الإستراتيجية الإسرائيليّة الجديدة تجاه القضية الفلسطينيّة

السنة الرابعة عشر ـ العدد 164 ـ (شوال ـ ذو القعدة 1436 هـ) آب ـ 2015 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

عندما يتحدث الإرهابي ليبرمان عن دولة غزة لا يتحدث من فراغ وفي نفس السياق والبعد الآخر يتحدث موشيه آرنز وزير الأمن السابق ويعالون عن ضم الضفة الغربية لإسرائيل وإعطاء الجنسية الإسرائيلية لسكانها، وفي خبر لاحق تتحدث وكالات الأنباء عن زيارة للرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر بنيته زيارة غزة للتوسط في قضية إعادة الإعمار وفك الحصار..

وفي بعد آخر يفتخر نتنياهو بمقدرته على تحطيم اتفاق أوسلو الذي من أحد بنوده الوحدة السياسية والجغرافية بين غزة والضفة في منظور حكم ذاتي يتم تطويره زمنياً.

رزمة تصريحات لها مؤشرات ودلالات تقودنا إلى فهم الموقف الإسرائيلي والأمريكي القادم، وفي ظل تراجعات جادة للرئيس الأمريكي أوباما عما حمله من وعود حل الدولتين من الرئيس السابق بوش وفقدان أمريكا من عامل بناء الثقة مع العالم الإسلامي والفلسطينيين، وحل الدولتين، ودوماًً يقف الموقف الأمريكي تحت سيطرة الإخطبوط الإسرائيلي بأنهم يلعبون بالموقف الأمريكي كيفما يشاءون وقلما كان انتقاد خجول لعملية الاستيطان، وزيارة نتنياهو الأخيرة وممارسة ليّ الذراع لأوباما عن طريق اللوبي الإسرائيلي والصقور في الكونجرس الأمريكي والبيت الأبيض.

تلك التصريحات والمواقف والتقاطعات التي سبقتها عدة قرارات بإجهاض المقاومة ونبذ فكرتها وتصفية منظمة التحرير عملياً كإطارات تطالب بالتحرير تضع قواعد اللعبة في إطار قابل للفهم والاستقراء.

إرادة المقاومة والحقوق الثابتة

الآن، بعد عشرين عاماً ويزيد من المفاوضات الثنائية المباشرة مع الكيان الصهيوني والرهان الرسمي الفلسطيني والعربي على الولايات المتحدة راعي الكيان والمفاوضات معه، لم يتبق من "أوسلو" سوى أرباح الاحتلال واستباحته لكل ما هو فلسطيني. هذا يعني أن قادة الحركة الصهيونية وتجسيدها المادي "إسرائيل" أغلقوا باب التسوية السياسية للصراع لدرجة إيصال ما يسمى "حل الدولتين" إلى طريق مسدود بعد اشتراط التوقيع عليه بانتزاع الاعتراف ب"الدولة اليهودية" التي باتت خارج الممكن التاريخي اتصالاً بمعطيات سياسية وحقائق موضوعية، أولاها أن نحو 6 ملايين فلسطيني يعيشون الآن في فلسطين التاريخية، وأن قرابة 6 ملايين لاجئ اقتلعوا في عملية تطهير عرقي بشعة عام 48 ونزوح قهري عام 67، ما انفكوا يتمسكون بحقهم في العودة الذي عمدوه بكفاحهم الوطني وتضحياتهم ودمائهم رافضين التوطين وجحيم التشرد. أما ثانيتها فتتمثل في أن المشروع الصهيوني لم يستقدم إلى فلسطين سوى نحو 6 ملايين مستوطن يهودي، أي ثلث يهود العالم فقط.

هنا، انبرت فرنسا من موقع "نائب الفاعل" للولايات المتحدة وأطلقت "مبادرة" لتجديد أوهام "حل الدولتين"، لكنها عادت وتراجعت عنها بعد شهر على إطلاقها بضغط من الكيان وحليفه الثابت الولايات المتحدة التي تدعم مطلبه في "دولة يهودية" لا إمكانية لإقامتها لا في عموم فلسطين، ولا حتى في "مناطق 48" التي يتشابك المجتمع الفلسطيني العربي فيها مع الكيان الاستيطاني اليهودي في الاقتصاد والخدمات وسوق العمل وخطوط المواصلات والثروة المائية، تحت سيطرة العنصرية الصهيونية بسياساتها وممارساتها التوسعية العدوانية، ما يجعل الخريطة السكانية هنا تشبه الخريطة السكانية في جنوب إفريقيا قبل سقوط نظام الأبارتهايد. فضلاً عن التشابك القائم من موقع الإلحاق بين الاقتصاد "الإسرائيلي" واقتصاد قطاع غزة والضفة التي قام الاحتلال في السنوات الأخيرة بتشظية سوقها وربط شمالها وجنوبها ووسطها، كل على حدة، بالاقتصاد "الإسرائيلي"، لاسيما الأيدي العاملة والتجارة وطرق المواصلات والموانئ، بينما تم ضم القدس وسلخها عن الضفة، علاوة على التشابك الذي أحدثه جدار التوسع والضم العنصري الذي يقع وراءه 40% من مساحة الضفة بما تحويه من قرى، فيما معظم شبكات المياه والكهرباء والشوارع الرئيسية في الضفة شبكات مشتركة تستخدمها التجمعات السكانية الفلسطينية والتجمعات الاستيطانية اليهودية، عدا عن أن 80% من مياه الضفة باتت تحت سيطرة الاحتلال لتلبية 40% من حاجة "إسرائيل" المائية.

هنا يثور سؤال: ما العمل؟ إزاء واقع أن لا إمكانية واقعية لإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 إلا برحيل الاحتلال، بمظاهره السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستيطانية، وهو ما يرفضه قادة الكيان، بدعم أمريكي، على اختلاف أحزابهم، وإزاء واقع أن لا إمكانية تاريخية لـ"دولة يهودية" إلا بإبادة الشعب الفلسطيني وإقصائه من المكان والزمان بالمزيد من مجازر التطهير العرقي التي فشل ما ارتكب منها حتى الآن في أن يحول الفلسطينيين إلى "غبار الأرض"، حيث انبثقوا من تحت رماد النكبة واكتسبوا هوية وطنية كفاحية في سبيل قضية عادلة، بينما فشلت اتفاقات (كامب ديفيد المصرية، وأوسلو الفلسطينية، ووادي عربة الأردنية)، في تطبيع علاقات الكيان مع الشعبين المصري والأردني، عدا أن الشعب الفلسطيني لم يُسقط راية النضال ضد احتلال استيطاني إقصائي لم ينجح في شطب وجوده وما يستولده من إرادة مقاومة تتطلع نحو أهداف أصيلة وجوهرية. فمساعي "الأسرلة" للتجمع الفلسطيني في 48 والتفكيك للتجمع الفلسطيني في 67 والتوطين للاجئين، إنما تصطدم بعناصر الهوية والذاكرة التاريخية والحلم المشترك وموجات النضال التي لا تتوقف.

ما يعني أنه محض خداع مواصلة الادعاء بأن الشعب الفلسطيني الذي فتته الغزو الصهيوني ويوحده سياق تاريخي مديد ليس بنية واحدة. هنا ثمة عنصرية صهيونية سياسية أيديولوجية تجثم على صدر فلسطين شعباً ووطناً، لكنها لم تقوَ، ولن تقوى، على إلغاء حقائق الحياة، ولم تنتج، ولن تنتج، غير تأبيد الصراع وتأجيجه وإعادة إنتاجه، لأن رفضها الاعتراف بما حل بالشعب الفلسطيني من نكبة ومذابح وتنكيل واستباحة إنما يؤكد انكشاف كذبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" التي اخترعها البريطانيون وكررها هرتزل بعدهم بعشرات السنين. عليه، وللإجابة عن سؤال ما العمل؟ فإن الخطوة الانعطافية لاستئصال أسباب الصراع هي عودة اللاجئين إلى ديارهم، بوصفهم المادة الأساسية لحركة التحرير الفلسطينية والحلقة المركزية في البرنامج الوطني الفلسطيني، والضمانة الوحيدة لسلام يخدم جميع الأطراف، بما فيها الدول "الغربية" التي تسببت بنكبة الشعب الفلسطيني.

أما مطلب الحماية الدولية المؤقتة فخطوة انتقالية تمهد للخلاص من الاحتلال في هذا الدرب الطويل، بما يستدعيه ذلك من صمود وبناء مجتمعي فلسطيني شامل ومقاوم في إطار عملية نضالية مديدة تترابط جدلياً بنضال شعبي عربي. لأن من شأن إحقاق حق العودة أن يصحح الخطأ التاريخي، وأن يخلق مناخات ثقافية وسياسية جديدة تحرر اليهود، داخل الكيان وخارجه، من العنصرية الصهيونية، كما تدعو حتى أصوات يهودية تتخذ من تجربة جنوب إفريقيا نموذجاً ومرشداً، بعد ثبوت أن مشروع التسوية الجاري قد وفر للمشروع الصهيوني الغطاء لمزيد من التوسع والهجوم، وأن كل ما يقال عن "دولتين" لا يعدو كونه وهماً وخداعاً لتكريس "إسرائيل" العنصرية العدوانية التوسعية بما يصاحبها من استباحة وتقتيل جماعي، وتسمين مستعمرات، ومصادرة أراض، لم تبقِ بيد الفلسطينيين سوى نحو 15% من عموم مساحة فلسطين، فيما لم يحصد اللهاث وراء حل تفاوضي لإقامة "دولة فلسطينية" على حدود 67 سوى معازل فلسطينية جائعة ملحقة بالسوق "الإسرائيلية" يجري تسييجها بأسوار استيطانية، وجدران تفصل شمال الضفة عن جنوبها، وتفصلها عن القدس التي جرى ضمها قانونياً وعملياً، بينما تتباعد "بقايا الضفة" عن "غزة"، مع ما لذلك من استحقاقات أمنية، ومساومات سياسية على حق العودة وحقوق فلسطينيي 48، تمكِّن المشروع الصهيوني من احتواء النضال الوطني

فصل غزّة عن الضفّة

لا يختف اثنان على أنّ الإستراتيجيّة الإسرائيليّة الجديدة في كلّ ما يتعلّق بالقضية الفلسطينيّة اتخذّت في الآونة الأخيرة منحى آخر، فصنّاع القرار في تل أبيب، كما يُشدّد المحللون والباحثون والخبراء في الدولة العبريّة، باتوا على قناعةٍ تامّةٍ بأنّه من رابع المستحيل حسم المعركة مع الفصائل الفلسطينيّة في قطاع غزّة عسكرياً، وبالتالي، فإنّهم يبحثون عن طرق ووسائل أخرى، لتفادي المواجهة القادمة مع قطاع غزّة، ومن أهّم هذه الطرق هو الشروع في اتصالات غير مبشرة مع حركة المُقاومة الإسلاميّة (حماس) للتوصّل لهدنةٍ طويلة الأمد بين الطرفين، خصوصاً على وقع الرأي العام الإسرائيليّ الذي يُطالب بوقف إطلاق الصواريخ بتاتًا من قطاع غزّة باتجاه المستوطنات في جنوب الدولة العبريّة.

وبغضّ النظر فيما إذا نجحت هذه الإستراتيجية، فإنّ الهدف الإستراتيجي الإسرائيليّ، أيْ على المدى البعيد، هو الفصل التّام والكامل بين قطاع غزّة والضفّة الغربيّة المُحتلّة، التي تخضع للاحتلال الإسرائيليّ وللسلطة الفلسطينيّة، أوْ بكلمات أخرى حركة فتح، وبالتالي تُحاول إسرائيل عن طريق إستراتيجيتها الجديدة الإمعان في تكريس الانقسام الفلسطينيّ- الفلسطينيّ، لأنّ ذلك يصُبّ في مصلحتها.

وغني عن القول إنّ الإسرائيليين أنفسهم لا يأخذون على محمل الجدّ تصريحات المسؤولين السياسيين والأمنيين بأنّ المُواجهة القادمة مع حماس في القطاع باتت وشيكة، ففي الذكرى الأولى للعدوان الإرهابيّ على قطاع غزّة، يتذكّر الإسرائيليون، قيادةً وشعباً، أنّ المُقاومة الفلسطينيّة صمدت أمام أقوى جيش في المنطقة كماً ونوعاً أكثر من خمسين يوماً، على الرغم من عدم تكافؤ الفرص، وعدم التكافؤ في القوّة العسكريّة.

نعم، يقول الخبراء، بالإمكان الانتصار على حماس في المواجهة العسكريّة القادمة، ولكنّ المستوطنات والمدن الإسرائيليّة في المركز ستتعرّض لوابلٍ من الصواريخ، الأمر الذي سيؤدّي إلى شلّ الحياة اليوميّة في إسرائيل، علاوة على ذلك، يُقّر أركان دولة الاحتلال بأنّه من الصعب جداً، إنْ لم يكُن مستحيلاً، حسم المعركة العسكريّة مع المُقاومة الفلسطينيّة، وبالتالي بدأت إسرائيل بالبحث عن طرق التفافيّة لدرء هذا الخطر المُحدّق بها من المُقاومة الفلسطينيّة، وبدأت في الأشهر الأخيرة تُسرّب المعلومات للصحافة العبريّة، المُتطوعّة لصلح ما يُطلق عليه الإجماع القوميّ الصهيونيّ، وهذه المعلومات تُشير إلى أنّ تل أبيب تُجري مع حماس مفاوضات غير مباشرة، بواسطة دولٍ أوروبيّة وأخرى، بهدف إقناع حماس بالتوقيع على اتفاق لهدنة طيلة الأمد، تمتد من 10 إلى 15 عاماً، بحسب المصادر الأمنيّة والسياسيّة في تل أبيب.

في السياق عينه، قال مُحلل شؤون الشرق الأوسط، آفي إيسخاروف، في مقالٍ نشره بموقع (تايمز أوف أزرائيل) إنّه حتى بالعين المجردة، بالإمكان تمييز الظاهرة الجديدة نسبيًا بالقرب من حدود غزة- إسرائيل: المزيد من المسلحين، نشطاء حماس، يتحركون على بعد مئات الأمتار فقط من السياج الحدوديّ، ربما في محاولة لتعويد العين الإسرائيلية على وجودهم هناك، بحسب تعبيره.

ورأى أنّه من الصعب تحديد الهدف من هذه الخطوة، وبرأيه فإنّ قسمًا من نشطاء حماس يعملون هناك ضمن إطار مهام أمنية روتينية، البعض الآخر يتدرب في مخيمات تقع قريبةً جدًا من الحدود، مثل المخيم الذي أنشئ على أراضي مُستوطنة (دوغيت). 

وتابع قائلاً إنّه لا يُمكن طبعاً استبعاد إمكانية أنّ تعويد الطرف الإسرائيليّ على وجود مسلحين من مقاتلي حماس بالقرب من الحدود (300 متر فقط) يهدف إلى التمكين من شنّ هجوم مفاجئ داخل إسرائيل في حالة حرب أوْ تصعيد، وربما قد يكون الهدف، خاصة في التدريبات التي تجرى في مخيمات حماس، هو ردع إسرائيل.

 ويتابع المُحلل قائلاً إنّه مهما كان الهدف، يبدو أنّ حماس تدرب قواتها في الفترة الأخيرة ليس فقط على إطلاق الصواريخ أو من خلال هجمات كوماندوز من البحر، بلْ يقوم الجناح العسكري للمنظمة بإجراء تدريب عناصره على تدريبات مشاة والقتال في مناطق سكنية، في أطر شعبة وكتيبة وحتى لواء، أيْ أنّه ربمّا إلى جانب طريقة العمل في (الجرف الصامد) عمليات كوماندوز من الأنفاق ومن البحر ومن الجو، في الحرب القادمة ستحاول حماس شنّ هجوم على بلدة إسرائيلية أو قاعدة عسكرية، وقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين أو الجنود.

ولفت إلى أنّ التدريبات على القتال في مناطق سكنية، التي يخضع لها عناصر كتائب عز الدين القسام، شبيهة بتلك التي يخضع لها جنود المشاة في الجيش الإسرائيلي، إلقاء قنابل يدوية داخل مبان، إطلاق نار بعد ذلك.

ولفت أيضاً إلى أنّه يُمكن للمرء أنْ يتصور فقط ما هي أهداف حماس في القتال في منطقة سكنية، ومرة أخرى يجب أنْ نكون حذرين، قد يكون كل ذلك بهدف ردع الجانب الإسرائيليّ من المواجهة مع غزة، وأيضًا في حماس يُدركون أنّ هجوم كتيبة على بلدة إسرائيلية قد ينتهي بعشرات القتلى من جانبهم.

علاوة على ذلك، قالت صحيفة (معاريف) إنّ قادة عسكريين في تل أبيب دعوا إلى تخفيف الحصار عن القطاع بهدف تقليل الأزمة الاقتصاديّة وتجنب المعركة العسكريّة القادمة. بالإضافة إلى ذلك، نقلت الصحيفة عن محافل أمنيّة في تل أبيب، وصفتها بأنّها رفيعة المستوى، نقلت عنها قولها إن حماس تستمّر في تعزيز قوتّها العسكريّة استعداداً للمُواجهة القادمة، وتُخطط لنقل المعركة إلى العمق الإسرائيليّ، حسبما أكّدت المصادر.

الهدنة الطويلة

كما يبدو فأن ثمة ميلاً لدى الأطراف الفاعلة في ملف قطاع غزة، للسير باتجاه هدنة طويلة المدى، أو على الأقل السير باتجاه استكشاف الإمكانات الحقيقية لتنفيذها.

غير أن هذه الأطراف تختلف في زوايا نظرها ومعاييرها واشتراطاتها وطرق ضمان مصالحها. فلحماس وقوى المقاومة مقاربتهم، ولقيادة السلطة في رام الله مقاربتها، وللإسرائيليين ومن خلفهم الأميركيون رؤيتهم، ولمصر زاوية نظرها، وللأوروبيين وجهة نظرهم. 

ولذلك، فإذا كان ثمة توافق باتجاه الفكرة، وشعور بأن "اللعبة" قد بلغت مداها، وأنه ليس ثمة أوراق جديدة يمكن توظيفها، وأن الجميع سيخسرون (أو قد يخسرون) من إطالة أمد الحصار والحرب والدمار.. فما زال هناك شوط طويل في تحديد الأثمان التي سيضطر كل طرف لدفعها للوصول إلى توافق يؤدي للهدنة المنشودة.

وقد اتخذت فكرة الهدنة الطويلة المدى بين الكيان الإسرائيلي وبين قوى المقاومة في قطاع غزة شكلاً أكثر جدية في الأسابيع الماضية. وظهرت معالم الفكرة بشكل أكثر وضوحاً عندما دعا روبرت سيري، مبعوث الأمم المتحدة المنتهية ولايته، إلى تبني إستراتيجية "غزة أولاً"، وتتضمن فكرة هدنة بين "إسرائيل" وبين الفصائل الفلسطينية مدة خمس سنوات، وأن تكون الهدنة تحت مظلة حكومة التوافق الوطني، ويتم خلالها رفع الحصار كلياً عن قطاع غزة، وإعادة الإعمار، وتجميد النشاط العسكري للمقاومة فوق الأرض وتحت الأرض.

اللافت للنظر أن سيري لم يطرح مشروعه إلا بعد انتهاء ولايته، ما أعطى مؤشراً سلبياً على فقدان المشروع جانباً من جديته ومصداقيته. أما توني بلير مبعوث اللجنة الرباعية طوال السنوات الثماني الماضية، فقد برز هو الآخر في الأيام الأخيرة قبيل انتهاء ولايته، ليتحدث عن ضرورة وضع حد ونهاية لمعاناة قطاع غزة. وأعلن بعد زيارة القطاع أنه متحمس لرؤية الأوضاع تتغير.

أما المؤشرات العامة لخطته فتتحدث عن تنازلات إسرائيلية (وكأن الطرف الإسرائيلي يقتطع جانباً من حقوقه!) وعن فتح معابر القطاع، وعن حالة وحدة فلسطينية تشجع "عملية السلام". وتابع بلير نشاطه فالتقى خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، معبراً عن ضرورة فك الحصار عن القطاع، وعن ضرورة عدم تجاوز حركة حماس والتعامل الأوروبي المباشر العلني معها.

ليس من الواضح تماماً ما إذا كانت مبادرتا سيري وبلير تظهران وكأنهما "صحوة ضمير" متأخرة، أو أن الظروف نضجت بما يكفي ليطرحا ما لديهما بصراحة، أو أنهما يلعبان دوراً حان وقته في المنظومة الأوروبية العالمية لترتيبات نهائية أو شبه نهائية لملف قطاع غزة. غير أنه من المؤكد أن هناك نشاطا أوروبيا متزايدا في الأشهر الأخيرة يحاول تقديم مقاربة مقبولة (من جميع الأطراف) لفك الحصار وبدء الإعمار. وينشط السويسريون والدول الإسكندنافية في هذا المضمار، كما أن لتوني بلير علاقاته الخاصة مع السلطات البريطانية والأمريكية.

وبالنسبة لقوى المقاومة في القطاع، فإنها ترى أن فك الحصار وعملية الإعمار هي حق طبيعي، وأن الحصار بحد ذاته هو جريمة ضد الإنسانية، ويخالف الأعراف والقوانين الدولية، وأنه لا ينبغي ربطه بنزع سلاح المقاومة. وفي الوقت نفسه، تدرك المقاومة حاجة أبناء القطاع لاسترداد أنفاسهم وإتاحة المجال للإعمار، في ضوء حالة الإنهاك التي وصل إليها القطاع بعد ثماني سنوات من الحصار، وبعد ثلاثة حروب مدمرة، وكذلك حاجة قوى المقاومة لاستراحة تعبوية تجدد فيها إمكاناتها وقدراتها.

غير أن هذه القوى في الوقت نفسه تتعامل مع عروض الهدنة بالكثير من التشكك والحذر، خصوصا أن الحروب السابقة أعقبتها وعود والتزامات بفك الحصار وبالإعمار.. وهي وعود لم تتم، ونكث الطرف الإسرائيلي بالذات تعهداته تجاهها.

أكدت المقاومة أن أطرافاً غربية سلمتها اقتراحات لهدنة طويلة المدى وأنها تقوم بدراستها.. والمطلع على ردود المقاومة وتعليقاتها بهذا الشأن، يلاحظ أن موقفها يتلخص في:

1- وجوب وجود ضمانات تلزم "إسرائيل" بفك الحصار، ووقف اعتداءاتها.

2- أن تكون التهدئة الطويلة المدى ضمن حالة توافق وطني، وخصوصا بين فصائل المقاومة في قطاع غزة.

3- ألا تكون التهدئة على حساب تفرد "إسرائيل" بالضفة الغربية، وألا تؤدي بأي شكل لفصل الضفة عن القطاع.

الجانب الإسرائيلي هو المستفيد الأكبر من الانقسام الفلسطيني، ومن فصل قطاع غزة عن الضفة، ومن وجود سلطتين متنازعتين..

الجديد في الأمر أن هناك مشاعر وقناعات متزايدة أوروبياً وبدرجات متفاوتة إسرائيلياً ومصرياً أن الحصار وصل حده الأقصى دون أن يحقق النتائج المطلوبة.. وأن حالة قطاع غزة أخذت تنذر بانفجار الأوضاع، أو بانهيار شامل للمؤسسات المحرومة من موازناتها وقدرتها على العمل، وبحالة من الفوضى، وانتشار "التطرف" والقوى المحسوبة على القاعدة و"داعش".

هذا بالإضافة إلى أن الحصار لفترات طويلة أصبح أمراً لا ترغب الدول الأوروبية بالاستمرار في إعطائه غطاءً شرعياً، بعد أن انكشف فشله وأثمانه الأخلاقية والقانونية والسياسية.. بينما تزداد المطالبات الشعبية الأوروبية بفكه باعتباره وصمة عار في جبين من يمارسه ومن يدعمه.

الهدنة تفسر الفصل

كما هو معروف فإن حركة حماس تطالب برفع الحصار، وفتح المعابر الحدودية والإسراع بإعادة بناء القطاع. في مقابل ذلك يوقف العدو كل أشكال الصراع العسكري بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين. ويلتزم العدو بإزالة الحصار عن غزة، بما في ذلك فتح كل المعابر المحيطة بالقطاع, والسماح بالاستيراد والتصدير من وإلى غزة من دون قيود, والسماح ببناء ميناء ومطار..

نائب رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية, قال حركته لا تعارض إبرام هدنة مع العدو 5 سنوات, مقابل تنفيذ هذه المتطلبات, طبعاً.

هذه المقترحات تتطلب الإجابة عن أسئلة كثيرة: هل ستكون الهدنة على حساب تفرد العدو بالضفة الغربية؟، هل يوجد توافق وطني فلسطيني شامل عليها؟، وهل يعني ذلك أن يتوقف العدو عن جميع نشاطاته الاستيطانية وعن أعمال الترانسفير والتطهير العرقي وهدم منازل المواطنين في القدس وفي مناطق الأغوار والتوقف عن الاعتقالات الجماعية والاستيطان في الضفة وغيرها من الانتهاكات لحقوق الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال؟، هل هذا الأمر يخص الكل الفلسطيني أم غزة فقط؟.

بالتأكيد, لا يجوز الانفراد بقرار يتعلق بهذا الإطار، بالإضافة إلى أن فلسطين هي وحدة واحدة، ولا يمكن القبول بأي حل يشمل غزة بعيداً عن الضفة الغربية. وإن مناقشة هذه الهدنة يجب أن تتم من خلال توافق وطني على أن يكون ذلك موضع بحث من قبل لجان مختصة. إن الإقدام على هذه الهدنة بدون إجماع وطني هذا سيفهم على أنه يأتي في سياق فصل القطاع عن الضفة الغربية. في وضوح الروية والتوقيت المتعلق في مقترح الهدنة.

إضافة إلى ذلك فإن الجهات التي طرحت المبادرة لا تمتلك القدرة والقوة الكافية على إلزام العدو، وأن الاحتلال من الواضح أنه غير قابل لتلك المبادرة. لا يوجد أي زعيم في الكيان الصهيوني، لا نتنياهو ولا هرتسوغ، سيكون مستعداً فتح المعابر إلى غزة فقط اعتماداً على وثيقة الهدنة ووقف النار.

إن ما يفكر فيه العدو الصهيوني اتجاه قطاع غزة، لا يخرج من إطار حالة الصراع والاشتباك، وأن إبرام اتفاق الهدنة مع العدو قد يجنب قطاع غزة المزيد من الاعتداءات, يجب على جميع قوى المقاومة اتخاذ قرار الهدنة بإجماع وطني لتجنب قطاع غزة المزيد من الويلات، وأنه يمكن طرح ملف الهدنة على منظمة التحرير والفصائل والكل الوطني.

الهدنة ليست شائعات ولا أفكار مقترحة وإنما خضع للبحث عبر وسطاء عرب ودوليين، وإن ملفات الإعمار والكهرباء والبطالة وغيرها في غزة، يتطلب السعي لإخراج القطاع منها، والمهم أن تتحقق مقومات الصمود أمام حالة الفقر والبطالة. أن المسئولين الفلسطينيين عليهم العمل على تمكين المواطن أولاً بأي شكل من الأشكال سواء بهدنة أو بغير ذلك. أن المشروع الوطني الفلسطيني يتعرض في الوقت الحالي إلى مخاطر كبيرة، خصوصاً وأن نتنياهو يفكر بإقامة دولة بغزة والضفة ستحول إلى تجمعات، أن المرحلة تتطلب الوحدة الوطنية وبرنامج سياسي مقاوم يجمع عليه الجميع.

إن الحديث عن هدنة لمدة خمس سنوات مع العدو هو جزء من خطة إنهاء المشروع الوطني، إن أي قرار بشأن الهدنة يجب أن يكون جماعي وفقاً لشراكة جدية في قرار الحرب والسلم.  

اعلى الصفحة