|
|||||||
|
شهد العالم البشري الكبير مراحل كثيرة من المظالم والمعاناة والقسوة والتمايز والعدوان على حياة الشعوب المستضعفة، ويبدو لنا أن هذا الظلم الواقع ما يزال متحكماً بعالمنا المعاصر حتى تاريخه، حيث أخذ أشكالاً وأنماطاً متنوعة ومتعددة، سياسية واقتصادية فضلاً عن الحربية والعنفية الدموية. وقد سادت خلال هذه الفترات التاريخية أجواء قاتمة من الفوضى والاضطراب والاهتزاز في القيم والمفاهيم الأخلاقية، وانطلقت فيها حركات عنف مدمرة لا حصر لها. وبالعودة قليلاً إلى الوراء يمكن للمؤرخ والباحث في مجال الفكر والحضارات أن يقرأ تلك المراحل – وبخاصة مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى- بصورة أكثر موضوعية، ويشخص حقائق فكرية وسياسية واجتماعية مختلفة بهدف تكوين صورة إجمالية عامة عن طبيعة هذا المشهد المأساوي السائد حالياً. ففي بداية هذا القرن سقط الكيان السياسي للعرب والمسلمين (والذي كان ممثلاً آنذاك بالسيطرة والاحتلال العثماني على ديارنا) تحت وطأة تقدم جحافل الاستعمار الغربي، وضاع تنظيمهم السياسي والاجتماعي بسقوط تلك الدولة، على الرغم مما كان فيها من انحراف وأمراض وتخلف، وبدأت فعلياً مرحلة الغزو الأوروبي للعالم العربي والإسلامي. وفي مواجهة هذا الوافد الاستعماري "القديم – الجديد" والمستمر، الذي حمل (وما يزال) مشاريع تفتيتية للمنطقة برمتها، تأسستْ أحزاب وتنظيمات ومؤسسات وجمعيات ثقافية متعددة خضعت بمعظمها لسيطرة الفكر الأوروبي القادم مع الاستعمار نفسه، الأمر الذي أدى إلى تبني قيم وأفكار جديدة تمثلت في إبعاد الدين والقيم الدينية العقلانية عن الحياة العملية، وتركيز الفهم الأوروبي عن الدين والكنيسة في ثقافة ووعي الإنسان العربي المسلم. وباتت تلك المسائل من أهم القضايا التي اشتغل عليها أصحاب ورموز تلك المؤسسات والمراكز الثقافية. وقد استمرت تلك الأجواء السلبية الضاغطة – المشحونة بالعصبية والفوضى– لدى كل الأطراف، على الرغم من الحاجة الماسة إلى وجود مشروع نهوض حضاري خاص بمسألة استنهاض الأمة العربية، وضرورة إعادتها من جديد إلى ساحة الحياة الإنسانية من أجل ممارسة دورها الإنساني والرسالي الهادف بين أمم ورسالات العالم كلها. وهكذا تداعت المشاهد المأساوية على مسرح هذه الأمة المكسورة، حتى وصلنا إلى كارثة العالم الإسلامي الكبرى بإقامة دولة بني صهيون على أرضنا العربية في فلسطين، وتم إشغال المنطقة بأزمات جانبية ومشكلات جزئية لا حصر لها، واستمر استنزاف شعوبها بصراعات عسكرية وسياسية واقتصادية رهيبة كلفت كثيراً من الدماء والدموع، لحرفها عن الصراع المركزي، أهدرت فيها الطاقات المادية الكبيرة والواسعة التي كانت تعتبر جزءاً من رأسمال الأمة، ومقدراتها ومواهبها، مما أعاق نموها وتطورها الحضاري السليم، وأثر سلباً على مواجهتها الحضارية، وعلى دورها وحضورها الفاعل والمنتج في هذا العالم. وتستمر الأوضاع العامة بالتردي، ويمتد الفشل الذريع إلى كثير من الأفكار والمشاريع التحديثية، وتدخل الأمة في أنفاق ودهاليز مظلمة من الخسائر والانكسارات المتتالية للمشاريع السياسية والاجتماعية التي حكمت الأمة في مسيرتها التاريخية. ولكن.. ما هو السبيل إلى الخلاص من واقع القهر والهزيمة والانتكاسات المريرة المتتالية؟! وماذا بقي لدينا نحن العرب من إمكانات وطاقات في ظل الهدر والإسراف المتواصل؟! ثم كيف يمكن الاستفادة مما بقي منها على طريق التحرر والبناء الحضاري العربي الإسلامي، وتحقيق قيم الحرية والعدالة والتقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وبناء مجتمعات عربية متحضرة وراشدة وواعية، تمتلك تنمية بشرية فعالة وقاعدة علمية وتقنية كبيرة يمكن من خلالها مواجهة الأخطار ومجابهة التحديات ورد كيد الطامعين والمعتدين، والدفاع عن ثروات الأمة ومقدراتها الهائلة؟!. حقيقةً لقد بدأ فعلياً فصل جديد من تاريخ الصراع، والتنافس الحضاري بين العروبة والإسلام من جهة وبين الآخر الطامع من جهة أخرى، بكل تلوناته وأشكاله ومواقعه.. وانطلقت الحركة التحررية العربية والإسلامية من سباتها وقمقمها على الرغم من هذا الظلام العربي الدامس، لتبدأ انطلاقتها العملية من خلال إحساسها الواعي والعميق بأهمية العودة إلى قيم العروبة والإسلام الأصيل المقاوم الوطني المساهم بفعالية كبرى في التحرر والبناء والمواجهة ضد الغزاة والطامعين وضد مشاريع التسلط والهيمنة القديمة-الجديدة المتلبسة لبوساً حداثياً جديداً. ويمكن أن نقول في هذا المجال أن الفصل الجديد قد بدأ بما يشبه الزلزال السياسي مع انطلاقة حركات التحرر والمقاومة في كل من سوريا ولبنان ومصر وإيران، وإدخالها في ساحة الصراع والتحدي بكل قوة وثبات، وفرضها معادلة صعبة في خط المواجهة والثبات، وفي أجواء التحديات الكبرى خصوصاً بعد فشل كثير من الحركات والتيارات العلمانية في محاولتها إيجاد حلول جدية عملية لجملة المشاكل والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة، وانفتاح العرب على عروبتهم وإسلامهم، وانفتاح الإسلام على الواقع كله من خلال انفتاحه على مشاكل الحياة والإنسان والواقع، ومعايشته لمشكلاته على الأرض بلا نخبوية ولا وصائية، وتقديمه لطروحات ومشاريع حلول وطنية وقومية فكرية وعملية، تعطي قضية الصراع مع العدو موقعها الطبيعي من حيث كونها من شروط إحداث نهضة حقيقية في داخل الأمة. ونحن عندما نستخدم (ونركز) هنا على مصطلح الصراع، فإن ذلك يعود إلى كونه سنة طبيعية من سنن الحياة والوجود، وسبباً من أسباب حركة التاريخ والتغيير والتنمية الحضارية والاجتماعية الشاملة لدى الفرد والجماعة والأمة. ويبدو لنا أن القرآن هو أول من تحدث عن هذا الناموس الكوني التاريخي، وصاغ ونظّم هذا القانون التاريخي: "قانون الصراع والتنافس الحضاري" في مسيرة الحياة البشرية، حيث تقول الآية الكريمة: ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾(البقرة: 251). وبهذا المعنى كان تعاطي ووعي ومعالجة الحركة الإسلامية التحررية الوطنية هنا مع معنى وحركة مفردة ولفظ "الصراع" والتحدي، خاضعة للفعل التغييري، على أساس أنه (أي الصراع): - حركة مواجهة مضادة لحركة الظلم والاستعباد والاستكبار والطغيان الفكري والسلوكي على المدى الطويل للبشرية. - ودعوة إلى ضرورة التزام طريق الهدى الرباني كمنهج ترشيد،وقاعدة أساسية للفكر والعاطفة والحياة. - وقوة عملية لمكافحة الظاهرة الاستكبارية، واستئصال جذورها الفكرية والعملية. ومن المعروف أن الأنبياء والمرسلين والأئمة والقادة والمصلحين التاريخيين الكبار - ومن سار على دربهم، والتزم بنهجهم، واستضاء بهديهم– كانوا أول من انطلق في خط الصراع ضد المستكبرين والمفسدين باعتبارهم العائق الأكبر لنجاح الإصلاح تحقيق المقاصد الإنسانية العليا، وكانوا أول من ألهب وعي الشعوب والأمم، وحرك مشاعرها، وقاد مسيرة المستضعفين ضد الطغاة والمستبدين والفراعنة عبر مسيرة التاريخ منذ فجر الخليقة. إن كل تلك الحقائق تجعلنا نعي طبيعة المرحلة الراهنة التي تعيشها الأمة العربية، وتدفعنا باتجاه البحث عن البدائل والسبل الكفيلة القادرة على تمكين شعوبنا المقهورة من مواجهة التحديات المصيرية المتنوعة التي تقف في وجه نموها وتصاعدها وتحول دون اشتداد حركتها الناهضة والرامية باتجاه استكمال بناء وإنجاز طموحها، ومشروعها الوطني والقومي الإنساني الكبير. وعلى خارطة هذا المشهد الإنساني العام برزت المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان إلى العلن كأحد أهم معالم وعناوين هذا التدافع والتنافس (الصراع) الحضاري الشامل بين مشاريع وحضارات العالم كلها، من حيث كونها مشروعاً حضارياً جهادياً وثقافياً وسياسياً، عمل ويعمل على الاستفادة القصوى من قيم (وتعاليم وتشريعات) الدين من أجل النهوض بواقع العرب والمسلمين، والارتقاء الواعي بأوضاعهم ومواقعهم المتعددة في شتى مجالات العمل الإنساني بالتركيز على الأولويات والعناوين الأولية دون تناسي أو ترك العناوين الثانوية.. وقد جاء صعود وبروز المقاومة – كأحد أهم مشاريع استنهاض الأمة - على خلفية المواجهات الجهادية العسكرية والأعمال الميدانية والملاحم البطولية المتصاعدة التي خاضتها المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان، والتي قادت إلى تحقيق الانتصار النوعي الباهر في (25/5/2000م) على قوات الاحتلال الإسرائيلي، حيث تحول الجنوب إلى مقبرة حقيقية لجنود الاحتلال وعملائه اللحديين. ومن ثم استمرارية نهجها المقاوم في تحولها إلى مقاومة وطنية شاملة في مواجهتها الشجاعة الأخيرة وانتصاراتها على قوات الاحتلال الإسرائيلي (حيث بدأت معالم النصر المبين بالتحقق والظهور منذ الثاني عشر من شهر تموز 2006 عندما بدأت إسرائيل باعتداءاتها على لبنان كله، وقيام المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية بمواجهة هذا الغزو بوعي وثبات وقوة وشجاعة نادرة). ثم تعمق هذا النهج أكثر فأكثر في مواجهة المقاومة النبيلة لمشروع الإرهاب السلفي والتكفيري الدموي القاتل الذي غزا منطقتنا، مهدداً وجودنا ومصائرنا في عقر دارنا خصوصاً بعد تحول سوريا (البلد الآمن والمستقر والداعم لنهج المقاومة) إلى ميدان لتصفية الحسابات مع الدولة السورية (المعروفة بمواقفها التاريخية المتينة تجاه مشروع الممانعة)، وساحة مستباحة لتنظيمات الجهاد التكفيري الذي لا علاقة له بالدين المحمدي الأصيل لا من قريب ولا من بعيد، كونه مرتبطاً بدوائر وغرف استخباراتية مغلقة تتلاعب به هنا وهناك من هذا العالم الذي لا يحترم إلا الأقوياء.. من هذا المنطلق يأتي التأكيد الموضوعي على الدور الموضوعي الهام والمسؤول الذي قامت(وما تزال تقوم) به هذه المقاومة في ظروف ومواقع التحدي ورد التحدي الحضاري الراهن (والدور النوعي البارز الذي مارسه ويمارسه حزب الله في سياق العمل النهضوي المقاوم) من خلال سعيها الحثيث باتجاه بناء مشروع استنهاض حقيقي لأمتنا العربية والإسلامية، باعتبارها (أي المقاومة) إحدى أهم ركائز ومنطلقات العمل النضالي والجهادي الفاعل والمؤثر والمغير للكثير من المعادلات والتوازنات السياسية والأمنية، والموازين العملية القائمة الخاصة بالمنطقة والعالم.. حتى أنها قد استطاعت –بفعل جهادها وحركتها النوعية المؤثرة– أن تغير كثيراً من الخطط والمؤامرات الدولية التي رسمها رموز الظلم والقهر العالمي لعالمنا العربي والإسلامي، وحولت واقع الهزيمة النفسي لأبناء الأمة (وهزائمنا المتكررة مع العدو الصهيوني) إلى انتصارات حقيقية فعلية (غير وهمية) لها أصداؤها وآثارها الإيجابية على أكثر من صعيد محلي وإقليمي ودولي. والثبات على المبدأ ظهر واضحاً وبصورة أكثر جلاءً وبروزاً للجميع من خلال ما حققته إيران (الدولة الأم لمشروع المقاومة) من انتصار سياسي كبير في اعتراف الدول الكبرى(5+1) بالدور النوعي والعملي الكبير للجمهورية الإسلامية في المنطقة في موافقتهم على عقد اتفاق نووي مهم ونوعي وحيوي معها بعد مفاوضات طويلة شاقة، أثبت فيها ومن خلالها الدبلوماسية الإيرانية التي فاوضت مجموعة الدول(5+1) الكبرى على مدى سنتين لإنجاز الاتفاق النووي العتيد (الذي هو إلى حد ما اتفاق متوازن فيما يخص حقوق الأطراف الموقعة عليه والتزاماتها)، أثبتت مقدرة وكفاءة ومهنية عالية وصبراً كبيراً، وامتلكت نهجاً سياسياً تفاوضياً مميزاً دل على احترافية عالية في آلية التفاوض السياسي، برزت فيه حالة منظمة من احتواء الضغوط، وتدبيرها، وتوجيهها بما كان يوسع هامش المناورة لدى القيادة الإيرانية التي أسندت تلك المفاوضات على قاعدة متينة من الرؤية الإستراتيجية المنسقة والمتسقة لمجمل الوضع العربي والإقليمي والدولي.. وللأسف عندما نقارن تلك الدبلوماسية الإيرانية المحنكة بنظيرتها الدبلوماسية العربية سنجد أن هذه الأخيرة – وفي معظم مراحلها السياسية - لم تكن سوى دبلوماسية ردود أفعال، شكلت عالةً على نفسها ومجتمعاتها، والدليل فشلها في معظم المحطات التفاوضية التي خاضتها على المستوى الدولي، والتي افتقدت فيها للمهنية والموضوعية وروح المبادرة، والفعالية العملية التي تتطلبها كواليس ودهاليز السياسات الدولية(1). إننا نعتقد أن هذه الانتصارات السياسية والعملية الكبيرة ما كانت لتحدث لولا وجود ثوابت مبدئية راسخة - من الإيمان العقائدي العميق – لدى أفراد وعناصر هذا المشروع المقاوم.. أي الانتماء الواضح والصريح إلى موقع الإيمان العملي بقيم الدين الأصيل، والموالاة العملية الصادقة لمعسكر الممانعة على امتداد حركة التاريخ، وتعاقب الأجيال والأزمان.. خصوصاً ما كان يتعلق منها بمسائل ثقافية وحضارية أساسية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 1. مسيرة الصراع الحضاري مع الغزاة والطامعين، وضرورة وعي المعنى الحقيقي لهذا الصراع العميق من خلال التهيؤ النفسي لقبوله في حياة الفرد والمجتمع، وعدم الانسحاب من ميدان المواجهة، والاكتفاء بالتنظير في دائرة الفراغ الروحي والفكري، لأن عاقبة ذلك هو "الاستبدال" و "مداولة الأمر بين الناس".. كما تشخصه الآيات الكريمة التالية: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ * هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾(آل عمران: 137-142).. ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾(سورة محمد: 38). 2. مسألة الابتلاء التي يخضع لها الإنسان خلال مسيرته الحياتية بعنوان كونها اختباراً حقيقياً للنفس الإنسانية، يمكنه أن يساهم في كشف الخصائص والمعالم الجوهرية للإنسان عن طريق المحن والشدائد والآلام والتكاليف وأنواع البلاء من جهة، أو عن طريق النعم وسعة العيش وتوفير القوة والمال والسلطة والحياة من جهة أخرى. وقد وعت المقاومة الوطنية الإسلامية هذه القضايا وعياً عملياً، وظهر ذلك جلياً للعيان من خلال إيمانها الداخلي بأن الابتلاء والاختبار سنة إلهية، ولا بد للإنسان من أن يمر بحالات كثيرة من الاختبار والامتحان والابتلاء بالمستوى الفردي أو الاجتماعي، وعليه أن يستعد ويجهز نفسه، ويكثف جهوده، ويعد إمكاناته، ويستنفر طاقاته ومواهبه لمواجهة هذا الاختبار الإلهي، فلا يفاجأ بالموت أو الشهادة أو المرض أو العجز.. الخ. لذلك تكون ساعات المحنة والألم والضعف والنقص هي المحك العملي الحقيقي القادر على الفصل بين المؤمن وغير المؤمن، بين المجاهد والمتخاذل، وبين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف .. الخ. لذلك ومن خلال هذا الفهم لا بد من التعامل مع المقاومة من موقع أنها مشروع حضاري ورسالي عام له منطلقاته النظرية والعملية وثقافته الرسالية التي عمل رموزها على تركيزها في الواقع الخاص والعام، والدعوة إلى نهجها، والمحافظة عليها بحكم كونها من أهم مشاريع النهوض التي مرّت على هذه الأمة في تاريخها الحديث، وذلك لأنه يأخذ بمبادئ الوطنية الصادقة العاملة قبل أن تقول كلمة واحدة، وكركيزة عملية لدعوته وحركته الفكرية والسياسية والاجتماعية، وهذا شرط أساسي لازم لأي مشروع استنهاضي يريد إقامة مجتمع متطور ومزدهر. لأن العرب عموماً يستجيبون بصورة مباشرة – أو غير مباشرة - لهذا النوع من المشاريع باعتبارها تمس حاجاتهم النفسية والوجدانية، وتتواصل مع نسيجهم التاريخي والعقائدي القابع بقوة في داخلهم، ولم ينحسر أو يتراجع مطلقاً بالرغم من كل المحاولات التخريبية والتشويهية – إذا صح التعبير– التي قام بها كثير من رموز ومواقع الظلم والاستبداد العربي والعالمي لإسقاط معالم هذه العروبة الصادقة والمتسامحة، وهذا الإسلام الأصيل المستنير والمشرق عبر كل العصور والأزمان السابقة والمعاصرة، عبر إنشائهم ودعمهم لمختلف حركات ومشاريع وخطابات التطرف الديني والتعصب الطائفي والعشائري البغيض المنتشرة كالسرطان في عالمنا هنا وهناك. إننا نؤكد – في هذا السياق - على هذا الوعد الصادق الجديد لتجربة رائدة استطاعت أن تستعيد زماماً أفلت من يد أمة بأكملها، ونجحت في أن تكون (كما عبّر عن ذلك أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله)(2) حجر الزاوية في إعادة بناء الوطن، فباتت إحدى علامات توحده، ومظهراً من مظاهر تماسكه، بل وبعض معاني كينونته وقيامته. أوَ ليست هي التي أفسدت حجج التشرذم، وأبطلت براهين التفتت الأبدي التي ساقتها أعوام المأساة الوطنية الطوال، يوم كان فوز فئة خسارة لأخرى، وصعود هذه انحدار لتلك، فإذْ بالمقاومة مصدر قوة وفوز لكل الشرائح والفئات؟!!. أو ليست أصداء الانتصارات المتوالية (والتحرير اللاحق) الضاربة في أعماق الوجدان والباعثة لكوامن العنفوان ولمشاعر الإيمان النبيلة هي التي حطمت جدران القطيعة وحواجز الخوف والتحفظ والممانعة؟!!.. إننا مدعوون جميعاً – كل في موقع مسؤوليته - لإعادة التركيز على فهم ودراسة تجربة المقاومة، وإعادة تمثلها ووعيها داخلاً وخارجاً على امتداد مساحة أمتنا على الرغم من كل محاولات الإعاقة والاحتواء والتطويق والتضليل والتشويه المتعمد التي يقوم بها أهل المنطقة قبل غربائها، على أمل أن تنمو وتزدهر وتثمر وتتجذر أكثر فأكثر لتساهم – إلى جانب حركات التحرر الوطنية الأخرى - في إنقاذ مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تنوء تحت وطأة الظلم والمعاناة الاستجداء والتوسل والعيش على فتات موائد الآخرين، وكل الأزمات الخانقة التي تحيط بها من كل حدب وصوب. وما من شك بأن حزب الله – الذي يتبوأ حالياً مسؤولية قيادة هذه التجربة الناجحة من موقع المجرب والحكيم في آن معاً – لا يمكن حصره بفئة واحدة، بل إن صفة (حزب الله) كقيمة معنوية وليس كحزب تنظيمي، أضحت تشمل (على مستوى الطرح الوطني والقومي الفكري الأصيل) كل إنسان عربي ومسلم مؤمن بوطنه ومحب لقومه وشعبه وقوميته (حتى لو انتمى تنظيمياً إلى حزب آخر) ويحاول العمل- بكل وعي وصدق ومسؤولية - من أجل إعادة المعنى الأصيل للعروبة الصادقة والإسلام الواعي المنفتح إلى ساحة الحياة بهدف تجسيد مشروعه الحضاري الإنساني الشامل.. ولكننا نقول بأن هذه الصفة تطلق تنظيمياً وحركياً وسياسياً – في الوقت الحالي– على حزب الله في لبنان باعتباره تياراً شعبياً مقاوماً، وحركة جهادية وفكرية، وتنظيماً حاملاً للواء المستضعفين في مواجهة مشاريع الاستلاب والهيمنة الاستكبارية الصهيونية والإمبريالية، بالإضافة إلى موقعه الجوهري كإحدى أهم الحركات الاستنهاضية والأحزاب التحررية في واقع العرب الحديث. باحث وكاتب سوري(*)
هوامش 1- كشفت مراسلة صحيفة "لوموند" الفرنسية (الصحفية المراسلة:"هيلين سالون") في تحقيق صحفي مطول لها عن وجود حالة احتقار عميق في واشنطن لدول الخليج.. وإعجاب بإيران.. وذكرت الصحفية أنه لا تخفي التهاني والتمنّيات التي وجّهتها كل من دولة الإمارات والكويت والسعودية لإيران، بعد توقيع "اتفاق فيينا"، القلق الحقيقي الذي يراود الدول العربية "السنّية" من ازدياد طموحات طهران الإقليمية بعد عودتها إلى المسرح الدولي، ومن تصعيدٍ جديد للمواجهة مع "الخصم الشيعي!!". لقد بذل الرئيس باراك أوباما، منذ بداية ولايته الثانية في ٢٠١٢م، كل جهد ممكن للتوصّل إلى هذا الاتفاق، بأمل رسم توازنٍ جديد للقوى في منطقة مشتعلة. ويقول مصدر دبلوماسي غربي: "ذلك هو رهان أوباما. إنه يرغب في تغيير موازين القوى بين السعودية وإيران، وبين السنّة والشيعة، آملاً في أن تقوم الدولتان بتحييد بعضهما بعضاً، وأن تصبح إيران لاعباً مسؤولاً". إن هذا الرهان، الذي يعتبره البعض مخاطرة، ينطلق من تشكيك إدارة أوباما في حصيلة ٣٠ سنة من التمويل السعودي للحركات السلفية والجهادية في الشرق الأوسط، التي عجزت السعودية عن السيطرة عليها، على غرار "القاعدة"، وفرعها الجديد، "الدولة الإسلامية". ويقدّر مصدر مقرب من دوائر السلطة في الشرق الأوسط أن "هنالك، في واشنطن، احتقاراً عميقاً لبلدان الخليج، في حين تبدو إيران جديدة، وساحرة، ومتقدّمة. ويُنظر إليها كلاعب دولي كبير، يملك منطقة نفوذ خاصة به، في حين يُنظَر إلى طائفيّتها الشيعية كعنصر دفاعي!". وأنعش وصول الرئيس حسن روحاني إلى السلطة في العام ٢٠١٣، ومعه وزير خارجيته محمد جواد ظريف، والاثنان تعتبرهم الإدارة الأمريكية براغماتيين ومسؤولين، الآمال في انتصار – ما يسمونه- بمعسكر المعتدلين في طهران.. وينسجم هذا التصوّر بصورة مثالية مع "عقيدة أوباما" الداعية إلى الانسحاب من الشرق الأوسط والرافضة لأي نشر للقوات الأمريكية في المنطقة بعد الفشل الذي تعرّضت له أمريكا في حربي أفغانستان والعراق. ويضيف المعلّق الذي ينتقد بشدّة السياسة الأمريكية في المنطقة: "يرغب السيد أوباما في التعامل مع لاعبين يُفتَرَض بهم أن يفعلوا المزيد بأنفسهم لخدمة مصالحهم. وهو يعترف بوجود منطقة نفوذ لكل واحدة من دول المنطقة وينتهي بدعم الجميع ضد الجميع!". إن هذه "العقيدة" غير المُعلنة لإدارة أوباما تُعزِّز الوضعية الإقليمية لإيران ومصالحها الإستراتيجية في منطقتها نفوذها الشيعية، التي تمتد من البحر المتوسط (في لبنان) إلى الخليج الفارسي (في العراق)، مروراً بسوريا. وبعد الاتفاق النووي في فيينا، يُعتَقَد أن الولايات المتحدة ستخفّف حتى أكثر من السابق الضغوط التي تمارسها على إيران للحد من دعمها للميليشيات الشيعية التي تواجه "الدولة الإسلامية" في العراق. وفي سوريا، يُفتَرَض أن تخفّف واشنطن انتقاداتها للدعم الذي تقدّمه طهران للرئيس بشّار الأسد، الذي يُعتَبَر بقاؤه في السلطة مسألة استراتيجية من زاوية المصالح الإيرانية ومن زاوية حليف طهران، حزب الله اللبناني. لكن ما سبق لا يعني تخلّي واشنطن الكامل عن حلفائها العرب في الخليج، الذين تستمر أمريكا في تسليحهم ودعمهم، وخصوصاً في اليمن ضد توسّع الميليشيات الشيعية التي تساندهم طهران. لقد لعب الرئيس الإيراني حسن روحاني لعبة التهدئة في الخطاب التلفزيوني الذي ألقاه يوم الثلاثاء، مؤكداً على أن إيران تملك كل مصلحة في استقرار الشرق الأوسط. ولكن كلماته لن تكفي لإقناع الدول العربية السنّية، التي تظل مقتنعة بأن طهران سوف تستخدم قوتها المستجدّة، الاقتصادية والسياسية، لزيادة تدخلاتها في المنطقة. إن إلغاء الحظر عن مداخيل نفطية تقدر بـ /١٥٠/ مليار دولار يثير الدِوار. ويمكن استخدام قسم من هذه الأموال لتمويل حزب الله اللبناني، الذي يقول الخبراء أنه يتلقى /٢٠٠/ مليون دولار سنوياً من طهران، أو لزيادة الاعتمادات المخصصة لدعم النظام السوري، والتي قدّرها المبعوث الدولي، "ستيفان دو ميستورا" بـ(٣٥ مليار دولار سنوياً!). لم تنتظر دول الخليج "السنّية" توقيع الاتفاق لكي تتكيّف مع المُعطى الإقليمي الجديد. فقد تضافرت جهود السعودية وقطر وتركيا منذ أشهر لدعم الثوار السوريين ضد بشار الأسد. وحصلت من الرئيس أوباما، في قمة "كامب دافيد" في ١٣ و١٤ مارس، على تعهّد بزيادة تسليحها. ولم يتردّد الفريق الحاكم الجديد في السعودية، بقيادة الملك سلمان، في الانعتاق من الحليف الأمريكي عبر تشكيل حلف عربي أطلقَ في ٢٦ مارس عملية عسكرية ضد الميليشيا الحوثية في اليمن، التي يُنظَر إليها كـ"حصان طروادة" إيراني في الحديقة الخلفية للسعودية بحكم انتمائها للمذهب الشيعي، وذلك كله بدون حتى التشاور مع واشنطن قبل مباشرة عمليات القصف ضد الحوثيين. إن المواجهة المتزايدة بين السعودية وحلفائها من جهة، وإيران والجماعات التي تتلقّى تمويلاً منها من جهة أخرى - من لبنان إلى اليمن، مروراً بسوريا - تزيد تشاؤم بعض المراقبين إزاء رهانات الرئيس أوباما. ويقول مصدر دبلوماسي أن "الدولتين الكبيرتين في المنطقة لا تملكان مصلحة في التصرّف بمسؤولية. فكل منهما معرّضة لخسائر فادحة". وبدلاً من الابتعاد عن القتال، فقد عزّزت كلا الدولتين قدراتهما الدفاعية. وخصّصت السعودية ٥٠ مليار دولار من احتياطاتها الإستراتيجية لتحديث قواتها المسلحة، وخصوصاً قواتها البحرية. من جهتها، خصّصت إيران/٥/ بالمائة من ميزانيتها للنفقات العسكرية في الخطة الخمسية التي تم نشرها في /30/ حزيران (يونيو)، مع إعطاء أولوية للقدرات الصاروخية بعيدة المدى. إن أصغر شرارة يمكن أن تشكل حريقاً بين الدولتين. ويضيف المصدر المقرّب من دوائر السلطة في الشرق الأوسط أن الوضع "يتّجه نحو حروب كبيرة. فالإيرانيون ليسوا مستعدين للتصرّف بمسؤولية إزاء تعاظم قوتهم، وسوف يكرّرون أخطاء الماضي قبل الوصول إلى مرحلة نضج!". ولكن مراقبين آخرين لا يعتمدون هذا السيناريو الكارثي. ويقدّر مصدر دبلوماسي غربي أن "الخطر هو بالأحرى في استمرار نوع من الحرب الباردة، التي ستشهد مراحل تصعيد ثم مراحل تهدئة. فإلى أي حد يمكن للفريقين أن يتحملا وزر المجابهة؟". إن التوصلّ إلى نوع من "اتفاق يالطا: بين السعودية وإيران يبدو مستَبعداً في الوقت الحاضر: "باتت المنطقة مُشَرذمة حالياً إلى درجة أن كل لاعب يتصرّف وفق مصالحه الضيّقة وأن أي لاعب لا يستطيع إدارة المنطقة كلها". 2- السيد حسن نصر الله، مقدمة كتاب: صفحات عز في كتاب الأمة، ص11، إعداد الوحدة الإعلامية المركزية بالتعاون مع غرفة عمليات المقاومة الإسلامية، ت2 1999م.
|
||||||