نظام إقليميّ جديد جوهره التوازن في العلاقة بين الدول

السنة الرابعة عشر ـ العدد 165 ـ (ذو القعدة - ذو الحجة 1436 هـ) أيلول ـ 2015 م)

بقلم: معين عبد الحكيم*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في مقالٍ له نُشِر لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في عددٍ من الصحف بينها صحيفة "السفير" اللبنانيّة و"الراي" الكويتيّة، أعلن ظريف أنّ إيران تنشد علاقات طيبة ووطيدة مع جيرانها، مشيراً إلى أنّ جولته الإقليمية إلى ثلاث دول جارة هي الكويت وقطر والعراق مباشرة بعد حصول الاتفاق النووي التاريخي بفيينا بين إيران والدول الخمس الدائمة العضوية بمجلس الأمن وألمانيا، إنما جاءت تأكيدا لهذه الإستراتيجية التي توليها السياسة الخارجية الإيرانية اهتمامها.

رسم الدكتور محمّد جواد ظريف معالم المرحلة المقبلة  من وجهة نظر إيرانيّة، ولكنّها مكنونة في رؤاها في قلب المعادلة المطروحة منذ فيينا حتى اللقاء الأخير في الدوحة، وقد كان جوهره استكمال تسويق الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ في الساحة الخليجيّة.

ترميم النظام الإقليمي

وفي تشخيص واضح لما خلف سطور المقال، رأت مصادر دبلوماسية مواكبة، بأنّ التفويض قد أعطي ليس في فيينا بل في مسقط على وجه التحديد لترميم نظام إقليميّ جديد جوهره التوازن في علاقة الدول ببعضها، كما المكوّنات المذهبيّة بعيداً عن سلوكيات الحروب فيما بينها في إقليم أخذ نحوها منذ سنة 2003 أي تاريخ دخول الأمريكيين إلى العراق وصولاً إلى الذروة في تفجير المنطقة مذهبيًّا مع اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في لبنان، وقد اشترك كثيرون في تقييم فحوى الاغتيال بأنّه بداية تدحرج لبنان والمنطقة نحو صراع مذهبيّ قاتل. في تلك اللحظات المصيريّة والخطيرة في آن، التي بلغتها المنطقة في حقبة ما سمي بالربيع العربيّ، وتعاظم دور القوى التكفيريّة وتهديدها الأمن العالميّ باستقراره الوجودي انطلاقاً من الشرق الأوسط، علا مبدأ جديد كان لا بدّ منه لترسيخ مفهوم التوازن في منطقة شديدة التعقيدات، وهو مبدأ "الحرب على الإرهاب"، بتوسّع كونيّ عميم. لقد علا هذا المبدأ على سواه من المبادئ والعناوين المطروحة في سياق النقاش واحتدام الرؤى، لكونه أخذ المنطقة بأسرها إلى تبعثر عبثيّ وتمزّق عدميّ، يشبه إلى حدود كبيرة "صراع الآلهة"، عند الإغريق، أو "صراع الأنبياء" وهو عنوان نحته الرئيس الراحل شارل حلو، للتدليل على ما يمكن أن تبلغه منطقة الشرق الأوسط، وقد بلغته، وأمست الأرض بفعل نيران هذا الصراع يباباً، كما في رواية توماس إليوت الشعريّة.

من هنا انطلق النقاش بين الأمريكيين والإيرانيين، في ترميم نظام إقليميّ جديد، ليس بديلاً عن نظام سايكس ـ بيكو بالمطلق، وفي خلاصة النقاش السابق لتوقيع الاتفاق، تمّ الإقرار بعدم تجويف جغرافية سايكس ـ بيكو بالمعنى السياسيّ والأمنيّ، بل اتّفِق على تطويره وتحديثه وإدارته ذاتياً بمعايير جديدة، لأنّ التجويف وبحسب المنطق الإيرانيّ ـ الروسيّ يرسّخ "الدولة الإسلاميّة"، حيث تقضي في نهاية المطاف على معظم المكوّنات المسماة بالأقليات، وهي في طبيعة تكوّنها وتكوينها السياسي نواة التوازن بمعناه السياسيّ ـ الإستراتيجيّ. ولعلّ الأرض اليمنيّة والسوريّة منطلقان أساسيّان في التأكيد على حلول سياسيّة، تتأتىّ من حوار كلّ المجموعات المتخاصمة والمحتربة، للوصول إلى حكومة وحدة وطنيّة كما اقترح في اليمن بخصوصيّته الواضحة.

استناداً إلى ذلك، تقول بعض المعلومات وبحسب بعض الأوساط المتابعة بأنّ اللقاء الذي تمّ في الدوحة، بين وزراء خارجية أمريكا جون كيري وروسيا سيرغي لافروف والسعودية عادل الجبير، كان صريحاً للغاية في مسألة ترسيخ الاتفاق الإيرانيّ ـ الدوليّ، ودور السعوديّة في عمليّة الترسيخ من خلال حضّها على حوار مع إيران بعيدًا عن العشوائيّة الطاغية على دبلوماسيّتها من خلال ما زرعه بصورة متطرّفة وزير الخارجيّة السابق الراحل سعود الفيصل، فيتّسم بالعقلانيّة المستشرفة لعالم ما بعد الاتفاق، أي لفحوى النظام الإقليميّ الجديد في الساحات السوريّة والعراقيّة واليمنيّة واللبنانيّة. ويتطلّب هذا الاستشراف سلوكيّات نقديّة يقودها ولي وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان بهدوء عاقل وملحوظ استجابة للمسعى الروسيّ المدعوم أمريكيّاً، وقد جاء اللقاء بينه وبين رئيس مكتب الأمن القوميّ السوريّ اللواء علي مملوك وهو المتهم من السعوديّة ومن الموالين لها في لبنان بملفّات ساخنة، تتويجًا لهذا المسعى وانفتاحًا على الواقع الجديد.

أمام هذا المشهد، تفيد المعلومات بأنّ الأتراك يحاولون التموضع بعد فشل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالدخول الخجول على خط ضرب "داعش"، والتسليم بالدور الأمريكيّ بتقديم قاعدة أنجرليك لها، ومحاولة إقامة توازن مضاد بين الحرب على الإرهاب ومن ثمّ مهاجمة الأكراد وحزب العمال الكردستاني PKK، والتضاد هنا لن يخدم تركيا بشيء لكون الأكراد حاجة أمريكيّة وإيرانيّة على السواء في مشروع النظام الجديد للمنطقة. ولذلك يسهّل الأمريكيون بوضوح تام الدور الكرديّ على الأرض في الحرب على "داعش" كما في تل أبيض وكوباني، وكما هو منتظرٌ في سهل الغاب ومحيطه، وبرز ذلك في غير موقع. وقد صحّ القول بانّ الاتفاق قد كُتِب في الميدان على الأرض بوجود قائد "فيلق القدس" اللواء قاسم سليماني سواء في العراق أو في سوريا، قبل أن يُكتَب على الورق.

ليس الأمر محصوراً في هذه البقعة بل أن الأوروبيين كما الأمريكيين وبحسب معلومات واردة وبوحي من هذا الاتفاق عيناً يحضّون الليبيين والتونسيين على إقامة حكومة وحدة وطنيّة، لتكون المنطلق للحرب على الإرهاب الداعشيّ المستقرّ محاذاة أوروبا على الشواطئ الليبية والتونسيّة.

أمّا لبنان فإنّ المسألة طويلة، وما قاله رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بأنّ اللبننة قد انتهت واقعيّاً. قد يكون ناتجاً من خيبة، أو من فشل في وصول رئيس توافقيّ اشترك في تحديده مع النائبين فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط. قواعد اللعبة في المنطقة كلّها قد تغيّرت، والنظام الإقليمي الجديد الراسي بين سوريا واليمن ميدانيًّا سيحدّد مصير لبنان ونظامه السياسيّ بالعناوين المطروحة في سياقٍ تكوينيّ وكيانيّ.

نظام إقليمي جديد

كما هو معروف فإن العالم ما بعد الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية في إيران ومجموعة الدول الخمس زائداً واحداً لا يختلف كثيراً عمّا كان عليه قبل الاتفاق، وذلك رغم التحليلات المغايرة لذلك. صحيح أنّ الاتفاق إنجاز دبلوماسي كبير يكرّس مكانة الجمهورية الإسلامية في المنطقة ويفتح لها آفاقاً جديدة وهامة، إلاّ أنّ مدى التغييرات في المنطقة ستكون محدودة إن لم تُقدم الدول العربية في المنطقة على تغيير سلوكها ونهجها في مقاربة المشهد العام القطري والإقليمي والدولي على حدّ سواء. أي نعتقد أنّ مفتاح التغيير الشامل في المنطقة هو في يد العرب، رغم الوضع المزري للمشهد العربي بشكل عام.

يعتقد البعض أنّ المنطقة ستدخل في مرحلة التسويات أو التفاهمات الكبرى التي تعيد الحدّ الأدنى من الاستقرار. لسنا مقتنعين أننا على أبواب تلك المرحلة لأنّ المشهد الدولي لا يشير إلى إمكانية لدولة أو لمجموعة دول من فرض مسارها العام للأمور. نعيش اليوم حقبة توزيع القوّة بين عدّة أقطاب، ما يزيد احتمالات التوتر أكثر من احتمالات التفاهم والاستقرار، وإن كان ذلك التفاهم من مصلحة الجميع. كما أنّ القوة داخل تلك الدول هي أيضاً في مرحلة التوزيع بين عدّة مراكز، ما يعقّد إمكانية اتخاذ قرارات مصيرية. فهذه التحوّلات داخل المنظومات السياسية في دول الغرب وحتى داخل منظومة القوى الصاعدة كمنظومة "بريكس" تشكّل إرهاصات عالم غير مستقر. إنّ القاعدة الأساسية في العلاقات الدولية اليوم هي عدم الاستقرار والاستقرار هو حالة استثنائية. فلا بدّ من مقاربة تعتمد عدم الاستقرار من الثوابت إذا جاز الكلام والاستقرار من المتغيّرات الظرفية.

العالم اليوم يختلف عن العالم بعد الحرب العالمية الثانية حيث تقاسم الحلفاء النفوذ في العالم، وإن لم ينه الصراع بين الكتلتين اللتين تصارعتا على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن. العالم اليوم ليس فيه منتصر واحد وخاسر واحد، بل مجموعات صاعدة ومجموعات في حال تراجع، لذلك فإنّ التفكير في نظام عالمي مستقر هو تفكير غير واقعي في المرحلة الراهنة. فالمجموعات الصاعدة غير معنية بتفاهمات وتسويات بعيدة المدى لأنها تكبلّ صعودها. في المقابل، مجموعة الدول المتراجعة تكابر وفي حالة إنكار لتراجعها وتعتقد أنّ التسويات والتفاهمات تمنعها من تحسين فرصها رغم التحوّلات التي تمنعها من ذلك.

ومن التحوّلات التي نتكلّم عنها تردّي نوعية القيادات بسبب الأزمة البنيوية في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في دول الغرب. فخلافاً لما يشاع عن صلابة النظم الديمقراطية في تلك الدول، بما فيها الولايات المتحدة، أصبحت تلك النظم أسيرة عالم المال وخصوصاً بيوت المال. وليست الأزمة اليونانية الأخيرة والإملاءات المجحفة في حقّ الشعب اليوناني التي فُرضت على الحكومة اليونانية إلاّ تأكيداً على قصر نظر حكومات الاتحاد الأوروبي وفي مقدّمتها الحكومة الألمانية. وقصر النظر ذلك يعود إلى هيمنة المؤسسات المالية المرتكبة الجرائم المالية في حقّ الحكومات كما في حقّ المواطنين والتي لا ترى إلاّ مصلحتها الآنية وليس المتوسطة أو البعيدة. صحيح أنّ ذلك الأمر يستحق نقاشاً مفصّلاً ولكن لن نخوضه لضيق المساحة المتاحة لغرض هذا العرض.

أما في الولايات المتحدة، فإنّ رداءة النخب الحاكمة تتجلّى في نوعية المرشّحين للرئاسة، سواء في الحزب الجمهوري أو في الحزب الديمقراطي. وليست حلقات الكوميديا الساخرة من كافة المرشحين إلاّ خير دليل على رداءة تلك النخب. لكنّ ما هو أخطر من ذلك هو الجهل السائد بين المرشحين، وإن كان بنسب متفاوتة. فعلى سبيل المثال يتسابق المرشحون في الحزبين على انتقاد الاتفاق النووي مع إيران من دون قراءة بنود الاتفاق، كما صرّحوا تكراراً، من دون أن يخجلوا وذلك لخدمة المنظمات والشخصيات الصهيونية التي تموّل حملاتهم الانتخابية.

وفي المقابل، فإنّ محور دول "بريكس" والمنظمات كمنظمة شانغهاي، ما زالت متماسكة في مواجهة الهيمنة الأمريكية ولكنها مختلفة فيما بينها في عديد من الأمور، وخصوصاً الطاقة والغاز. ليست هناك مقاربة في العمق حول تداعيات الاتفاق النووي على مسار النفط والغاز لكلّ من الجمهورية الإسلامية في إيران والاتحاد الروسي. أليست هناك عوامل للخلاف؟ وكيف يمكن معالجتها من دون المساس بتماسك الجبهة الصاعدة في مواجهة الولايات المتحدة؟

من جهة أخرى، كيف ستتجلّى طموحات الصين المالية في النظام المالي الجديد المرتقب كبديل عن النظام الذي يهيمن عليه الدولار؟ وهل ذلك ضمن قدرات الصين؟ هذا لا يعني أنّ تماسك الجبهة في خطر في الوقت الحاضر، لكنّ بذور الاختلاف الجذري موجودة ولم تتم حسب علمنا مقاربتها حتى الآن.

ما نريد قوله هنا هو عدم وجود قوة ضاغطة من مجموعة دول متماسكة تستطيع أن تضبط إيقاع الحراك الدولي بشكل لا يهدّد السلم العالمي، وخصوصاً أنّ نوعية القيادات في الدول التي كانت تقليدياً تقود العالم أصبحت في مستوى من الرداءة غير المسبوقة. وتردّي النوعية في القيادة يعكس الأزمة البنيوية فيها على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى الثقافي. فهل يمكن تجاهل إمكانية ارتكاب الحماقات إقليمياً و/أو دولياً في غياب نظام دولي متماسك في الحدّ الأدنى؟

إيران حجر زاوية

إن من شأن الاتفاق النووي الدولي مع إيران أن يكون مؤشراً حقيقياً على ولادة نظام إقليمي جديد في المنطقة تحتل في إطاره إيران موقعاً محورياً، على أنقاض المشروع الأمريكي – الصهيوني – الرجعي العربي لـ "شرق أوسط جديد" توقعت أمريكا بزوغه مع بدء العدوان الإسرائيلي الدموي على المقاومة اللبنانية في تموز 2006.

إن الدرس الأهم الذي يمكن استخلاصه من نتائج المفاوضات بين إيران والغرب أنه ليس بالخضوع والانضواء تحت مشاريع الهيمنة الامبريالية، بل بمقاومتها، وبناء عناصر القوة لمواجهتها، تحفظ الدول والشعوب كرامتها الوطنية وتنتزع الاعتراف بحقوقها، بما فيها حقها المشروع في المعرفة النووية. وقال: ليس صحيحا أن 99% من الأوراق بالضرورة في يد أمريكا إذا ما جرى تحدي مشاريع الهيمنة الأمريكية ومراكمة عوامل القوة وطرح مشاريع وتحالفات بديلة لمواجهتها. أن الاتفاق أصبح ممكنا بفعل عجز الولايات المتحدة الأمريكية والناتو عن إخضاع إيران، من خلال التهديد بخوض حرب إقليمية جديدة ضدها تدفع باتجاهها إسرائيل، ونظام العقوبات والحصار، ولا بالاعتماد على عكاكيز الامبريالية التقليدية في المنطقة. وخصوصا بعد التورط الأمريكي في الحرب على أفغانستان، وفي وحل العراق، وفشل مشروعها الإرهابي الظلامي في سوريا الصامدة منذ خمس سنوات. وإذا كان استهداف سوريا ووهم إسقاطها شكل مقدمة موهومة لإسقاط إيران، فإن صمود سوريا التي كانت عصيَّة على المتآمرين، شكّل حجر الزاوية في الاعتراف بمركزية إيران والتفاوض الندي حول ملفها النووي.

وإن ذعر إسرائيل والرجعية العربية ليس نابعا من الخطر النووي الإيراني، وإنما من اعتراف الدول الكبرى بإيران لاعبا مركزيا فاعلا ومؤثرا في العلاقات الدولية، ودولة كبرى معترف بها وبوزنها السياسي والاقتصادي والعسكري على المستوى الإقليمي، لا يمكن تجاوزها ولا استثناء مصالحها عند رسم السياسات في المنطقة ولا عند حل أزماتها.

إن قبول إيران إعطاء ضمانات حول عدم إنتاج القنبلة النووية، على الأقل لعقد من الزمن، مقابل احتفاظها بمشروعها النووي المدني سالما، وتمكنها من التكنولوجيا النووية، واحتفاظها بكل عوامل القوة الإقليمية: السياسية والاقتصادية والعسكرية، ومواصلة دعمها لحلفائها على حدود إسرائيل، وإسقاط فكرة الحرب العدوانية عليها،هو الذي أوقع بإسرائيل وأخرج حكامها ومعهم أقطاب المعارضة الصهيونية البائسة عن أطوارهم.

فقد حمل الاتفاق النووي معه ارتفاع مكانة إيران الإستراتيجية في النظام الاقليمي الناشئ و تراجع مكانة إسرائيل، وإفلاس الإستراتيجية العدوانية التي اعتمدتها خلال أكثر من عقد من الزمن، وفي مركزها التحريض على الحرب على إيران، بحجة مشروعها النووي.

وإذا كان حكام إسرائيل قد توهموا وأوهموا شعبهم، أن كل ما يدور في المنطقة خاضع لنزواتهم وهوسهم الحربي، وأن تعامل القوى الغربية الامبريالية ومصالحها في المنطقة، يدور من حول إسرائيل ومصالحها ومتطلبات سياساتها العدوانية، ومخاوفها الحقيقية والمصطنعة. فقد جاء الاتفاق مع إيران ليثبت أن الشيء الذي لم تستوعبه إسرائيل وحكامها هو حقيقة أن إسرائيل هي التي تخدم المصالح والمشاريع الامبريالية في المنطقة، وأن القوى الامبريالية تدعم سياسات إسرائيل، بمدى ما تقدمه الاخيرة من خدمات للمشروع الامبريالي السائد. إن كل إنجاز حققته الصهيونية تاريخيا بنجاح، كان ممكنا فقط بفضل اندماجه وتكامله مع المشاريع الامبريالية في المنطقة وفي العالم وليس في تعارض معها.

وإن من يتابع تصريحات المسؤولين الإسرائيليين منذ توقيع الاتفاق النووي مع إيران يلاحظ أن مخاوفهم لا تنصبّ على الخطر النووي الإيراني، وانما تتركز بشكل مذعور على خطر تدفق مئات مليارات الدولارات التي ستدخل الخزينة الإيرانية، والتي ستشكل تحديًا لأحلام إسرائيل في قطف ثمار "الفوضى الخلاقة" السائدة في المنطقة (والتي ساهمت في خلقها )، وفي تحول إسرائيل إلى عصب الاقتصاد والتقدم التكنولوجي، والسياسة، والقوة العسكرية، من خلال تحولها من لب المشكلة وموضوعها في الشرق الأوسط، إلى مركز الحل، وإلى صلب تحالف جديد تشارك فيه بدور فعال إلى جانب العربية السعودية وقوى رجعية عربية تدور في فلكها.

إن إعادة الاعتبار إلى موقع إيران الإقليمي والدولي – يخلط من جديد حسابات إسرائيل. ومن شأن من تابع بدقة تصريحات بنيامين نتنياهو ووزراء حكومته في الأشهر التي سبقت الاتفاق مع إيران أن يلاحظ، الارتباط الوثيق بين المعارضة الإسرائيلية الموتورة للاتفاق الغربي مع إيران، وبين تسريع اتفاقات إسرائيل مع الشركات الأمريكية والإسرائيلية التي تقوم على تطوير إنتاج الغاز وتصديره تجارياً من حقول الغاز الهائلة التي وضعت إسرائيل أيديها عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط، باعتبار أن الاتفاق مع إيران ووقف العقوبات عليها وعودتها إلى المعادلات التجارية بقوة، سيقلل من فرص إسرائيل الاستفادة من مرابض الغاز التي كشفتها. وإذا كان الاقتصاد السياسي الإسرائيلي قد بنى أحلامه على مواصلة إقصاء إيران ومقاطعتها، وتغييبها كلاعب مركزي من سوق الطاقة، فإن إسرائيل قد بنت على تحولها هي إلى دولة مصدِّرة للغاز تستطيع أن تستعمل الغاز المستخرج من البحر المتوسط لتربط اقتصادات دول الجوار بغازها واستثمار ذلك سياسيا في بناء نظام إقليمي على مقاس مصالحها.

إن محاولات نتنياهو ابتزاز الكنيست وتجاوز القانون، من أجل اختطاف الموافقة على اتفاقات الغاز الفاسدة التي أراد تمريرها في خدمة الشركات الأمريكية والإسرائيلية ورأس المال الكبير الذي يقف من ورائها، على حساب الجمهور الواسع، اعتمدت بالأساس على الهلع والتخويف من قرب التوصل إلى اتفاق دولي مع إيران من شأنه أن يفقد إسرائيل فرصتها الاقتصادية التاريخية.

إضافة إلى ما تعنيه عودة إيران بقوة اقتصادية هائلة قد تدفعها نحو تطوير مرابض نفط وغاز جديدة في المياه الإقليمية السورية واللبنانية تنافس إسرائيل وتدعم اقتصاد القوى التي تواجهها.

رؤية موحدة للمنطقة

كما هو معروف فقد توصلت المشاورات الأمريكية الروسية الإيرانية منذ عام إلى خلاصة إستراتيجية ترسم رؤية موحدة للمنطقة يفترض أن تدار تحت سقفها الخلافات المستحكمة منذ سنوات بين أطراف المثلث الأمريكي الروسي الإيراني، وكانت هذه الخلاصة في أساس التوصل إلى التفاهم الإطار على الملف النووي، واستطراداً التفاهم على الحلّ الإطار للأزمة الأوكرانية، وصولاً إلى الدفع باتجاه حلّ للقضيتين الليبية واليمنية، وصولاً إلى البحث عن مقاربة تدوّر زوايا الخلاف وتنسجم مع هذه الخلاصة في الأزمة السورية.

كذلك فإنّ العبث بحدود دول الشرق الأوسط وتعريض قوة ومركزية الدولة ضمن هذه الحدود للاهتزاز بتشجيع من قوى فاعلة دولياً وإقليمياً بداعي البحث عن نظام أفضل وفقاً لمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان أو السعي إلى تحقيق مكاسب سياسية في العلاقات مع هذه الدول أو لإحداث تغيير في موقعها من الجغرافيا السياسية للمنطقة والتحالفات القائمة فيها ينطوي على مخاطرة بتسليم تنظيم "القاعدة" ومتفرّعاته، خصوصاً "داعش" الفرصة التاريخية لتكسير الحدود وبناء كيان عابر للحدود ممتدّ عبر سورية والعراق والأردن ومصر وليبيا واليمن والسعودية وتركيا وتحوّل هذا الكيان إلى الرابح الأول الذي قد يصبح قوة لا يمكن إزالتها، وإنّ زوال تهديد "القاعدة" بمتفرّعاته، وخصوصاً "داعش"، غير قابل للتحقق من دون تقوية وتعزيز مكانة الدولة المركزية في كيانات المنطقة وتمكينها من السيطرة على حدودها وتشجيع المكونات المعنية في هذه الكيانات على صناعة التسويات التي تحقق هذا الهدف".

ما سبق سرده هو جوهر الخلاصة التي دوّنها دبلوماسي روسي كحصيلة للمفاوضات التي جرت بين موسكو وواشنطن وطهران خلال صيف وخريف العام الماضي وأفضت لانطلاق الضوء الأخضر لتمديد المفاوضات على الملف النووي الإيراني في فيينا مع نهاية مهلة التفاوض في تشرين الثاني، وهذه الخلاصة تشمل التزاماً إيرانياً وروسياً بمنع العبث بوحدة السعودية ومصر وسائر دول الخليج، والحرص على تماسك الدولة المركزية فيها بمعزل عن الخط السياسي الذي تنتهجه القيادة السياسية لهذه الدول، مقابل التزام أمريكي بالتراجع المنظم عن الحروب المفتوحة على القيادات السياسية في سورية والعراق واليمن بعدما تمّ تحويلها إلى حروب تهدّد بسقوط فكرة الدولة وضياع حدودها، وترجمة هذا التوجه تعني سعياً روسياً إيرانياً إلى تقديم مبادرات سياسية ترضى بها القيادات الحليفة لهما في سورية واليمن والعراق تسمح باستيعاب المكونات الواقفة على الضفة المقابلة، وبالتوازي التزاماً أمريكياً بالسعي لدفع الحليفين التركي والسعودي إلى تموضع جديد على ضفة تسويات وسطية غير طموحة في سقوفها، بالتالي قابلة للتسويق وقادرة على حصر الحرب بالإرهاب، والتمييز بين تبني أطراف يمنية وسورية ودعمها وبين الوقوع في فخ الرهان على الإرهاب والتطرف، بالتالي تدمير فكرة الدولة بقوة الكيد السياسي والكراهية والحقد وضيق الأفق والحسابات الصغيرة للمكاسب.

وأخيراً جاء التفاهم النووي مع إيران إيذاناً أمريكياً بالانطلاق في تنفيذ هذه الخلاصة الإستراتيجية، حيث لا تزال الخلافات حول كيفية الجمع بين معادلة الحرب على الإرهاب ومعادلة حماية فكرة الدولة، كحصيلة مجمع عليها للأهداف والوسائل، لكن الصراع حول الكيفية التي يتحقق عبرها هذا الهدف لا تزال موضع أخذ وردّ، خصوصاً في سورية واليمن، حيث الأمر لم يعد في النقاش على موقع الرئيس السوري بشار الأسد ولا حول موقع التيار الحوثي، فالتسليم تامّ بكون لا دولة موحدة وقوية في سورية بلا جيش قويّ، ولا نصر على الإرهاب بلا جيش سوري قوي، ولا جيش قوي في سورية بلا الأسد، كما التسليم قائم على أن لا وحدة لليمن ولا دولة قوية ولا فرص لإضعاف "القاعدة" من دون دور محوري للحوثيين في بناء هذه الدولة وحضانة جيشها، لكن الخلاف على الحجم والدور اللذين يفترض أن تتسع لهما بنية الدولة في سورية واليمن لاستيعاب المكونات والقوى التي تحتضنها السعودية وتركيا والتي يتداخل الكثير منها مع تنظيم "القاعدة" ومتفرّعاته، كما تقول التجربة مع "جبهة النصرة" التي انتهت بالتمسك بكونها الفرع الرسمي لتنظيم "القاعدة"، ومؤخراً مع تنظيم "أحرار الشام" الذي أصدر نعياً للملا عمر اعتبره معلماً وزعيماً وحكيماً وقائداً، بالتالي ماهية وحجم القوى التي ينطبق عليها معيار البعد عن الفكر المتطرف والتنظيمات الإرهابية، وكيف سيُتاح لمشاريع التسويات السياسية أن تكون مقبولة من الرئيس بشار الأسد والحوثيين إذا راعت معايير استبعاد المتطرفين والمرتبطين بـ"القاعدة" وتبيّن أنها تتوجه فقط نحو واجهات إعلامية لا تصمد أمام أول استحقاق انتخابي مهما كانت معاييره صارمة، لكنها تتضمّن منح هذه الواجهات مواقع لا تنسجم مع أحجامها الحقيقية في المجتمع ولا دورها المفترض في الحرب على الإرهاب.

ما سبق ذكره يمثل جوهر ما تسعى الاتصالات الروسية الإيرانية الأمريكية لبلورة جواب عليه عبر الحوار مع كلّ من السعودية وسورية وتركيا والحوثيين، وفي هذا الإطار تقدّم إيران مبادرتها حول سورية التي يشكل جوهرها، اللجوء إلى الانتخابات النيابية الشفافة بمعايير ورقابة دولية بمثابة استفتاء تعتمد نتائجه، سواء في ما يخص الرئاسة أو في ما يخص الحكومة المقبلة، ولكن خصوصاً ما يخص إلغاء كلّ الإجراءات العدائية والعقوبات وخطوات المقاطعة التي تمّت بحق سورية.

باحث في القضايا الإقليمية(*)

اعلى الصفحة