هل يتفكك اليمن إلى دويلات؟

السنة الرابعة عشر ـ العدد 162 ـ (شعبان - رمضان 1436 هـ) حزيران ـ 2015 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

منذ أن بدأت "عاصفة الحزم" الذي نفذها التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية على اليمن منذ أواسط شهر آذار الماضي، كردة فعل سعوديّة تجاه تقدّم جماعة "أنصار الله" (الحوثيون) في اليمن، يرى المحللون أن الهجوم السعوديّ أعاد إنتاج أبرز المواجهات السعوديّة ـ الإيرانيّة، التي لا يمكن لنتائجها أن تكون محصورة عند حدود اليمن، لاسيما بعد أن وضع الملك السعودي الجديد سلمان أولوية الصراع مع إيران، على الصراع مع "الإخوان المسلمين ".

وكانت الأزمة اليمنية قد عمقت استياء دول الخليج، لاسيما المملكة السعودية من السياسة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية تجاه إيران، حيث لم يحضر ملكها قمة كامب ديفيد التي انتهت في 15آيار 2015، حيث احتل فيها الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى (5+1) جدول المحادثات. فالدول العربية الخليجية ليست مطمئنة قط بل تعتريها الشكوك حيال النوايا الفعلية للرئيس الأمريكي أوباما وأدائه في المنطقة العربية.

الصراع بين الحوثيين والدولة في اليمن

على الرغم من أن اليمن شهد حراكاً سياسياً وشبابياً احتجاجياً قوياً في مطلع 2011، واستمر حتى سقوط رأس النظام السابق علي عبد الله صالح  الذي حكم اليمن لمدة 33 عاماً، فإن هذه الحالة الثورية لم تحدث تغييراً ثورياً في صورة المجتمع  اليمني العنيف والمحافظ، لاسيما فيما يتعلق بإيجاد تسوية سياسية في العلاقة بين الدولة الحوثيين. وكان اليمن يستخدم قاعدةً خلفيّة لمقاتلي تنظيم "القاعدة" القادمين من المملكة العربيّة السعودية. أما في الجنوب الذي توحّد مع الشمال منذ 1990، فهو يشهد منذ سنوات معارضة انفصالية، تلقب بالحراك الجنوبي. وأخيراً، الصراع بين الدولة والحوثيين، الذي انطلق من منطقة في شمال غرب اليمن بعيداً عن الأنظار الخارجيّة وليس بعيداً عن الحدود السعودية، بوصفه نزاعاً عنيفاً منذ حزيران/يونيو 2004، كانت السلطات اليمنية تعتبر هذا التمرد الحوثي بأنّه مدعومٌ من إيران، بينما يستنكِر المتمرّدون تدخّل العربيّة السعودية. حربٌ لا تكشف هويّتها من شأنها زعزعة اليمن وتحويله إلى دولة فاشلة.

فقد بدأ تمرد الحوثيين في محافظة صعدة سنة 2004 كعملية أمنية للقبض على النائب السابق حسين الحوثي، ومن الساذج أن نعزوه إلى أسباب طائفية، مدعين بأنه تمرد شيعي ضد نظام سني وذلك لأسباب عديدة. ويرتكِز التمرّد "الحوثي" على الهويّة الدينيّة الزيديّة؛ وهي طائفةٌ من الإسلام الشيعي تقيم في المناطق الجبلية في اليمن، لكنّها تختلف بوضوحٍ في عقيدتها عن الشيعة الاثني عشرية المهيمنة على الساحة في إيران. ويشكّل الزيديون ثلث السكان ويصنّفون عن حقّ بين "المعتدلين" لجهة الشريعة والعقيدة؛ وهم جزءٌ من تاريخ اليمن الخاص؛ ويتشاركون في جزءٍ واسع من اجتهادهم الديني مع المسلمين السنّة أصحاب المذهب الشافعي، وهم غالبيّة سكان اليمن.

وتتّهم الحكومة حركة التمرّد بالسعي إلى إعادة الإمامة الزيدية السابقة التي كانت تسيطر على البلاد حتّى العام 1962، سنة الثورة الجمهورية التي شكّلت مدخلاً لحربٍ أهليّةٍ طويلة ساندت فيها السعودية الملكيين، بينما أرسلت مصر جمال عبد الناصر قوّاتها لدعم الجمهوريين. وكان الأئمة من "السادة"، من سلالة النبي محمد(ص)؛ وهي الفئة التي ينتمي إليها أيضاً الأخوان الحوثيّان(1).

وتنتمي غالبية أفراد النخبة الحاكمة في صنعاء إلى المذهب الزيدي بما في ذلك رئيس الجمهورية السابق علي عبد الله صالح. فالمذهب الزيدي هو السائد بين أهل اليمن الشمالي، ومن يقاتل الحوثيين من قبائل وقوات حكومية ينتمي كثير منهم إن لم يكن معظمهم إلى المذهب الزيدي. هذا إضافة إلى أن الزيدية عاشت في وئام مع المذهب السني في اليمن، وذلك يرجع إلى طبيعة العقيدة الزيدية الشيعية وتاريخ نشأتها ورؤيتها لخلافة أبي بكر وعمر مقارنة بالشيعة الإمامية الإثني عشرية. وبمراجعة لتاريخ الزيدية، تتضح طبيعة العلاقة بينها وبين السنة في اليمن، كما يتبين كيف ساعدت طبيعة اليمن الجغرافية الصعبة على حماية المذهب الزيدي من طغيان الأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل ومنع مصادرته ومحوه من قبل الشيعة الإثني عشرية، الذين انتشر مذهبهم في إيران والعراق وشرق الجزيرة العربية. فالزيدية تسمية أطلقها الأمويون على الثوار الشيعة الذين خرجوا لمناصرة زيد بن علي بن الحسين في الكوفة والذي أرسل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك لمقاتلته يوسف بن عمر الثقفي، وتمكن من هزيمته عام 122 هـ. ولد زيد بنعلي بن الحسين في المدينة المنورة عام 80 هـ، وهو الأخ الأصغر للإمام محمد الباقر - الإمام الرابع للشيعة الإثني عشرية. وقد اجتمعت في زيد الشجاعة والعلم وكوَّن رؤية مختلفة في السياسة والدين عن أخيه الباقر. فقد رأى أن عليّ بن أبي طالب هو أفضل الصحابة، لكن مصلحة المسلمين اقتضت أن يكون أبو بكر أول الخلفاء، وذلك لأن المرحلة كانت تحتاج إلى شخص يتصف باللين. كما أن أبا بكر كان سباقا في الإسلام وقريبا من رسول الله (ص). وقد أخذ زيد العلم عن كثيرين، من بينهم واصل بن عطاء شيخ المعتزلة. وقد انتقده علي أخذ العلم من واصل أخوه محمد الباقر، وذلك لأن واصل يجوّز الخطأ على جده الأكبر علي بن أبي طالب. والزيدية لا ترى أن إمام المسلمين معيّن بالنص كما هي الحال عند الشيعة الإثني عشرية، وبعض فرقها ترى أن الإمامة شورى بين المسلمين وليس بالضرورة أن يكون من أهل البيت.

بعد مقتل زيد بن علي، تمكن ابنه الحسن من الهرب إلى إيران، واستطاع أن يؤسس دولة زيدية في طبرستان استمرت قرنا من الزمان. أما أخوه يحيى، فقد استمر في العراق وقاتل الأمويين إلى أن قتل. وكان يحيى يقول إن الله خصهما بالشجاعة والعلم، بينما خص أبناء عمومته الذين أصبحوا أئمة الشيعة الإثني عشرية بالعلم. ويرى المؤرخون أن عبء جهاد أهل البيت في القرون الهجرية الأولى تحملته الشيعة الزيدية بينما اتجهت الشيعة الإثني عشرية ممثلة بالباقر وابنه جعفر الصادق لتأسيس فقه الشيعة وأصول عقائدها.

وقد اختار أهل اليمن المذهب الزيدي بملء إرادتهم بدعوتهم ليحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم (الإمام الهادي) ليكون إماماً لهم في نهاية القرن الثالث الهجري والذي كان يعيش في المدينة المنورة. ويرى الدكتور إبراهيم الفيومي في مؤلفه القيم "تاريخ الفرق الإسلامية السياسي والديني" أن مقدم الهادي زرع الاستقرار وأنهى حروبا بين قبائل وفرق متعددة. فعندما وصل إلى صعدة في عام 284 هـ، خطب فيهم داعيا إياهم إلى التطهر من الأحقاد والضغائن التي ولدتها الحروب، وأضاف الدكتور الفيومي أنه كان للخطبة تأثير عظيم فلم ينصرفوا إلا وقد أصلح شأنهم واختلط الفريقان المتحاربان يقبل بعضهم بعضاً. (1)

في صيف 2009 اشتعلت بأقاصي شمال اليمن أحداث "الحرب السادسة" ـ هكذا تُسميها السلطات هناك ـ بين القوى العسكرية اليمنية، والحوثيين المتمردين. والتمرد الحوثي سُمّيَ بهذا الاسم نسبة لزعيمه الأول الشاب حسين الحوثي ابن أحد علماء الزيدية الكبار: بدر الدين الحوثي. وحوث بلدة في منطقة صعدة خرج منها علماء زيدية كبار في القرون الماضية، آخرهم الشيخ بدر الدين. وقد سُمّى حسين ـ الذي كان عضواً منتخباً بمجلس النواب اليمني ـ تنظيمه الذي ظهر قبل عقد من الزمان باسم: "الشباب المؤمن". وما اهتمت لأمره السلطات في البداية رغم عُلوّ صوته في التنديد بالسياسات الموالية للولايات المتحدة من جانب نظام الرئيس علي عبد الله صالح السابق. وقد أضاف لذلك دعوة اليمنيين للانضمام الى فيالق المقاومة الإسلامية المقاتلة بفلسطين مثل حزب الله وحماس. وبعد عام أو عامين على مغادرته صنعاء، والبدء بجمع الشباب من منطقة صعدة، ومن أنحاء أخرى باليمن، أعلن عن تشيّعه (والزيدية من فِرَق الشيعة في الأساس، لكنهم لا يقولون بالأئمة الإثني عشر، ولا يعتبرون الإمامة ـ وإن استحبّوها ـ من أركان الدين)، وأن نموذجه الثورة الإسلامية في إيران، وذراعها المقاتل بلبنان حزب الله.وفي البدء استنكر هذه الحركة واعتبرها انشقاقاً في المذهب كل علماء الزيدية البارزين. لكن عندما قُتِل حسين الحوثي في أحد الاشتباكات مع الجيش، ورفضت السلطات الوساطات، صمت العلماء الزيود، وظهرت بوادر تعاطف من الجمهور الزيدي مع المتمردين.

ومنذ ذلك التاريخ عملت السلطات اليمنية المتعاقبة على استئصالهم باعتبارهم "إرهابيين "ضد الدولة والنظام، تدعمهم إيران، ويريدون "إعادة الإمامة البائدة" التي سقطت باليمن عام 1962 لتقوم على أنقاضها الجمهورية اليمنية! وبغض النظر عن مدى صوابية تعامل السلطة مع الحركة الحوثية؛ فالواقع أنها انشقاق صحوي شيعي يستلهم نموذج حزب الله، من دون أن يمتلك دعواه وممارساته في مقاتلة إسرائيل. إنما البارز فيه التأكيد على الخصوصية الزيدية أو الشيعية، كما حصل مع الحزب بلبنان، وكما يحصل بالعراق ومع سائر الأقليات الشيعية في منطقة الخليج. على أن النزعة الانشقاقية هذه والتي بدت لدى الحوثيين تجاه البنية الزيدية التقليدية وتجاه السلطات؛ ليست خاصة بالشيعة أو بالأقليات الدينية. بل إنها تقع في قلب "الظاهرة الصحوية" التي بدأت لدى جمهور الأكثرية السنية قبل الثورة الإسلامية الإيرانية.

فسّر عدد كبير من المراقبين الخارجيين القتال بأنه حرب بالوكالة بين السعودية وإيران، لكن هذا التفسير يغفل عن تركيبته اليمنية الصرف. لقد تبدّل القتال على مر السنين، وتورّطت فيه حتى قبائل غير زيدية. فهم يشعرون بالإهانة لأن الحكومة المركزية التي لا تبالي إلى حد كبير بحياتهم، وتظهر الآن اهتمامها من طريق استخدام الدبابات والمقاتلات(2).

وعلى الرغم من أن الحوثيين هم من الزيديين الذين يشكلون جزءاً من الطائفة الشيعية، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كانوا يطمحون فعلاً إلى إعادة حكم الإمامة أم أنهم يتمردون فحسب ضد ما يعتبرونه معاملة غير عادلة وتمييزاً اقتصادياً من صنعاء. ولا شك في أنهم يطالبون بالحصول على شيء من الاستقلالية.

تحالف الحوثيين مع علي عبد الله صالح

يُعزى قرار الحكومة اليمنية في ظل الرئيس عبد ربه منصور هادي تصعيد العمليات العسكرية ضدّ المتمردين الحوثيين إلى عوامل عدة، أبرزها: اعتقاد كلا الجانبين أن لا أمل بالتوصل إلى حلّ دبلوماسي؛ وتوسيع الحوثيين السريع لنطاق سيطرتهم إلى مناطق إستراتيجية خارج محافظة صعدة تشمل معظم محافظات البلاد الشمالية كمحافظة عمران، والجوف، ومأرب، وحتى شمال صنعاء؛ والأهمّ من ذلك كلّه سيطرة الحوثيين على مواقع عسكرية مهمة تابعة للجيش اليمني في شمال البلاد. وشعرت قيادة القوات المسلحة اليمنية والحكومة بالإحراج نتيجةً لنجاحات الحوثيين العسكرية المتزايدة وتنامي ثقتهم بنفسهم وعجْز الحكومة اليمنية الواضح عن إيجاد حلّ سياسي للمشكلة. وهذا ما قاد إلى سيطرة الحوثيين على صنعاء في سبتمبر 2014.

ومن المفارقات في هذه الحرب بين الدولة المركزية اليمنية والحوثيين، أن الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي خاض حروبا عدة  ضد التمرد الحوثي، عاد وتحالف مع الحوثيين، من أجل العودة إلى السلطة (له أو لنجله). وبالمقابل قبل الحوثيون بهذا التحالف مع عدو الأمس لاعتقادهم أن هذا التحالف مع علي عبد الله صالح  يعبد لهم الطريق للسيطرة الكاملة على مفاصل الدولة اليمنية، نتيجة تحكمه بأجهزة الدولة، الجيش والأمن.فتحقق التفوق للحوثيين في اليمن بفضل هذا التحالف مع علي عبد الله صالح.

واستطاع الحوثيون من خلال تحالفهم مع علي عبد الله صالح أن يسيطروا على كامل مفاصل الدولة، في الوقت الذي وجد علي عبد الله صالح  في هذا التحاف فرصته التاريخية  للانتقام من القوى الشعبية والسياسية التي أسقطته إبان ربيع الثورات العربية في 2011، وبالتالي العودة إلى السلطة من جديد. ونظراً لثقل علي عبد صالح داخل الجيش و الأجهزة الأمنية، فقد زج بها في معركة استيلاء الحوثيين على السلطة في صنعاء، وفي بسط سيطرتهم على باقي المناطق اليمنية، بما فيها عاصمة الجنوب عدن,فانهارت بذلك الدولة اليمنية التي كان يرأسها عبده ربه منصور هادي.

وكانت أول خطوة قام بها الحوثيون، بعد شعورهم بأن الوضع استتب لهم في صنعاء، إرسالهم وفوداً سياسية وعسكرية إلى إيران، وفتح خط جوي بين طهران وصنعاء، ثم أتبعوا ذلك بخطوة بالغة الدلالة، وهي إجراء مناورات عسكرية على حدود المملكة العربية السعودية، وقد سبق أن شهدت هذه الحدود مواجهات بين هؤلاء وقوات سعودية في عام 2010، ولم تكن المناورات تقنية، بل سياسية ورسالتها واضحة، مفادها بأنهم يهزون العصا بوجه المملكة، في حركة هدفها، اليوم، القول للرياض إن توقف دعمها الرئيس الشرعي، عبد ربه منصور هادي، لكن مغزاها البعيد أن العلاقات بين اليمن والسعودية لن تكون كما كانت عليه في السابق، لاسيما وأن الحوثيين بدأوا ينشرون خرائط في صنعاء، تضع مناطق نجران وعسير داخل حدود اليمن(3).

في ظل هذا الواقع الجديد، "كان لا بدّ من التدخّل العسكري" الذي يهدف إلى "تثبيت الشرعية اليمنية، ومنع الحوثيين من التمدّد". وبغضّ النظر عن شرعية هذا التدخّل بالذات، وإمكانية انعكاسه على مستقبل المنطقة، فإن المراقب يمكن أن يرى أن محاولات إيران تكريس وجودها في اليمن سبقتها محاولات عراقية أيام صدام حسين الذي ساهم في الوحدة اليمنية في 1990، وحاول تدشين نفوذه على معبر باب المندب، ردّاً على تحكّم إيران بمضيق هرمز. كما أن "إطلالة إيران" على البحر المتوسط، عبر حزب الله اللبناني، سبقته أيضاً محاولات صدام، بالذات، الاستناد على قائد الجيش اللبناني في حينه، ميشال عون، وقائد مليشيا "القوات اللبنانية" سمير جعجع، للحصول على المكسب الاستراتيجي عينه. لاحقاً، غرق صدام في أخطائه، لدى غزوه الكويت والبقية معروفة. أما إيران فانحازت إلى التفاوض النووي مع الولايات المتحدة، على وقع تحرّكاتها العسكرية المباشرة وغير المباشرة في عدد من دول المنطقة.

والحال هذه لا يُمكن في السياق "الاستهانة" بالتدخل العسكري الإقليمي في اليمن من جانب المملكة السعودية تحت يافطة "عاصفة الحزم"، وإن اقتصر، حتى الآن، على الغارات الجوية، فالسعودية ترغب في إعادة الاعتبار للعنصر الخليجي في العراق، بعد خلوّ الساحة للإيرانيين والأمريكيين، عبر ضرب الحوثيين في اليمن. وتعلم السعودية أن أي مرحلة تتخطى "الضربات الجوية" تعني مخاطرة كبرى، يجب أن تكون مدروسة، والتدخل البري، إن حصل، سيكون مكلفاً لجنود لم يختبروا تلك الحروب، وتحديداً في الجبال.ولعلّ ذلك ما فتح الباب أمام تدخّل باكستاني محتمل، على خلفية الخبرة الباكستانية في حرب الجبال، مع حركة طالبان. وقد تكون المشاركة الباكستانية في مناورات "الصمصام 5" التي بدأت في السعودية تصبّ في هذا الإطار. لكن، هل يريد أحد الانتباه إلى دخول باكستان على خطّ الشرق الأوسط، أو الانتباه إلى أبعاد الصراع النفطي؟ لا، لأن الجميع مشغول بين طائفة وأخرى(4).

جدلية الحرب والوحدة في اليمن

ليست المرة الأولى التي يشهد فيها اليمن حرباً أهلية، فقد سبقت هذه الحرب حرباً أهلية شرسة ـ بعد وفاة الإمام أحمد في 18 أيلول 1962، وإعلان تنصيب ابنه محمد البدر إماماً بعده ـ بين الملكين والجمهوريين. وقد كانت الحرب سجالا بين الفريقين، وسلسلة من المناوشات، فتارة ينقلب الملكيون وأخرى الجمهوريون تبعاً للدعم المقدم لهذا الفريق اليمني أو ذاك من جانب القوى الإقليمية التي كانت تخوض الحرب بالوكالة على أرض اليمن.

لننظر أولاً إلى الشمال حيث أطيحت عام 1962 الإمامة المتعبة التي حكمت شمال اليمن واستُبدِلت بجمهورية بعد الحرب الأهلية، وتراجع الزيديون الشيعة الذين كانوا موالين للنظام القديم، إلى شبه قبول بالدولة وعلى مضض. لكن كما كانت سلطة الإمام تقتصر على المدن الكبرى، كانت للحكومة الجديدة سيطرة محدودة. أعيد إحياء الزيدية في حقبة ما بعد التوحيد، لكن ماعدا الفترة القصيرة التي أمضاها حسين بدر الدين الحوثي في البرلمان، كانت المشاركة السياسية ضئيلة. وانتهت الحرب الأهلية الممتدة من العام 1962 إلى العام 1970 بتشكيل حكومة جمهورية ـ ملكية مشتركة، واعتراف السعودية بالجمهورية العربية اليمنية، وبداية مرحلة جديدة من العلاقات بين السعودية واليمن.

ومنذ انسحاب الجيش البريطاني من جنوب اليمن في 29 أكتوبر 1967 واستقلال البلاد وانسحاب القوات المصرية في أواخر ذات العام، كانت النزاعات وشبه الحروب بين الشطرين السابقين تدور حول موضوع تحقيق الوحدة اليمنية. وكان الشطران الشمالي والجنوبي يتبادلان الاتهامات بين البلدين بسبب فتح كل طرف حدوده لمعارضي الطرف الآخر. فقد حصلت مواجهات عسكرية محدودة على حدود البلدين استمرت من ربيع 1968 حتى حزيران 1969.

بعد هذه الحرب الأهلية الضارية التي استمرت ثماني سنوات، قررت السعودية الاعتراف بنظام الحكم الجمهوري الجديد في اليمن. وبادرت الى إعلان هذا الموقف في الثامن من نيسان (ابريل) 1970. وجاء هذا الإعلان عقب المصالحة الوطنية التي رعاها الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز. وقد اغتنم مناسبة عقد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية في جدة (24 آذار/ مارس 1970) ليشرف على المحادثات بين الجانبين الملكي والجمهوري، ويضمن تثبيت المصالحة ووصف في حينه الأمير سلطان بن عبد العزيز، الذي كلفه الملك فيصل بمهمة التباحث مع الرئيس جمال عبد الناصر حول مستقبل اليمن، وصف موقف بلاده بأنه موقف الاعتراف بالجمهورية كدولة ذات سيادة كاملة على أراضيها ومستقلة استقلالاً تاماً. وأضاف الأمير سلطان، بأن بلاده تعتبر أمن اليمن واستقراره جزءاً لا يتجزأ من أمنها واستقرارها.

ومع وصول المقدم إبراهيم الحمدي إلى السلطة 13 حزيران 1974، قام بخطوات جدية لإقامة الوحدة مع الشطر الجنوبي، غير إنه لم تكن له المقومات الذاتية والموضوعية الكافية للتحرر من هيمنة الضغوطات الإقليمية والغربية، التي كانت تمارس عليه بهدف لجم توجهاته نحو تحقيق مشروع الوحدة بين شطري اليمن، وكانت نهاية حياته مأساوية إذ قتل في مكتبه في 11 أكتوبر و1977 قبل يوم واحد فقط من زيارته المقررة لعدن للتفاوض بشأن الوحدة معها. وحين حاول الرئيس السابق علي عبد الله صالح انتهاج سياسة استقلالية، سواء لجهة التوجه نحو تطوير العلاقات مع السوفييت وإبرام اتفاقية تسلح معهم في آب 1979 كرد فعل على إيقاف شحن الأسلحة الأمريكية لبلاده، أم من خلال موافقته على إقامة الوحدة بين شطري اليمن في نهاية السبعينات، تعرض بدوره لضغوطات اقتصادية وعسكرية وسياسية كبيرة، خصوصاً من قبل القبائل المدعومة إقليمياً والمعارضة للحكم، ولإقامة الوحدة مع الجنوب.

وسرعان ما ظهرت الكوارث بعد هذه الوحدة، وخصوصاً ما ترتب على دعم اليمن لغزو  صدام حسين للكويت عام 1990 وعودة حوالي مليون يمني كانوا يعملون في السعودية إلى بلادهم. وتسبّبت تلك الضربة القاسية ببؤس كبير في بلد كان يعاني أصلاً بؤساً واسعاً. وفي عام 1994، حاول الجنوب أن ينفصل عن الشمال. إلا أن الحرب انتهت بعد إراقة الكثير من الدماء بانتصار الجزء الشمالي واحتلال عدن، عاصمة الجنوب في 7 تموز (يوليو). وقد أثار ذلك امتعاضاً شديداً بدأ فتيله يشتعل حالياً.

قد يعتبر المرء أن التاريخ خلّف عواقب وخيمة على القائد الأعلى الذي يواجه مشاكل عدة. فالجزء الجنوبي يطالب مجدداً بالانفصال حتى يؤسس دولته المستقلة الخاصة بقيادة علي سالم البيض، الذي سبق ان كان رئيساً لليمن الجنوبي.وتمارس حركة النضال السلمي في الجنوب الضغوط من أجل الانفصال، غير أن هذه الحركة ليست سلمية كما يشير اسمها. ويبدو أن الشطر الجنوبي يتسلّح في إطار الاستعداد لمواجهة جديدة. وقد شهد منذ سنوات عدداً من التظاهرات العنيفة ضد الحكومة في صنعاء وعمدت السلطات إلى اتخاذ إجراءات صارمة وعنيفة في معرض الرد على ذلك.

وعلى الرغم من أن الشعب اليمني في كلا الشطرين الشمالي والجنوبي يتمتع بوحدة ثقافية، واجتماعية واحدة منذ العصور القديمة، حيث أن وحدة الشعب واللغة والتاريخ والنسل (من قحطان) والفولكلور تشكل معطى أساسي ثابت تبلور في التاريخ اليمني، إلا أن البنية القبلية الموجودة في المجتمع اليمني، التي ليست البداوة حصراً، بقدر ما هي قائمة على انغراس "الروح العشائرية" في القرى والمدينة التي تخشى تحول اليمن إلى بناء الديمقراطية والمجتمع المدني الحديث، فضلاً عن دعم القوى الإقليمية للمعارضات المعادية للوحدة في الشمال، والحكم اليساري في الجنوب، لخشيتها من استقلالية القرار اليمني، يشكلان عقبات حقيقية أمام قضية الوحدة اليمنية، الذي إذا ما توافر لها الاستقلال الاقتصادي بفضل عامل النفط، الذي يعني في الوقت عينه الاستقلال السياسي، فإنها قادرة أن تتحول إلى قوة رئيسية كبرى تهز التوازنات الإستراتيجية الإقليمية والدولية في الجزيرة العربية.

وحين اتخذت حكومتا الشطرين الشمالي والجنوبي قراراً بتحقيق الوحدة الاندماجية مع مطلع التسعينيات، باعتبار أن إعادة الوحدة اليمنية كانت ولا تزال قضية حية لدى الشعب اليمني، حظيت هذه الوحدة بتأييد الأحزاب والحركات السياسية العربية على اختلاف مشاربها الفكرية. ففي ظل الحصار الذي يعاني منه الوطن العربي بالضغط الامبريالي الاقتصادي السياسي والعسكري والتقني والثقافي من جهة، وبالتأخر التاريخي للشعب العربي من جهة أُخرى، اعتبرت الوحدة اليمنية ـ رغم ما تحمله من تناقضات وتعارضات الواقع اليمني ـ رافعة نهوض اقتصادية وسياسي مهمة، قوامها توظيف إمكانات البلاد في الشمال والجنوب معاً عبر زيادة صادرات النفط، وتوحيد رساميل المهاجرين اليمنيين الكبيرة، المتعقلين شديد التعلق ببلدهم، لتحقيق التكامل الاقتصادي والتطور المستقل الاقتصادي والسياسي لليمن، والخروج من بوتقة التخلف والتبعية. ففي اليمن هناك بقاع متخلفة تبدو وكأنها خارج سياق التاريخ العربي والعالمي الحديث، وبقاع أكثر تقدماً من الجميع، ولكن هذا التطور اللامتكافئ الاقتصادي والاجتماعي على صعيد وجود مراكز مدينية متقدمة، تليها مراكز ريفية وقبلية متخلفة، الخاضع بدوره لقانون مطلق للتطور التاريخي على الصعيد العالمي، وداخل كل قطر عربي، لم يمنع من بناء الوحدة أي اتحاد الشمال والجنوب. لأن الذي يحكم عملية الوحدة كلها، ليس التفاوت في النمط الاقتصادي والحضاري بين عدن المركز المتقدم المتسم بسيادة المظاهر "الليبرالية"، وتوقها "للعصرنة" في حين أنها ليست الجنوب كله، والشمال الذي تسود فيه الإيديولوجية التقليدية، وإنما المطامح والمصالح البعيدة المدى لمختلف فئات الشعب اليمني، ما الذي يمنع المجتمع اليمني أن يتطور في الاتجاه الذي سار في المجتمع السوري على سبيل المثال. فالنزعة التقليدية "القبلية" والنزعة الليبرالية تتعايشان معاً، وتتقاسمان اليمن كله بشماله وجنوبه، وحتى الأحزاب السياسية الرئيسية الثلاثة "المؤتمر" و"الاشتراكي" و"الإصلاح"، بصرف النظر عن إيديولوجياتها، وأساليب عملها، تعتبر صيغة متوسطة بين الحزب الحديث والتجمع القبلي، "وتشكل نوعاً من التوازن على الصعيد الداخلي"، إذ أن هناك تعارضاً بين وعيها الذاتي، وبين حقيقتها الواقعية، التي لا تعكس البنية السياسية الفوقية الحديثة.

ليس من شك أن الفئات الحاكمة في اليمن المتمسكة بقضية الوحدة لم تستطع من خلال تجربتها في السلطة أن تكون قيادة ديمقراطية، وذلك بسبب احتكارها مصادر القوة والسلطة في المجتمع اليمني. ولذلك حين قامت دولة الوحدة لم تنتهج سياسة حديثة، باعتبارها الوحيدة التي يمكن أن تنجز عملاً وحدوياً تاريخياً ينقض أو يوقف هذه السيرورة التقهقرية في فشل المشاريع الوحدوية العربية، التي انخرط فيها أكثر من قطر عربي.

فلا إمكانية إنجاز الوحدة بدون طرح برنامج تغيير ديمقراطي شامل، وبدون أن تتبنى القوى المدافعة عن الوحدة قيم وتقاليد ديمقراطية، في سبيل تحقيق الاتساق المنطقي والضروري بين حركة الوحدة وحركة الواقع اليمني وحاجات تغييره راديكالياً. وكانت العقبة الأولى التي عرقلت عملية بناء الوحدة السياسية بين شطري اليمن ـ على الرغم من وجود وحدة دستورية قائمة ومتمثلة وشرعية دستورية ـ هي غياب الوحدة السياسية. ففي واقع اليمن المتأخر تاريخياً، والذي يعاني نقصاً في الاندماج القومي بسبب هيمنة البنية القبلية، والانقسامات الفئوية العمودية، والإيديولوجيا التقليدية و"الاشتراكية" التي تقنع بالطبع مصالح فئات وشرائح تتعارض مصالحها مع مشروع الوحدة، لا يكفي على السلطة الحاكمة أن تطرح شعار الوحدة اليمنية كنفي سلبي رافض للتجزئة السياسية، بل إن الأمر يتطلب حل معضلة الانصهار القومي، باعتباره قاعدة أساسية للبناء القومي الديمقراطي والوحدوي، وشرطاً لازماً وضرورياً للممارسة الديمقراطية.

وإذا كان الواقع اليمني كما أسلفنا في الحديث عنه في البداية يشكل عامل وحدة، إلا أن النسيج المجتمعي اليمني ما يزال نسيجاً تقليدياً وقبلياً يفرز انقسامات تقليدية وقبلية، ويغرق الشعب اليمني في ولاءات محلية أو طائفية، تخنق نمو المظاهر الحديثة "الليبرالية" و"التقدمية" أو شبه الحديثة في المجتمع اليمني، وتحول دون تبلور طبقة سياسية موحدة متجانسة تمارس سلطتها ونفوذها في سبيل الدفاع عن مشروع الوحدة.

ولعل تعدد الأحزاب السياسية (المؤتمر، والإصلاح، والاشتراكي) المرتكزة على قوى إيديولوجية ومجتمعية غير متجانسة، والتي تحكمها علاقات تحالف أو تعاون مع قوى ذات ولاءات محلية أو فئوية، أي غير وحدوية، يجعل مستحيلاً نشوء طبقة سياسية موحدة في اليمن، بسبب نقص هذا الاندماج القومي، وإسقاطاته المدمرة على الواقع السياسي اليمني وعلى الأحزاب السياسة الحاكمة، الأمر الذي يعرقل تبلور ونمو الصراعات السياسية والاقتصادية التي تخدم مصلحة الوحدة، وتقدم الشعب، وتسييسه راديكالياً، والحال هذه فإنه ليس مفاجأ أن ينحدر الحزب الاشتراكي ـ على الرغم من أنه يعد من القوى السياسية والطبقية التي تريد لنفسها أن تكون إيديولوجية راديكالية وحديثة، ومشكلة بذلك ضرباً من القطعية مع الانتماءات ما قبل القومية (القبلية، والعشائرية، والمذهبية...إلخ) ـ إلى مستوى ما قبل الوحدة، مبرراً ذلك بلا ديموقراطية الحياة السياسية في اليمن، واحتكار شؤون السلطة فيه من قبل حزب المؤتمر والمتحالف مع حزب الإصلاح، تبعاً لمصالحهما وأهوائهما.

إن العالم يسير نحو التوحيد، ويشهد الآن ثورة التكتلات الاقتصادية العملاقة، والثورة العلمية والتكنولوجية الهائلة، وازدياد هيمنة الاحتكارات والشركات المتعددة الجنسية، وتحول الامبريالية إلى قوة عالمية أقوى من أي وقت سبق تمارس الهيمنة على عالم الجنوب، ولا تستهدف التعامل مع المنطقة العربية كوحدة واحدة، بقدر ما تستهدف التعامل معها وفق نمط جديد من التجزئة، ولا تتعامل مع الوطن العربي في وضعه الراهن فقط، بل على العكس من ذلك، إن كل سياساتها تشير وتنظر إلى العرب على أنهم أمة واحدة برسم التوحيد والتقدم والنهوض. وهي معنية بحكم مصالحها الحيوية أن تعيق هذا المشروع الوحدوي، سواء في اليمن أو غيره، وتجهز على احتمالاته، ومقوماته، بأساليب مختلفة، وأدوات كثيرة، منها السلطات الاستبدادية، والقطرية العربية، والتذرع بالخصوصيات الأقلوية والمذهبية...إلخ.

إن للوحدة حركتها السياسية الواحدة، التي تعبر عن نزوعها إلى التحرر والتقدم، والحركة السياسية الواحدة لا تعني هيمنة الأكثرية على الأقلية، ولا هيمنة الحزب الواحد، ولا القائد الواحد، ولا الفكر الواحد، بل كل الحركة السياسية بمختلف تنظيماتها وأحزابها، واتحاداتها ونقاباتها. وللوحدة حركتها السياسية الواحدة، وداخل هذه الحركة الواحدة، هناك تناقضات، وصراعات، و"تناحرات"، وخصوصيات، وهناك اتجاهات سياسية مختلفة، وهناك نمو اقتصادي متفاوت، وتطور اجتماعي مختلف، وتناقضات مناطقية وطبقية متباينة، ولكنها كلها ضمن حركة الوحدة لا خارجها.

هوامش:

(1)- بقلم حامد الحمود الشيعة الزيدية والتمرد الحوثي في اليمن، صحيفة النهار اللبنانية 28آيار 2012.

(2)- رضوان السيّد، الحوثيّة والحوثيّون مرّة أخرى،المستقبل - الأربعاء 9 أيلول 2009

(3)- بشير البكر،اليمن وأمن الخليج العربي، صحيفة العربي الجديد،27 مارس 2015

(4)- بيار عقيقي، باسم الحرب الدينية، صحيفة العربي الجديد، 28 مارس 2015   

اعلى الصفحة