بعد المواجهات العسكرية الطاحنة التي كانت ترجمة ميدانية للصراع بين المشروع الأمريكي- الصهيوني الاستعماري الاحتلالي المعتمد على أدوات إرهابية وتكفيرية وتفتيتية في المنطقة، والمشروع المعتمد على محور المقاومة والذي يجد سنداً قوياً له في روسيا وإيران، والذي أثبت قدرة حقيقية على الصمود، وفي الانقضاض والملاحقة لتنظيمات الإرهاب التي يستعملها المشروع العدواني في إطار حربه على المنطقة, فتركيا تعرف, أو عليها أن تدرك أن المشروع الذي عادته وحاربته وأملت بأن تقيم مجدها على ركامه، هو مشروع بدأ يسجل الانتصارات التي لا شك فيها, ومن شأن رفع العقوبات الاقتصادية نهاية العام زيادة الدعم الإيراني لسورية, وكان مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية السيّد علي الخامنئي قد أعلن عن استمرار إيران في دعم حلفائها في سورية والعراق ولبنان وفلسطين واليمن والبحرين.

عودة الصراع بين الأكراد وتركيا

لقد تضاعف الخطر الكردي بالنسبة لتركيا اليوم، بعودة "حزب العمال الكردستاني"، المصنّف "إرهابياً" من قبل أنقرة، بقوة إلى الساحة، ومعروف أن هذا الحزب خاض حرباً طويلة ضد تركيا بين عامي 1984 و 1998، وهو صاحب مشروع إقامة دولة كردية على أرض كردستان التاريخية، ما يشكّل تهديداً لوحدة الأراضي التركية. ولا شك أنّ دخول القوات التركية الحالة السورية من البوابة الكردية سيبدل في جيو/سياسة الصراع. كما أنّ هذا التدخل، أيضاً، ذو علاقة بالوضع الداخلي التركي. ذلك أنّ أردوغان الذي يتطلع إلى انتخابات تشريعية مبكرة، تغيّر موازين القوى القائمة في البرلمان الآن، وتعيدها إلى ما كانت عليه قبل الانتخابات الأخيرة، يهدف إلى دفع حزب الشعوب الديمقراطي، الكردي، نحو التصعيد العسكري وإتباع سياسة قومية متطرفة تعمل على خلط الأوراق في الساحة السياسية، وتدفع الأحزاب التركية القومية، اليمينية، إلى تغيير حساباتها ومواجهة الحزب المذكور للوصول، ربما، إلى إخراجه من البرلمان القادم المنشود، بما يتيح لأردوغان استعادة زمام المبادرة في الوضع الداخلي التركي، وفي رسم السياسة الخارجية، على صعيد المسألة السورية خاصة، والسيطرة أكثر على إدارة الحكم.

في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، عادت المسألة الكردية لتطفو على المشهد السياسي التركي، حين اندلعت حرب حقيقية كانت تدور رحاها في محافظات جنوب شرقي تركيا بين الجيش التركي وثوار حزب العمال الكردستاني منذ بداية العام 1984 .وجعل حزب العمال الكردستاني ، الذي أنشأه عام 1978اثنا عشر طالباً، ثم انطلق مع   عام 1984 مع مئتي مناضل تم تدريبهم في المخيمات الفلسطينية التابعة للجبهتين الشعبية و الديمقراطية لتحرير فلسطين ، من الكفاح المسلح محوراً لنضاله ضد"الدولة التركية المستعمرة". أما مطلبه السياسي فكان فيدرالية كردية – تركية من دون تعديل للحدود الدولية. ولكن تعذرّ على "ثاني جيش في منظمة حلف الأطلسي "، ولغياب  التجربة في حرب العصابات  المضادة، أن يسطر على من كان يسميهم حتى 1992، "حفنة من اللصوص".

هذه الحرب الضروس "من دون نهاية" كان من نتائجها تهجير مئات الآلاف من الأكراد من ديارهم وقراهم الأصلية، وتكبيد تركيا خسائر بشرية تقدر بعشرات الآلاف من القتلى والجرحى في صفوف قواتها المسلحة، واستنزافها اقتصادياً، إذ إن كلفة الحرب منذ بدايتها وصلت إلى أكثر من 100 مليار دولار حتى الآن. وقد عززت هذه الحرب  وضع حزب العمال الكردستاني : ففي العام 1992 اعترف وزير الداخلية  التركي بأن  الحزب يضم 15000مناضل و أكثر من مئة ألف عنصر مليشيا.

وإذا  كانت الولايات المتحدة الأمريكية والدولة الصهيونية وأوروبا قد حولوا الدور الكردي إلى لعبة في منطقة الشرق الأوسط، ولاسيما بعد الستينات من خلال أكراد العراق الذين ينفذون أدوارهم في خدمة المخططات الأمريكية والإسرائيلية، فإن حزب العمال يعتبر أن الحرب التي يخوضها منذ بداية الثمانينات موجهة ضد الدولة التركية والسياسة الأمريكية .

ويشكل تأكيد القومية الكردية في أيامنا، مشكلة سياسية عويصة بالنسبة لتركيا، عالجتها تركيا منذ الحرب العالمية الأولى بصورة جذرية عبر تطبيق خطة تهجير مكثف للسكان الأكراد من النوع الذي حل بالأرمن، وإجبارية استخدام اللغة التركية، في صفوف السكان الأكراد وفرض الأحكام العرفية، في المناطق الكردية .

ومنذ العام 1925، أنكرت الحكومات التركية المتعاقبة وجود المسألة الكردية: "ليس هناك مسألة كردية طالما لا وجود للأكراد". فلفظ كلمة "كردستان" أو كتابتها يعني بحسب القوانين التركية (المادة 312 من قانون العقوبات أو المواد 6و 7و 8 من قانون مكافحة الإرهاب)"القيام بدعاية انفصالية إرهابية".

 ويعتبر حزب العمال الكردستاني المسألة الكردية إحدى مكونات الأزمات الداخلية التاريخية التركية، حتى وان كانت تركيا قد أنكرت وجودها، وعملت على تقزيمها وتحويلها إلى مجرد قضية "إرهاب داخلي ونزعات انفصالية".  وكان عبد الله أوجلان قام بعدة مبادرات سياسية سلمية منذ عام 1993 لجهة الاعتراف بالمسألة الكردية في تركيا، وإجراء حوار سياسي مع أنقرة في إطار يتم تحديده. وكان واضحاً أن عبد الله أوجلان أقتنع أخيراً بأن المرحلة الجديدة بعد نهاية الحرب الباردة هي مرحلة جديدة سياسية سلمية، وهو أمر أراد بانتقاله إلى أوروبا أن يكون قائداً لتلك المرحلة كما كان قائداً للمرحلة العسكرية السياسية السابقة، وأن يضع المسالة الكردية في قلب أوروبا.

في العام 1992، أطلقت الدولة عملية تدمير واسعة للقرى الكردية. وخلال سنوات، أدّت سياسة الترهيب هذه إلى تهجيرٍ قسريّ للقرويين نحو المدن الكبرى، وإلى هجرةٍ واسعة (طلابيّة خصوصاً) باتجاه أوروبا. وكانت هذه السياسة تهدف إلى إضعاف حزب العمال الكردستاني من خلال فصله عن قواعده المناضلة في "كردستان الشمال". وقد تحقّق الهدف بما أنّه في تلك الفترة بدأ بعض قادة هذا الحزب بالتخلّي عن تشبّثهم بالانفصال، وذلك لصالح حكمٍ ذاتيّ واقعيّ يمكن التفاوض حوله.

في عقد التسعينيات من القرن الماضي، شكلت قضية حزب العمال الكردستاني أزمة كبيرة في العلاقة بين تركيا و سوريا، إذ اتهم الرئيس السابق سليمان ديميريل دمشق بـ"دعم الإرهاب الانفصالي" و"تأمين مساندة لوجستية للصوص، واستقبال زعيم اللصوص في دمشق".

ومع اعتقال رئيس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، في شباط/فبراير 1999، توفّرت للقادة الأكراد مناسبة جديدة لإعادة النظر في سياساتهم. فقد طالب القائد الكردي، من داخل سجنه التركي، بـ"وقف الكفاح المسلّح"، منادياً بعملية "انتقال ديمقراطية" نحو الاعتراف بحقوق الشعب الكردي. وقد عمد حزب العمال الكردستاني ثلاث سنوات بعد ذلك إلى تغيير اسمه.

غير أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في أنقرة سنة 2002، غيّر من نظرته إلى الأكراد، إذ اعترف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في سنة 2005، لدى زيارته مدينة ديار بكر، التي تقع في جنوب شرق تركيا وتسكنها أكثرية كردية، بوجود مشكلة كردية، حيث قال: "لقد وقعت أخطاء" في المواجهة مع الأكراد، ومن الضروري منحهم "المزيد من الديمقراطية"، والامتناع عن إتباع سياسة الاضطهاد ضدهم. غير أن هذا الموقف الشجاع من جانب أردوغان تجاه المسألة الكردية، لم يسهم في تحقيق مطالب الأكراد، إذ عاد حزب العمال الكردستاني إلى ممارسة الكفاح المسلح  في سنة 2005، انطلاقاً من جبال قنديل في شمال العراق.

و بذلك، عادت المسألة الكردية  في تركيا مجدداً إلى دائرة الجدل الساخن بين حزب العمال الكردستاني و الدولة التركية ، في ضوء الأزمة التركية –الإسرائيلية، وتغيير تركيا محور سياستها الخارجية باتجاه الابتعاد عن الغرب و التقارب مع العالم العربي الإسلامي.

وبات الناشطون المسلحون الأكراد في حزب "العمال الكردستاني" ناشطين جداً منذ هجوم الجيش الإسرائيلي على "مافي مرمرة". وهم قتلوا 20 جندياً تركياً في أكثر من 15 عملية في شرق وجنوب شرق الأناضول. ورأى قسم من قادة الرأي العام الأتراك والناطقين باسم حزب العدالة والتنمية والمعارضة في آن معاً أن حزب العمال الكردستاني "تقوده القوى الخارجية" وعلى وجه الخصوص واشنطن. ويبدو أن كبار الجنرالات في الجيش التركي الذين يمثلون "الكماليين الراديكاليين" غير راضين عن سياسة حزب العدالة والتنمية.

وتنفي وسائل الإعلام المقربة من حزب العمال الكردستاني الاتهامات التي تقول إن "حزب العمال الكردستاني يتلقى تعليماته من إسرائيل أو الولايات المتحدة"، وتوضح أن نهاية الانفتاح الكردي (مشروع الإصلاح الديمقراطي للأكراد الذي أعده حزب العدالة والتنمية) واستمرار القمع ضد الأكراد هما السببان الرئيسيان لمعاودة هجمات حزب العمال الكردستاني.

وكان زعيم "حزب العمال الكردستاني" السجين عبد الله أوج ألان دعا حزبه وأنقرة إلى التفكير في هدنة مع تصعيد المواجهات خلال الأسابيع الأخيرة والتي أوقعت عشرات القتلى بين الجانبين. وأعلن الزعيم الانفصالي الذي يقود حزبه من سجنه وينقل رسائل من خلال محاميه إن "في إمكان الطرفين المضي قدما نحو عملية نبذ العنف ... إذا توافرت هذه الإرادة فان (المقاتلين) قد يستجيبون لها".

منذ الغزو الأمريكي للعراق، الذي كانت له إسقاطات مدمرة على أوضاع الدول المجاورة له، بات حزب العمال الكردستاني  يشكل تحدياً كبيراً لأنقرة، نظراً لتخوفها من  صيرورة تشكل دولة كرديّة في شمال العراق يُمكنُها  أن  تمثل سابقة في المنطقة، وتقود في نهاية المطاف إلى مطالبة أكراد تركيا ببناء دولة لهم في جنوب شرق البلاد.

عزلة الزعيم الكردي عبد الله أوجلان

مع انهيار وقف إطلاق النار بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني"، يعاني زعيم التمرد الكردي عبد الله أوجلان من التهميش والانعزال في سجنه المشدد الحراسة على الرغم من ان مفتاح استئناف محادثات السلام قد يكون طوع بنانه. وأوجلان، رمز "حزب العمال الكردستاني"، معزول عن العالم الخارجي في سجنه المشدد الحراسة في جزيرة مايرالي التركية بعد اعتقاله في كينيا في 1999. ومنذ نيسان2015، لم تسمح الحكومة التركية لوفد من النواب الموالين للأكراد، بزيارته ما أدى إلى انقطاع وسيلته الرئيسية للاتصال بالعالم الخارجي.

وكان أوجلان (66 عاما) المعروف بلقب "أبو" وتعني "العم" بالكردية، عدوا للدولة التركية، ولكن في آذار 2013، أعلن عن وقف لإطلاق النار من جهة "حزب العمال الكردستاني" بعد أشهر من المحادثات السرية مع أجهزة الاستخبارات التركية.وانهار وقف إطلاق النار في تموز الماضي، بعدما شنت أنقرة هجوماً "ضد الإرهاب" استهدف تنظيم "داعش" في سوريا ومسلحي "العمال الكردستاني" في شمال العراق وجنوب شرق تركيا.

لكن حتى الآن تتركز الضربات الجوية التركية على المقاتلين الأكراد الذين ردوا بسلسلة من الهجمات الدامية ضد قوات الأمن التركية.وصرح إدريسي بالوكين، النائب من "حزب الشعوب الديمقراطي" الموالي للأكراد، لوكالة "فرانس برس" أن إحياء محادثات السلام يعتمد على تعزيز قدرة أوجلان على التفاوض والتواصل مع جميع الأطراف المعنية.

وأضاف بالوكين الذي كان ضمن الوفد الذي زار أوجلان "من غير الممكن التحدث عن عملية تفاوض نزيهة مع الدولة التي تسخر جميع أدوات دعايتها (ضد المقاتلين الأكراد) بينما أوجلان في عزلة تامة"، كاشفاً عن أن اللقاءات مع أوجلان كانت تستمر ثلاث ساعات، وتجري داخل السجن تحت مراقبة ثلاثة مسؤولين أتراك. وقال بالوكين، وهو طبيب، أن أوجلان يعاني من حساسية مزمنة يجب أن تعالج من قبل طبيب مختص، وليس الطبيب العام الذي يعمل حالياً في السجن. وأضاف: "تقول الحكومة انه بخير، ولكن كيف نتأكد من أنهم لا يكذبون؟ يجب أن نراه".

ويمضي أوجلان، الذي نشر15 كتاباً منذ اعتقاله، أيامه في قراءة الأعمال الأكاديمية والكتب في زنزانته المكونة من غرفة مساحتها 12 متراً مربعاً. ولديه مذياع موجه لاستقبال محطة "تي ار تي" الحكومية التركية، وجهاز تلفزيون يعرض برامج 12 قناة رئيسية. ويسمح له بالاختلاط مع السجناء الخمسة الآخرين المحتجزين على الجزيرة ولعب الرياضة معهم لمدة خمس ساعات أسبوعياً. ودانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان العام الماضي تركيا لمعاملتها "غير الإنسانية" لأوجلان. ورد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قائلاً: "فعلنا ما يجب أن نفعله" لتحسين الظروف المعيشية لأوجلان، لكنه أضاف: "لن نوفر لأوجلان فيلا".

وذكر المحلل البارز في مجموعة الأزمات الدولية نيغار غوسكيل أن انعدام الاتصالات مع أوجلان أضعف نفوذه، مع إدارة العمليات العسكرية لحزب العمال الكردستاني من جبال قنديل البعيدة شمال العراق. وأضاف أن "الحكومة لم تسمح لـ"حزب الشعوب الديمقراطي" بزيارة أوجلان في السجن منذ نيسان الماضي. وقد أضعف ذلك سلطته على الحزب.

اعلى الصفحة