|
|||||||
|
حلم الإسلاميين الوردي بإقامة دولة الخلافة الإسلامية، تحوّل إلى كابوس بعد التجارب المريرة التي حصلت في مناطقٍ عديدة من العالم، ابتداءً من الدولة الإسلامية التي أقامتها حركة طالبان على أرض أفغانستان، مروراً بممارسات بوكو حرام في نيجيريا وعدد من دول القارة الإفريقية، وصولاً إلى جبهة النصرة في سوريا ودولة داعش في سوريا والعراق. لقد أصبح العالم يعيش كابوس الخلافة الإسلامية بعد النماذج التي قدمت والتي تميّزت بأبشع الممارسات الإنسانية ضد المسلمين الذين لا يتبنون وجهة النظر التي تتبناها القوى التكفيرية المتطرفة التي قدمت هذه النماذج والتي تقوم على القتل بأبشع صورة وعلى سلب الممتلكات والأرزاق وسبي النساء وإباحة اغتصابهن وعلى تشريع ما سمّي بجهاد النكاح الذي لم يعرف له سابقة في تاريخ الدولة الإسلامية على مر العصور، وعلى إكراه الأطفال وصغار السن ابتداءً من عمر العاشرة فما فوق على الالتحاق بمعسكرات تدريب على السلاح والقتال وتنشئتهم على الأفكار الإرهابية المتطرفة وكما تعاطت هذه الجماعات مع المسلمين فإنها تعاطت بصورة أشد مع غير المسلمين من شتى الملل حيث مورس بحقهم القتل والخطف والسبي والاغتصاب ومصادرة الممتلكات والتهجير والطرد من أراضيهم التي كانوا عليها قبل البعثة الإسلامية وما زالوا حتى هذه الأيام. وبكل تأكيد كان دعاة الإسلام السياسي على مدى عقود كثيرة ومنذ سقوط الخلافة العثمانية يُصوّرن دولة الخلافة أو الدولة الإسلامية التي يطمحون إليها على أنها دولة العدالة والحرية والأمن والأمان وحفظ الحقوق، الدولة التي تضمن لغير المسلمين حرية المعتقد وحرية ممارسة شعائرهم الدينية والاجتماعية دونما تدخل من قبلها، وأنّ اليهود والنصارى أهل الكتاب يعيشون في ذمة الله وذمة رسوله ولهم حق الضمانين الصحي والاجتماعي وكذلك ضمان الشيخوخة مستدلين بقول لعمر بن الخطاب يرفض فيه أخذ الجزية من الكتابي أو المعاهد شاباً وتركه يعاني العوز في شيخوخته. لقد أصبح كل ذلك في مهب الريح فلم يحصل منه شيء، بل حصل ما هو مخالف له، ما أدّى إلى ضرب المصداقية التي عمل الإسلاميون على اكتسابها. وكان الإسلاميون يصوّرون دولتهم الموعودة على أن دعامتها الأساسية هم العلماء والفقهاء والمفكرون والمجتهدون في فهم أحكام الشريعة السمحاء، فإذا بالتجارب المذكورة يقودها أناس مجهولون أو مغمورون لا يحملون شيئاً من صفات رجال الدولة الموعودة، بل هم مجرد قتلة قاصرو الفهم، عاجزون عن فهم النصوص وحسن تدبرها، لا يتمتعون بشيءٍ من بعد النظر أو الوعي السياسي، بحيث استطاعوا وفي فترة وجيزة أن يكسبوا عداء المجتمع الإنساني بكل أطيافه. لا شكّ أنه سينبري الكثيرون للدفاع عن الإسلام وتبرئته من ممارسات هؤلاء الجهلة الموتورين، وسيقولون إن الإسلام براء من هؤلاء ومن أفعالهم، ولكن الحقيقة التي لا شك فيها هي أن كل هذا الدفاع ومحاولات التبرئة لن تُغيّر من الواقع شيئاً، فما فعله أرباب التجربة المشؤومة سيُحمّل الدين الإسلامي مسؤوليته لاسيما وأن المتطرفين يُصرّون على أنهم يطبقون الشريعة تطبيقاً حرفياً، كما أن أعداء الإسلام من القوى العالمية المتربصة به شراً سيعملون على إلصاق ذلك الإجرام بالإسلام من أجل تشويهه وضرب صورته الأصلية وهي صورة الإسلام دين الرحمة، لذلك بينما يُطلق الناس وبعض وسائل الإعلام المحلية اسم داعش والدولة الداعشية نجد وسائل الإعلام الأمريكية خصوصاً والغربية عموماً تتحدث عن دولة داعش واصفةً إيّاها بالدولة الإسلامية. وذلك من أجل أن يترسّخ في وعي الناس أن دولة داعش هي فعلاً دولة إسلامية. إن الأدبيات التي تبناها أصحاب نظرية الإسلام السياسي والتي تُسوّق لدولة إسلامية منفتحة، متسامحة لم تصمد أمام أدبيات أخرى تبنّاها دعاة الفكر التكفيري، الذين ظهروا للناس وكأنهم وحوش خرجوا من بطن التاريخ لا هم لهم سوى القضاء على الحضارة الإنسانية من أصل وجودها، وليس المدنية المعاصرة فقط، فوجّهوا معاول الهدم أولاً إلى الآثار الحجرية التي مرّ على وجودها آلاف السنوات والتي صمدت أمام كل الغزاة المتوحشين من الإسكندر الكبير مروراً بهولاكو وتيمورلنك وصولاً إلى الغزو الاستعماري الأوروبي. ولقد مرّ الفتح العربي الإسلامي على هذه الآثار ولم يتعرض لها ولا لأبنيتها أو تماثيلها أو تحفها. حتى جاء أبو بكر البغدادي فطالتها معاوله الهدامة. أمّا وعود الحرية وعدم الإكراه في الدين، فحل محلّها إكراه الناس على ترك معتقداتهم وأديانهم دون أن يكون لهم أي خيار آخر، فإما اعتناق عقائد المتطرفين أو الموت للرجال والسبي للنساء وللذرية، وكانت قمة الهمجية في تصفية الأيزيديين في العراق وقتل العمال الأقباط المصريين والعمال الأثيوبيين في ليبيا حيث لا تهمة تُوجّه إليهم إلا أنهم كُفار!!. لماذا تراجع الفكر المتسامح وتقدّم الفكر التكفيري؟ على الرغم من أن الطبيعة الإنسانية تميل إلى تبني الفكر الإنساني المتسامح، ويرفض المجتمع الفكر المتشدد نظراً لما يسببه من عنتٍ وضيق، ولكن الملاحظ في هذه الأيام تقدم الفكر المتشدد والتكفيري وتراجع الفكر التوحيدي المتسامح ليس في مجتمعنا الإسلامي فقط بل وفي كل المجتمعات البشرية فما هو السبب في ذلك خصوصاً في عالمنا الإسلامي؟ بعد انهيار دولة الخلافة العثمانية التي كانت تمثّل رمز وحدة المسلمين وعزتهم كما يراها الإسلاميون، وسيطرة العالم الغربي على بلاد العالم العربي والعالم الإسلامي، ولجوئهم إلى تفتيت الأمة إلى كيانات سياسية صغيرة على أسس عرقية أو مذهبية أو جغرافية، ثم وضع هذه الكيانات على خط التبعية الكاملة للغرب ومنحها ما سمّي بالاستقلال الذي لم يكن إلاّ استقلالاً شكلياً، برزت دعوات الإسلام السياسي التي تبنّت إلى حد ما فكرة إقامة كيان سياسي موحّد للأمة الإسلامية وبرزت دعوات أخرى لتوحيد العرب على أساس قومي، ولكن كل تلك الدعوات لم تفلح في الوصول إلى الغايات لأسبابٍ عديدة أهمها: أولاً: عدم منطقية هذه الدعوات لناحية عدم اعتبارها للمتغيرات الحاصلة ونظرتها إلى كل تلك المتغيرات نظرة استخفاف. ثانياً: وجود القوى المتمكنة من الإعلام والتأثير السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تناهض تلك الدعوات وتعمل لإجهاضها نظراً لتعارضها مع مصالح تلك القوى. ثالثاً: إن الأمة لم تكن وما زالت غير مهيأة نظرياً وعملياً للاستجابة لتلك الدعوات. رابعاً: تمكن الاستخبارات العالمية بكل تنوعاتها من اختراق صفوف الداعين إلى إقامة الخلافة الإسلامية أو الوحدة العربية ومن التأثير فيهم وكشف كل مخططاتهم ومن امتلاك القدرة على إثارة النزاعات فيما بينهم. لقد أدّى كل ذلك ليس إلى الفشل فحسب بل وإلى تفتيت وتنازع القوى التي حمّلت المشروع الإسلامي وفقدان مصداقيتها. وبالمقابل عملت القوى العالمية المعادية للإسلام إلى دعم وتأهيل الفكر التكفيري المتشدد وتهيئة الساحات لبروزه وانتشاره وذلك عبر عدة أمورٍ منها: 1- التركيز الإعلامي الشديد على الخلافات التاريخية والفقهية والإعتقادية لدى المسلمين، فنبش الصراع السني الشيعي التاريخي ووضعه قيد التداول الشعبي، ضمن خطة ترمي إلى جعل كل طرف من المسلمين يعتقد أن عدوه الأول هو المسلم الآخر، وليس الغرب أو اليهود. 2- التركيز على الخلافات الفقهية في القضايا الثانوية وتصوير أن مجرد وجود هذه الاختلافات هو دليل على الخروج من الدين. 3- التركيز على الاختلافات في القضايا العقدية وتصويرها على أنّها دليل على وقوع الطرف الآخر في الشرك أو الكفر أو الضلال. 4- استحضار كل الاختلافات الأخرى غير الدينية كاختلاف الأعراق أو الأمصار، أو المصالح، كمدعّمات للاختلافات الدينية التي ذكرناها. 5- التركيز الإعلامي الهائل على كل تلك التناقضات وتضخيمها حتى يعتقد عوام الناس بل وحتى النخب أنّ لا مجال للتلاقي وأن الصراع أمرٌ حتمي إذا ما أراد كل طرف الحفاظ على دينه ومعتقده. لقد فتح كل ذلك الطرقات واسعة أمام الفكر التكفيري المتشدد باعتباره حصن الدين والأمة في وجه أعدائها، وساعد على ذلك الصراع الذي اصطنعته المخابرات الدولية مع المتشددين لتأكيد فكرة أن هؤلاء المتشددين هم الذين يخوضون الصراع مع الغرب لاسيّما أمريكا باعتبارها رأس الكفر العالمي، والدليل على ذلك أن أمريكا على الرغم من امتلاكها القدرات العسكرية للقضاء على قوة التكفيريين العسكرية إلا أنها لا تسعى للقضاء عليهم، بل تستعمل هذه القوة لضبطهم ولتحجيمهم عندما يحتاج الأمر لذلك. أضف إلى ذلك أن الدعم المادي والعسكري يؤمن لهذه الجماعات التكفيرية بكثافة هائلة تُمكّنهم من إدارة أمورهم المالية بكل راحة وتُمكّنهم أيضاً من تأمين الدعم المادي الكبير لرموزهم ودعاتهم والعاملين معهم في جميع أنحاء العالم، فهم يُنشئون المراكز التي تنشر فكرهم بسرعةٍ كبيرة ومقدرة مادية بارزة، ويبنون المساجد الخاصة بهم بكثرة لتكون منابرها رافدةً لهم بالعناصر والدعاة, ويُقدّمون الدعم المالي المباشر للعلماء كأفراد أو جهات للإمساك بقرارهم والقدرة على توجيههم. لقد أدى كل ذلك إلى نمو وانتشار الفكر التكفيري الإرهابي المتشدد وإلى تراجع الفكر الوحدوي المتسامح جماهيرياً، إذ أن أصحاب هذا الفكر الوحدوي المتسامح يعانون من قلة الإمكانيات المادية ومن التجاهل الإعلامي، وهم باختصار لا يستطيعون مواجهة الإمكانيات الهائلة الموضوعة بأيدي المتشددين. أين أصبح ما يسمّى المشروع الإسلامي المعتدل؟ لقد أدى فشل مشروع الإخوان المسلمين السياسي في كل من مصر والسودان وتونس واليمن وسوريا، إلى إبعاد ما يسمّى بالمشروع الإسلامي المعتدل عن الواجهة، وحلّ محله المشروع التكفيري المتشدد فالمشروع المعتدل الذي ظل أسير عناوين عامة طيلة قرنٍ من الزمن ولم يستطع أن يضع رؤية مستقبلية واضحة، والذي غرق في طروحات ديموغاجية كان هدفها جذب الجماهير وتحصيل مكانة شعبية، وبالتالي لم يتمكن من وضع خريطة واضحة للهيكلية السياسية والقانونية للدولة ومؤسساتها، تُسهّل عليه عملية إدارة السلطة، فكانت النتيجة أن غرق في معمعة الارتجال والتخبط ولم تُسعفه الطروحات الديموغاجية التي غذّى بها الشارع طوال عقودٍ من الزمن ولا شعارات(الإسلام هو الحل) و(أن الحكم إلا لله) و(القرآن دستورنا) في النجاح في الإمساك بالسلطة. وكان مطلب الناس قبل ما سمّي بالربيع العربي إزالة حدود سايكس- بيكو والانتقال من الدولة القطرية إلى الدولة القومية، فصار حلم الناس بعد ذلك الحفاظ على حدود سايكس- بيكو، والتمسّك بالدولة القطرية أو الوطنية، بعد الأثر السيئ الذي تركه الربيع العربي الزائف وثوراته التي انكشف عورها وبانت بأنها ليست إلا مؤامرة أمريكية صهيونية هدفها تمزيق البلاد العربية أكثر فأكثر. لقد فشلت وتلاشت الأحلام الوردية للإسلاميين بإقامة دولة على منهج أهل السنة والجماعة، الذين مدّوا اليد للأمريكيين والصهاينة من أجل الوصول إلى السلطة والتمسك بها، فأخطأوا المسعى ورفضوا اليد التي امتدّت لدعمهم ومساندتهم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي استطاعت أن تواجه العالم بمشروعها الإسلامي وتحقق خطوات واسعة في سبيل إيجاد دولة قوية عزيزة الجانب. وختاماً هل هناك طوق نجاة يمكن أن يُخرج الحالة الإسلامية المعتدلة مما وصلت إليه؟
|
||||||