|
|||||
|
حديثٌ عن الظلال.. إلى صديق العمر عن العابرين هذه المرة أحدِّثُكَ يا صديق العمرِ.. عن أولئك الذين ينتشرون فوق أرض الوطن كغيمة صيف كاذبة.. الذين يُحسَبون على الوطن في تعداد السكان وهم كالحَمْل الكاذب فيه.. أولئك الذين ضاقت عيونهم وانفتحت كروشهم في زمن قصير، حتى السُّمْنُ بدا عليهم غير أصيل، بدا كأنه ورمٌ موسميٌّ لأن أرجلهم ما زالت نحيلة.. أولئك الذين طالت أيديهم في الانتفاع، لا في الدفاع، وتقلصت في نظرتهم مساحة الضمير.. أولئك الذين نمت عندهم حاسةُ الشم على حساب حاسة السمع.. الذين شغلوا بأحذيتهم عن رؤوسهم فبدوا كمن انقلب رأساً على عقب، يشمخون بأحذيتهم في الهواء ورؤوسهم مطأطأة.. عن هؤلاء الذين لا وطن لهم...... أحدثك.. هذه الأوراق المصفرة من شجرة الشعب، اصفرارها من دلائل سقوطها الذي تنتظره مرتعشةً كلما اهتز الوطن في مواجهة، أو في انتصار.. إنهم يخطرون بالبال كلما خطا الوطن بمجموعِهِ خطوةً راجحةً مقتدرة... وإشفاقاً يلتفت النظر إلى القدمِ المريضة.. إشفاقاً يلتفت إلى هذه الظواهر البالونية المنفوخة بهواء فاسد، وأنَفَةً يُعْرِضُ عن حديثها الموبوء.. ويقيناً يعرف الجميع أنها ارتفعت كالمناطيد بهواء فاسد.. ظواهرُ بشريةٌ ضَعُفَ بصرُها أو تشوَّهَ فضلَّلَتْها ظلالُها، أو أغرَقَتْها في الوهم.. والظلالُ مربكةٌ عندما تباغتها الأضواءُ.. الظلالُ تكثُرُ بحسب عددِ الأضواء، فيظن فقيرُ العقلِ أنه عدة شخصيات.. والظلال تتضخم عندما تكون الأضواءُ قريبةً فيظن حديثُ العهد بها أنه شخصيةٌ أسطوريةٌ قادرةٌ على كل شيء، حتى على الفهم.. والظلالُ تتراقَصُ عندما لا تكون الأضواءُ ثابتةً فيتوهم من لا يعرف ذلك أنه في خفة البهلوان!! لكنَّ الأضواءَ المصطنعةَ لا تسطُعُ في كل مكان، ولا في كل بقعة أو مناسبة.. ولا تسطع باستمرار... ضوءُ الشمسِ وحدَهُ يفعلُ ذلك، ووحدَهُ العصيُّ على الاختطاف والتخصيص.. ضوءُ الشمسِ هو الذي يرسم للكائنات ظلالها الطبيعية: لا متعددةً، ولا متضخمةً، وليست أطولَ من أحجامها.. ونحن في ضوءِ الشمس نتأمَّلُ ظلالَنا ونعتزُّ بأنها غير مشوهة.. من ذرائع لهاثهم يقولون إنهم حريصون على مستقبل أولادهم!!! فمن يخاف مستقبلاً إن كان يُسهِمُ في صنعه؟!!!.. يا لخداع الذات! أليس المستقبل على أرض هذا الوطن الخيِّر الذي صحونا فوجدنا أنفسنا فيه لا نملك إلا الشمس والهواء وتعاقُبَ الأيام؟! بلى.. وعززنا ما وجدناه بحصتنا من الكرامة، ومن دعاءِ الوالدين.. ملعونة تلك الظلالُ المتورمةُ بالادِّعاءِ والامتلاكِ والتشحم.. ملعونةٌ تلك الظلال وأصحابُها، ملعونةٌ يوم تأوي إلى ليلها، وملعونةٌ يوم تُحاسَب أو يُكشَف أمرُها أو تستيقظُ ضمائرُها أو تُفلِتُ من الحساب.. وستبقى ملعونةً ومغمورةً بالدونيّة والخوفِ والصَّغَارِ كلّما خطا الوطنُ بمجمِوعِهِ خطوةً مقتدرةً تتخطّاها وتتجاهلها.. وستبقى ملعونةً يوم يصير التاريخ سجلاً لتفصيلات الحياة اليومية... عن أولئك العابرين أحدثّك.. أولئك الطواويس الذين لا يملكون ما يعتزون به سوى ذيولِهم الملّونةِ يفرشونها للرّائين.. وظلالِهم المفلطحةِ في الأضواء المصطنعة.. أولئك المعلّقون عالةً على مقتنيات التاريخ الوطني ومراحِلِه.. أولئك الذين ينكمشونَ بظلالِهِم وأذيالِهِم يومَ يزهر الوطنُ بتظاهرةٍ لا تخصُّهم، ويُحكمون إقفالَ بيوتهم وجماجِمِهم وأدراجِهم ونوافِذهم.. ويُصّمون آذانهم عن سماع زغاريدِ الفقراء التي تنطلق كالحمائم من بيوت علّقت الوطنَ في صورِ شهدائها، وتعلّمت الحبّ.. وغداً تُقْتَسَم المواريث: قوائمُ من الممتلكات، وقوائمُ من الشهداء.. ويبقى في صفحات التاريخ فسحةٌ لأبناء الوطن... أجل يعرف الآخرون إنّ المياه المتوغّلةَ في جسدِ الأرضِ ماءً ونفطاً وغازاً هي التي تهب الحياة والنماء، وإنّ الزبد والرغوةَ فقاقيعٌ تنحسرُ كتلك الكائنات التي لا وطن لها.. فطوبى لأولئك الذين باستقامتهم ونقاءِ صوتهم يبتدئ زمن المواطنة، ويستمرّ مخلّفاً وراءه تلك الظلال المنكمشة التي تطمح - ما أتيح لها- بحصّةٍ من كلّ الأوطان، ولا وطن لها...
|
||||