انقلاب الليل في القصر الملكي السعودي

السنة الرابعة عشر ـ العدد 162 ـ (شعبان - رمضان 1436 هـ) حزيران ـ 2015 م)

بقلم: محمود إسماعيل

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

سريعاً جاءت التغييرات داخل الأسرة السعودية الحاكمة، هذه السرعة ربما أتت لتؤكد ما حكي إبان وفاة الملك عبد الله عن خلافات بين أبناء هذه الأسرة ووجود صراع داخل أجنحة الحكم.

فالتعديلات الوزارية والأوامر الملكية التي أجراها الملك سلمان بن عبد العزيز طالت تغييرات جوهرية في بنية نظام المملكة بناء على رغبته، لاسيما في ظل عصف الرياح الإقليمية وعواصف الإرهاب غير البعيدة عن السعودية، فكان لا بد من قرارات تكسر قواعد اللعبة وتلغي الثنائية في الحكم المأزوم أصلا، خصوصا في ظل العدوان على اليمن.

بين تحديات الداخل والخارج، تدل المؤشرات على أن السعودية تقف أمام مرحلة عصيبة، حيث لم يعد هناك ضوابط لانتقال السلطة فيها. وبالتالي، فكما كاد خبر وفاة الملك عبد الله يمر بهدوء والناس نيام، كان توقيت إعلان التغييرات بأوامر ملكية ليلاً ومن دون ضجيج. ولكن السؤال هو هل سيظل صدى ما جرى بين أبناء الأسرة الواحدة محصورا داخل أروقة القصر؟.

في حقيقة الأمر، ومنذ رحيل العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز وتولي سلمان حكم البلاد، تسير السعودية نحو منحدر السقوط بخطوات متسارعة، لاسيما أن الخلافات داخل الأسرة الحاكمة بدأت تأخذ طابعا مختلفا، فضلاً عن تزايد حدة هذه الخلافات خلال الأشهر القليلة الماضية. ولعل هذا ما يفسر تسارع وتيرة الأحداث المتلاحقة داخل البيت الحاكم في المملكة.

الانقلاب الذي لم تكتمل ملامحه حتى الآن داخل الرياض، كان سيتم بصورة أكثر شراسة، إلا أن وفاة الملك عبد الله جعلت الانقلاب يبدو وكأنه تغيير في مناصب الحكم، لكن الصراعات التي برزت مع هذا التغيير داخل الأسرة الحاكمة تهدد بقاء عرش آل سعود ومكانة السعودية كواحدة من أبرز دول مجلس التعاون الخليجي، كما أنه سيجعلها تفقد نفوذها الإقليمي داخل منطقة الشرق الأوسط .

على الرغم من نجاح العاهل السعودي في تعيين ابنه في منصب ولي لولي العهد، إلا أن الخطوة القادمة ستؤدي إلى إشعال فتيل الخلافات الطاحنة داخل القصر الملكي، خصوصاً أن محمد بن نايف المقرب من الإدارة الأمريكية يشغل منصب ولي العهد حالياً، الأمر الذي يعني أن إزاحته عن هرم السلطة مهمة شاقة إلى حد ما.

إن عمليات الإطاحة المتكررة التي حدثت داخل القصر الملكي في الآونة الأخيرة منذ وفاة الملك عبد الله، لن تمر هكذا دون حصول ردة فعل على القرارات الملكية، لاسيما وأن الشخصيات التي تم إبعادها عن القصر الملكي أو تهميشها في دوائر الحكم لن تقبل بما حدث معها دون تحريك ساكن.

إن دماء الأبرياء التي سقطت في العديد من البلدان العربية نتيجة التدخلات والمراهنات السعودية من اليمن إلى سوريا والعراق مروراً بلبنان، لن تذهب هباءً ولا بد أنها سترتد على القصر الملكي والواقع الداخلي في السعودية بشكل عام، إضافة إلى تراجع مكانة الرياض في الساحة الدولية.

قرارات ملكية في الليل

في ساعة من ساعات الليل، قرر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز خلط الأوراق. إنه إجراء هو الأول في عهد سلمان والأكثر إثارة للأسئلة، لأن التغييرات التي حملها أطاحت بأخيه مقرن بن عبد العزيز من ولاية العهد، ليحل مكانه ابن شقيقه محمد بن نايف. أمر الملك أيضاً بتعيين ابنه الأصغر محمد بن سلمان وليا لولي العهد مع احتفاظه بمنصب وزير الدفاع، كما أعفى سعود الفيصل من منصب وزير الخارجية وعين السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير بديلاً عنه، وهي المرة الأولى التي لا يكون فيها وزير الخارجية من الأسرة الحاكمة. ماذا يعني ذلك؟.

بهذه التعيينات، أنهى سلمان حقبة انتقال العهد بين الأخوة التي درجت عليها المملكة منذ وفاة الملك المؤسس عبد العزيز فلم يعد أي أخ لسلمان مدرجا في السلسلة الجديدة للخلافة، بعد الإطاحة بمقرن بن عبد العزيز، ليبدأ التطبيق الفعلي لانتقال الخلافة إلى الجيل الثاني مباشرة. وما الحديث عن طلب إعفاء مقرن إلا جزء من هذا الواقع، إذ لم يسبق لولي عهد سعودي أن تخلى عن ولاية العهد طوعاً. وهنا يطرح السؤال التالي: لماذا قد يتنازل مقرن عن ولاية العهد؟.

تسريبات الصحافة العربية والغربية ذكرت بهذا الشأن أن مقرن أحس بتهميش كبير منذ اعتلاء سلمان العرش، وأنه أقصي تماماً عن قرار الحرب على اليمن، بعدما ثبت له أن الملك سلمان وابنه محمد ووزير الداخلية محمد بن نايف هم من اتخذوا قرار الحرب على اليمن بالتشاور مع الأمريكيين.

في هذا الإطار، تصب تغريدات السعودي "مجتهد" الذي اشتهر بتسريب معلومات على "تويتر" حول خلافات العائلة المالكة في السعودية، وهو غرد قبل ذلك قائلاً "إن مقرن يتعرض لضغط من قبل أحد الأقوياء لأجل أن يبادر بنفسه بإعلان التنحي بصيغة يجري الاتفاق عليها، بدلاً من أن يتم إبعاده بأمر ملكي".

إلى أين تتجه السعودية بعد هذه التغييرات؟ التغييرات الجديدة في سلم الحكم السعودي تؤشر إلى أن صلاحيات محمد بن سلمان قد اتسعت كثيراً، وهي ستؤثر فعلياً على حلقات سعودية أخرى ومنها قائد الحرس الوطني متعب بن عبد الله، الذي قد يجد نفسه خاضعاً لقرار ضم الحرس الوطني إلى وزارة الدفاع.

محمد بن سلمان يقترب من الحكم

امتطى محمد بن سلمان صهوة المغامرة العسكرية في اليمن ليتولى ثالث أعلى منصب في المملكة السعودية ويقترب أكثر فأكثر من خلافة والده الملك سلمان بن عبد العزيز. فبعد تعيينه في كانون الثاني/ يناير الماضي وزيراً للدفاع ورئيساً للديوان الملكي، عُين ولياً لولي العهد، إضافة إلى كونه عضواً في مجلس الشؤون السياسية والأمنية وهي إحدى الهيئات الرئيسية لصنع القرار في المملكة والتي يرأسها ولي العهد الجديد محمد بن نايف. وقد كان محمد بن سلمان في السابق مستشاراً لوالده عندما كان أميرا لمنطقة الرياض، ثم مديرا لمكتبه أثناء ولاية العهد.

يبرر هذا القرب بين سلمان وابنه محمد الصعود السريع للأمير الشاب، الذي وصفه محللون وكتاب أجانب بـ"عديم الخبرة"، ومنهم مدير برامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن سايمون هاندرسون، الذي ذكر أن محمد بن سلمان اكتسب سمعة باعتباره منفذاً سياسياً عديم الرحمة، فعندما أصبح والده الملك سلمان وزيراً للدفاع في أواخر عام ٢٠١١، استخدم منصبه كرئيس لديوان والده لتقويض عدد من نواب وزراء الدفاع، كما ينظر إليه على أنه المسؤول عن إقالة وزيري الإسكان والصحة في الفترة الأخيرة بصفته رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.

يعتبر هندرسون قيادة محمد بن سلمان للعدوان على اليمن مسألة حياة أو موت بالنسبة لسيرته المهنية. وقد أدت نتائج العدوان إلى انخفاض أسهمه مقابل أسهم ابن عمه محمد بن نايف الذي استفاد من ضعف أداء وزارة الدفاع والحاجة إلى مخرج سياسي للأزمة اليمنية، ومن العمل الأمني لكشف خلايا "داعش" في الداخل السعودي. وقد يكون لمحمد بن سلمان صوت حاسم في تحديد الخطوات المقبلة في الرياض، بسبب مكانته كوزير للدفاع وقائد فعلي للجيش والبحرية والقوات الجوية، إضافة إلى كونه نجل الملك.

التغييرات الجديدة في السعودية ودلالاتها

ثمة أزمة حكم في البيت السعودي. فحجم الأوامر الملكية ونوعها ودلالتها في غضون ثلاثة شهور منذ تولي سلمان العرش، تعبر عن أزمة الدولة السعودية. وتأتي الدفعة الثالثة من الأوامر الملكية في سياق عملية تقويض ممنهجة لتركة الملك عبد الله. فالدفعات الثلاث لا تقتصر على شكل الحكم، بل تطاول بنية السلطة وجوهرها بخلاف نقل السلطة إلى جيل الشباب لتبرير تعيين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان في منصبين سياديين على مقربة من العرش، فإن الأوامر الملكية تستهدف تركيز السلطة وليس نقلها، إذ باتت الدولة السعودية بكاملها في عهدة بيت سلمان بدرجة أساسية ومحمد بن نايف، فيما أصبح أمراء أو أبناء الأمراء الكبار سواء في الجناح السديري أو أبناء عبد الله خارج معادلة السلطة.

التعيينات الجديدة للملك جاءت لوضع حد للتباينات داخل العائلة المالكة حول العدوان على اليمن، بعد ظهور مؤشرات على معارضة أمراء للمقاربة العسكرية منذ البداية واستفراد محمد بن سلمان بقرارات الحرب والسلم. إن احتواء فشل العدوان على اليمن يتطلب تماسكا في الجبهة الداخلية، في حال تقرر وقف الحرب دون تحقيق منجزات ميدانية يمكن التعويل عليها.

الأوامر الملكية أخذت إلى حد بعيد طابعاً شخصياً، إذ إن سلمان تجاوز الأعراف السائدة فيما يرتبط بالمناصب السيادية وفرض معيار الولاء له شخصياً وليس الولاء للعائلة المالكة. إن التأمل في الأوامر الجديدة يوصل إلى نتيجة مفادها أن سلمان دخل مع الأمريكي في ترتيبات للسلطة تقوم على انتقاء أشخاص مقربين من واشنطن مثل ابنه محمد وزير الدفاع ومحمد بن نايف ووزير الخارجية عادل الجبير، في إطار صفقة تشمل تعيين محمد بن سلمان في منصب ولي لولي العهد وإعفاء مقرن وتاليا تهميش جناح عبد الله.

يثبت الملك سلمان، من خلال تعييناته الأخيرة أنه على استعداد لتقديم ما لم يقدمه سلفه للأمريكيين من أجل إعادة ترميم التحالف الإستراتيجي بين الرياض وواشنطن، إذ إن الوجوه الجديدة التي أتى بها تؤكد هذا المنحى، فوزير الداخلية محمد بن نايف يحل محل بندر من سلطان، ووزير الخارجية الجديد عادل بن جبير يتولى مكان سعود الفيصل. وبالتالي، أصبح ملفا الداخلية والخارجية في العهدة الأمريكية.

هناك سيناريوهان مطروحان في الوقت الراهن، وهما يندرجان في سياق التغييرات التي بدأت منذ وفاة الملك عبد الله. الأول، تنحي الملك عن السلطة وتعيين محمد بن نايف ملكاً ومحمد بن سلمان ولياً للعهد، على أن يصبح سلمان رئيس مجلس العائلة من أجل ضمان انتقال سلس وهادئ للسلطة برعايته الشخصية. أما السيناريو الثاني، فهو إلغاء وزارة الحرس الوطني وإعفاء الأمير متعب من منصبه كوزير للحرس وإلحاقها بوزارة الدفاع التي يتولاها محمد بن سلمان.

لم تكن عاصفة التغييرات مفاجئة تماما، فالمؤشرات أتت باكرا بشأن رغبة الملك السعودي في طي صفحة أخيه الراحل، وهو ما تبدّى في الترتيبات الأولى لانتقال الحكم وما تلاها بعد ذلك بأيام من تعيينات عززت قبضة السديريين على السلطة وفتحت الباب للمرة الأولى أمام الجيل الثاني للوصول إلى الحكم وسط عاصفة من التغييرات والتحديات الداخلية والإقليمية.

فجر القلق السعودي في زمن الحرب

إذا كان مفهوماً أن يتم إعفاء سعود الفيصل بناء على طلبه من منصبه في وزارة الخارجية بالنظر إلى حالته الصحية المتدهورة، فإن ما يثير استغراب المراقبين هو إعفاء الأمير مقرن "بناء على طلبه"، وهو كما يبدو بحالة صحية أفضل، بالتأكيد، من صحة الملك نفسه، ومن غالبية أبناء الملك المؤسس، ثم يجامله الملك سلمان بالإشارة إلى مكانته العزيزة لدى جلالته.

تصح التساؤلات هنا أيضاً، إذ بينما يبدو إعفاء سعود الفيصل طبيعياً، إلا أن هذا المنصب الدبلوماسي الرفيع خرج من العائلة المالكة إلى عادل الجبير، وهو دبلوماسي مخضرم في واشنطن، كان مقربا من السفير السابق بندر بن سلطان، عراب العلاقات مع الإدارات الجمهورية والديمقراطية في واشنطن والمؤامرات الإقليمية. ولم يتضح السبب الذي منع الملك من تكليف الأمير عبد العزيز بن عبد الله بهذا المنصب الحيوي. فعبد العزيز بن عبد الله الذي كان يشهد له بعلاقاته الإقليمية الجيدة، يبدو أنه راح ضحية حملة استكمال التصفية السياسية بحق أبناء الملك الراحل عبد الله.

أما متعب بن عبد الله، فقد أصبح وحيداً بل منهمكاً بتكليف ملكي في حرب يقال إنه لا يريدها أصلاً، وهي أشبه بمهمة مستحيلة تتمثل بضمان أمن الحدود السعودية مع اليمن والاصطدام المرجح مع "أنصار الله" والتعرض بذلك لمخاطر سقوط عناصر حرسه الوطني قتلى أو أسرى في اشتباكات حدودية قد تشتعل مع المقاتلين الحوثيين المتمرسين على حرب العصابات والجبال على الحدود الشاسعة بما قد يمهد سياسياً وإعلامياً للتضحية بالأمير متعب بتهمة الإخفاق في معركة عقيمة ذهب إليها في الأساس محمد بن سلمان نجل الملك.

السبب الحقيقي لعدوان السعودية على اليمن

إن الهدف الحقيقي للسعودية من حربها على اليمن لم يكن مواجهة إيران أو إعادة الروح القومية العربية، بل ببساطة منع قيام نظام سياسي مستقر وتوافقي في البلد الكبير الذي يحدها جنوباً، وهو السيناريو الذي يخيف الرياض فعلياً ويدفعها إلى الحرب.

عندما دخل "أنصار الله" صنعاء، دخلوها من دون أي مقاومة، لأن الناس والقبائل كانوا قد أُحبطوا من النظام السياسي القائم. وإن تاريخ الحركة الحوثية يعكس بوضوح عناصر القوة التي سمحت لها بالاستمرار والانتشار في ظل أصعب الظروف، على عكس ما يصوره الإعلام المسعور بالطائفية. فالحوثيون لا يرون أنفسهم كحركة مذهبية، مع أن جهود السعودية خلال السنوات الماضية تركزت على شق البلد طائفياً. في الوقت نفسه، فإن هذه الحركة الإحيائية قامت في وجه تحد ثقافي فرضه عليها انتشار الوهابية والسلفية في اليمن منذ سبعينيات القرن الماضي.

هذه الوضعية أجبرت "أنصار الله" على دخول السياسة من باب إقناع الناس والعمل في الحلبة الثقافية، وهذا من أهم شروط الحركات الجماهيرية. فعلى عكس التراث السياسي في اليمن، يركز الحوثيون على فكرة الاعتماد على النفس والاقتصار على تبرعات المناصرين لهم. يقول أحد قادة الحركة ساخراً من العقوبات الأممية "حين لا تملك حسابات مصرفية ولا حاجات مكلفة لا تؤثر بك قرارات النظام الدولي ولا تغير الأحلاف ولا يمسك قرارك أحد".

قد تكون السعودية نجحت في منع "أنصار الله" في بناء نظام سياسي مستقر في اليمن، ولكن حركة تقوم على معاداة العرش السعودي والولايات المتحدة الأمريكية، وتأسست على قصة استشهاد كربلائية الطابع، وتؤمن بأن محاربة الظلم تكليف شرعي، لن تهزها فكرة الحرب والمواجهة.

إن النقاشات الإسرائيلية لا تخفي إعجابها بجرأة السعودية في القيام بـ"عاصفة الحزم" وحيدة. بعزيمة لا تعرف القيود ولا الحدود، تبدو السعودية أكثر قدرة من إسرائيل نفسها، لا من الناحية العسكرية بل في نفوذها في العالم العربي والإسلامي والعالم. تكفي المقارنة بين العدوان الإسرائيلي على غزة والعدوان السعودي على اليمن. فالأخير أكثر ضراوة ووحشية، ولكنه يحظى بالصمت عنه والتشجيع والتأييد.

لدى السعودية المال والهيمنة الدينية والمذهبية والقدرة على التسلح واتخاذ القرارات وتحدي التعليمات وجلب الحلفاء والمرتزقة، ولديها التصميم على مواجهة العدو المشترك، أي إيران وحلفائها، السوريين واللبنانيين.

حوار الطرشان في كامب ديفيد

ثمة إجماع سياسي وإعلامي بأن القمة الخليجية الأمريكية التي عقدت في كامب ديفيد فقدت بريقها السياسي قبل أن تبدأ، مع الإعلان عن غياب الملك السعودي وملك البحرين ورئيس الإمارات. وقد تعددت التكهنات لشرح أسباب هذا الغياب، انطلاقاً من أن سقف تطلعات هذه القمة لا يلبي طموحات دول الخليج، مروراً بإرادة خليجية سعودية قوية لإرسال رسائل امتعاض مغلفة بقالب دبلوماسي مقبول. ومهما كانت الأسباب، فإن الجانب الأمريكي فهم كنه الرسالة التي أرادت السعودية إبلاغها إلى مراكز القرار الدبلوماسي الأمريكي.

لقد امتعضت العواصم الخليجية في السر والخفاء عندما لاحظت كيف وبأي سهولة تخلت واشنطن عن حليف حيوي وتاريخي لها في المنطقة، وهو الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك الذي جرفته رياح الربيع العربي العاصفة. في ذلك الوقت، طوت واشنطن بسهولة صفحة مبارك وتبنت أجندة خلفه الإخواني محمد مرسي. وجاءت الأزمة السورية لتطلق صفارات الإنذار في العواصم الخليجية، فبينما كان العالم باستثناء روسيا والصين وإيران يستعد لتوجيه ضربة عسكرية لسوريا، تراجع الرئيس أوباما في آخر لحظة وفضل المعالجة السياسية للأزمة السورية. حتى اللحظة الأخيرة في قمة كامب ديفيد ظلت دول الخليج تلح على إبرام اتفاق دفاعي رسمي مع الولايات المتحدة، لكن واشنطن قدمت بدلاً من ذلك ضمانات وتطمينات وصفتها بالواضحة للغاية بشأن طبيعة التزاماتها اتجاه مجلس التعاون الخليجي. لكن التردد الأمريكي في الارتقاء بالعلاقة مع الخليجيين إلى هذه المرتبة يؤكد مخاوف هؤلاء وشكوكهم في أي التزامات أمريكية مستقبلية بالنسبة إلى أمنهم مهما كانت لغتها قوية.

من أجل تعويض هذه الثغرة، وبغية طمأنة الخليجيين بشأن متطلباتهم الأمنية، عرضت واشنطن المساعدة في التسليح وفي بناء نظم متكاملة للدفاع الصاروخي، موضحة أن الهدف من الاتفاق النووي مع إيران هو تقليص التهديدات والمخاطر المزعومة، ولكن في حال ظهورها، فإن أمريكا يمكنها عندئذ، أن تعرض مظلة نووية لحماية دول الخليج.

يبدو أن هذه الحجة نجحت في إقناع الخليجيين أولاً بعد التلويح بالسعي إلى برنامج نووي يمكن أن يثير القلق، وثانيا، بالترحيب بالاتفاق المزمع توقيعه قريباً مع إيران. وأياً تكن التفاهمات التي توصلت إليها القمة الأمريكية الخليجية في هذا الشأن، فإنها لن تعلن، على الأرجح، وقد تظهر لاحقاً على الأرض. على العموم، بذلت إدارة أوباما جهودها لطمأنة الخليجيين من دون استفزاز الإيرانيين.

لقد جاءت التصريحات التي أدلى بها الرئيس باراك أوباما لصحيفة نيويورك تايمز في ٥ نيسان الماضي صادمة للخليجيين، والتي مفادها أن الخطر الحقيقي الذي يهدد دول الخليج لا يأتي من إيران بل من المعارضات الداخلية لهذه البلدان التي قد تتمرد على سوء الإدارات وغياب الحرية والديمقراطية. جاء هذا الكلام الصريح والمفاجئ ليكسر جرة الثقة بين واشنطن ودول الخليج.

إن الإجابات الخليجية والتبريرات الأمريكية لم تقدم الحد الأدنى من الإجابات المقنعة لأسباب التعديل في الحضور الخليجي، والذي بدا بالتوصيف السياسي أنه شكل من أشكال الحرد غير المسبوق، فيما كانت بعض التحليلات تذهب باتجاه الحديث عن رغبة أمريكية مباشرة من أجل تعديل إضافي في بنية وتركيب الحكم الخليجي ومظاهر التعاطي معه.

إن قمة كامب ديفيد التي عقدها الرئيس باراك أوباما مع دول الخليج لن يجري تذكرها باعتبارها صفعات دبلوماسية أو صفقات دفاعية أو حتى التهديد بانتشار نووي، بل سيجري تذكرها باعتبارها الأكثر وضوحاً لتغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط، وذلك بعد ثلاثة عقود ونصف من العلاقات الحادة بين الولايات المتحدة وإيران.

إن هذا التحول الكبير في علاقة الولايات المتحدة مع دول الخليج حدث في سبعينيات القرن الماضي في خضم الحرب الباردة. ربما يكون ولي العهد السعودي محمد بن نايف وولي ولي العهد محمد بن سلمان لم يشهدا ما خاضه أسلافهما في محاولة ضمان ألا تضحي الهيمنة العالمية بالمصالح السعودية لمصلحة إيران. وبعد كل ذلك، فإن جيلاً واحداً لم يعرف سوى عالم كان فيه الدعم الأمريكي للسعودية والعداء لإيران أمراً مسلّماً به، إلا أن تفويض ممثلي الملك سلمان في كامب ديفيد كان واضحاً، وهو منع التاريخ من تكرار نفسه.   

اعلى الصفحة