ماهيات وأركان النظام الإقليمي الجديد في المنطقة

السنة الرابعة عشر ـ العدد 162 ـ (شعبان - رمضان 1436 هـ) حزيران ـ 2015 م)

بقلم: معين عبد الحكيم*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

يراهن كثيرون على أن سياسة الاحتواء لإيران لا زالت هي  الخيار الأكثر ترجيحا في البيت الأبيض, فواشنطن لا تريد كما يبدو خوض مغامرة عسكرية واسعة غير مضمونة النتائج ضد إيران في الوقت الراهن على الأقل, من هنا تحاول الولايات المتحدة إيجاد تحالف عربي - إسرائيلي بمواجهة إيران...

بيد أن القضية الفلسطينية لا زالت تشكل عقبة كبيرة في هذا المجال خصوصاً وأن أطرافاً عربية كثيرة ترى أن عقد صفقة سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستصطدم بالنهاية بتعنت إسرائيلي نحو إتمام صفقة (عادلة) تضمن الاستقرار في المنطقة.

إذن هل ستستمر واشنطن بسياسة احتواء إيران؟ وما هي النتائج المحتملة لهكذا احتواء؟ وهل نحن فعلاً أمام نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط؟ وما هي الدول الأساسية في هذا النظام؟ وما هي مكانة كل منها؟.

محاولة لاحتواء إيران

خلال العام الماضي كله كانت الولايات المتحدة ترى أن احتواء إيران هو جوهر سياستها الأساسية في الشرق الأوسط. فهي تحملها مسؤولية تصاعد العنف في العراق وأفغانستان وأوضاع لبنان وفلسطين.. كما أنها تستشعر بان ميزان القوى في المنطقة بدأ يميل لصالح إيران وحلفائها. لذلك فهي ترى أن كبح جماح طهران ونفوذها المتعاظم ضروري جدا لاستقرار المنطقة.

في إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج يوش الابن, أعلن دك شيني بان أمريكا مع أصدقائها ستتصدى للتطرف الإيراني والتهديدات الإستراتيجية وستساعد الذين يعانون من ذلك وستقدم أعداء الحرية للعدالة وستمنع إيران من امتلاك السلاح النووي والسيطرة على المنطقة. وهذا أيضاً هو نفس رأي كوندليزا رايس حينما قالت إن إيران هي البلد الوحيد الذي يمثل تحدياً استراتيجياً للولايات المتحدة ولشكل الشرق الأوسط الذي نريده. فإيران تسارع الخطى لتطوير برنامجها النووي وتتحدى واشنطن والمجتمع الدولي, مما يزيد الشعور بخطورة الوضع وضرورة التحرك ضدها.

وعملاً بإحدى الدروس المستقاة من حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق, تأمل واشنطن أن تقلل من التأثير المتعاظم لإيران, على نفس النحو الذي استطاعت فيه أن تحبط المخططات التوسعية للاتحاد السوفيتي سابقاً, وذلك ببناء وتطوير قدراتها الذاتية وبممارسة ضغط مباشر في ذات الوقت على عدوها وبناء قاعدة عريضة من الحلفاء ضده.

خلال الفترة الماضية رصدت واشنطن ملايين الدولارات لتغيير النظام في طهران. كما استطاعت أن تحشد الدعم لسلسلة قرارات من الأمم المتحدة لفرض عقوبات مالية واقتصادية على إيران وبرنامجها النووي, كما أنها نجحت في تصنيف الحرس الثوري الإيراني على انه أداة  لنشر أسلحة الدمار الشامل ووصمت جيش القدس بالإرهاب وجمدت الأصول المالية لكل منهما, وأمرت جيشها في العراق بمضايقة الدبلوماسيين الإيرانيين واعتقالهم.. وعملت على حشد التأييد من الحكومات (المعتدلة) في الشرق الأوسط لعزل إيران ومقاومة سياساتها في العراق ولبنان وفلسطين وتحاول إسناد وتقوية دول الخليج ومدها بالسلاح وخصوصا السعودية والإمارات لمقاومة الدور الإيراني.

وهكذا تمثل إيران مشاكل جدية للولايات المتحدة. فسعيها للحصول على القدرات النووية وحضورها المتميز في العديد من الساحات ودعمها اللامحدود للمقاومة الفلسطينية, تشكل قائمة طويلة من الشكاوى ضدها. وواشنطن تؤمن أن إيران لا يمكن أن تكون عامل استقرار في الشرق الأوسط وان تصرفها لا يمكن أن يتغير بالجهود الدبلوماسية.. ولكن الحقيقة أن إيران لا تسعى إلى نشر الفوضى للقيام ببعض التبشير الديني, وليست قوة توسعية لها طموح غير محدود, ولكنها كقوة صاعدة تريد ان تصبح دولة محورية في المنطقة تناصر قضاياها العادلة وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية.

خطأ واشنطن هو اعتقادها بأنها يمكن أن تعامل إيران كما عاملت الاتحاد السوفيتي السابق, وأن نموذج الحرب الباردة يمكن تطبيقه في الشرق الأوسط. الحكومة الإسرائيلية والحكومات العربية تضغط على واشنطن لكبح جماح الطموح النووي الإيراني. إذ أنه منذ العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006 وهذه الحكومات قلقة من الأواصر التي تقوى يوماً بعد يوم بين طهران وحزب الله. كانت الاستجابة بأنهم وقفوا جميعاً وراء حكومة فؤاد السنيورة في بيروت وهم يحاولون كسر الأواصر بين سوريا وطهران. وقد دعمت واشنطن هذه الجهود بالتواجد العسكري الكبير في الخليج, واستخدمت جيشها في العراق, لإضعاف المكاسب الإيرانية هناك..

كذلك فشلت إستراتيجية واشنطن في تقييم التصورات المختلفة للدول العربية. فهذه الدول تقلقها إيران ولكن الأسباب تختلف. فالسعودية والبحرين تخشيان من التوسع الإيراني والتدخل في شؤونهما الداخلية, بينما مصر والأردن تخشيان من التدخل الإيراني في القضية الفلسطينية. وفي الحقيقة لا يوجد إجماع في منطقة الخليج على معاداة إيران. فقطر والإمارات على سبيل المثال تتمتعان بعلاقات تجارية واسعة مع طهران ولا تسعيان إلى مواجهة معها ولكنهما تخشيان من تصاعد التوتر بين إيران وأمريكا. وحتى حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط يقيمون قدراتهم ونقاط ضعفهم ويعيدون حساباتهم بشان هذا الصراع. وأن تحالفاتهم خاضعة لمصالحهم, فهم متفهمون بأنهم عرضة للنفوذ الإيراني ولكنهم لا يريدون معاداة إيران, ولذا فان سياسة الاحتواء أثبتت فشلها نظرياً وعملياً.

في السابق, كان العرب ينظرون إلى الجيش العراقي لمدة نصف قرن على أنه حصنهم الحصين في الخليج. وبعد أن تحطم في 2003 أصبحت أمريكا القوة الوحيدة في المنطقة التي بإمكانها احتواء إيران عسكرياً.. وهذا يعني تواجد إعداد كبيرة من الجيوش الأمريكية في المنطقة مما سيهيج المشاعر المعادية لأمريكا. فكل دول المنطقة عدا الكويت لا ترغب في جلب أعداد كبيرة من القطع الأمريكية إلى أراضيها... لذلك فان على واشنطن أن تعول على عوامل أخرى غير عسكرية لاحتواء إيران الناهضة وهي الدولة الأكبر والأكثر سكاناً والأقوى اقتصاداً في الخليج. وحتى مبيعات الأسلحة الكبرى للخليج لن تغير من هذه الحقائق.

كذلك فإن رهان أمريكا على إنعاش ما يسمى بعملية السلام في المنطقة كمحور أساسي من محاور إستراتيجيتها لاحتواء إيران رهان صعب. فهي تفترض بأن استئناف المفاوضات بين إسرائيل والدول المجاورة لها سيهدئ الشارع العربي ويحشده مع أنظمته خلف الولايات المتحدة ليشكل اتحاداً عربياً إسرائيلياً لمواجهة إيران. ولكن هذا الافتراض لم يأخذ بنظر الاعتبار أنه لا الفلسطينيون ولا الإسرائيليون مستعدون لتسوية جادة لأحداث تغيير حقيقي, وأن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تتشدد في هذه المسألة وغير مستعدة لذلك.. كما أن فكرة أن يرى العرب بروز إيران كمشكلة أكبر من الصراع العربي الإسرائيلي هي فكرة خاطئة. فالجماهير والمفكرون العرب مازالوا يعتبرون إسرائيل التهديد الأكبر.

نظام إقليمي جديد

كما هو معروف فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط العديد من التطورات التي كان لها الأثر الكبير في بلورة وصياغة الإطار العام لهذا الإقليم في مختلف المراحل التي مر بها، ويعود هذا إلى أهمية ومركزية هذا الإقليم في الإستراتيجية الدولية كونه الساحة العملياتية لسياسات واستراتيجيات القوى الكبرى، فضلاً عن تحركات وأدوار القوى الإقليمية ذات الفاعلية والتأثير على مجمل تفاعلات الإقليم والتي أسهمت في صياغة المشهد الإقليمي.

بدأ الحديث يختلف عن ماهية النظام الإقليمي الشرق أوسطي وماهية أركانه وآلياته من حيث المفهوم والحدود، إذ جرت العديد من المحاولات من أجل فك الارتباط بين الصبغة السياسية ذات البعد القومي العروبي عن مفهوم النظام الإقليمي الشرق أوسطي ومحاولة جعل المنطقة مفتوحة غير مقيدة بنظام إقليمي جيو/سياسي ضابط لمجمل تفاعلاته، فضلاً عن طرح الكثير من المشاريع الإقليمية التي حملت في ثناياها أطرًا عامة لما يجب أن يكون عليه السياق العام في الإقليم وإحلالها كبدائل عملية عن جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي ومحاولة إدخال ودمج العديد من الفواعل بالمشهد السياسي العام للإقليم وجعلها تمتلك مفاتيح اللعبة الإقليمية كإيران وتركيا.

وكانت أولى هذه المحاولات بعد انتهاء الحرب الباردة وانفتاح المشهد السياسي العام للإقليم ببعده الدولي وانعدام هامش المناورة الإستراتيجية أمام القوى الإقليمية التي كانت تتفاوت مواقفها بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي سابقا، وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن ولادة نظام دولي جديد تكون هي ضابط الإيقاع فيه وهي المسؤولة عملياً عن هذا النظام.

وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط فإنه لم يكن بمنأى عن هذا التغير الدولي، إذ قامت الولايات المتحدة بطرح مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يقوم على فكرة أساسية وهي إدخال إسرائيل في عضوية النظام الإقليمي الشرق أوسطي وجعلها مقبولة إقليمياً وسبق هذه المحاولة العديد من الترتيبات السياسية من أجل التمهيد لهذا المشروع وكان مؤتمر مدريد "للسلام" أولى هذه المحاولات.

وأعقب هذا المشروع أيضاً مشروع آخر وهو مشروع الشرق الأوسط الكبير والذي جاء كنتيجة عملية للاحتلال الأمريكي للعراق والذي تكلل أيضاً بالعديد من الترتيبات الإقليمية السياسية كخارطة الطريق ومؤتمر أنابوليس وغيرها، وهذا المشروع في حقيقته جاء كمحاولة للإجهاض على مبدأ السيادة والحدود وإعادة تشكيل المشهد الإقليمي بحدود جديدة ومفاهيم جديدة ودول جديدة ولعل ما حدث ويحدث اليوم في منطقة الشرق الأوسط هو نتيجة حتمية لهذا المشروع.

السؤال المهم هو هل سيشهد الشرق الأوسط بلورة نظام إقليمي جديد، إن الإجابة على هذا السؤال هي أن استمرارية الوضع الإقليمي الفوضوي وتعدد وتشظي الأزمات تنبئ بصيرورة نظام إقليمي جديد ولكن هذه المرة ليس عن طريق مشاريع تطرح من خارج حدود الإقليم وإنما من خلال إرادات إقليمية تصوغ إطارها العام. ونسأل: هل حقا نشهد ولادة نظام إقليمي جديد؟.

كان اللقاء الذي أجراه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى روسيا والتقى بالرئيس بوتين خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها. كان هذا لقاءاً هاماً وذا معنى في المواضيع المتعلقة بالساحة الدولية. وكما هو متوقع، فإن الموضوع الإيراني كان الموضوع المركزي الذي بُحث في اللقاء.

لقد جاءت هذه الزيارة على خلفية التطورات في الشرق الأوسط، الجارية منذ الأحداث حول سوريا وإيران. وفي إطارها تبدو واضحة جهود التقرب التي تقوم بها روسيا لسلسلة من الدول في المنطقة التي كانت حتى وقت أخير مضى توجد معها على علاقات متوترة بما فيها السعودية، مصر، العراق، الأردن والآن "إسرائيل" أيضاً. هذا الميل ليس جديدا في سياسة روسيا، التي حظيت حتى وقت أخير مضى باستجابة محدودة فقط لمغازلاتها لهذه الدول. يبدو أن الآن ستنقلب الأمور رأساً على عقب، الحقيقة ذات الآثار على تصميم النظام الإقليمي المستقبلي.

وفي إطار الحديث عن نجاحات روسيا في المنطقة يمكن الإشارة إلى سلسلة تطورات في اتجاه تعاون روسيا مع دول الشرق الأوسط. الانعطافة البارزة تتم مؤخراً في علاقات روسيا مصر. ففي الفترة الأخيرة تبدو واضحة حركة وفود مختلفة، وعلى رأسها زيارة وزيري الدفاع والخارجية الروسيين، إلى جانب جهات أمن واستخبارات رفيعة المستوى، كما يدور الحديث عن زيارة محتملة للرئيس بوتين إلى مصر. كما نشر أنه يجري الإعداد لصفقة مشتريات كبرى مع مصر، تمولها جزئياً السعودية.

في هذه القائمة يمكن أن نُدخل أيضاً العراق. فالعراق الذي هو حليف قديم لروسيا، يوثق علاقاته معها، منذ خروج الأمريكيين من أراضيه، بما في ذلك في المجال الأمني (فقد اتُفق على صفقة سلاح كبرى، وإن لم تخرج إلى حيز التنفيذ بسبب ضغوط مختلفة)، وفي المجال الاقتصادي، حيث تجري في العراق نشاطات تجارية روسية واسعة النطاق. والأردن هو الآخر استجاب مؤخراً للمغازلات الروسية. هذه المرة يدور الحديث عن صفقة لشراء مفاعل نووي روسي. وبين الدولتين تُبحث جوانب مختلفة من مظاهر التعاون الأخرى بما فيها الأمنية.

وفضلاً عن ذلك، فإن روسيا معنية جداً بتطوير علاقاتها ومكانتها مع إيران، الأمر الذي ستعمل روسيا على تحقيقه من خلال الدفع إلى الأمام بمبادرة جسر خاصة بها. ونجاح هذه الأخيرة لا بد سيمنح موسكو انجازاً مناسباً مثل الانجاز الذي تحقق في الحالة السورية.

ولإجمال هذه الصورة الجزئية يمكن القول إن الحديث يدور عن زخم فعل سياسي روسي واضح ومتفرع. والسؤال هو هل في ضوء الظروف الجديدة في المنطقة ستعطي هذه الجهود نتائج حقيقية. يبدو أن القاسم المشترك لدول المنطقة، التي تغازل روسيا، نشأ على خلفية ما يعتبر كصعود لقوة إيران، كتحصيل حاصل للتغيير في السياسة الأمريكية، إلى جانب إحساس الضعف الذي تبثه قيادتها. ولكن يبدو أن المغازلة لروسيا التي تأتي نتيجة لذلك، مؤقتة وتعكس إرادة هذه الدول للتأثير على سياسة الولايات المتحدة بالذات أكثر مما للإفادة من الفرص التي تمنحها روسيا في المقابل. واضح أن روسيا لا يمكنها ولا تدعي أن تشكل بديلاً عن الولايات المتحدة، وإن كانت العلاقة معها هامة بحد ذاتها، لتوازن علاقاتها الخارجية، مع الافتراض بأن الحوار مع الروس سيؤدي بالولايات المتحدة إلى التراجع عن سياستها.

من الجهة الأخرى، واضح أن الولايات المتحدة، التي بهتت صورتها مؤخراً، لن تتخلى عن مكانتها المسيطرة في الشرق الأوسط وستعمل على عدم السماح لروسيا بموطئ قدم ثقيل في المنطقة. يبدو أن السياسة لإيران ليست تغييرا للميل بل خطوة لتوسيع نفوذها على عموم اللاعبين الإقليميين، وإن كان مؤقتاً، على حساب مصالح قسم منها. ومع ذلك، فإن هذا السياق لمساعي التقارب الروسية، وإن كانت لن تغير جوهريا خريطة المحاور السياسية في المنطقة ونتائجها لا تزال ليست كبيرة، إلا أن فيها ما يمنح انجازات هامة لروسيا. فمجرد الاتصالات وبوادر التعاون، وإن كانت محدودة في واقع تكون فيه المنظومة المناهضة للغرب التي أقامتها روسيا في الماضي توجد في مسيرة تبدد بوسعها أن تساهم في ترسيخها مستقبلاً كلاعب مؤثر في المنطقة.

مكانة إيران الإقليمية

سارت المفاوضات الأخيرة بين مجموعة ( 5+1 ) وإيران بخطى متسارعة ومتفائلة، حيث دخل الطرفان في ظل توقعات بالتوصل إلى حل وسط بعد سنوات من الركود في المفاوضات، التي اختتمت باتفاق لوزان الذي سينتهي إلى اتفاق شامل في 30/حزيران 2015.

وقد عدّه بعض الخبراء والمراقبين والمحللين بأنه اتفاق "تاريخي" و "انتصار مزدوج"، للدبلوماسية الأمريكية والأوروبية من جانب والدبلوماسية الإيرانية من جانب آخر. ولهذا السبب ولأسباب أخرى متعلقة بالاكتشافات الأمريكية في موارد الطاقة الصخرية، ستكون منطقة الشرق الأوسط على بدايات مرحلة جديدة من العلاقات وتوازنات القوى التي ستؤدي إلى تغيير شكل المنطقة ومعادلاتها.

لا شك أن إسرائيل والدول العربية والخليجية تحديدا تمثل أطرافاً رئيسة معنية بالسياسة الأمريكية تجاه إيران وبرنامجها النووي، فإن أي حوار أمريكي – إيراني يجب الاهتمام به لأنه يمس صميم معادلة توازن القوى، وقضية الأمن الإسرائيلي والخليجي.

لذا فإن أي نوع من هذه الحوارات التي تقرب وجهات النظر، تثير مخاوف حقيقية ومشروعة لدى هذه الأطراف، ولهذه المخاوف لدى دول الخليج العربي مسوغاتها من خطورة السيناريوهات المحتملة من الحوار بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران على أمنها، فان انتهى اتفاق لوزان كما هو متفق عليه في 30/ حزيران 2015 إلى اتفاق تسوية شاملة، تتخلى بموجبه إيران عن برنامجها النووي مع ضمان تعاون دولي – إيراني لإنتاج الوقود النووي للأغراض السلمية فقط مقابل تثبيت طموحاتها ومكانتها في مناطق النفوذ القريبة منها، فان هذا السيناريو يعني: الإقرار بنفوذ إيران على حساب الأطراف الخليجية.

ولا يخفى على متابع العلاقة المتداخلة بين أمن الطاقة العالمي والصراعات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، إذ كانت هذه البديهة التحليلية موضع ارتكاز منذ عقود لتحليل السياسة الأمريكية وانخراطها بشكل مباشر أو غير مباشر في صراعات المنطقة.

لكن الصورة لم تعد كالسابق وخصوصاً بعد الاكتشافات الأمريكية لموارد الطاقة الصخرية، إذ لم تعد ندرة الموارد في الطاقة مقلقة لصانع القرار الأمريكي، بل إن هذه الاكتشافات غيرت صورة المنطقة وأهميتها في المدرك الاستراتيجي الأمريكي، إذ تحولت من منطقة عالية الأهمية في أولويات إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي إلى منطقة مهمة من مناطق العالم.

وقد استتبع هذا التحول لصورة المنطقة في الإدراك الاستراتيجي الأمريكي تحولاً آخر هو تغيير نمط الإدارة الأمريكية لصراعات المنطقة، الذي بدا واضحاً بانخفاض مستوى الحماس لديها بالانخراط العسكري المباشر في تلك الصراعات، مقارنة كما يحدث في السابق لتامين إمدادات الطاقة.

وتأسيساً على هذه الرؤية فإن نظاماً جديداً من توازن القوى قيد النشوء لسد الفراغ الذي يحدثه التراجع الأمريكي النسبي من أدواره في المنطقة، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ستبقى لاعبا في الشرق الأوسط لضمان مصالحها، مع حرصها على عدم الانخراط العسكري المفرط، وكان لهذا التراجع عن الأدوار في المنطقة شواهد بدت جلية في انسحاب قواتها من العراق، وربما قريبا الانسحاب من أفغانستان، وأحجامها عن التدخل العسكري المباشر في سوريا، فضلاً عن التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي الذي انتهى أخيراً باتفاق لوزان. هذه الشواهد مغايرة تماماً عما كان في تسعينيات القرن الماضي وتواجدها في مياه الخليج العربي، أو كما حدث في العراق عام 2003 وقبلها أفغانستان عام 2001.

هذا التراجع في الدور الأمريكي في المنطقة وإصرارها على حسم موضوع البرنامج النووي عن طريق الحوار، يجعل موازين القوى مواتية لإيران، وهنا لابد من الإشارة إلى أن طيلة المسيرة التفاوضية الماراثونية الأمريكية-الإيرانية بشأن البرنامج النووي الإيراني ثبتت نقطة خلاف رئيسة أساسية وهي "الملف النووي الإيراني" ولم تتطرق إلى نفوذ إيران في المنطقة الذي عدّه البعض اعترافاً أمريكياً ضمنياً بهذا النفوذ. مما جعل نقطة الخلاف الرئيسة ”البرنامج النووي” في نظر بعض المحللين هي نقطة تلاقي وتعاون وتفاهم إقليمي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.

ويرى المراقبون أن الدور المرتقب الذي ستلعبه إيران في الترتيبات الإقليمية القادمة بحكم حضورها الذي يمتد من العراق إلى جنوب لبنان وصولاً إلى اليمن، سيكون وضعاً مناسباً لنشوء نظام إقليمي جديد يخفف من الأعباء الأمنية والعسكرية.

إن هذه الحقائق واضحة لدى النخبة السياسية الإيرانية وتحديدا الدائرة حول الرئيس روحاني التي اتخذت من المفاوضات النووية مرتكزا لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، سعيا لرفع العقوبات الاقتصادية عن إيران أولاً، وثانياً لملء أقصى ما يمكن من الفراغات الإقليمية التي ستتركها الولايات المتحدة الأمريكية خلفها في الشرق الأوسط.

وخلاصة القول في هذه الجزئية إن إيران دولة مهمة وتشكل رقماً صعباً في المعادلة الأمنية الإقليمية لاستقرار المنطقة، لذلك لا يمكن إهمالها في الترتيبات والأدوار الإقليمية الجديدة، وعلى دول المنطقة التعاطي مع هذا الواقع القديم الجديد انطلاقا من السعي للحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي.

تراجع الدور التركي

كانت بداية الألفية الثالثة، بمثابة عقد ذهبي للسياسة التركية في الشرق الأوسط، والتي تميزت بسياسة "صفر مشاكل" مع الجيران، وعلاقات جيدة مع الاتحاد الأوروبي. وبدت تركيا بأنها دولة تتبع سياسات متوازنة تجاه الأطراف كافة في المنطقة. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد حققت نجاحات اقتصادية مميزة، ونسجت علاقات اقتصادية مع الجيران على الرغم من التناقضات بين القوى الإقليمية، وتناقض سياسات بعضها مع الولايات المتحدة حليفة تركيا الموثوقة.

لكن مع هبوب رياح التغيير في المنطقة وخلال الانتفاضات الشعبية، اختارت تركيا الاصطفاف مع حركات الإسلام السياسي التي كانت تتمتع بشعبية وازنة في العديد من الدول العربية. ودعمت تركيا هذه الحركات، وبخاصة "الإخوان المسلمين"، أينما وجدت؛ من السودان إلى العراق وليس انتهاء بدعمها لحركة حماس في فلسطين. في المقابل، كانت تركيا قد أقامت علاقات جيدة مع الأنظمة التي كانت تقمع حركات الإسلام السياسي، ولاسيما "الإخوان المسلمون"، مثل سورية، ومصر، وليبيا. لكن مع مرور الوقت، ومع تسلم حركات الإخوان المسلمين السلطة في تونس ومصر، تحولت النظرة في تركيا إلى اعتبار هذه الحركات حلفاءها الطبيعيين. وليس سراً أنها حاولت، وبدرجة معقولة من النجاح في البداية، إقناع الولايات المتحدة وأوروبا بأن الحركات الإسلامية جديرة بالدعم، بسبب الدعم الشعبي الذي تحظى به هذه الحركات، وأنها سوف تحترم الديمقراطية، وفي حالة مصر لن تغير شيئاً فيما يتعلق باتفاقية السلام.

اصطدم هذا التحول مع بعض الدول في المنطقة التي كانت تنظر لحركة الإخوان باعتبارها أكبر تهديد لمصالحها. وتعارض ذلك أيضاً مع كثير من القوى السياسية العلمانية وغير العلمانية التي كانت جزءاً مهماً من الانتفاضات السياسية، وسعت لإقامة حكم ديمقراطي في بلدانها.

الكبوة الكبرى للسياسة التركية كانت من خلال اصطفاف تركيا مع قوى المعارضة في الأزمة السورية، وبخاصة الحركات الإسلامية. إذ وجدت تركيا نفسها، ومع مرور الوقت، في مواجهة أو خلاف مع القوى الإقليمية نفسها، مثل سورية، ومصر، والعراق، وإسرائيل. لا بل أكثر من ذلك، فإن الدعم العلني والسري للتنظيمات الإسلامية المتطرفة في سورية وغيرها، وضع تركيا في مواجهة غير معلنة مع حلفائها الغربيين والعرب على حد سواء. والبعض يعتقد أن أردوغان ذهب أبعد مما تسمح به الأعراف الدبلوماسية في انتقاد الإطاحة بمحمد مرسي، والموقف المتشدد من مصر ما بعد مرسي، وانتقاداته اللاذعة والعلنية للرئيس عبد الفتاح السيسي.

إن الصورة التي رسمتها تركيا لنفسها في المنطقة بوصفها نموذجاً لدولة إسلامية وديمقراطية في الوقت نفسه، تأثرت سلباً بعد التظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على السياسة الداخلية لأردوغان وحزبه. والطريقة التي تم التعامل بها مع المتظاهرين كشفت طبيعة الحزب والنظام الحاكم في تركيا، ما أدى إلى سقوط القناع عن حزب العدالة والتنمية، وانتهاء أسطورة النموذج التركي الذي شغل العديد من المفكرين العرب، في محاولة لإيجاد مخرج للأزمات العربية. وكشفت أطماع تركيا في المنطقة، ومحاولتها لإحياء العثمانية عبر بوابة دعم الحركات الإسلامية في المنطقة.

بعد أربع سنوات من الانتفاضات في العديد من الدول العربية، وبعد الصعود الكبير للنجم التركي كقوة إقليمية مؤثرة، تجد تركيا نفسها اليوم في وضع لا تحسد عليه. وقد بدا واضحاً للمراقبين أن السياسة التركية في المنطقة كانت مدفوعة بالأيديولوجيا وليست البراغماتية التي ميزت السياسة التركية في العقد الماضي. وبشكل خاص، فقد خسرت تركيا الرهان على الحركات الإسلامية، ووجدت نفسها في عزلة سياسية إقليمية ودولية، وخسرت قدرتها في التأثير، وموقعها الجيو/استراتيجي، وتحولت إلى دولة إقليمية منزوعة الدسم وفاقدة لمكانتها الإقليمية الخاصة.

باحث في القضايا الإقليمية(*)

اعلى الصفحة