ماليزيا ومشروع إسلام حضاري

السنة الرابعة عشر ـ العدد 165 ـ (ذو القعدة - ذو الحجة 1436 هـ) أيلول ـ 2015 م)

بقلم: عبد الهادي أوانج محمد(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إن الإسلام قد واجه الوضع الراهن والخطير عهد ظهوره في الجزيرة العربية، أمام الإمبراطوريتين العظيمتين الروم والفرس، بحضارتهما وثقافتهما الماديتين، بالإضافة إلى الحضارات المصرية والهندية والصينية المتبقية. وعند ما خرج  المسلمون الأوائل من الجزيرة العربية لا يحملون معهم من مقومات الحضارة  شيئا اللهم إلا الإسلام، وثبتوا في المواجهة، ولم يصابوا بالهلع والذعر، فقد كان إيمانهم ثابتا، بأنهم جديرون قيادة العالم بأسره بهذا الدين.

ووقف القائد المؤمن الصغير في تلك الفترة، ربعي بن عامر أمام رستم القائد العظيم من الفرس وصرح قولته الشهيرة: " الله ابتعثنا لنخرج من شاء، من عبادة العباد إلى عبادة الله و من جور الأديان إلى عدل الإسلام و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".

وما أشبه الليلة بالبارحة!, فاليوم نحن نقف على عتبات مستقبل جديد، ونواجه عالماً يقوده الغرب الذي وصلت إليه العلوم، مسيطراً على الموارد الطبيعية في العالم وأكبرها من عالمنا الإسلامي  في عهد الاستعمار,  ثم عهد ما يسمونه بالاستقلال، ولكننا خائفين وغير واثقين بهذا الدين، أتباعا للغرب، مرتبطين به، في النظريات، والتطبيقات، وحتى في تطبيق الإسلام لا بد أن يكون في إطار علماني، وتسربت كلمات من اللغة الغربية الناقصة في اللغة العربية القرآنية الشاملة.

حقاً إن أجدادنا تتلمذوا على أيدي الفرس والروم وأخذوا عنهم في العلوم والفنون، ولكنهم خلال جيل أو جيلين تمكنوا من إحراز كلها وتفوقوا على غيرهم، ولكننا في الوقت الحاضر وحتى الآن، لم نصل إلى المستوى الرفيع في أي مجال من المجالات، بل أخطرها ازدياد تقليد الغرب، وإدخال النظريات والأفكار التي لا نحتاج إليها في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وتجعلنا متصادمين في الوطن الواحد بين الجماعة التي تدعو إلى الحل الإسلامي الأصيل والأحزاب العلمانية التي تدعو إلى الحلول المستوردة الفاشلة.

في الفترات الماضية القريبة واجهنا أسارى الغزو الفكري من أبناء جلدتنا الذين يدعون إلى أتباع الغرب بنظرياتها الكاملة حتى وضعوا الإسلام في قفص الاتهامات، كالجمود، والرجعية، أو أنه يتخذ دورا متخلفا في الحياة البشرية، وما بقي العمل من الإسلام إلا العبادات والأسرة والميراث والأوقاف. وبعدها واجهنا فكرة نسبة  النظريات الوافدة إلى الإسلام، كالاشتراكية الإسلامية، والقومية الإسلامية، والشيوعية الإسلامية, واللبرالية الإسلامية وغيرها من المصطلحات التي ابتكروها. ثم واجهنا فكرة أسلمة بعض أمور الحياة التي يرونها رابحة مادية وسياسية، كبناء المؤسسات الخاصة  كمؤسسات الدراسات الإسلامية والبنوك الإسلامية وصندوق الحج وخدمات الحجاج وغيرها - ولله الحمد قبلناها ونخوض في إحيائها من الناحية الإسلامية المحدودة -  ولكنها بالدفاع عن السيطرة العلمانية على الإسلام، وبدون مراعاة أن أنظمة الإسلام كاملة متكاملة، ولا يجوز تصور تنفيذ نظام الأسرة وأحكام العقوبات دون أنظمة التربية والسياسة والاقتصاد والإدارة والاجتماع، ولا بد من مراعاة العلاقة بين هذه الأنظمة عند ترتيب الأولويات والتدرج في التنفيذ، ومراعاة اختلاف الأوضاع وغيرها. فكلما حدث الفساد في التطبيق وجهت سهام الاتهامات إلى الإسلام الأصولي والجماعات الإسلامية والأحزاب الإسلامية التي منع وصولها إلى منصة الحكم بأسلوب ديمقراطي مزور وحواجز قانونية مفتراة.

بداية المشروع

وأخيراً أعلن رئيس الوزراء الماليزي الجديد عبد الله أحمد بدوي بمشروع النهضة "إسلام حضاري" بعد أخذ زمام الحكومة من الدكتور محاضير محمد – وهو امتداد لمشروع محاضير-، بتخليط النظامين الإسلامي والغربي، وصرح في افتتاح مؤتمر خاص لبحث هذا الموضوع: "إنه لا يمكن وجود نظامين أحدهما خاص للمسلمين والآخر لغير المسلمين في هذا الوطن".  يعني عدم الثقة بالنظام الإسلامي الكامل ومواصلة النظام العلماني على الرغم من تحفظه في البيانات ويبقى التنازل في بعض أحكام الإسلام التي تتعلق بشخصيات المسلمين الدينية والتساهل في بعض المحرمات والمنهيات المعلومة من الدين بالضرورة كمراكز الخمور ومصانعها والقمار ومراكزها مثل (كنتينج هانلاند أكبر مراكز القمار في جنوب شرقي أسيا) ومعاملة الربا والنوادي الليلية والاحتفالات والمهرجانات التي لا تحترم أوقات العبادات المكتوبة وأخلاق الشباب وغيرها وغيرها، ويكتفي بالنشاطات الإسلامية المحدودة  لمراعاة الظروف  التعددية  بحجة الإسلام وحده لا يستطيع إدارة المجتمع التعددي في القوميات والأديان والعادات والتقاليد واللغات، ولا يقدر متابعة التطور العلمي والتكنولوجي المعاصر من جهة، ومن جهة أخرى باستدلال تاريخ الحضارة الإسلامية الذهبية التي اتخذت منها العلوم من الحضارات المتنوعة من غير المسلمين, بغض النظر إلى أن  نشأة الحضارة الإسلامية بعد أسلمة العلوم والمعارف. وأما الحضارة الغربية الحديثة نشأت بعد اتخاذ الغرب العلوم من المسلمين بترك إسلامها أو بفصل العلوم من الدين على الطريقة العلمانية التي نشأت في المجتمع المسيحي.

ورقة العمل

وقد حصلنا ورقة العمل الرسمي السري من مكتب رئاسة الوزراء أن مشروع إسلام حضاري ليس إلا لمواجهة التيار الإسلامي الذي يرونه خطرا لأنه دخل في الإدارات الحكومية والوزارات والجامعات والمعاهد والمؤسسات. وتعد الميزانية المالية الخاصة بمقدار ملايين الدولارات  للنشاطات التي تنفذ مشروع إسلام حضاري  للمؤتمرات والإعلام والدعايات ومنها الاتصالات بالرموز الإسلامية  وأصحاب الفضيلة في خارج البلاد ووسائل الإعلام لتأييد هذا المشروع الخطير بحجة تصحيح مفاهيم الموظفين والأساتذة والمدرسين الذين أفسدت أفكارهم الفكرة الإسلامية الأصولية .

ولقد وجدنا الأوراق العملية والبحوث المعدة للمرحلة الأولى من عام 2001-2003 والمرحلة الثانية من عام 2004 إلى 2008 لهذا المشروع وبينت فيها فضائح مشروعها السياسي لعلمنة الإسلام وتلويث عقول الموظفين أولا، ثم المواطنين بدعاية الإسلام الذي يناسب العالم المعاصر الذي لا مكان للإسلام الأصولي الذي لا بد من الصد عنه، لأنه يهدد الحكومة الحالية التي تدعو إلى تقدم البلاد وازدهارها بطريقة علمانية تناسب الإسلام منذ فترة استقلالها ولا تنتهي مسيرتها. ويجب محاربة ما يسمى بالصحوة الإسلامية التي دخلت الجامعات والإدارات الحكومية. ويفرض منع تقدم الإسلاميين في الانتخابات العامة على الأسلوب الديمقراطي.

تاريخ المشروع

مؤتمر "إسلام حضاري" الأول المنعقد عام 2001، نظرية رئيس الوزراء الذي قام بنشاطاته المستشار الديني لرئيس الوزراء الدكتور عبد الحميد عثمان الذي نزل في الميدان بلقاء الفئة العاملة التنفيذية لسياسة الحكومة، من الموظفين في الإدارات الحكومية في أنحاء البلاد، وكذلك الناشطين في الجامعات، والعمال في المصانع، والشركات الحكومية وغير الحكومية، والمعاهد العلمية والمهنية. الذين قاموا بتطبيق مشروعات الحكومة للنهضة والتقدم.

فهناك عدد كبير منهم عارضوا الحكومة وقاموا ضدها وأيدوا أحزاب المعارضة وهددوا حزب أمنو الوطني الذي قاد الحكومة الحالية، لحضورهم في نشاطات تلك الأحزاب واستمعوا إلى محاضرات تضليلية وندوات غاوية، وفيها اتهامات الحكومة بعدم العدالة والشفافية مما تعرض الحزب الحاكم بالضعف في الانتخابات العامة المنعقدة عام 1999. فهذا المشروع قد تم تنظيمه وتحريكه لمساعدة الحزب الحاكم للعودة إلى القوة الجديدة.

ومن تجربة الحوارات الجارية والمناقشات المبرمجة, حصلت نتيجة ضرورة مواجهة هذا التيار الباعث من المعارضة، لاسيما الحزب الإسلامي، وحزب العدالة (الذي قادته زوجة أنوار إبراهيم). وقرر قادة حزب أمنو التي اجتمعت برئاسة رئيس الوزراء، ضرورة مواصلة هذا المشروع الناجح في الانتخابات عام 2004، بتطوير إستراتيجيتها المناسبة، لتوعية الفئات المدعوة إلى تأييد الحكومة، لأنها قامت بواجبها الديني بحجة ضمن الفروض العينية والكفائية، ونشاطات الموظفين مع الحكومة (على الرغم من علمانيتها) داخلة لأداء تلك الفروض الدينية التي تحصل الثواب الأخروية ودخول الجنة. ونشاطات الحزب الإسلامي وحزب العدالة المتحالف معه ليس إلا للتضليل (على حسب زعمهم).

ومشروع إسلام حضاري استمرار وتجديد لمشروع تطبيق القيم الإسلامية (بعدم لزوم تطبيق الشريعة) الذي قام به رئيس الوزراء السابق الدكتور محاضير محمد. ولقد حان الوقت لرئيس الوزراء الحالي عبد الله بدوي لتقديم الشكل الجديد للحكومة الإسلامية.

(مقتطفات من ورقة العمل لمشروع إسلام حضاري. الفصل الثاني).

مواجهة الصحوة الإسلامية

وهذا المشروع ليس إلا لمواجهة الصحوة الإسلامية التي ازدهرت مع فشل الإيديولوجيات الواردة بتطويرها بصبغة إسلامية علمانية على حسب الظروف الداعية لمواجهة الإسلاميين الأصوليين الذين يهددون الحكومات في الدول الإسلامية برخصة من الهيمنة الغربية.

على الرغم من أنه من المفروض أن تُستقبل هذه الصحوة بانفتاح الصدر لا بتضييقه، وبالتفضل لا بالكراهة والعداوة، لأنها تصحح المفاهيم وتقودها إلى ما صلح لهذه الأمة كما صلح به أولها الزاهر. ولكن أولياء الأمور في الأمة الإسلامية المعاصرة التي تشرب من ألبان الغرب رضوا أن يكونوا مستمرين في خيوط المخططات العدوانية على الإسلام والمسلمين بأسماء كلها.

تلبيس

فإن مشروع إسلام حضاري تلبيس للحضارة الإسلامية لأن مفهوم الحضارة نفسها قد تمحور في الفكر الإسلامي حول قيم العقيدة الإسلامية، والتي مثلت الشرعة والمنهاج للممارسة على العكس من النموذج الغربي الذي اشتقت مفرداته من تطوره التاريخي وواقعه المعاشي  والتفسير المادي.

ولا أريد الإطناب في المناقشة اللغوية والاصطلاحية ولا أدخل في مستنقعاتها، ولكن من الفصاحة اللغوية والحكمة البالغة أن العلماء الراسخين في العلم والمفكرين المسلمين يكتبون بعبارة "الحضارة الإسلامية" بنسبة الحضارة إلى الإسلام وهو الاصطلاح المتداول في الكتب الإسلامية لا بكلمة إسلام حضاري بنسبة الإسلام إلى الحضارة، كما يقولون الفقه الإسلامي ولا يقولون الإسلام الفقهي ويقولون العقيدة الإسلامية ولا يقولون الإسلام العقيدي ويقولون السياسة الإسلامية ولا يقولون الإسلام السياسي وهلم جرا، لأن لها معاني مختلفة، لأن الحضارة الإسلامية تبقى استقامة الإسلام وثباته ومرونته في أسلمة العلوم والمعارف وهي تطبيق عملي للآيات الأولى المنزلة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(*) خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(*)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(*)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(*)عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق1- 2- 3- 4- 5). وقول الرسول (ص): (الحكمة ضالة المؤمن فأنى وجدها فهو أحق بها. رواه الترمذي وابن ماجه). حتى وصل المسلمون إلى ذروة القوة في قيادة العالم بالشخصية الإسلامية القوية والتمسك بتعاليم الدين بكامله، وتصحيح الحضارات والعلوم الدنيوية وأسلمتها كأداة لوظيفة الخلافة في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، وإقامة الدولة وقيادتها وسياستها وإدارتها أمانة ربانية تربط الأمور الدنيوية  بالدين الكامل، فهذه صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون. وبعد ذلك خلف من بعدهم أضاعوا الإسلام شيئاً فشيئاً واتبعوا السبل وخسر العالم بانحطاط المسلمين كما فصله الشيخ أبو الحسن علي الندوي رحمه الله في كتابه الشهير بتسرب النظرية الغربية. وبالتالي انهيار الحضارة الغربية العلمانية وتأثر بتداعياتها وآثارها العالم الإسلامي على الرغم من خروج الاستعمار منه.

فالحضارة في الإسلام تنتج عنها نماذج إسلامية تستبطن قيم التوحيد والربوبية والألوهية، وينطلق منها بُعدٌ غيبيٌّ يتعلق بوحدانية خالق هذا الكون، وتحقيق الخلافة عن الخالق في تعمير أرضه وتحسينها، وبناء علاقة الإنسان بخالقه والمخلوقات الأخرى، أساسها الدعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة. فالفتوحات الإسلامية تقوم العلوم النافعة من الشعوب التي أسلمت بعد تحريرها من حكامها الطاغية لتكون على الصراط المستقيم لخدمة العالم، والعقيدة التي دخلت في قلوبها تجعلها أمة واحدة, ويتداول فيما بينها زمام الحكومة في مدى التاريخ الإسلامي وكذلك العلوم الدينية الإسلامية يختلط أصحابها بين العرب وغيرهم. 

ربما يفهمون الحضارة المرادفة لمعنى التمدن أو المدني كما عبرها ابن خلدون في مقدمته، وهذه الكلمة أيضاً فيها فرق بين التصور الإسلامي والغربي، حيث أن التصور الغربي يأخذ من كلمة مدن بمعنى إقامة في مكان مركز يسمى بمدينة, ثم هي عبارة عن وحدة سياسية متكاملة تحت حكومة على نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في ذلك المكان على الظواهر المادية المنفصلة من الدين. على الرغم من أن للدين حرية في بعض البلدان الديمقراطية ولكنه خارج من السياسة وخاضع تحت السلطة الحاكمة.

وذهب بعضهم إلى أن التمدن من كلمة دان بمعنى الخضوع، فالإسلام يرجع إلى مفهوم الدين الكامل من  كلمة دان بمعنى الخضوع والطاعة وأياً كان مصدرها فقد اقترن اللفظ بتأسيس الدولة الإسلامية, ويعني الارتكاز على القيم الإسلامية وتعاليمها إتباعاً بمدينة الرسول(ص)، وهو التطبيق العملي للمجتمع المدني المثالي الواقعي حيث تنبثق منه الحضارة الإسلامية الذهبية في جميع نواحي روحية ومادية.

مجتمع مدني

وكلمة المجتمع المدني في مصطلحات الإيديولوجية العلمانية في جميع مذاهبها لا تزال في عالم الخيالات الفلسفية. فأين الحكومات في العالم المعاصر التي أسست على النظريات المختلفة نجحت في تكوين المجتمع المدني كما يزعمون؟ سواء أكانت رأسمالية لبرالية ديمقراطية أم كانت شيوعية أم اشتراكية. فإنها لم تصل إلى أهدافها كما تصور بها فلاسفتها ومفكروها وزعماؤها، ولم تبلغ إلى آمالها المنشودة كما ناضل في سبيلها قادتها وأتباعها، فكلها معطلة وفاشلة ثم تغيرت وسط الطريق القصير في هذه الدنيا قبل الآخرة لأنها لا تشمل الفطرة والغريزة. وهي في إطار عقل الإنسان الضعيف، فمهما كان ذكاؤه لا يعرف كل شيء يتعلق بنفسه وكيف بما حوله وأكثر وأوسع منه. فالتكنولوجيات التي نتجت من الحضارة الغربية تجعل أهلها أوحش من الحيوانات الوحشية في الطمع والقتل والدمار.

فالحضارة الإسلامية الصحيحة هي نتيجة نجاح الإسلام في قيادة العالم وحل قضاياهم، وتبقى آثارها إلى يومنا هذا لأنه من رب العالمين, واصطفى من عباده الرسول الأمين(ص) ليكون قدوة وأسوة. والقران معجزة العلوم كلها لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(*) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾(البقرة:23-24 ).

والرسول(ص) الذي تلقاه في مكة ثم بنى الدولة في المدينة وهما بعيدتان من منشأ الحضارات المادية، فبدايتها من بناء الشخصية الإنسانية من الروح إلى الجسد من وادٍ غير ذي زرع. وهي تخالف النظريات العلمانية التي جعلت بداية الإنسان من المادة والضروريات المالية قبل تكوين الإنسان ليكون خليفة في الأرض لإقامة الدين وسياسة الدنيا به.

فاستعمال كلمة إسلام حضاري  لبس الحق بالباطل بعد الرفض باقتراحات تطبيق الشريعة الإسلامية لمواجهة القضايا المعضلة المنتشرة في البلاد، وتعطلت الحلول بالقوانين الوضعية الضعيفة، والمناهج الدراسية العاجزة، ووسائل الإعلام الهدامة، واستمرت النشاطات اللا أخلاقية بدون احترام بمشاعر المسلمين. وبالتالي ازدياد الجنايات والمنكرات بخطورة بالغة.

ولقد ابتلي المؤمنون في العصر العباسي بتخليط الفلسفة المترجمة في دراسة العقيدة حتى تجعلها معقدة غامضة صعبة وبعضها مضلة، وبعض آخر يخرج من صحة العقيدة واستقامتها، ولقد نشأت حركة التجديد والإصلاح لإنقاذ الأمة من الفساد والضلال. وفي هذا العصر الذي نحتاج إليه تجديد المفاهيم لمواجهة التحديات العقيدية المعاصرة حيث دخل كثير من المسلمين في محيط الأيديولوجيات المنحرفة وأمواجها فزلزل إيمانهم زلزالا شديدا، فهلك من هلك عن بينة, وسلم من سلم عن بينة. ولقد ابتليت الأمة  بقوانين الياسق الذي وضعها التتار بتخليط الإسلام باليهودية والنصرانية وعقولهم، ثم ابتليت في القارة الهندية بملك جلال الدين أكبر وهو أكفر بتعاليمه "دين إلهي" بتخليط الإسلام بالهندوسية، ثم ابتليت بالأحمدية القاديانية، ثم ابتليت بالأيديولوجيات العلمانية المنتسبة إلى الإسلام كالإشتراكية الإسلامية واللبرالية الإسلامية وغيرها.

شبهات

فهناك شبهات حول الإسلام، هل في الإسلام مذهب حضاري ومذهب بداوي ؟ وإصلاحي وأرثوذكسي؟ كما كان في المسيحية؟، أونشأة هذا الدين على حسب التطور الحضاري للإنسان كما فهمه أدالبرتو كون Adalberto Kuhn على حسب نظرية داروين Darwin؟، فالأصل في تاريخ الأديان عبادة الطبيعة على حسب المدرسة الفيلولوجية أو المدرسة الانتروبولوجية مع استنادها إلى وضع الأقوام المتوحشة، فالوثنية قبل الإسلام؟.

كلا!، آمنا بالقران، أن الإسلام دين الفطرة، فالأديان الضالة تأتي بعده، لأن الإنسان ابتدأ من آدم وحواء عليهما السلام، لا من القرود كما فهم اليهود. وآمنا بأن الإسلام أعظم وأجل من الحضارة، وهو الذي قاد الحضارة إلى مسيراتها وأهدافها الصحيحة، وليست الحضارة التي قادت الإسلام على حسب الأهواء. فالحضارة حضارتان، حضارة إسلامية وحضارة جاهلية. وأما الإسلام واحد من عند الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾(آل عمران:83). ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(آل عمران:85).

ومن الحكمة العظيمة أن الدولة الإسلامية الأولى التي أسسها الرسول(ص) في المدينة مكونة من المجتمع التعددي في الأديان والجنسيات والقبائل واللغات كما وردت في صحيفة المدينة وبعدها الخلافة التي حكمت الشعوب التي اعتنقت بالأديان المختلفة والعادات المتنوعة والأقاليم الشاسعة تحت ولاية الإسلام الكامل في عصره الذهبي، ودخل الناس في دين الله أفواجاً طواعية لا إكراه في الدين.

الإسلام في ماليزيا

والإسلام في ماليزيا لا يزال في الصبغة العلمانية الدستورية, ومحكوم عليه وليس بحاكم، ومقيد بالدستور العلماني وليس بقائد، ووضعوا الشريعة الإسلامية في قفص الإدارة الشؤون الدينية كما في بعض البلدان الإسلامية في إطار وزارة الشؤون الدينية والأوقاف ثم قذفوها بالاتهامات ببيانات  تشمئز به القلوب المؤمنة من أبناء جلدتنا أولئك الذين يتكلمون بالسنتنا، أسارى الغزو الفكري الاستعماري الذي وضعها الاستعمار في زمام الحكم على الأمة. فالحزب الحاكم علماني، فالشعارات الإسلامية تحت البرامج العلمانية التي هي شبكة من شبكات العولمة الجديدة ومنها تطوير الإسلام وتقسيمه إلى لبرالي وأصولي وإرهابي. فالمدارس الدينية في ماليزيا مطلوبة إجبارية لتغيير مناهجها، وهنا قوانين تسيطر على المساجد والمؤسسات الإسلامية التي تربطها لكي لا يخرج الإسلام من الحصار العلماني، وهناك قوانين تربط الجامعات لتطويق الحركات الطلابية التي يسيطر عليها الإسلاميون، وقوانين تربط أساتذة الجامعات وقوانين تربط خطباء المساجد والوعاظ والمدرسين في الحلقات الدينية. فالبرامج الدينية كمسابقة القران مختلطة بين الرجال والنساء والأناشيد التي قدمها الشبان والشابات باختلاط فاحش ملبسة بصبغة دينية وغير دينية، والبرامج اللاأخلاقية مفتتحة بالدعاء ومختتمة بالمنكرات. فالوزير افتتح تارة المجالس الدينية وتارة أخرى نفس الوزير افتتح مجالس رأس السنة المسيحية بنشاطاتها اللاأخلاقية بمشاركة الشبان المسلمين، وتم جمع عيد المسلمين بأعياد غيرهم بحجة أن الدين لا يختلط بالدنيا. وهناك سياسة التربية والتعليم التي فتحت المجال للجامعات الخارجية لنشر أفكارها في البلاد بحصانة دستورية بعد تغيير الدستور في أواخر التسعينات بحجة تحريض التقدم العلمي والتكنولوجي والتربية والتعليم من مصادر النمو الاقتصادي.

وهنالك جمعيات متأسلمة تعادي الإسلام بحماية الدستور العلماني وما اهتمت بها الحكومة الماليزية . كجمعية القران التي تنكر السنة النبوية برئاسة قاسم أحمد عضو من حزب أمنو الحاكم، وجمعية الأخوات المسلمات SISTERS IN ISLAM التي أسستها النساء العلمانيات ومنهن أمينة ودود الأمريكية إمامة الجمعة في أمريكا عندما كانت مدرسة في إحدى الجامعات في ماليزيا، ومن أعضاء قيادتها البارزة ابنة محاضير وابنة عبد الله بدوي، وهي جمعية تنادي ضد الشريعة الإسلامية التي تمس حرية المرأة كما زعمت، مثل الحجاب وتعدد الزوجات وحق الطلاق للرجل وتقسيم الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين وغيرها.    

ولقد صرح وزير الثقافة والفنون أن مشروع إسلام حضاري  تعاليم المختارة والمعقولة التي تناسب العصر فحسب، بخلاف إسلام الأصوليين المتعصبين  الذين يمنعون الخمور والقمار والاختلاط بين الرجال والنساء ومسابقات ملكات الجمال والربا وغيرها ، فالصد عن هذه النشاطات المحرمة لا تشجع  الجيل الجديد إلى التقدم وتعطيل المشروعات السياحية التي تصدر الموارد الإضافية الكبيرة للبلاد.

ألم يأتكم نبأ المفتي الذي أصدر أوامره للنهي عن المنكر لمنع مشاركة الفتيات من بنات المسلمين في مسابقة ملكة الجمال فعزل من منصبه؟, والمفتي الذي تم إنهاء وظيفته لفتواه الذي نهى السلاطين والوزراء من الانحناء أمام التماثيل التذكارية للجنود المجهولين في الأيام الوطنية؟ وكم من الأئمة والخطباء الذين فصلوا من مناصبهم لأداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من منابرهم.

ولقد ابتلي أخونا أنوار إبراهيم نائب رئيس وزراء السابق بالاتهامات الكاذبة بالقذف لمّا قام بمحاربة الرشوة وفساد الإدارة في الحكومة في تجربة الانضمام داخل الحزب الحاكم حتى وصل إلى تلك المنصب العالي في الحزب والحكومة، لما دعا إليه محاضير محمد لمساندته في المشروع الإسلامي، وأخيراً تم فصله ومحاكمته وسجنه في مدة سنوات وإهانته بطريقة جائرة لا أخلاقية ولا دينية.

والنبأ الذي زلزل المسلمين في ماليزيا بعد إعلان مشروع إسلام حضاري في فصله الثاني مباشرة، قضية إفراج الشبان والشابات من أبناء المسلمين في إحدى النوادي الليلية للنشاطات اللاأخلاقية التي تمس مشاعر جميع الأديان  وتشمئز صاحب النادي الصيني الوثني وهو غير مسلم  في العاصمة كوالالمبور لأنها تمس القيم الغريزية الأخلاقية لكل إنسان  وأشعر المسؤولين في الشؤون الدينية في الولاية للتدخل بسرعة ممكنة على حسب  السلطة الدينية المحدودة. فتدخلت الحكومة المركزية لإجبار إدارة الشؤون الدينية الإفراج عن الجناة المقبوضين بواسطة الوزراء والمسؤولين الكبار لاشتراك أولادهم فيها. وقامت وزارة الإعلام والسياحة ببرنامج توحيد الأعياد الدينية للمسلمين وغير المسلمين دون مراعاتنا لحرية الأديان في حدودها، وعطلت الإدارة الشؤون الدينية في الولايات لاتخاذ الإجراءات على ما يسمى بمنظمة أتباع القران الذين يرفضون السنة النبوية كمصدر من مصادر الشريعة. وكذلك الأحمدية القاديانبة وتعاليم الباطنية لأن أتباعها من الأعضاء البارزين والمعاونين للحزب الحاكم وهذه مقتطفات قليلة من ثمار مشروع إسلام حضاري في إطار برنامج حرية الأديان والتسامح. أليست للحرية حدودها وللتسامح مكانه؟، ويجب إظهار الإسلام على الدين كله ولو كره المشركون.

وفي وطننا إندونيسيا الحبيبة واجه مجلس العلماء الإندونيسي حروباً إعلامية عنيفة لفتاواه حول الأحمدية (القاديانية)، والعلمانية، والزواج المختلط بين المسلمين والمسلمات  بأهالي الأديان المختلفة، والإسلام ليبرالي، ومشاركة المسلمين بلاد حدود في حفلات الأعياد غير المسلمين وغيرها من الأمور التي يجب المجلس القيام بواجبه. ولكن حملة هذه الحروب عليه باسم الدفاع عن الحرية من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وبعضهم يلبسون لباس العلماء. هل هناك مشروعات عولمية لمكافحة الإسلام بتمثيليات إسلامية؟.

هذا موجز الأنباء الذي يجب علينا نحن المسلمين الملاحظات والانتباه والحذر، فهل أتاكم حديث الرسول (ص): "بادروا بالأعمال قبل أن تأتي فتن كقطع الليل المظلم........"(الحديث)، وللحديث بقية. 

الإسلام الحضاري والثقافي لا يكفي!

وأعجبني ما كتبه الأستاذ الكبير أنوار الجندي رحمه الله في كتابه(إطار الإسلام في الفكر المعاصر) في فصل خاص بهذا الموضوع، وهذا الكتاب طبع عام 1980 أي أكثر من عشرين عاما، وهو سابق بتوعية المسلمين وإنذارهم خطر نظرية الإسلام الحضاري. وأدخل أستاذنا رحمه الله - وجزاه الله خير الجزاء في هذا العلم الذي ينتفع به هذا الجيل -. في شبكة الغزو الفكري الصهيوني والاستعماري على العالم الإسلامي  بحجة أن الحضارة والثقافة من الإسلام، وهي صحيحة من حيث الكلمة  ولكن استخدام كلمة الإسلام الحضاري والثقافي لبس الحق بالباطل، ومن حيث التطبيق والمحتويات حدثت تجزئة الإسلام على النهج العلماني وفصل بعض تعاليمه من بعض، وإبعاده من أسسه العقيدية وضرورية تطبيق الشريعة الكاملة، وهذا يلفت أنظار بعض المثقفين من الأمة الذين لا يهتمون بالمخططات الماكرة التي تهدد الإسلام من الداخل، وتهلك كيان الأمة من صميم تعاليم دينها لإبعادها مما صلح بها أولها.

ومن الكلمات القيمة التي كتبها رحمه الله في كتابه صفحة 422-423 في الفصل السادس (الإسلام الحضاري والثقافي لا يكفي):

"وتكشف أيضاً أن القانون الوضعي الذي أنشأه الغرب في العصر الحديث، والذي فرض على العالم الإسلامي بعد الاحتلال كان من صناعة التلمودية اليهودية؛ لأنه حمى أساسين من أسس المؤامرة اليهودية وهما:

1. الربا

2. الزنى

فحاول دون توقيع العقوبات عليهما بل أباحهما؛ وبذلك وضع الحاجز الخطير في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية في البلدان التي وصل إليها الاحتلال الغربي، وكان الاحتلال الغربي  مقدمة للنفوذ الشيوعي الماركسي خلال الحرب العالمية بعد اتفاق البلشفية والدول الاستعمارية على غزو ألمانيا والقضاء على النازية.

كل هذه الخيوط تكشف واحدة بعد  أخرى، وأخذت تقدم في مجموعها للعالم الإسلامي خريطة واضحة للمؤامرة التي تدبر من أجل احتوائه وصهره في بوتقة الأممية، والقضاء على ذاتيته، ومن هنا كانت الدعوة إلى العلمانية في العالم الإسلامي ثمرة هذا المخطط المتكامل ((النفوذ الأجنبي الغربي + الشيوعية + الصهيونية)).

ولا يزال العالم الإسلامي تحت سيطرة القوى الغربية، وبالرغم من انكشاف هذه الخيوط يواجه أخطار جسيمة في مجال الاقتصاد، وهو محاصر بالربوية اليهودية، وفي مجال القضاء والتشريع،  وهو محاصر بمناهج الغرب والشرق المفروضة على شبابه في الجامعات تحت اسم العلوم، وما هي إلا فلسفات الفرويدية والدارونية والماركسية والرأسمالية، بل إن هناك خدعة كبرى ما زالت تجوز على كثير من مثقفينا، تلك هي الدعوة إلى الإسلام الحضاري والثقافي. وتلك غاية من غايات النفوذ الأجنبي والتغريب لأننا إذا اكتفينا بأن يكون الإسلام حضارة وثقافة، فإننا سنظل إلى وقت بعيد غير قادرين على تطبيق المنهج الإسلامي كنظام للحياة والمجتمع الإسلاميين. ومن هنا كانت صيحة حركة اليقظة الإسلامية التي تصم الآذان ولا تتوقف: "الإسلام الحضاري والثقافي لا يكفي ولا بد من الإسلام العقائدي".

ولا شك أننا خدعنا في مرحلة من مراحل البحث عن الحق؛ حين دعينا إلى مفاهيم يطلق عليها أصحابها الإسلام الحضاري أو الإسلام الثقافي، وخيل إلينا أن هذا هو هدف الإسلام في العصر الحديث، وأن هذا المنطق كاف؛ لأن يحطم النفوذ الأجنبي وقواعد التغريب وقوائم الغزو الثقافي التي كانت قد أرست أعمدتها في قلب فكرنا ومجتمعنا.

ثم تبين لنا فساد هذه النظرية، وأنها أشبه بنظرية الدعوة إلى الإسلام عن طريق المنهج الفلسفي، وقد قامت هذه الدعوة زمنا تحت اسم المتكلمين الجدد أو المعتزلة الجدد. بل إن هناك من حاول القضاء على الدعوة الإسلامية وحركة اليقظة بتقديم بديل خطير............... ". إلى هذا يكفي للبلاغ.. اللهم اشهد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

رئيس الحزب الإسلامي في ماليزيا(*)

اعلى الصفحة